الخميس 24 شوّال 1445 . 2 مايو 2024

الحلقة (101) - سورة آل عمران 120-128

الحمد لله ربِّ العالمين، وأُصَلِّى وأُسَلِّم على عبدالله ورسوله الأمين، وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهديه، وعَمِلَ بسنته الى يوم الدين.

وبعد أيها الإخوة الكرام يقول الله - تبارك وتعالى- : {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[آل عمران:121]{إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[آل عمران:122]{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[آل عمران:123],

هذه الآيات هي بداية فاصل جديد مِن هذه السورة، سورة آل عمران يستمر نحو ستين آية كلها نزلت في شأن غزوة أُحُد, قلنا في الحلقة الماضية إنَّ غزوة أُحُد كانت درس عظيم لأهل الإيمان؛ وذلك أنَّ المسلمين قد نالتهم هزيمة شديدة وقعها أليم فقد أعلاهم الكفار، قتل      مِن المسلمين في هذه الغزوة سبعون رجلا، قام الكفار بعد الغزوة، وبعد أنْ نال المسلمين ما نالهم مِن القتل، ومِن الجراحة، ومِن التمثيل بالجثث، قام أبو سفيان يقول: أعلو هُبَل، وهو على رأس المسلمين الباقين، الذين في جراحاتهم، وفي آلامهم، ويقول لنا العُزَّة والعُزَّة لكم، ويقول يوم بدر والحرب سجال، ويقول تجدون مُثلة لم آمر بها ولم تسؤني، ويقول : أفيكم محمد؟ أفيكم أبوبكر؟ أفيكم عمر؟ ثم يقول: أما هؤلاء فقد قتلوا، وكان ثمة بعد الغزوة تساؤل أي كيف هذا؟ أنَّى هذا؟ قال بعض المسلمين أنَّى هذا؟ كيف يقع لنا هذا الأمر ونحن المؤمنون، وفينا رسول الله - صلوات الله عليه وسلم-, والذى فعل بنا هذا كفار معلنون الكفر، كيف يعلوا الكفر على هذا النحو على أهل الإيمان! وكيف يصيب المسلمين هذا الذى أصابهم! فبيَّن الله -تبارك وتعالى- حكمته فيما قضاه وقدَّره مِن هذا الأمر، وبيَّن الأسباب التي مِن أجلها كانت الهزيمة على هذا النحو، ولا شك في نهاية المطاف كان هذا أعظم مِنَّة، ومِنْحَة مِن الله - تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين، فقد تعلموا في هذه الغزوة دروسًا عظيمةً جدًا فسر الله -تبارك وتعالى- لهم الأمر في هذا، أي في هذه الآيات المنزلة ستين آية في هذا الشأن، وقلنا أنه قد جاءت هذه الآيات في سورة آل عمران التي هي سورة البرهان على أنَّ هذا الدين حق، وأنَّ هذا النبي هو رسول الله حقًا وصدقًا، وكان لابد مِن الإجابة على هذه الشُّبهة، إذا كان الرسول أي هو رسول الله، والمؤمنون هم جند الله -تبارك وتعالى- فكيف يهزموا! وكيف تقع بهم الهزيمة مِن الكفار!

قال -جلَّ وعَلا- : {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[آل عمران:121], {وَإِذْ غَدَوْتَ}, أي خرجت غُدوة، الخروج غُدوة صباحًا, {مِنْ أَهْلِكَ}, في المدينة, {تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ}, تبوئهم، تمكنهم وتقيمهم، تبوأ المكان بمعنى أنه نزل به وأقام فيه, {الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ}, يقول لهؤلاء مثلًا الزموا مكانكم هذا ولا تبارحوه, ولو رأيتم الطير تتخطف لحومنا، ويقول الزبير بن العوام :  كن على ميمنة الخيل هنا، ويُنْزِلُ هؤلاء منازلهم ويقول: لا يقاتلن أحد حتى نأمر به, كان النبي هو قائد المعركة، وهو الذى يرتب أمر المعركة، استعدادًا لها للمؤمنين, {........تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[آل عمران:121], {وَاللَّهُ سَمِيعٌ}, لكل عباده -سبحانه وتعالى-  بيان أنَّ هذا الشأن كان تحت سمع الله -تبارك وتعالى- وعِلْم الله -جلَّ وعَلا- فهذا هو الأمر أنَّ الله -تبارك وتعالى- كان معكم منذ البداية يعلم هذا الأمر.

