الخميس 19 رمضان 1445 . 28 مارس 2024

الحلقة (10) - سورة البقرة 3-5

تفسير الشيخ المسجل في تلفزيون دولة الكويت

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله الرسول الأمين وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

سورةُ البقرة سورة عظيمة، أطول وأعظم سور القرآن، وقد مضى بعض من فضلها وموضوعها في حلقةٍ سابقة، وكنا مع وصف الله -سبحانه وتعالى- لعباده المتقين الذين أخبر -سبحانه وتعالى- أنّ هذا القرآن هدًى لهم، يقول -تبارك وتعالى-: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[البقرة:1-5]، القرآن هدايةٌ خاصة يهدي الله -تبارك وتعالى- به عباده المُتَّقِين وهم الذين آمنوا بالله -تبارك وتعالى- جعلوا وقايةً بينهم وبين عذاب الله، والتقوى هي أشرف اسم من أسماء أهل الإيمان، وذلك أنها حقيقة العبودية لله -تبارك وتعالى-؛ فالعبد الحق لله هو العبد الذي يتقيه، ولذلك لمَّا بيَّن النبي فضله على سائر أمته فقال: « إنّ أعلمكم بالله وأتقاكم لله أنا»، وأشرف الناس أتقاهم، فهذا أشرف اسم هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، ثم وصف الله المُتَّقِين فقال: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ، أول صفة من صفات هؤلاء المُتَّقِين أنّهم يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ.

الإيمان تصديق وعمل بمقتضى التصديق؛ فليس هو التصديق المطلق فمن آمن بأمر غائب وعمل بمقتضى تصديقه فهذا هو الذي آمن به على الحقيقة، أما إذا لم يعمل بمقتضى التصديق فهذا نوع من الرد والتكذيب، الْغَيْب هو كل ما غَابَ عنَّا , أولًا بالنسبة إلى الرّب -تبارك وتعالى- ليس عند الله غيب وشهادة كل خلق الله -تبارك وتعالى- عند الله شهادة، وأمَّا الغيب فهو بالنسبة لبعض مخلوقاته يكون شهادة لبعضهم وغَيْب لبعض آخر، فالملائكة مثلًا بالنسبة إلينا غيب لأننا لا نراهم، لا نسمعهم، لا نحس بهم ولو كانوا حولنا، فملائكة الله -تبارك وتعالى- بالنسبة إلينا غيب، ولكن الملائكة أنفسهم بالنسبة إلى عالمَهِم وبالنسبة إلى بعضهم البعض هم شهادة يعني عند أنفسهم، الغيب هو غيبان، غيب استأثر الله -تبارك وتعالى- بعلمه لم يُطْلِع عليه أحدًا من خلقه؛ ففي غيب عند الله، لم يطلع الله -تبارك وتعالى- عليه أحدًا من خلقه لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهو علم الساعة، متى تكون الساعة؟ لا يعلمها إِلَّا الله، لا يعلمها جبريل ولا ميكائيل  ولا أحد من ملائكته ولا من خلقه، متى يكون؟ ما الذي يكون في غد؟ هذا لا يعلمه إِلَّا الله -تبارك وتعالى-، ولم يطلع الله -تبارك وتعالى-  أحد من خلقه على ما يكون في المستقبل، ولا يعلم أحد بهذا إِلَّا ما يُعْلِمهُ الله -تبارك وتعالى-، لا يعلم بأي أرض تموت إِلَّا الله، لا يعلم ما في الأرحام إِلَّا الله، من كل شيء إِلَّا الله -تبارك وتعالى- قبل أن يُقر الله -تبارك وتعالى- في الأرحام ما يُقِر، حتى الملك الذي ينفخ في الروح لا يعلم ماذا سيكون حقيقة هذه المضغة، هل ستكون ذكرًا؟ أم أنثى؟ ما عمله؟ ما رزقه؟ ما أجلهُ؟ شقيٌ وسعيد، هذا إلى الله -تبارك وتعالى-، يُخبر الله -تبارك وتعالى- به الملك في وقته.

