الخميس 24 شوّال 1445 . 2 مايو 2024

الحلقة (100) - سورة آل عمران 113-120

الحمد لله ربِّ العالمين, وأُصَلِّى وأُسَلِّم على عبد الله ورسوله الأمين, وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

 وبعد فيقول الله  تبارك وتعالى- : {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ}[آل عمران:113], {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ}[آل عمران:114], {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} [آل عمران:115].

بعد أنْ بيَّن الله - تبارك وتعالى-  حال الكفار مِن أهل الكتاب, وأخبر - سبحانه وتعالى-  أنه {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}[آل عمران:112]، بعد أنْ بيَّن الله حال هؤلاء الكافرين, وبيَّن تلك الجرائم التي وقعت منهم, بيَّن - سبحانه وتعالى- أنَّ أهل الكتاب في كل تاريخهم لم يكونوا سواء، قال - جلَّ وعَلا- : {لَيْسُوا سَوَاءً},  لم يكن أهل الكتاب جميعًا, {سَوَاءً}, أي في الكفر والعناد وقتل الأنبياء وفعل الجرائم, وإنما كان منهم {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ}, {أُمَّةٌ}, جماعة,  {قَائِمَةٌ}, أي بالحق, {........يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ}[آل عمران:113], يقرأون آيات الله آناء الليل، {آنَاءَ اللَّيْلِ}, الآناء التي هي الأحيان، أي في كل  أحيان الليل، أي في أوله ووسطه وآخره, {وَهُمْ يَسْجُدُونَ}, لله - تبارك وتعالى-  أي في صلاتهم، {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}، إذن هم أهل قيام بالطاعة لله - تبارك وتعالى-,  {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}, - سبحانه وتعالى-  كما الله، كما وصف نَفْسه - سبحانه وتعالى-  وكما أنزل في كتابه وليس كما حرف المحرفون وبدل المبدلون.

{يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}، يوم القيامة، وسُمِّى باليوم الآخر لأنه نهاية المطاف وآخر الأمر، {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}، أي يقومون كذلك بحق دعوتهم إلى الإيمان فيأمرون بالمعروف, المعروف هو كل ما عرَّفه الله - تبارك وتعالى-  لعباده مِن الخير, {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}، كذلك المنكر هو كل ما نَهَى الله - تبارك وتعالى-  عنه وجعل قلوب أهل الإيمان تُنْكِرهُ، أهل الفطر السليمة, {وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} ، أي يتسابقون في فعل الخيرات، وفعل الخيرات والخيرات هي زيادة على الأمر الواجب كل أنواع الخيرات مِن الأمور المستحبة يسارعون فيها, بمعنى أنهم يتسابقون في هذا الأمر ويَنْشَطُونَ ويُسْرِعُ كل منهم فيه, {وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ}, إشارة لهم بصيغة البعيد تعظيمًا لشأنهم, {مِنَ الصَّالِحِينَ}, إذن هذا قسم آخر يختلف عن القسم الذى ذَكَرَ الله - تبارك وتعالى-  فيه ما ذَكَرَ مِن الكفر والعناد، قال - جلَّ وعَلا- :  {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ........}[آل عمران:115], أي وما يفعل هؤلاء المؤمنون مِن أهل الكتاب الصالحون منهم مِن خير، أي خير, {فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} أي مِن الرَّب - سبحانه وتعالى-  بمعنى يُجْحَدُوهُ ويُنْكَرُوهُ بل سيجازون مِن الله - تبارك وتعالى-  بكل خير فعلوه، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ}، لا يخفى عليه حال أهل التقوى, وأهل التقوى أهل مخافته؛ لذلك لن يظلمهم - سبحانه وتعالى-  صغيرًا مِن أعمالهم الطبية، وهذا الوصف وصف المدح لأهل الكتاب يكون في أهل الإيمان منهم الإيمان الصحيح الذين لم يغيِّروا ولم يبدِّلوا وما غيروا فيه.