غزوة أُحُد أولًا كانت في السنة الثالثة مِن هجرة النيي -صلوات الله والسلام عليه- وكانت في يوم السبت في منتصف شوال، سبب هذه الغزوة أنه لما حصلت الهزيمة الشديدة للكفار في بدر فَقُتِلَ منهم سبعون، وأُسِرَ منهم سبعون، وشَرَدَ الباقون وهُزِمُوا، ورجع مَن رجع بعد ذلك منهم إلى مكة فكانوا متغيظين أشد التغيظ لقد ذهبت صناديدهم، ذهبت صفوتهم, ثم سارت الركبان بعارهم، وفضيحتهم في الجزيرة كلها، وأنهم هزموا مِن جماعة، فئة قليلة فتغيظوا أشد التغيظ، ورأوا أنهم لابد أنْ يأخذوا بثأرهم مِن المسلمين, فقام قائمهم وقال : لكل الذين كان لهم تجارة في هذه العير كانت لأبى سفيان ألف بعير، اجعلوا هذه التجارة وهذا المال الذى لكم اجعلوه في عُدة الحرب، واستعدوا لنأخذ بثأرنا فكل التجارة التي كانت لهم هذه لم يجعلوها لهم، جعلوها ليستعدوا ليوم أُحُد، وكذلك جمعوا كل مَن يستطيعون جمعه مِن الأحابيش الذين في مكة مِن حلفائهم، مِن تهامة ومِمَن حول مكة، وجاءوا مِن المدينة في ثلاثة آلاف رجل قريش وأتباعها وأحابيشها، وخرجوا كذلك ببعض نسائهم مِن أجل الحفيظة، مِن أجل تحفظهم فلا يفرُّون لأنَّ الإنسان إذا وجد أنَّ نسائه معه لا يفر خوفًا أنْ تقع نسائه في يد أعدائه, فجاءوا بحدهم وحديدهم، وجاءوا متغيظين على أهل الإسلام، هذا كان السبب في خروج الكفار والإتيان إلى المدينة.