الخلاصة؛ هناك غيب استأثر الله بعمله، هذا لله –سبحانه وتعالى-، وغيب إضافي يعلمه بعض الخلق ولا يعلمه البعض الآخر، بالنسبة لنا نحن البشر عندنا غيب إضافي مثل الملائكة، ما هو خلف هذا العالم المنظور إلينا؟، عوالم أخرى , أشياء أخرى كثيرة أمور لم نشهدها، مَن سبقنا؟ خلق آدم، وأنه كان في السماء والخصومة التي كانت من إبليس  عندما لم يسجد لآدم فطرده الله -تبارك وتعالى- من رحمته وكان من شأنه ما قصَّ الله، هذا غيب بالنسبة إلينا ؛ فإخبار الله -تبارك وتعالى- لهذا الغيب لا وسيلة لمعرفته إلَّا عن طريق الرَّب -تبارك وتعالى-، إلَّا عن إخبار الرَّب بالنسبة إلى البشر، لا يمكن للبشر أن يعلموا هذا الغيب؛ سواء الغيب الذي غَيَّبَهُ الله -تبارك وتعالى- عنهم وهو بعيد عن حواسهم، أو الغيب الذي استأثر الله -تبارك وتعالى- بعلمه  إذا كان كيف يكون؟، هذا الغيب لا يمكن العلم به إلَّا عن طريق الرَّب -جل وعلا-، وكل وسيلة يستشف بها أو يراد بها معرفة هذا الغيب فهي وسيلة باطلة، فالله {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ ........}[الجن:26-28]، المؤمنون ؛ أول صفة من صفات المؤمنين أنهم يؤمنون بالغيب أي الذي يحدثهم الله -تبارك وتعالى- عنه عن طريق الرسل، وأول هذا الغيب الرَّب الإله -سبحانه وتعالى-، فإنّ الله بالنسبة إلينا –إلى البشر- غيب، لا يرونه، لا يسمعون كلامه -سبحانه وتعالى-، لا يقع تحت أي صورة من صور حسهم بل الله -تبارك وتعالى- غيب، الملائكة غيب، يوم القيامة غيب لكنه موصوف وماذا يكون فيه؟ و ما الذي يتحقق فيه فاصلًا بفاصل ؟، هذا غيب أخبر الله -تبارك وتعالى- أنه سيكون يوم صفته كذا وصفته كذا، أخبر بصفاته كلها، الجنة بالنسبة إلينا غيب؛ لكنها موجودة حاضرة مخلوقة، النار بالنسبة إلينا غيب لا نراها، ومهما تقدمت علومنا فلن نراها، ولكنها حقيقة موجودة واقعة، فهذا غيب يخبرنا الله -تبارك وتعالى- به، يخبرنا أنّ النار موجودة مُرْصَدَه، {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا}[النبأ:21]، الجنة موجودة إذا دخل رمضان يقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: «فتحت أبواب الجنة وغُلِّقت أبواب النيران» على الحقيقة لا على المجاز، فهي موجودة , و النبي يقول هذا لما سمع الصحابة وجبة فقال: هذا حجر ألقي من شفير جهنم وصل قعرها الآن ، فهي موجودة بقعرها بوجودها رآها النبي رأي العين، وأخبر الله -تبارك وتعالى- عنها إخبارًا تفصيليًا، فهؤلاء أول صفة من صفات عباد الله المتقين أنهم يصدقون يؤمنون بالغيب، بالغيب الذي يحدثهم الله -تبارك وتعالى- عنه عن طريق الرسول الصادق هذا الأمين الذي يُخبر عن الله -تبارك وتعالى-، هذه أول صفة من الصفات يؤمنون بالغيب، يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويؤمنون بأنّ الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلقهم، وأنّ كل أمر يقع في هذا الكون إنما يقع بمقادير الرَّب -تبارك وتعالى- يؤمنون بالغيب، ثم الصفة الثانية منهم: ويقيمون الصلاة، الصلاة في لغة العرب هي الدعاء، والصلاة في الشريعة التي شرعها الله لعباده شريعة النبي محمد –صلوات الله وسلامه عليه- شريعة الإسلام هذه أقوال وأعمال مخصوصة في أوقات مخصوصة بشروط مخصوصة، استقبال قبلة، ستر عورة، دخول وقت، طهارة مائية محددة بغسل أعضاء معينة من الجسم، بمسح أعضاء معينة، أو بطهارة ترابية ، ثم هي حركات مخصوصة قيام بصفة خاصة، ركوع موصوف، اعتدال سجود مخصوص، أقوال مخصوصة، هذه هي الصلاة، فمن صفة هؤلاء المتقين أنهم يقيمون الصلاة، ومعنى يقيمون –الإقامة بمعنى- التعديل والاستقامة، يعني أنهم يصلونها صلاة معتدلة قائمة، والقائم ضد المعوَج أو المائل، والعرب تطلق الأمر المائل على الأمر الذي خرج  عن حده المستقيم، هذه الأمور الحسية والأمور المعنوية، والصلاة من الأمور المعنوية، وإقامتها يعني أن تؤدى وفق المواصفات التي بينها الله -تبارك وتعالى-، وقام النبي –صلى الله عليه وسلم- ببيانها وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، فيقيمون الصلاة يعني يؤدونها على الوجه المطلوب، بشروطها بأركانها بأوصافها التي أمر الله -تبارك وتعالى- بها أن تُصلى الصلاة عليها، والصلاة بهذه الصورة هي أشرف الأعمال، أشرف ما وضع الله -تبارك وتعالى- لعباده في الأرض الصلاة، فالصفة الثانية من صفات المتقين هي قول الله: {........ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة ........}[البقرة:3]، ثم قال –جل وعلا- الصفة الثالثة: {........ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}[البقرة:3]، وَمِمَّا: من ما، ومن للبعض، ما: الذي، يُنفِقُونَ: الإنفاق هو الإخراج، وكأنه أنفقه بمعنى أنه أخرجه و صرفه ، وهذا وصف الله لعباده المؤمنين بأنهم ينفقون قد جاء مفصلًا بعد ذلك، مبيّنًا في القرآن أولًا بأنه العفو {........ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ........}[البقرة:219]  العفو هو الفضل والزيادة، وقد نزل في السنة المقدار الذي يجب على المسلم إخراجه من الأموال التي تجب فيها الزكاة، فالنبي حدد هذا في الزروع والثمار، وفي الأنعام وفي الإبل والبقر والغنم، وفي النقدين الذهب والفضة ماذا يخرج من كل شيء؛ فهذا حق معلوم {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[المعارج:24-25]، وجاء إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ ........}[التوبة:60] فهذه مصارفها فَحُدد بعد ذلك هذا الحد، مصارفه ,الأموال التي تجب فيه، جاء التفصيل بعد ذلك، وهنا جاء الأمر بصورة مجملة أنهم مما رزقهم الله -تبارك وتعالى- ينفقون.