مسمى الإيمان كالقول بأنَّ عيسى هو الله وهو ابن الله، وقول اليهود بأنَّ عُزير ابن الله, أو ما نسبه اليهود إلى الله - تبارك وتعالى-  مِن النسيان ومِن الغفلة ومِن الظلم, وما نسبوا إلى الله مِن النقائص - سبحانه وتعالى-، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، وكذلك فإيمانهم مستقيم كذلك عملهم بالشريعة التي أمروا بها كان مستقيمًا حال الإيمان, وأما مَن كفر من بنى إسرائيل مِن اليهود  فهو كافر هذا مُخَلَّد في النار, وكذلك مَن غيَّر وبدَّل بعد المسيح فقال أنه الله أو ابن الله, فهؤلاء لا شك أنهم غير داخلون في هذا المعنى, ثم لما بُعِثَ النبي محمد - صلوات الله والسلام عليه- فإنَّ مَن كفر به مِن اليهود والنصارى فهو كافر لا ينطبق عليه هذا الوصف ليس معنى هذا الوصف أنَّ أهل الكتاب منهم أمة قائمة أي إلى وقت النبي - صلى الله عليه وسلم- وبعد ظهور النبى هم ممدوحون بأنهم على هذا الحال، لا، بل مَن أدرك منهم النبي - صلوات الله والسلام عليه- فإنه يجب عليه دينًا أنْ يؤمن به وأنْ يتبع شريعته ويتبع دينه - صلوات الله والسلام عليه- وإلا كان كافرًا, والله لا يسمع ليهودي ولا نصراني, ولا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان مِن أهل النار, فهذا الوصف ينطبق على أهل الإيمان منهم الصالحون في وقت أنبيائهم وبعد أنبيائهم إذا لم يُغيِّروا ولم يُبدِّلوا ثم ينطبق على الذين تحولوا مِن الشريعة السابقة إلى دين محمد - صلى الله عليه وسلم-, ثم لما ذكر الله - تبارك وتعالى - حال أهل الإيمان وأهل الكفر بيَّن أنَّ المصير والمآل الذى سيؤول إليه الكفار, قال - جلَّ وعَلا- : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[آل عمران:116], {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا}, مِن كل أُمة ومِن كل جيل ومعنى كفروا أنهم علموا الحق مِن قضايا الإيمان ولكن جحدوا هذا وأنكروه وستروه، {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}, لن تغنى عنهم أموالهم مهما جمعوا ولا أولادهم أنها تنصرهم أو تنفعهم يوم القيامة لا ينفعهم شيءٌ مِن ذلك فإَّن كل أحد سيأتى الله - تبارك وتعالى-  فردًا ويحاسبه وحده ولا ينتصر أَحدٌ لأَحد، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا........}[لقمان:33], وكذلك هي غير نافعة في الدنيا، أي في نهاية المطاف لا تنفعهم في الدنيا ولن تمنع عنهم عقوبة الله - تبارك وتعالى-  إنْ أراد الله - تبارك وتعالى-  أنْ يُعَجِّلَ لهم العقاب، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا........}[آل عمران:116].

أي في الدنيا والآخرة فإذا أراد الله  تبارك وتعالى-  بقوم سوءًا فلا مَرَدَّ له, ولا يستطيع أحدٌ أنْ ينصره مِن دون الله, ولا ينفعه ماله ولا ينفعه أولاده, {وَأُوْلَئِكَ}, إشارة بالبعيد تحقيرًا لهم, {أَصْحَابُ النَّارِ}، أصحابها ملازموها؛ لأنَّ الصحبة هي الملازمة الطويلة، أي أنهم ملازمون النار ملازمةً لا فكاك فيها, أو أصحابها كأنَّ الله يملكهم النار فيكونوا مُلَّاكَها، {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}, الجملة الاسمية التي تبيِّن استقرار الفعل هم هؤلاء هم يعاد الضمير مرة ثانية, {هُمْ فِيهَا}, في هذه النار, {خَالِدُونَ}, أي ماكثون مكثًا لا انقطاع له لأنَّ الخلود هو البقاء الطويل.