لما عَلِمَ النبي -صلى الله وسلم- بمجيئهم استشار أصحابه في  الصورة التي يلاقى بها العدو, أشار عليه بعض كبار السن، ومِمَن أشار عليه كذلك  عبدالله بن أُبى بن سلول، وعبد الله بن أُبى الذى هو رأس المنافقين أسلم بعد بدر، قبل بدر لم يسلم، وبعد بدر قال: أرى أن هذا أمراً قد توجه ودخل في الإسلام؛ لكنه ظل مضمرًا البغض والعداء للنبي -صلى الله وسلم- وتظهر هذا على فلتات لسانه حينًا بعد حين, فهو الذى تولى في حادث الإفك هو الذى قال: لئن رجعنا إلي المدينة لنخرجن الأعَزُ منها الأذَلّ له تاريخ طويل في نفاقه, كان عبدالله بن أُبى مِمَن أشار على النبي قال له يا رسول الله : لا تخرج مِن المدينة، نبقى في المدينة، وإذا جاءنا الكفار يحارب الرجال في طرقات المدينة، وعلى أفواه الطرق، وتحارب كذلك النساء مِن فوق الأسطح بما تشاء، وقال له :  ما خرجنا  لملاقاة عدو خارج المدينة إلا غلبنا، وما قاتلنا فيها إلا غلبناه، وأما صغار السن والمتلهفون للقتال فإنهم قالوا  يا رسول الله : اخرج بنا إلى عدونا  كيف نرضى أنْ نختبئ مِن أعدائنا! اخرج بنا الى عدونا لنلقاهم، وألحوا على النبي -صلوات الله والسلام عليه- وكان مِن رأى النبي أي الرأي الأول أنْ يحاربهم مِن داخل المدينة، ولكن لما أَلَحَّ عليه هؤلاء دخل النبي -صلى الله وسلم- بيته ولبس درعه فلما خرج قالوا له : يا رسول الله إنْ شئت أنْ تبقى الأمر لك كما ترى, فقال -صلى الله وسلم- : (ما كان نبي أن يلبس عدة الحرب ثم ينزعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه), فإذا لبس عدة الحرب فكأنه شرع ودخل في عبادة لله -تبارك وتعالى- فلا بد أنْ ينتظر حتى يحكم الله -تبارك وتعالى- بينه وبين عدوه، وخرج النبي -صلوات الله والسلام عليه- كما ذكرنا كان هذا اليوم في صبيحة السبت في منتصف شوال مِن السنة الثالثة، المشركون لما جاءوا نزلوا بوادي قناة عند جبل أُحُد، وأرسلوا سرحهم في زروع الأنصار؛ فتغيظ الأنصار وقالوا أترُعْىَ زروع بني قَيْلَة ولمَّا نحارب متحرقين للقتال فكيف يسمحون بأنْ ترعى زروعهم ولما يحارب، ولما جاء النبي خرج مِن طريق غير بعيد عن القوم, ثم أتى إلى موقع الذى هو موقع أُحُد، موقع المعركة المعروف الآن فأخذ الرماة خمسين مِن أصحابه مِمَن يرمون، يحسنون الرمي فجعلهم فوق جبيل معروف يسمى جبل الرُّماة، وجعل عليهم عبد الله بن جُبير -رضى الله تعالى عنه- وقال لهم : انضحوا عنا وجوه الخيل، وذلك أنَّ المسلمين لم يكن معهم، في هذا الوقت إلا أفراس قليلة ولا يتعدى عشرة، وكان في الكفار معهم مائة فرس قال لهم: انضحوا عنا وجوه الخيل ولا تبرحوا مكانكم هذا حتى لو رأيتم الطير تتخطف مِن لحومنا, ثم إنَّ في بدء المعركة، لما بدأت المعركة كَرَّ المسلمون عليهم كرًة فَهُزِمَ القوم وولوا الأدبار, حتى إنه بدأ يظهر النساء الذين كانوا مع المشركين وخرجن يصعدن في الجبل لما رأى الرُّماة هذا الأمر، ورأى بعض المسلمين هذا الأمر، تركوا مواقعهم وانطلقوا للغنيمة، وكانت خيل المشركين على ميمنتها خالد بن الوليد -رضى الله تعالى عنه- بعد أنْ صدَّه في الأول الزبير بن العوام لكنه رأى بعد ذلك هذه الثَّغرة، ونزول الرُّماة عن الجبل التف مِن خلف المسلمين، وفاجأ المسلمين مِن خلفهم يحارب, ثم لما نظر المسلمون وهم يتتبعون ظهور المشركين المولين إذا بالعدو يأتي مِن خلفهم, فانطلقوا في الخلف, ثم بعد ذلك افترق صف المسلمين, فلما رأى الكفار الذين خرجوا أنَّ خيولهم تحارب مرة ثانية، وأنَّ المسلمين رجعوا، رجعوا الذين كانوا قد فروا رجعوا مرة ثانية، واختلط الأمر، ووقع ما وقع مِن هذه الهزيمة، وهذه المقتلة للمسلمين، كان في المشركين وَحْشِىّ أخرجه المشركون وقالوا له : إنْ قتلت حمزة بن عبدالمطلب فأنت حر, فكان لا همَّ له إلا قتل حمزة أخذ حربته، وكان رجل يحسن ضرب الحربة على طريق الحبشة فكمن تحت صخرة حتى إذا جاء حمزة بن عبدالمطلب لا يقوم له أحد آتاه مِن خلفه ثم هزَّ حربته وضربه فوقعت في ظهره حتى خرجت مِن بين رجليه, فأراد أنْ يعود إليه فلم يستطع ووقع، كان هذه موجز الأحداث العظيمة التي وقعت في هذه الغزوة.

قول الله -تبارك وتعالى- أولاً هنا نرى أنَّ الرب يُخْبِرُ عباده المؤمنين يُخْبِرُ-سبحانه وتعالى- أنه كان معهم منذ البداية, {وَإِذْ غَدَوْتَ}, يا محمد خرجت صباحًا, {........ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[آل عمران:121], {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[آل عمران:122], هذا كذلك صنيع جميل مِن صنيع الرَّب -تبارك وتعالى-, {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ}, وهم بنو حارثة، وبنو سَلَمَة طائفتان مِن الأنصار خرجوا مع النبي في أول الأمر, ثم بعد أنْ خرج عبد الله بن أُبَىّ مع مَن خرج معه, ثم لما مشى إلى نصف الطريق قال : أيها الناس والله لا أدرى على ماذا نقتل أنفسنا، رجع فرجع معه ثلث الجيش، وكان هذه أول ضربة شديدة للمؤمنين، ومِمَن رجع كذلك أراد أنْ يرجع بنو حارثة وبنو سلمة، لما رجع ثلث الجيش على هذا النحو, ثم إنَّ أخًا لهم جاء وناشدهم وقال لهم : كيف تتركون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحمَّسهم ورجعوا بعد ذلك فرجعوا بعد ذلك بعد أنْ كادوا أن يرجعوا مع الراجعين.

قال -جلَّ وعَلا- : {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا}, {أَنْ تَفْشَلا}, أي بالرجوع والتخلي عن نصرة النبي -صلى الله وسلم- والقيام معه، قال -جلَّ وعَلا- {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا}, الله -سبحانه وتعالى- وليهما بمعنى أنه مؤيدهم وناصرهم ومثبتهم, فقد ثبتهم الله -تبارك وتعالى- وردهم ليلتحقوا بجيش النبي -صلى الله وسلم- قال -جلَّ وعَلا- {وَعَلَى اللَّهِ}, لا على غيره, {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} يُسَلِّمُوا أمورهم لله -تبارك وتعالى- وهذا أعظم المواطن في وجوب التوكل على الله -تبارك وتعالى- وهو القتال, فإنه نتيجته لا تُعْرَف، إنَّ الأنسان يدخل المعركة ولا يدرى هل ينتصر، أم لا ينتصر يجب أنْ يبذل السبب، ويُسَلِّم الأمر لله -تبارك وتعالى-  هذه كذلك الآية تبين لُطْف الله -تبارك وتعالى- فالآية الأولى تبيِّن أنَّ الله -تبارك وتعالى- كان حاضرًا، سميعًا، عليمًا لرسوله -صلى الله وسلم- وهو يخرج بالمؤمنين يبوئهم ويمسكهم مقاعد القتال, ثم الأمر الآخر أنَّ الله -تبارك وتعالى- كان مع هاتين الفئتين مِن الأنصار اللتين كادتا أنْ تفشلا, فقوَّاهم الله -تبارك وتعالى- وأيدهما ووفقهما أنْ ينطلقا مع النبي -صلى الله وسلم-.

