الخميس 24 شوّال 1445 . 2 مايو 2024

الحلقة (102) - سورة آل عمران 128-134

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهديه وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- : {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}[آل عمران:128], {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[آل عمران:129], {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[آل عمران:130], {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}[آل عمران:131], {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[آل عمران:132], الآيات من سورة آل عمران, سياق هذه السورة في بيان الدروس العظيمة المستفادة مِن غزوة أُحُد، قول الله -تبارك وتعالى- لرسوله -صلى الله عليه وسلم- : {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}, قلنا في الحلقة الماضية بأنَّ هذه الآية ذكرها الله -تبارك وتعالى- هنا في هذا المقام ؛وذلك أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لما شُجَّ وجهه، وكُسِرَت رباعيته، ودخلت حلقة مِن حلقات المِغْفَر في صِدْغِهِ -صلى الله عليه سلم- بعد أنْ آتاه سهم مِن الكفار بعد الغزوة، وهو يُدَاوَى جرحه كان يمسح الدم عن وجهه ويقول: كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم، وهو يدعوهم إلى الله! وكيف للاستبعاد كأنَّ النبي -صلى الله وسلم- استبعد أنْ يأتي الله -تبارك وتعالى- هؤلاء الكفار الذين حاربوا في أُحُد، وصنعوا هذا الصنيع بالمسلمين، وبالرسول، والرسول إنما هو يدعوهم إلى الله -تبارك وتعالى- ما ليس له ذنبٌ إلا أنْ يدعوا هؤلاء إلى الله -تبارك وتعالى-, وهم قد جاءوا بحدهم، وحديدهم يحاربون الله ورسوله، أي أنهم لا يستحقون الهداية، ويُسْتَبْعَد أنْ يهديهم الله -تبارك وتعالى-, والحال أنَّ الهدى والضلال هو لله -تبارك وتعالى-, وأنَّ أمر المآل والنتيجة هذا بيد الله -تبارك وتعالى- لكل أَحَد, قال -جلَّ وعَلا- لرسوله : {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}, أي هدايتهم، وإضلالهم الأمر فيه لله, {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ........}[القصص:56], فالهُدى والإضلال شأن الله -تبارك وتعالى- ولم يُعْطِهِ الله -تبارك وتعالى- لأحد مِن خَلْقِهِ -جلَّ وعَلا- أنْ يقول هذا يستحق الهدى، وهذا يستحق الضلال هذا أمره إلى الرَّب -جلَّ وعَلا-, قال -جلَّ وعَلا- : {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ}, أمر الله -تبارك وتعالى- وشأنه، وتصريفه في عباده, {شَيْءٌ}, ولو قليل, {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} أو يتوب عليهم ليس كما ظننت أنه يحرمهم الهداية أبدًا بل {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}, هذا خيار لله -تبارك وتعالى- الأمر لله {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}, أي مِن الكفر و يرجعوا إلى الدين, {أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}, أي إذا أراد الله -عزَّ وجلَّ- أنْ يعذبهم فيعذبهم، وهذا شأنه -سبحانه وتعالى- {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}, ليعذبهم بظلمهم -سبحانه وتعالى- قدَّم الله -تبارك وتعالى- التوبة وكان هذا فيه إشارة كذلك إلى أنه يمكن أنْ يتوب عليهم بل إنه سيتوب عليهم وقد كان؛ فإنَّ كثيرًا مِن هؤلاء الذين حاربوا النبي -صلى الله وسلم- في أُحُد تاب الله -تبارك وتعالى- عليهم مِن الكفر، ورجعوا للإيمان وأسلموا وحسن إسلامهم، وكان فيهم سيف الله، وسيف رسوله خالد بن الوليد -رضى الله تعالى عنه-، وعكرمة بن أبى جهل الذى حارب في الإسلام حربًا عظيمة، وقُتِلَ شهيدًا -رضى الله تعالى عنه-، ومنهم عمرو بن العاص -رضى الله تعالى عنه-، ومنهم أبو سفيان بن حَرب -رضى الله تعالى عنه-، وبل منهم هند بنت عُتبة بن ربيعة وهى التي كان لها شأن في التحريض في هذه الغزوة، وكانت تُحَرِّض بِشِعْرِهَا الكفار يوم أُحُد وتقول: إنْ تقبلوا نُعانِق، ونفرش النمارق، أو تُدبروا نفارق، فراق غير وامِق، فكان هذا صنيعها ثم أنها هي التي بَقَرَت بطن حمزة بن عبد المطلب أسد الله -رضى الله تعالى- عنه الذى قُتل شهيدًا بقرت بطنه، ولاكت كبده وفعلت ما فعلت، ومع هذا أسلمت، وحسن إسلامها، وقالت للنبي -صلى الله وسلم- بعد ذلك والله يا رسول الله ما كان مِن أهل خباءٍ في الأرض نُحب أنْ يَذِلُّوا مِن أهل خباءك، واليوم لا يوجد في الأرض مِن أهل خباءٍ أحب إلينا أنْ يعزوا مِن أهل خباءك, فقال لها النبي: وأنا كذلك, فأسلموا وحسن إسلامهم, فالأمر لله -تبارك وتعالى- مِن قبل ومِن بعد، الهداية والإضلال بيده -جلَّ وعَلا- {........أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}[آل عمران:128], ثم قال -جلَّ وعَلا- مبينًا، مُعَقِّب على هذا الأمر أنه له، مُلك السماوات والأرض كله له -سبحانه وتعالى-,قال : {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[آل عمران:129], {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}, كل ما في السماوات والسماوات، وكل ما في الأرض والأرض كلها مُلك لله -تبارك وتعالى- له, {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ}, مِن عباده وهذا بأسباب لكن مغفرته -سبحانه وتعالى- له -جلَّ وعَلا- هو الذى يغفر لمن يشاء هذا مِن تصريفه, {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ}, والأمر له -سبحانه وتعالى-, {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}, قدَّم هنا المغفرة في الذِّكر, {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ}, وختم الآية بأنه غفور رحيم مُبيِّن كل هذا فيه إشارة أنَّ الله -تبارك وتعالى- سيتوب على هؤلاء، وقد كان فقد تاب الله -تبارك وتعالى- عليهم، وجعل سيوفهم مع الإسلام بعد أنْ كانت عليه، وهذا مِن تصريف الله -تبارك وتعالى- العجيب في عباده, فهذا تصريف عجيب -سبحانه وتعالى- لله -سبحانه وتعالى- في عباده انظر هؤلاء وقد جاءوا يوم مِن الأيام كفار، جاءوا كفارًا معاندين، محاربين لله ورسوله، قتلوا مَن قتلوا مِن أهل الإيمان, ثم انظر صنيع الله -تبارك وتعالى- بهم كيف أنَّ الله -تبارك وتعالى- حوَّل قلوبهم، وأدخلهم في الإيمان، وجعلهم يؤمنون إيمانًا حقيقيًا، وتقوم سيوفهم بعد ذلك, فتحارب لله -تبارك وتعالى- هذا وَحْشِى الذى جاء لقتل حمزة، وقتل حمزة، قَتَلَ وليًا عظيمًا لله -تبارك وتعالى-, قَتَلَ أسد الله، وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلب -رضى الله تعالى عنه-, ثم انظر بعد ذلك كيف تاب الله -تبارك وتعالى- عليه، وكيف خرج مِن بعد ذلك في قتال الرِّدة فقتل بحربته هذه التي قَتَلَ بها حمزة، قَتَلَ بها مسيلمة الكذاب، وكان يقول: قتلت بحربتي هذه أكبر عدو لله -تبارك وتعالى- في وقته مُسَيْلمة الكذاب، وكان قد قتل بها وليًا مِن أولياء الله -تبارك وتعالى- الأمر لله، التصريف لله -تبارك وتعالى- كله, {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[آل عمران:129], ثم جاء هنا فاصل بين السياق في بيان دروس هذه الغزوة، الدروس العظيمة، وفى بعض المواعظ لأهل الإيمان قال -جلَّ وعَلا- : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}, نداءٌ مِن الله -تبارك وتعالى- للمؤمنين, {........لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[آل عمران:130], هذه الآية مِن الآيات الوسطى التي نزلت في الرِّبا، نزل في الرِّبا آيات في مكة، ونزلت هذه الآيات في أول الإسلام، ونزلت الآيات الأخيرة في سورة البقرة، ومنها قول الله -تبارك وتعالى- : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}[البقرة:278], الآية التي نزلت في مكة : {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ}[الروم:39], وهذه الآية نزلت هنا في السنة الثالثة بعد غزوة أُحُد يقول الله -تبارك وتعالى- فيها : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[آل عمران:130], نداءُ مِن الله -عزَّ وجلَّ- للمؤمنين يصفهم الله يناديهم بأحب الأسماء وأعلاها وهو الإيمان, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}, إذن افعلوا, {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً}, يُعَبَّر بأخذ المال، وصرفه بأي صورة عن الأكل، وذلك أنَّ الأكل هو أعظم باب لإنفاق المال, {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً}, {الرِّبَا}, أصله في اللغة الزيادة، رَبَا الشيء بمعنى زاد، والقصد الرَّبا المحرم صنفان: رِبا زيادة لأجل الزمن، الوقت والإمهال، كمن يعطى مائة دينار قرضًا ثم يأخذها مائة وعشرة مثلًا بعد سنة، فكأنه جاءت هذه الزيادة في مقابل الأجل، أجل السداد هذا هو يُسَمَّى رِبِا النَّسِيْئَة، ورِبا آخر وهو رِبا الفضل، وهو أنْ يُبَاع الشيء بجنسه متفاضلًا، قمح مثلًا بقمح، لكن هذا مثلًا قمح أسمر، وهذا قمح أبيض؛ فيبيع مثلاً الصاع بهذا، بصاعين مِن هذا، طن مثلًا مِن القمح الأبيض بطنين مِن القمح الأسمر هذا رِبا، هذا رِبا الفضل, بل إذا باع قمحًا بقمح أو أي صنف غير المصنوعات بصنف آخر فإنه يجب أنْ يكون متساويًا.