ثم قال - جلَّ وعَلا- مبين حال هذه الأموال والأولاد في الدنيا : {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}[آل عمران:117], هذا بيان مآل الأموال والأولاد التي عدوها لتنفعهم في الدنيا أو يظنون أنها نافعتهم في الآخرة أو المال والولد الذى ينفقونه في الصَّد عن سبيل الله، {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}, ينفقون فيها مِن أجل الصَّد عن سبيل الله, ومِن أجل إقامة دينهم الباطل, أو مِن أجل ما يظنون أنه نافع لهم في هذه الدنيا، {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ}، الريح معروف، وهو حركة الهواء الشديد, {فِيهَا صِرٌّ}، والصِّر هو الصرير مِن الصر مِن الصوت وهذه تكون مِن شدة جريان الريح, والصِّر كذلك بمعنى البرد الشديد, والبرد إذا كان شديد حارق, أو فيها صِر فيها شرارة نار, فيها نار, {أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ}، إذا ريح باردة, عاتية, شديدة, وتأتى إلى حرث قوم أي زراعة قوم قال الله  تبارك وتعالى- : {ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ}،  هذا وصف للقوم لأنَّ الله لا يعاقب عقوبة إلا مع ظلم الفاعل، فمع ظلم هؤلاء أصحاب هذا الحرث، الله يقول : {ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ}، ذلك أنَّ الله يعاقبهم بظلمهم لأنفسهم, ولا يعاقب الله - تبارك وتعالى-  أهل الاستقامة، {أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ}, ريح عاتية, باردة, تأتى إلى زراعة فلا شك أنها تهلكها، {فَأَهْلَكَتْهُ}, وأحرقته، إما أحرقته ببردها الشديد وإما أحرقته لأنَّ فيها هذه النار مع هذه الريح فإنها تسرع فيها بالحرق.

قال - جلَّ وعَلا- : {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ}، أي هذه العقوبة التي ساقها الله - تبارك وتعالى - إلى هؤلاء القوم ليس بظلمٍ مِن الرَّب - تبارك وتعالى -، {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ}، أي هؤلاء أهل الكتاب الظالمين الذين أنفقوا مالهم هذا إما يكون أنفقوه مِن أجل الصَّد عن سبيل الله وإقامة الدين الباطل, أو أنفقوه فيما يظنون أنه نافع لهم في هذه الدنيا فإنَّ الله - تبارك وتعالى-  مُخَيِّبٌ رجائهم في أموالهم التي أنفقوها, ومُخَيِّبٌ ظنونهم وأنَّ مآل هذا كله إلى الدمار، قال - جلَّ وعَلا- : {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ}، لم يظلمهم الله - تبارك وتعالى-  بأنْ أهلك نفقتهم ولم يُثِبْهُم شيئًا على أعمالهم بل يعاقبهم على ما أنفقوه في غير طاعة الرَّب - تبارك وتعالى-  بل في معصيته، قال : {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ}، ليست هذه العقوبة التي جاءتهم ظلمًا مِن الله - تبارك وتعالى-, {وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}، لما ظلموا أنفسهم بالكفر والشرك عاقبهم الله - تبارك وتعالى - هذه العقوبة، ثم وجَّه الله - تبارك وتعالى-  بعد ذلك خطابه إلى المؤمنين بعد أنْ بيَّن حال هؤلاء الناس, حالهم أولًا في الدنيا بما كتب الله - تبارك وتعالى-  عليهم مِن الذُّل والغضب والطرد مِن رحمته - سبحانه وتعالى- , ثم حالهم في المآل بأنهم مهما أنفقوا مِن مال يظنون أنه نافع لهم عند الله - تبارك وتعالى-  فمآله الدمار والهلاك, أو يظنون أنه نافع لهم في الدنيا فكذلك مآله الهلاك والدمار، لما بيَّن الله - تبارك وتعالى - حال هؤلاء وأنَّ حالهم إلى خسران في نهاية المطاف في هذه الدنيا والآخرة وجَّهَ الله - تبارك وتعالى-  خطابه وندائه إلى أهل الإيمان مبينًا لهم ما الطريق الذى ينبغي أنْ يتخذوه مع هؤلاء، أهل الكتاب.