أمر آخر قال -جلَّ وعَلا- : {........ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[آل عمران:123], أي اذكروا هذا، أرجعهم الله -تبارك وتعالى- إلى نصره في بدر, وأنَّ الله -تبارك وتعالى- نصرهم في هذه الموقعة والحال قال:  {وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ}, وذلك أنهم كانوا ضعفاء، قليلي العدد، خرجوا لا يريدون قتالًا، وعدوهم خرج بحدِّه وحديده أكثر منهم قوة، وأكثر منهم عددًا، وهو خارج مستعد لهذا القتال، والمؤمنون ما كانوا يتصورا أنْ يكون لهم نصر وهم على هذه الحال، وإنما قاتلوا يوم أنْ قاتلوا توكلًا على الله -تبارك وتعالى- وثقةً في أنه لا يضيعهم، وأنه معهم رسوله -صلوات الله والسلام عليه-, وتشجعوا وتصبروا للأمر، وكان المسلمون بكل وجه بالنسبة إلى مَن حولهم، هم في غاية الضعف هم أذِلَّة, {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ........}[آل عمران:123], والحال لقد كنتم لم يسبق لهم أنْ دخلوا معركة، وانتصروا فيها، ولا يعرف لهم ذِكرٌ في الجزيرة، قال -جلَّ وعَلا- : {........فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[آل عمران:123], خافوا الله -تبارك وتعالى-, {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}, أي لعلكم اذا ذكرتم فضل الله -تبارك وتعالى- ونعمته عليكم شكرتموه على إحسانه وعلى عنايته -سبحانه وتعالى- بكم، إذن في الآية الثالثة تذكير بنعمة الله -تبارك وتعالى- وتذكير هذه بالنصر السابق, قال -جل َّوعَلا- : {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ}[آل عمران:124], {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ}[آل عمران:125], {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ}, يُخْبِرُ النبي المؤمنين لما علم أنَّ قريش قد جاءت بهذا العدد ثلاثة آلاف معهم فقال له النبي -صلى الله وسلم- يبشر المؤمنين : {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ}[آل عمران:124], أي بعدد الجيش؛ جيش الكفار فيكون مقابل كل كافر ملك مِن ملائكة الله -تبارك وتعالى- ألا يكفيكم هذا، قال -جل وعلا- {بَلَى}, مصدقًا لما تمناه النبي على ربه -سبحانه وتعالى- وما بَشَّر به المؤمنين, {........إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ}[آل عمران:125], {إِنْ تَصْبِرُوا}, في المعركة هذه شروط تَنَزُّل النصر مِن عند الله -تبارك وتعالى-, {وَتَتَّقُوا}, وتخافوا الله -تبارك وتعالى- {وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ}, ليس فقط بثلاثة آلاف بل بخمسة آلاف, {مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} {مُسَوِّمِينَ}, مُعَلِّمِين بعلامة قيل أنهم كانوا يلبسون عمامات مُعَلَّمة, أو {مُسَوِّمِينَ}, إذا ضربوا مَن ضربوا مِن الكفار تركوا علامة فيهم، كما جاء أنَّ صحابيًا قال: ركضت خلف كافر لأقتله فإذا بي أسمع ضربًا كضرب السوط فنظرت إليه وقد وُقِ، وقد خُطِمَ أنفه، خطم أنفه كأن الصوت قد ضربه وعلَّم على أنفه, {........يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ}[آل عمران:125], قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ.......}[آل عمران:126], أي ما جعل الله -تبارك وتعالى- نزول الملائكة بهذا العدد الكبير, {إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ}, أي يبشركم بهذا الأمر، وإلا فالأمر لا يحتاج، أي أمر الكفار لا يحتاج الى هذا العدد العظيم ليغلب الملائكة البشر فإنَّ ملكًا واحدًا لو صاح صيحةً واحدةً فأنه يُدَمِّر مُدنًا بأكملها, كما قال الله -تبارك وتعالى- في صاحب ياسين : {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ}[يس:28], {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ}[يس:29], وضَرَبَ الله كذلك مَثَل بِقُرَى لوط التي رفعها جبريل على طرف جناحه ثم أفكها أصحابها فقدرة الملائكة قدرة عظيمة البشر كلهم لايقومون؛ بل مَلَكٌ واحد ينفخ نفخةً واحدةً في الصور فيُدمِّر كل هذا النظام، ليس النظام الشمسي بل السماوات والأرض قال -تبارك وتعالى- : {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}[الحاقة:13], {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}[الحاقة:14], {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}[الحاقة:15] حملت الأرض والجبال بنفخة مَلَكٍ واحد, قال -جل وعلا- : {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ.......}[آل عمران:126] ,أي إنزال الملائكة بهذا العدد الكبير {وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ}, تطمئن قلوبكم إلى أنَّ النصر واقع، وأنَّ الملائكة معهم فتطمئن القلوب إلى نصر الله -تبارك وتعالى- ولا تظل فيها خوف، أو فيها شك مِن نصر الله -تبارك وتعالى-