الرزق هو كل ما يُعطاه الإنسان مما ينتفع به، فالطعام رزق واللباس رزق والمسكن والمشرب والمركب، كل ما ينتفع به رزق، هذا يطلق على الرزق عامة، وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ؛  هذا الذي أعطاهم الله -تبارك وتعالى- يخرجون منه بعضه، وقد ذكرنا أنّ الله -تبارك وتعالى- فصل بعد ذلك  هذا البعض الذي يُخرج – كيف يخرج، هنا طبعًا في قول الله: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ إشارة منه –سبحانه وتعالى- أنّ الذي ينفقه العبد إنما ينفقه ليس من ملكه الذي يملكه بالأصالة بل يملكه بالعطاء، إنما أعطاه الله -تبارك وتعالى- عطاء، فهو من عطاء الله -تبارك وتعالى-، وهذا من إحسان الله وفضله أنه يعطينا ويأمرنا بأن نخرج بعضًا له –سبحانه وتعالى- لله في المصارف، الله غني ولكن في مصارف الخير للحكم العظيمة التي تترتب على أن يكون هناك غني وفقير، وأن يكون هناك إنفاق في سبيل الله لبعض المال، طُهرة للمال وطُهرة لفاعل هذا الأمر، {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ........}[التوبة:103].

ثم قال –جل وعلا-: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}[البقرة:4]، هذه الصفة الرابعة من صفات هؤلاء المُتَّقِينَ أنهم يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، يُؤْمِنُونَ بِالَذِي أَنْزَلَه الله -تبارك وتعالى- إلى النبي، وقد أنزل الله -تبارك وتعالى- إلى النبي وحْيَيَن؛ الوحي هذا المكتوب المقروء الذي هو القرآن المتعبد به في الصلاة، المعجز هو القرآن، وأنزل له –سبحانه وتعالى- وحْيًا آخر يتعلمه  النبي من الملك ويُخْبِر به النبي  المؤمنين، وهو لكل شيء، تفصيل كل أمر من الله -تبارك وتعالى-، فما من شيء يأمر به النبي من أمر الدين إِلَّا وهو وحي يُوْحِيه الله -تبارك وتعالى- إليه المشرع والحاكم هو الله -تبارك وتعالى-، والرسول مُبَّلِغ عن الله -تبارك وتعالى- أمره،فهؤلاء المتقون الذين يستفيدون بهذا القرآن، وهم يؤمنون بما أنزل الله -تبارك وتعالى- على رسوله أنه من عند الله، ويصدقونه وبالتالي يعملون بمقتضاه، ويؤمنون بما كذلك وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ، يعني يؤمنون بالذي أنزله الله -تبارك وتعالى- قبل النبي –صلوات الله وسلامه عليه-، وقد أنزل الله -تبارك وتعالى- على عباده الرسل والأنبياء قبل النبي رسالات وأرسل نبوات، وأهل الإيمان يؤمنون بكل ذلك لأن الله أخبرهم بها، فما نزل على آدم من الهداية – ما نزل على نوح من الهداية والبلاغ مما قَصَّهُ الله -تبارك وتعالى-، ما أنزله الله -تبارك وتعالى- على إبراهيم وإسماعيل واسحق ويعقوب والأسباط والرسل موسى وعيسى، كل ما أنزله الله -تبارك وتعالى- على هؤلاء الرسل والأنبياء يؤمنون به، فـيؤمنون بدين الله وخبره ووحيه المنزل على كل الأنبياء السابقين، {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[البقرة:136] فهذه مقالة أهل الإيمان التي علمها الله للإيمان أن يؤمنوا بكل ما أَنَزله الله -تبارك وتعالى- على كل الأنبياء والرسل السابقين، وبهذا تكون هذه الأمة هي وارثة الدين كله وورثة الأنبياء جميعًا التي تؤمن بهم كُلهُم ولا تُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، لا يفرقون بين رسول ورسول – وهذا طبعًا تعريض باليهود الذين آمنوا ببعض رسل الله وكفروا بالبعض الآخر، وكذلك النصارى الذين آمنوا ببعض الرسل وكفروا بأعظم رسول أرسله الله -تبارك وتعالى- إلى الناس وهو محمد المرسل من الله –عز وجل- إلى الناس جميعا، فهم يؤمنون بما أنزل الله -تبارك وتعالى- إلى النبي وما أنزل قبل النبي –صلوات الله وسلامه عليه-.