قال - جلَّ وعَلا- : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}[آل عمران:118], {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}, خطابٌ مِن الله - تبارك وتعالى-  لعباده المؤمنين واصفًا إياهم, مناديًا لهم بمسمى الإيمان أعلى وأسمى وأشرف الأسماء تهيجًا لهم على الفعل وكذلك إلزامًا لهم بالفعل, أي  يا مؤمن يا مَن آمنت افعل كذا وكذا، {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ}، البِطَانة الثوب في غير الظِّهَارة والظِّهَارة ظاهر خارج والبِطَانة ما يكون مِن داخل الثوب, استعير هذا المعنى لِمَن يساعدون في الحُكْمِ، فالحكام والوزراء ظِهَارة, ومَن تحتهم مِن الكتبة والخدم والمعينين والمساعدين هؤلاء بِطَانة، فبِطَانة الشخص هم مَن يكونون عونًا له في أمره فبِطَانة الحاكم كُتَّابهُ وقوَّادهُ وأعوانه، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ}، {مِنْ دُونِكُمْ}، مِن غيركم أي تتخذوا مساعدين في شئونكم, شئون الحُكْم والسياسة والعمل ولا تتخذوا بطانة أعوانًا ومساعدين مِن غيركم أي مِن غير المسلمين، قال -جلَّ وعَلا- : {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا}، أي يُقَصِّرُونَ في خبالكم, والخبال هو التخبط في الأمر فالمخبول هو ضعيف العقل، ضعيف الحيلة الذى يتخبط في أمره ولا يعرف الطريق الصحيح فهؤلاء  {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا}، لا يُقَصِّرونُ في تخبطكم في الأمور وفى خبالكم.

{وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ}، {وَدُّوا}, أحبوا, {مَا عَنِتُّمْ}، ما يُعْنِتُكُم أي أنَّ قلوبكم لمَّا كانت مليئة مِن الغيظ منكم فإنهم يودون كل عَنَت لكم لا يحبون أنْ تسير أموركم على الجادة وعلى الاستقامة ما هو بسهولة وبيُسر, وإنما يريدون كل ما يتعبكم ويشق عليكم، {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ}, ظهر مِن فلتات ألسنتهم أنهم يبغضونكم ولا يحبونكم, {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَر}, مِن الحقد لكم والغِلّ والغيظ منكم أكبر مِن هذه الكلمات التي تتفلت منهم بين الحين والآخر، {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ}, الرَّب الإله - سبحانه وتعالى-  هو بِنَفْسِهِ يقول : {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ}, أي وضَّحْنَا لكم هذه الآيات المُنزَلة تمامًا بوصف هؤلاء القوم وما يضمرون لكم وما يريدون منكم في نهاية الأمر، {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}, إنْ كانت لكم عقول تَعِي وتفهم فقد بيَّن الله - تبارك وتعالى-  وأوضح لكم الآيات إيضاح عظيم, وحذَّركم مِن أعدائكم واصفًا هؤلاء الأعداء بالأوصاف الحقيقية القائمة فيهم سواءً ما يظهر منهم وما يكتمونه.

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {هَا أَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ}، هذا عتاب مِن الله - تبارك وتعالى-  وتحذير منه أنه يَعْلَم حقائق الأمور فقال : {هَا أَنْتُمْ أُوْلاءِ }, ها أنتم بالإشارة إلى المؤمنين الذين يخاطبهم الله - تبارك وتعالى-  {أُوْلاءِ}, أي هؤلاء {تُحِبُّونَهُمْ}، تحبون هؤلاء الكفار الذين هم مِن غيركم, {وَلا يُحِبُّونَكُمْ}، والحال أنهم هم لا يحبونكم، {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِأنتم تؤمنون بالكتاب كله, وأما مفهوم هذا أنهم لا يؤمنون بالكتاب كله هم كفار، {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ}، كذلك أنتم تُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِومعنى أنكم تؤمنون بالكتاب كله فينبغي أنْ تنفذوا كل ما أمركم الله - تبارك وتعالى-  به.

