السؤال:
هل حديث الشفاعة الطويل محفوظ بالضبط كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم؟ وكيف حفظ الرواة هذا الحديث الطويل بالنص، فهذا يدخل الشك في نفوس بعض الناس؟
الجواب:
حديث الشفاعة الطويل الذي يقدر بصفحتين ليس صعباً أن يحفظه الإنسان من أول مرة، خصوصا أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم كان مسترسلاً، إذا قال القول أعاده ثلاثاً كما قالت عائشة رضي الله عنها: [ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد سردكم هذا ولكنه كان يتكلم بكلام بينه فصل يحفظه من جلس إليه] تعني كلماته قليلة، وكان إذا قال القول كرره ثلاثاً حتى يحفظ عنه. ثم إن العرب لكونهم أمة أمية نمت عندهم ملكة الحفظ، لأن من يكتب يعتمد على كتابته في تثبيت الأمور، أما الأمي فيعتمد على ذاكرته في حفظ الأمور وهذا يكون كتعويض عن ملكة الكتابة، كالأعمى تنمو لديه بعض الحواس نمواً عظيماً لا تكون في المبصر مثل السمع، حيث تكون حاسة السمع عند الأعمى قوية جداً لأنه يعتمد على الأذن بدلاً من العين، وكذلك اللمس، ولذلك يكون حفظه أسرع من المبصر لأنه يعتمد على ذاكرته في تحديد الأمور ومعرفتها.
والعرب في الجاهلية لم تكن أمة كاتبة، لهذا كانت لديهم ملكة الحفظ قوية جداً، وكان منهم من إذا سمع القصيدة مرة واحدة حفظها كلها وتكون القصيدة من مائة ومائتين بيت، وحفظة القرآن حفظوه بما كانوا يسمعونه من النبي صلى الله عليه وسلم، لهذا كانت أمة العرب أمة حافظة، وبناء على هذا فإن حفظ حديث الشفاعة الذي لا يتجاوز الصفحتين أمر يسير على مثل هؤلاء، ولو عرفتم كيفية عمل علماء الحديث لحفظ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم لعلمتم أنه شيء يفوق التصور، وأنها معجزة إلهية، وأنها فوق مستوى البشر، وقد سئل عبد الله بن المبارك-الإمام المشهور-: عن الأحاديث الموضوعة؟ فقال: (تعيش لها الجهابذة)، قال تعالى {إنا نحن نزلنا الذِّكر وإنا له لحافظون}" الجهبذ: هو الفذ الفريد، وبالفعل عاش الجهابذة من أهل العلم والحديث لتنقية أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وصنفوها فكان منها الضعيف والموضوع والصحيح وهكذا، ثم جمعوا الأحاديث الصحيحة فأثبتوها للنبي صلى الله عليه وسلم، وكتبوا كذلك الأحاديث الموضوعة والضعيفة ونشروها، وحققوا في جميع الرواة، كل من نقل عن النبي شيء تحققوا منه، ميلاده، وفاته، شيوخه، رحلاته، علمه، ودونوه، وبذلك صنفوا الرواة فعرف من هو كذاب، ومن هو مدلس، ومن هو صادق.
وهذا الإمام البخاري كان شاباً صغيراً ذاع صيته في بخارى لقوة حفظه، فلما جاء بغداد وكانت حينها عاصمة الخلافة، اجتمع عليه طلاب الحديث، وجعلوا له مجلس اختبار ليتأكدوا من حفظه، فقام عشرة أشخاص بعرض مائة حديث ملفق، وقاموا باستبدال سندها، فقال لهم لا أعرفها، فجاءه أولهم وطلب منه أن يذكر له حديث معين، فذكر له الحديث على الصورة الخطأ التي سمعها منه، ثم ذكر له الحديث الصحيح وألحق كل سند بمتنه الصحيح، والعجب ليس بأنه حفظ مائة حديث بمجلس واحد، ولكن العجب أنه حفظ مائة حديث خطأ ثم ردها إلى أصولها.
فالشاهد من هذا كله أن هذه الأمة أمة مباركة ميزها الله تبارك وتعالى عن اليهود والنصارى بالإسناد، تروي عن نبيها الكلمة الواحدة بالإسناد فحفظت سنته حفظاً كاملاً، فكما حفظ الله تعالى القرآن من أن يزاد فيه حرف أو ينقص منه، حفظ كذلك سنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك قال العلماء: الإسناد من الدين.