ثم وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ؛ الآخرة التي هي نهاية الأمر، وفي مقابلها الدنيا، نحن في الدنيا الآن، الدنيا التي هي القريبة والآخرة التي هي آخر الأمر، سميت الدار الآخرة بالآخرة لأنها نهاية المطاف، هي مكان الاستقرار ووضع عصا التسيار  وانتهت الرحلة، ففيها يستقر كل إنسان بعد ذلك في مستقره، فأما أهل الإيمان فَهُمْ في رَحْمَة الله -تبارك وتعالى- في الجنة التي {........لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا}[الكهف:108] والتي لا ينقطع ثوابهم وأجرهم فيها، فهي عطاء من الله -تبارك وتعالى- غير مَجْذُوذ وهم خالدون فيها خلودًا لا انقطاع له، وكذلك أهل الكفر هم أهل النار يخلدون فيها خلودًا لا انقطاع فيه، وما هم منها بمخرجين بأي صورة من صور الخروج، فهذا اليوم الآخر هو اليوم الذي يتحدد فيه بعد ذلك مصائر العباد، ويستقر كلٌ في الدار التي هي دار القرار، فالجنة دار عدن – عدن: إقامة – إقامة دائمة لا رحيل عنها، أما الدنيا فإنها مرحلة من مراحل العمر، من لا شيء أوجدنا الله -تبارك وتعالى- {........وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا}[مريم:9]، {........ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا}[الكهف:37]، فهذا بداية ثم بعد ذلك ينشأ الإنسان يعيش في هذه الدنيا، ثم ينتقل إلى مرحلة أخرى مرحلة القبر البرزخ، ثم مرحلة أخرى التي هي مرحلة يوم القيامة، وهو بعد ذلك اليوم الآخر الذي في نهايته يتحدد المصير، مصير أهل الإيمان إلى الجنة ومصير أهل الكفر إلى النار.