قال - جلَّ وعَلا- : {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ}[آل عمران:119], {وَإِذَا لَقُوكُمْ}, أنَّ هؤلاء منافقون, {قَالُوا آمَنَّا}, أي أظهروا المودة لكم والإيمان، {قَالُوا آمَنَّا}, أي بالله,{وإِذَا خَلَوْا}, وحدهم, {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ}، وعض الأنامل هذا فِعْل المغتاظ الذى يُفْرِغُ غيظه في أصابعه فيعض أصابعه مِن شدة الغيظ الذى في قلبه، {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ}, والأنامل التي هي أطراف الأصابع، {مِنَ الغَيْظِ}، أي منكم, قال - جلَّ وعَلا- : {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ}، {قُلْ}, أي لهؤلاء المغتاظين مِن نمو الإسلام وحُسْن نشأته وانتشاره في كل مكان وبداية ظهوره وعُلُوِّه، {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ}، أي إنَّ الله - تبارك وتعالى-  سَيُظْهِر دينه على الدين كله, وسَيمُكَنِّ لهذه الرسالة الخاتمة التي أراد الله - تبارك وتعالى-  أنْ تكون رسالته إلى العالمين،  {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ}، أي ستظلون على هذا الغيظ حتى الموت، أي أنه لن يأتي وقت يحصل ما تأملون مِن هزيمة أهل الإسلام ومِن نهايتها وتفرحون بكفركم وتظهرونه, وإنما ستظلون تحت القهر وتحت الذَّل حتى تموتوا بالغيظ الذى في قلوبكم،  {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ}، أي أنَّ هذا الحال سيستمر معكم إلى موتكم، {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}، أي أنَّ الله - تبارك وتعالى- هو الذى نبأنا مِن أحوالكم على هذا النحو وبالتالي إخباره - سبحانه وتعالى-  بأنْ حزنكم وغيظكم سيطول إلى موتكم، ثم قال - جلَّ وعَلا- : {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ}، {إِنْ تَمْسَسْكُمْ}, المس أي الإصابة القليلة، {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ}, الحسنة؛ الأمر الحسن لكم مِن نصر أو مِن خير أو مِن بِر أي نوع مِن الخير يمسكم, {تَسُؤْهُمْ}، ومعنى تسؤهم أنهم يساؤون بها ويحزنون مِن أجلها ويُغَمُّونَ ويدخل عليهم السوء بسبب هذا، بسبب إذا رأوا أنَّ الله - تبارك وتعالى-  قد منحكم حسنة ما.

{وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا}[آل عمران:120], الإصابة إنما هي الوقوع والحدوث الفعلي, {وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ}, أي أمر سيء مِن هزيمةٍ أو مرضٍ أو فرقةٍ أو أي أمر فيه سوء لأهل الإسلام يفرحوا بها فيُسَرُّوا فيظهروا السرور والفرح لذلك، قال - جلَّ وعَلا- : {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا}، توجيه لأهل الأيمان ونُصْح لهم، {إِنْ تَصْبِرُوا}, على فعلهم هذا, على أنهم يساؤون بالحسنة تصبكم ويفرحون بالسيئة التي تأتيكم, {إِنْ تَصْبِرُوا}, أي على آذاهم, {وَتَتَّقُوا}, الله - تبارك وتعالى-  وكذلك {وَتَتَّقُوا}, أيضًا منهم، تأخذوا حماية لأنفسكم ووقاية مِن هؤلاء، {لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا}، أي بإذن الله وبتوفيقه, {لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا}، والكيد هو التدبير بالخفاء لإيصال الضر، {شَيْئًا}، أي شيء، {إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}، أي توكلكم على الله - تبارك وتعالى - ورزقكم إلى الله - تبارك وتعالى-  فإنَّ الله محيطٌ بكل أعمالهم, ومعنى محيط أي أنه عليم بكل أحوالهم مِن جميع جوانبه قد أحاط به علمًا - سبحانه وتعالى-, {إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ},  أي مِن هذا التدبير والكيد {مُحِيطٌ}، عليم به - سبحانه وتعالى-, وما دام أنَّ الله معكم ووحيه ينزل على الرسول - صلوات الله والسلام عليه- فإنَّ الله كاشفٌ خططهم وتدبيرهم وموجهٌ أهل الإسلام إلى كيف يتخلصون مِن شرورهم.