كما قال النبي «الذهب بالذهب والفضة بالفضة وزنًا بوزن مِثلًا بمثل يدًا بيد ولا تشف بعضها على بعض, والقمح بالقمح والشعير بالشعير والتمر بالتمر والزبيب بالزبيب والملح بالملح وزنًا بوزن مِثلًا بمثل»  فهذه الأصناف وما يُقاس عليها مِن جنسها بجامع العلة فيها لابد إذا بِيعت لا بد أنْ تكون يد بيد ما يكون فيها شيء يد وفيها شيء نسيئة، وأنْ تكون وزنًا بوزن مثلًا بمثل فهذا رِبا الفضل، الرِّبا الذى يكون أضعاف مضاعفة ممكن يكون في الفضل، ويكون في النَّسِيْئَة، وغالب ما يكون في النسيئة، وكان الرِّبا في الجاهلية يتضاعف أضعاف كثيرة، وذلك أنه كانوا يداينون سواء كان بالدَّيْن الذي هو القرض، أو بالدين الذي هو الشراء بالدين, ثم إذا حَلَّ الأجل يقول الدائن للمَدِين، تقضى، أو تزيد، أو تُرْبِى تقضى الآن على ما اتفقوا عليه مِن رأس المال، والزيادة أم أزيدك في الأجل وتزيدني في المال, فإذا كان عنده وفاء وفَّى, ما عنده يقول له زدني في الأجل, فيقول له أمهلك سنة، ويتضاعف هذا المال ضعف, ثم يكون هكذا بعد ذلك  في السنة التي تلي, السنة التي تلى حتى يصبح أصل المال مثلًا كان مائة دينار فيصبح سبعمائة، وثمانمائة دينار، أضعاف مضاعفة, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً........}[آل عمران:130], ليس لهذه الآية مفهوم، إذا لم يكن أضعافًا مضاعفة فكلوه لا، وإنما المفهوم هنا غير مراد حتمًا، ولا يُحِلُّ الله -تبارك وتعالى- بأنْ يكون الرِّبا مثلًا واحد في المائة، أو اثنين في المائة، أو كذا إنما هو شيء قليل، لا وقد جاء بيان أنَّ هذا غير مراد في الآيات التي نزلت أخيرًا في الرِّبا وهى قول الله -تبارك وتعالى- : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}[البقرة:278], {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ}[البقرة:279], {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ}, رأس مالك فقط الذى أنت بِعت به أو داينته, {........فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ}[البقرة:279], {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ}, المَدِين لا يستطيع السداد الآن لأنه مُعْسِر ليس عنده وفاء لدينه, {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا}, أي على المدين, {........خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة:280], فهذه الآية ليس لها مفهوم مخالف بمعنى أنه إذا لم يكن الرِّبا أضعافًا مضاعفة فيجوز، ولكن هذا وصف للحالة التي كانوا يدينون عليها في ذلك الوقت, ثم أنَّ هذا طبيعة الرِّبا، هذه طبيعة الرِّبا؛  لأنه كلما زاد الأجل زاد الرِّبا، كلما زاد الأجل زاد الرِّبا، زاد الأجل زاد الربا، فيصبح بالنهاية أضعافٍ مضاعفة، إما أضعاف مضاعفة يتضاعف الرِّبا نَفْسه، أو يتضاعف الرِّبا عن رأس المال الأساسي, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ.......}[آل عمران:130], خافوه -سبحانه وتعالى-, {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}, لعل للترجي أي بحسبكم أنكم إذا فعلتم هذا أنْ تصلوا إلى الفلاح، والفلاح هو النجح والفوز بالمطلوب الأكبر عند الله -سبحانه وتعالى- ولا يكون هذا إلا بدخول الجنة فدخول الجنة هو الفلاح, {........فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}[آل عمران:185], {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}, تفوزون، تنجحون, {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}[آل عمران:131], تحذير مِن الرَّب -تبارك وتعالى- قال: {وَاتَّقُوا النَّارَ}, اجعلوا حماية بينكم ، وبين النار بالإيمان بالله -تبارك وتعالى- لا تكون الحماية بين النار إلا بالانتهاء عما نهاكم الله -تبارك وتعالى- عنه, فالله ينهاكم عن الرِّبا تنتهى، وإلا عرَّضت نفسك للنار, {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}[آل عمران:131], {أُعِدَّتْ}, هُيِّئَت، وحُضِّرَت، وهذا مِن الأدلة على أنها خُلِقَت وأنها موجودة, فالنار موجودة، ومعدة، ومُهَيَّئَة، وهى بالرصد, {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا}[النبأ:21], {لِلْطَّاغِينَ مَآبًا}[النبأ:22], { كَانَتْ مِرْصَادًا}, أي بالرصد، مُعَدَّة، جاهزة، مُهَيَّئَة منتظرة أنْ يأتيها أهلها عياذاً بالله أنْ نكون مِن أهلها, {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}[آل عمران:131], لأهل الكفر فكذلك يدخلها المؤمن اذا ارتكب هذه الكبائر العظيمة, فإنَّ عصاة المؤمنين يدخلون النار التي فيها الكفار ثم كذلك : {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}, أي لا تكفروا فتكونوا أيضًا مِن الكافرين, {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[آل عمران:132], أمرٌ مِن الله -سبحانه وتعالى- عباده المؤمنين أنْ يطيعوا الله، ويطيعوا الرسول، وذلك أنَّ طاعة الرسول هي طاعة لله -سبحانه وتعال- {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}, لعل كذلك للترجي أي بطاعتكم لالله، وبطاعتكم للرسول أنْ يرحمكم الله -تبارك وتعالى- أي مِن هذه النار التي أعدها للكافرين, ثم {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ........}[آل عمران:133], المسارعة هذه أي النشاط والقيام والمبادرة أي بادروا, {إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}, كذلك تأتى المسارعة مُفاعلة، بأنه ليسرع كل منكم قبل أخيه، كل ينبغي أنْ يندفع ويتنافس ويسرع قبل الآخر, {وَسَارِعُوا} بادروا, {إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}, هذا أعظم شيء أنْ تُغْفَر الذنوب؛ لأنَّ الذى يُغْفَر ذنوبه عند الله -تبارك وتعالى- هذا ما هو مأخوذ بجريرته، ولا هو مرهون بهذا، فإذا مَحَى الله -تبارك وتعالى- ذنب عبد، هذه أعظم المِنَّة، بمعنى أنه قد هيئه لرضوانه وجنته -سبحانه وتعالى-,  {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ........}[آل عمران:133], وهذا يكون بتنفيذ تلك الأوامر السابقة، ترك الرِّبا، طاعة الله، طاعة رسوله, {وَجَنَّةٍ}, سارعوا إلى هذه الجنة أي بادروا إليها, ثم وصف الله -تبارك وتعالى- هذه الجنة التي هي بستان الله -تبارك وتعالى- العظيم، {عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ}, والسماوات لا نعلم ليومنا هذا حقيقتها وسعتها، هذا البشر، الإنسان مع ما تقدمت علومه وآلاته في النظر في هذا الكون لم يعرف للسماوات حدًا ولا بعدًا, ولا أين تبدأ، وأين تنتهى؛ فهذا  أمرٌ فوق تصور الإنسان، وفوق إدراكه كما قال -جلَّ وعَلا- : {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}[الذاريات:47], سعة عظيمة لا يعلمها إلا الله -تبارك وتعالى- فهذه الجنة سعتها، سعة السماوات والأرض, {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}, كذلك هُيِّئَت ووُجِدَت، وهى موجودة، لن يخلقها الله مستقبلًا فيخلقها ويهيئها، لا بل إنما خلقها، وأعدها بأنهارها وقصورها وحورها وسرورها وحبورها وشرابها وآنيتها, وكل ما فيها قد هيئه الله -تبارك وتعالى- وأعده نزلًا وتكريمًا لعباده المؤمنين, فهي موجودة وهذا مِن أعظم الحظ، كل الجنة موجودة، قد أعددتها وهيئتها فسارع؛ بادر إلى هذه الجنة آية عظيمة جدًا، يُهِيب الله -تبارك وتعالى- فيها بعباده المؤمنين بقوله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}, يقول : {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران:133], ليست منفعتها فيها أمر صغير لا يكلف الإنسان نَفْسَهُ العناء لبلوغه، ولا يشحذ الهمة لا هذا أمر عظيمٌ فوق التصور؛ ثم لما ذَكَرَ الله -تبارك وتعالى- أنَّ هذه الجنة أُعِدَّت للمتقين، بدأ يصف صفات هؤلاء المتقين حتى تكون المبادرة إلى امتثال هذه الصفات، مَن هم المتقون؟ قال : {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران:134]{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[آل عمران:135] أول صفة ذكرها الله هنا مِن صفات هؤلاء عباده المتقين -سبحانه وتعالى- قال: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ}, ينفقون المال؟؟؟ {فِي السَّرَّاءِ}, وقت المسرة التي هي الغِنى والصحة والعافية ينفقون, {وَالضَّرَّاءِ}, وقت الضُّر، وقت الضر، الفقر، المرض، الحاجة الشديدة، ومع ذلك ينفقون, فهم مِن أهل النفقة في كل أحوالهم سواءً كانوا على يُسر وراحة وطمأنينة وسعة مِن المال، أو كانوا في وقت شدة وبؤس وفقر كذلك ينفقون، ينفقون في كل الأوقات لله -تبارك وتعالى-, ثم قال -تبارك وتعالى- : {........وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران:134], كظم الغيظ أول مرحلة في الصبر على الإساءة، وضبط النَّفْس أنْ تندفع إلى الانتقام فيكظم غيظه في نَفْسِه فلا تنفلت منه عبارات قاسية، لا سب، ولا شتم، وإنما يكظم غيظه ثم بعد ذلك، المرحلة الثانية العفو عن الناس، والناس هنا مطلق، أي الناس هنا كلمة عامة قد تشمل أهل الإيمان وأهل الكفر، أما المؤمن فلا شك أنَّ الأَوْلَى والأَحرى أنْ يعفو المؤمن لأخيه المؤمن عن إساءته, {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصلت:34], {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[فصلت:35], {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}, السيئة، الكافر كذلك العفو عنه في مع القدرة عليه وذلك ليكون في القلب بعد ذلك فُسْحَة إذا دخل الإيمان أنْ يكون أخًا للمؤمنين، وكأنَّ هذه الآيات جاءت هنا، وهى في سياق غزوة أُحُد لتُهَيِّئَ قلوب المؤمنين بعد ذلك، أنْ يعفوا عن الناس ولا يتذكرون هذه الإساءة العظمى للكفار في أنهم حاربوهم في أُحُد، وفعلوا بهم، وفعلوا، ولا يكون هناك مجال لأنْ يقبلوهم إخوة في الدين بعد ذلك بل يعفوا، ويصفحوا إذا دخلوا في الدين, {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}[التوبة:11], فكلمة الناس هنا، كلمة عامة يعفون عن الناس أي مؤمنيهم وكافريهم، حكمة العفو ووضعه في مكانه، أما المؤمن فإنه يستحب العفو عن إسائته بكل حال, قال -جلَّ وعَلا- : {........وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران:134], هذا إحسان، أصل الإحسان هو الإتيان بالشيء حسن، هو ال، ربنا -سبحانه وتعالى- كتب الإحسان علينا في كل شيء، وهذا مِن الإحسان، أي هذا الذى إذا كان الإنسان كاظم لغيظه، يعفو عن الناس، يُنفق في السراء والضراء، هذا غاية الإحسان، هذا كله مِن عمل الإحسان؛ حرَّض الله -تبارك وتعالى- أهل الإيمان، وحثهم على  هذا الفعل، وذلك بأنه يحب مِن هذه صفاته، يحب أهل الإحسان, {........وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران:134], أسأل الله -تبارك وتعالى- بأسمائه العُلى، وصفاته الحسنى أنْ يجعلنا مِن هؤلاء.

بقيت صفة كذلك مما ذكره الله -تبارك وتعالى- هنا في أهل الإحسان قال : {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[آل عمران:135].

 للحلقة الآتية إنْ شاء الله, أستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده، ورسوله محمد.