الجمعة 18 شوّال 1445 . 26 أبريل 2024

أبتاه .. كلمات في ذكراك

الوطن - الشؤوون الدينية - الجمعة 20 نوفمبر 1981م

أبتاه ما عساي أن أقول ورحيلك اليوم يذكي كل الذكريات ويقلب كل صفحات كتابك المليء المليء. وإن أنقل اليوم ورقة من أوراقك فإنما هو وفاء ببعض دينك علي، وتذكير لأبناء الأمة بمجاهد حقيقي لم تكتب عنه الصحف ولم تنقل أخباره الإذاعات.

أبتاه لا أنسى أنك سافرت من مصر في ريعان شبابك تقصد الأرض المقدسة بالحجاز سيراً على قدميك وهي وسيلتك المتاحة في ذلك الوقت، ولكن ما كادت قدماك تطئان الأرض المقدسة في فلسطين حتى وجدت هناك واجباً عليك ألزم من فريضة الحج وزيارة مسجد الرسول وصلة أرحامك.

رأيت اليهود يستوطنون فلسطين ويُخرجون أهلها من ديارهم ويشردون المسلمين فأبت عليك شهامتك وعلمك بالدين الحق أن تحترق فلسطين إلى الحجاز وتترك النار تشتعل في فلسطين فنسيت قصدك الأول والتحقت بالثوار والفدائيين الفلسطينيين عام 1939 وخضت المعارك. ونسيت أسرتك الصغيرة التي كنت أنا أحد أفرادها ومكثت هناك مجاهداً في فلسطين وملتحقاً بركب الثورة ثلاث سنوات كاملات إلى أن تمكنت منك السلطات الإنجليزية فقبضت عليك وأرسلتك إلى مصر ثانية.

عدت إلى مصر لتبحث عن فئة أخرى تقاتل معك في فلسطين ولم تجد ضالتك إلا بعد أن التقيت بالأستاذ الإمام حسن البنا رحمه الله الذي أحببته من كل قلبك. وكنت رفيقاً له على درب الدعوة. ولا أدري أأقنعته أنت أم كانت فكرته هو أن يرفع لواء الجهاد في فلسطين .. فطفت قرى مصر ومدنها تستحث همم الناس للجهاد وخرجت بنفسك مع أول فوج من المجاهدين وخرج معك ابنك الأكبر محمد ولن أنسى وأنا ابن ثماني سنوات كيف جلست أمي تبكي وتحاول أن تثني أخي محمد عن الذهاب معك وتقول: يا بني كفى ذهاب أبيك، اجلس معنا يا محمد هذه عمتك ستزوجك ابنتها فيقول محمد: يا أماه لن أتزوج من الدنيا (...) وكانت كلماته كأنما يقرؤها من لوح القدر فلم يمض شهر واحد حتى استشهد في معركة كفار ديروم.

جاهدت يا أبتاه عام 1948 (...) وكنت أول من نادى بوجوب قتال الإنجليز المنسحبين من فلسطين بل قاتلت ذيولهم المنسحبة وهم يسلمون الثكنات لليهود. وانتهت معركة 1948 وعلم الناس بعد بمؤامرة الحكام وتقاعس الشعوب وعلمت أنك إن عدت إلى مصر عدت إلى السجن لأنك كنت مقاتل تقاتل في سبيل الله. وأشرت على إخوانك بالبقاء في فلسطين والقتال حتى الموت .. ولكن لم يسمع لك رأي فخليت السلاح إلى حين.

وعدت تطوف في مصر مرة ثانية لعلك تستطيع أن تعاود الكرة فرأيت مقتل صديقك حسن البنا، وتعليق رفيقك عبدالقادر عودة زميلك في فلسطين على أعواد المشانق .. فقررت الرحيل إلى مكان آخر...

سافرت إلى الأرض المقدسة في المدينة المنورة ورحلنا وراءك ونظرت أنا إليك هناك وأنت كالأسد المحبوس ترى مكانك هناك في ساحات الجهاد ولا تستطيع تحقيق مرادك. عشت يا أبتاه وتقدمت بك السن ولا هاجس لك إلا القتال في فلسطين وحث الأمة على هذه الفريضة وجئت أنا إلى الكويت وقدمت أنت بعد مدة وقلت: يا بني أريد أن أجلس بجوارك ما بقي من حياتي وكانت أمنية لي أن تكون بجواري وجلست تصلي بالناس وتعظهم وتعلمهم وأخذك المصلون على غير رغبة من وراء ظهري لتكون إماماً موظفاً بوزارة الأوقاف وعملت مدة وفي عام 1973 نشبت الحرب وسمعت منادي الجهاد وذهبت أنا لزيارتك ففوجئت أنك قد سحبت جواز سفرك فسألتك فقلت: يا بني قال تعالى "ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة" ولذلك أعددت عدتي وسحبت جواز سفري. فنظرت إليك وقد قاربت السبعين من عمرك وأنت تحمل هذا القلب الذي لا يشيب!! وعلمت أنك تنتمي إلى جيل ليس هذا أوان وجوده .. وأنه جيل أولئك الأوائل الذين كنا نقرأ عنهم ولا نراهم وكأن الله قد خلقك في أجيالنا لتكون نموذجاً لذلك الطراز من الرعيل الأول الذين فتحوا الأمصار ودوخوا العالم وأدالوا دول الكفر لدولة الإسلام.

أبتاه اعذرني أردت أن أكون مثلك ولكنني لم أستطع حاولت أن أرتقي قمتك العالية ولكن انقلب البصر خاسئاً هو حسير. أبتاه اعذرني فأن من جيل غير جيلك وقد جعل الله لكل شيء قدراً. وحسبي أنني سأعيش ما عشت بعدك على ذكراك.

 

ولدك: عبدالرحمن