 بهذه المواعظ العظيمة والبيان الإلهى العظيم لعباده المؤمنين عن أهل الكتاب تفصيل عقائدهم، تفصيل تاريخهم، ماذا عليهم، عقوبة الرَّب - تبارك وتعالى - لهم في الدنيا والآخرة، المآل الذى سيؤلون إليه, ثم توجيه أهل الإيمان بالسياسة التي يجب أنْ يتبعونها معهم يكون هنا انتهى فاصل مِن هذه السورة وبدأت سورة بعد ذلك في فاصل آخر مِن بيان هذا الفاصل هو الآيات التي نزلت بشأن غزوة أُحد, وغزوة أُحُد كانت درس هائل وعظيم بالنسبة لأهل الإيمان، أولًا مناسبة هذا الدرس بالنسبة لوضعه في هذه السورة التي قلنا أنها سورة البيِّنات على أنَّ دين الإسلام حق، غزوة أُحُد كان فيها شُبْهَة عظيمة وهى كيف أنَّ الرسول - صلوات الله والسلام عليه- والمؤمنون وهم أهل الحق، كيف يُغْلَبُوا ويُهْزَمُوا مِن الكفار المعاندين؟ كيف يغلبهم الكفار؟ أليس الله - تبارك وتعالى-  مع أهل الأيمان، وهذا رسوله وهؤلاء هم المؤمنون معه، فكيف يغلب الكفار المسلمين وفى المسلمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم-؟ ثم لماذا كانت إذا كان هذا الأمر واقع بمشيئة الرب وبقدره فما الحكمة في هذا الأمر؟ ما الحكمة في أنْ يقع للمسلمين ما وقع مِن أنْ يهزموا من الكفار؟ وأنْ يعلو الكفر، يقف أبو سفيان في نهاية المعركة فيقول : أُعلوا هُبَل في المدينة ويقول : لنا العُزَّة ولا عزة لكم ويقول : يومٌ كيوم بدر والحرب سجال ويقتل مِن المسلمين سبعون رجلًا ويكون فيهم جراح وتمثيل بجثثهم ويقول أبو سفيان : مفتخرًا أفيكم محمد؟ يقول لبقية المسلمين في نهاية المعركة وفيهم الجرحى وحولهم القتلى قد مُثِّلَ بهم، يقول : أفيكم محمد؟ أفيكم أبو بكر؟ أفيكم عمر؟ فلمَّا لم يُجِبْهُ أحد ظن أنهم قد قتلوا، قال أما فهؤلاء فقد قتلوا حتى يقول عمر مِن غيظه، قد أبقى لك الله ما يسوءك يا عدو الله، ولا يُعْلَن عن وجود هؤلاء، حتى يظن الكفار أنهم غير موجودين، ثم يقول كذلك أبو سفيان وكان قائد الكفار في هذا اليوم : يوم أُحد تجدون مُثْلَة، لم آمر بها ولم تسؤني، فما الحكمة من كل ذلك، جاءت آيات فاصل جديد في هذه السورة سورة آل عمران لبيان الدروس العظيمة التي أرادها الله - تبارك وتعالى-  للمؤمنين في هذه الغزوة.

وهذا موعده في الحلقة الآتية إنْ شاء الله, أقول قولي هذا, واستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب, وصلى الله على عبده ورسوله محمد.