فهؤلاء المتقون المستفيدون بالقرآن هم الذين َبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، تأكيدًا لهم هُمْ، أو هُمْ يُوقِنُونَ جملة اسمية مؤكدة لأن يقينهم بالآخرة لا يتزحزح، اليقين هو غاية العلم، لأن مراحل العلم تبدأ بالشك، ثم الظن، ثم علم، ثم يقين، واليقين منه حق اليقين – عين اليقين، فاليقين هو الثبوت في العلم والتصديق بالغيب كما يصدق الإنسان بالشهادة، فإن الشهادة يعني الأمر المشاهد المرئي لا يكابر فيه إِلَّا من لا عقل له، فالإنسان لا يكابر في وجوده لأنه موجود، إذا كان يقول لا أنا  غير موجود، وهو موجود حي قائم فهذا مكابر أو يكابر في الشمس الطالعة في رابعة النهار، يقول لا هذه ليست شمس، أنا لا أؤمن بأن هناك شمس الآن فوقي وهو يرى الشمس فوقه، هذه المكابرة الحسية، فالإنسان إذا خرج من ينفي الحس يخرج عن مفهوم العقل، أما التصديق بالأمر الغيبي ممكن, الإنسان أمر لم يره ثم يأتيه الخبر اليقين، أو الدليل الذي لا يترك في الحق لبْس؛ فيؤمن بهذا الأمر الذي لم يشاهده ولم يسمعه ولم يقع تحت حِسِّه، إذا وصل الإنسان بأن يصدق بالأمر الغيبي الذي لم يره مرحلة التصديق بالأمر المحسوس الذي يقع تحت الحس فهذا يقين، فهذا معناه أنه وصل إلى اليقين، وهذا قمة التصديق – غاية التصديق، وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ يعني أنهم مصدقون بالآخرة تصديقًا يقينيًا كأنها أمر يشاهدونه، فما يخبره الله -تبارك وتعالى- عنه بالنسبة لليوم الآخر وأن الناس يبعثون من قبورهم وأنهم يُوقفون بالصورة التي جاء تفصيلها في كلام الله كقوله –سبحانه وتعالى-: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}[الأنبياء:104]، وقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: «إنكم تحشرون إلى الله يوم القيامة عراة حفاة غرلا» كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ كما بدأ الخلق سيعاد الناس مرة ثانية على هذا النحو، وأنه يكون في هذا الأمر ما قصه الله -تبارك وتعالى- من الحساب وسوق الناس في نهايته {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا ........}[الزمر:71]، {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ........}[الزمر:73]، فمن يصدق بهذا الأمر تصديق من كأنه يراه، كأنه يرى الشمس، كأنه يرى وجوده، والله -تبارك وتعالى- أقسم على هذا، أقسم على أن هذا الأمر حق، وأنه ينبغي إذا شك الإنسان في وجوده يشكك في هذا، {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ}[الذاريات:23]، كيف تنطق وتتكلم؟ أنا متكلم إذن أنا إنسان - أنا موجود، فالأمر على هذا النحو، فهؤلاء الذين يُوقِنُونَ بِالآخرَةِ هذا اليقين ويعتقدون وقوعها وأنها كائنة كما يعتقدون بما يروْنَه ويُحسُونه؛ هذه صفة من صفات هؤلاء، قال –جل وعلا- هؤلاء الموصوفون بهذه الصفة أُوْلَئِكَ وأُوْلَئِكَ كذلك إشارة إلى البعيد، والإشارة إلى البعيد هنا تعظيم لهم، أُوْلَئِكَ يعني هؤلاء الموصوفون بهذه الصفات عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ، عَلَى هُدًى قال: عَلَى بهذا الحرف الذي يفيد الاستعلاء والتمكن، أي أنهم متمكنون من الهداية تمكن من  يملكها ويثبت عليها، عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ والهداية هنا بمعنى توفيق الله -تبارك وتعالى- لهم  وتمسكهم بهذا الدين وتحبيبهم فيه، عَلَى هُدًى وقال –جل وعلا-: مِنْ رَبِّهِمْ يبين أنه رَبُّهم خالقهم بَارِئُهم الرحيم بهم –سبحانه وتعالى-، فهو الذي تلطف بهم وهداهم هذا الهدى وأعطاهم هذا ومكنهم منه هذا التمكين، أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ ... وَأُوْلَئِكَ مرة ثانية بالإشارة بالبعيد تنويهًا إثر تنويه أُوْلَئِكَ ... هُمُ الْمُفْلِحُونَ، عاد الضمير هُمُ الْمُفْلِحُونَ بجملة اسمية للاستقرار في الإخبار، الْمُفْلِحُونَ أصل الفلاح – الفلاح هو الفوز بالمطلوب الأكبر، كل من فاز بمطلوبه نقول أَفْلَح، أَفْلَح فلان يعني فازَ بمطلوبه، والمطلوب الأكبر للإنسان يجب أن يكون الفرار من عذاب الله، لأنه لا أَخْوَف من هذا الخوف ولا شر فوق هذا الشر، فأعظم الشرور النار، وكذلك الفوز بالجنة؛ فإن أعظم خير يمكن أن يناله الإنسان هي جنة الله -تبارك وتعالى-، كل خير بعد ذلك هو دونها، كل خير وكل نعمة  بعد الجنة هي دون الجنة، من الحياة - التمتع في هذه الدنيا - البقاء فيها - المال فيها – الصحة - ما يعطاه، مهما بلغ الإنسان في هذه الدنيا من النعم وامتلاكها فإن هذا دون الجنة، بل لو أعطِىَ الإنسان الدنيا بكاملها ملكًا فيها متصرفًا فيها فإنها لا تساوي كل هذا لا يساوي أن يُعطَى موضع سوط في الجنة، فإن موضع سوط في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها، لا يساويها شيء، فهؤلاء الموصوفون بهذه الصفات، هم المفلحون الذين فازوا بمطلوبهم الأكبر، وذلك بأن نالوا رضوان الله -تبارك وتعالى- وتخلصوا من عذاب الله –عز وجل- {........ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}[آل عمران:185]، هذه صفات المتقين الموصوفين بما وصف الله هنا وهم المفلحون، نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلنا منهم.

نقف عند هذا ... استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله محمد