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {........وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}[آل عمران:126], النصر فقط مِن عند الله وحده لا مِن عند غيره، إذا أراد الله -تبارك وتعالى- أنْ ينصركم فإنه ينصركم لأن الله عزيز غالب لا يغلبه أحد؛ ثم هو حكيم يضع كل أمر في نصابه -سبحانه وتعالى-, قال -جل َّوعَلا- : {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ}[آل عمران:127], أي لماذا يُنْزِلُ الله -تبارك وتعالى- الملائكة مع المؤمنين لقتال الكفار قال : {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا........ }[آل عمران:127], قَطْع طرف منهم أي قتل مجموعة منهم، المجموعة منهم طرف, فيكون في هذا إضعاف لهم, {أَوْ يَكْبِتَهُمْ}, بالهزيمة، والفرار, {فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ}, لم ينالوا الذى أَمَّلُوه مِن قتل المؤمنين، و الانتصار عليهم، وهزيمة أهل الإسلام واستئصالهم, فهذه حكمة الرَّب -تبارك وتعالى- في إنزال الملائكة بالنسبة للكفار، وإلا لو أراد الله -تبارك وتعالى- أنْ يهلك الكفار هلاكاً لفعل، ولكن هذا ابتلاء يبتلى الله -تبارك وتعالى- المؤمنين بأنْ يقوموا، ويؤيدهم الله -تبارك وتعالى- بما يريدهم به مِن جند له، الملائكة جنده، وأمر الكفار لا يحتاج إلى هؤلاء الملائكة؛ فإنَّ قدرة الملائكة أكبر مِن الكفار جميعًا بكثير، ينصر الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين بالريح، بالرعب الذى يلقيه في قلوب الكفار، جنود الله كثيرة, {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ}, فالله يخبر أنه ينزل هؤلاء الملائكة قال : {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ}[آل عمران:127], ثم قال -جلَّ وعَلا- : {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}[آل عمران:128], {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}, نزول هذه الآية ومجيؤها في هذا المكان كان أولًا بالنسبة إلى أنَّ النبي -صلى الله وسلم- ناله ما ناله في هذه الغزوة, فقد جاءه سهم فشجَّ أولا ضرب حلقات المِغْفَر، المِغْفَر الذى هو البيضة والزَّرَد الذى يُغَطِّى الوجه حتى لا يصاب الإنسان بضربة سيف، جاءه النبي سهم فضَرَب حلقات المِغْفَر؛ فكُسِرَت رَبَاعِية النبي، ودخل السهم في صِدْغِه، شج وجهه ودخل إلى رَبَاعية النبي فكسرها،  والنبي وهو يمسح الدم عن وجهه، ويغسل هذا قال: كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم، وهو يدعوهم إلى الله! وقول النبي هذا -صلوات الله وسلم- إنما هو كأنه نوع مِن استبعاد الهداية لهؤلاء الذين جاءوا يحاربون الله ورسوله على هذا النحو، كيف يفلحون؟ بمعنى أنهم بعيد فلاحهم، كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى الله –عز وجل-؟ فقال الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم- : {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}, الأمر كله لله فالهداية، والإضلال بيده -سبحانه وتعالى-, إنْ كنت تستبعد هدايتهم فإن الله قد يهديهم, {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ........ }[القصص:56], قال له : {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ}, أمر الله -تبارك وتعالى- وشأنه في الهداية والإضلال، في الغِنى والإفقار، في إدخال الجنة وإدخال النار كل هذا لله -تبارك وتعالى-, {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ}, أي مع الله، {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}, ليس فقط أنت تقول أنهم لا يهتدون، أو يتوب عليهم مِن هذا الكفر فيرجعوا إلى لإيمان، وقد كان؛ فإنَّ هؤلاء الذين فعلوا بالنبي -صلى الله وسلم- هذا الفعل آمنوا، وحسن إيمانهم، هذا خالد بن الوليد، هذا عكرمة بن أبى جهل، أبو سفيان بن حرب هؤلاء الذين حاربوا في أُحُد وفعلوا ما فعلوا تاب الله -تبارك وتعالى- على كثير منهم, {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ}, بأنْ يموتوا على الكفر، ويدخلوا النار {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}, إذا عذبهم الله -تبارك وتعالى- فإنما يعذبهم بذنوبهم.

 نقف عند هذه الآية، ونكمل إنْ شاء الله في الحلقة الآتية, أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.