الخميس 20 جمادى الأولى 1446 . 21 نوفمبر 2024

الحلقة (103) - سورة آل عمران 134-142

الحمد لله ربَّ العالمين، وأُصَلِّى وأُسَلِّم على عبدالله ورسوله الأمين، وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهديه وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- : {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[آل عمران:135], {أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}[آل عمران:136], هذه الصفة كذلك هى مِن تمام كلام الله -تبارك وتعالى- عن صفات المتقين، الذين أَخبر -تبارك وتعالى- أنه أعد لهم هذه الجنة العظيمة التى عرضها السماوات والأرض، وأنها أُعدت للمتقين، والتى أهاب الله -تبارك وتعالى- بأهل الإيمان أنْ يبادروا إلى السعي إليها، وبل والركض إليها, {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران:133], {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران:134], {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ........}[آل عمران:135] , هذا أمرٌ عجيب؛ فإنَّ هؤلاء هم أهل الإحسان، ومع ذلك أخبر الله -تبارك وتعالى- أنه قد تقع منهم الفاحشة، ولكنهم يبادرون إلى التوبة إلى الله -تبارك وتعالى- واستغفروا {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً}, الفاحشة ذنب عظيم، الفاحشة هى الأمر الفاحش, الغليظ، البشع، هذا فى الإثم وفى القبح, وغالبًا ما يُطْلَق الفُحْش على جريمة الزنا، كما قال -تبارك وتعالى- : {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا}[الإسراء:32], وكذلك على مثلًا ذكره الله -تبارك وتعالى- فى زواج زوجة الأب قال : {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا}[النساء:22], أمر قبيح جدًا، أي غليظ في قبحه، وبالتالي بعد ذلك في الإثم والنكارة, {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً}, ليس صغير مِن الذنب، وإنما ذنبٌ كبيرٌ، {أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ}, بأي ذنب, {ذَكَرُوا اللَّهَ}, لو وقع منهم أمر كبير فى الإثم، أو أمر صغير، والله يُخبر بأنَّ هذا ظلم للنَّفْسِ، لأنَّ مَن يوقع بمعصية فإنما يظلم نفسه، لا يظلم الرب -تبارك وتعالى- الله فوق النافع وفوق الضر لا يضره أحد، ولا ينفعه أحد -سبحانه وتعالى- ومَن أوقع معصية فإنما تقع عليه هو، لا على الرَّب -جلَّ وعَلا- {أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ}, تذكروه، استحضروا عظمته، كبريائه، أنه يسمعهم، يراهم، أنه يُؤاخِذ بالذنب، ويُعاقِب به -سبحانه وتعالى-, {ذَكَرُوا اللَّهَ}, الله بأسمائه، وصفاته -سبحانه وتعالى-, {فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ}, وذلك أنه أيضًا مِن صفته أنه الرَّب، الرحمن، الرحيم، الذى يقيل  العثرة، يَغْفِرُ الذنب -سبحانه وتعالى-, {ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ}, {ذَكَرُوا اللَّهَ}, مِن أسمائه أنه شديد العقاب فعلموا إنَّ فيه ذنب، وكذلك علموا أنه التواب الرحيم فلم يقنطوا ولم ييئسوا مِن رحمته -سبحانه وتعالى-, {فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ}, استغفروا، طلبوا المغفرة لذنوبهم، وطلبوا المغفرة لذنوبهم منه -سبحانه وتعالى-، -قال جلَّ وعَلا- {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ}, مَن يغفر الذنوب إلا الله، لا يغفر الذنب إلا هو، وذلك أنَّ الرَّب -تبارك وتعالى- هو خالق هذا الخلق، وهو الذى يأمرهم، وهو الذى ينهاهم -سبحانه وتعالى-, وكل مُخَالَفَةٍ له، إنما هى ذنب ومعصية، ومهما سامح الناس صاحب الذنب، ولم يسامحه الله -تبارك وتعالى- فلا يُغْفَرُ ذنبه، الذى يغفر الذنب هو الله -سبحانه وتعالى- لا يَغْفِرُ الذنب غيره فمهما رضى عنك الناس لو زنيت، فجرت، فعلت ما فعلت، ورأى الناس أنك لم تفعل شيء، ولم يحاسبك أحد على شئ، هل انتهى أمرك؟ لم ينتهى الأمر، لا الذنب عند الله -تبارك وتعالى- ذنبك، إن معصية كل معصية عصيت بها الرَّب، وبالتالي لايغفر الذنب غيره -سبحانه وتعالى- فلا يغفر ذنبك غيره، ولو رَضِىَ عنك كل الناس، لا يمكن أنْ يُقِيلَ عثرتك إلا لجؤك إلى الله -تبارك وتعالى- واستغفارك له،

قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ}, قال -جلَّ وعَلا- : {.......وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[آل عمران:135], فهذا المجرم، الكافر، العاتى، الإصرار على ما فعل هو الثبات عليه، والسير فيه، والاستمرار على ذلك, {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا}, أي مِن الفاحشة، والذنب، وهم يعلمون أنهم ارتكبوا معصية فى حق  الرَّب -تبارك وتعالى- بمخالفته, فهؤلاء مفهوم هذا أنَّ هذا لا يُغفر ذنوبهم يبقى ذنبهم مرتهنًا بهم، ويبقوا هم مرتهنين إلى هذا الذنب، هذا، هذه الآية تفتح أفآق عظيمة لأهل الإيمان مِن رحمة الله -تبارك وتعالى- وتجعل بأنه ليس أهل الإحسان هم الذين لا يتأتى منهم المعصية قط, بل إنَّ أهل الإحسان قد تتأتى منهم المعاصي، بل كبائر الذنوب، ولكنهم يعودون ويستغفروا الله -تبارك وتعالى- فيمحو الله -تبارك وتعالى- ذنبهم، ويغفر لهم، ويجعلهم في مَصَافّ أهل الإحسان, فهذا أمر عظيم جدًا، وهذا مِن رحمة الله -تبارك وتعالى- بعباده، أنه لم يحرم مَن ارتكب أمر فاحش وعظيم فى الإثم لم يحرمه مِن درجة الإحسان، وهى أعلى الدرجات عنده -سبحانه وتعالى-, قال -جلَّ وعَلا- : {أُوْلَئِكَ}, أي الذين وصفهم الله -تبارك وتعالى- بهذه الصفات الذين هم أهل التقوى, {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ........}[آل عمران:134], {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ........}[آل عمران:135], هؤلاء, {أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ........}[آل عمران:136],  مغفرة مِن ربهم، وذلك أنهم استغفروا الله -تبارك وتعالى- ولجؤا إليه -سبحانه وتعالى- هذا جزاؤهم عند الله -تبارك وتعالى-, {وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}, {جَنَّاتٌ}، بساتين الآخرة, {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا} مِن تحت قصورها، مِن تحت أشجارها, {الأَنْهَارُ}, جمع نهر، وأنهارٌ كثيرةٌ مختلفة الطعوم والأشكال, {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ........}[محمد:15], {وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا}, ما كثين فيها مكثًا، لا ينقطع قال -جل وعلا- : {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}, نِعْمَ هذه كلمة لإنشاء الحسن، هذا نعم هذا الأجر أجرًا للعاملين، إذن الجنة إنما هى بالعمل، وهذا هو العمل الذى يحبه الله -تبارك وتعالى-, وسماه الله -تبارك وتعالى- أجر مِن الله -تبارك وتعالى- ولكن هذا الأجر ليس الثمن، وإنما هو مِنَّة منه -سبحانه وتعالى- {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}, أنْ يعمل الإنسان عمل ثم يكافأ هذه المكافأة العظيمة, {وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا}, أكبر مكافأة، وأكبر إحسان، وهى مِن الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين, فالإنسان يعمل ليأخذ أجر، ولكن ممكن يعمل، يشقى طول حياته فى عمل مثلًا دنيوى، ويأخذ أجر، راتب, لكن هذا متاع دنيوى قليل، لكن أنْ يعمل عمل ثم يكون أجره عليه، جنات يخلد فيها خلودًا لا ينقطع فيها، جنات بما فيها، بقصورها ودورها وأنهارها على هذا النحو، ويمكث فيها مكث لاينقطع، ليس ألف ولا ألفين،ولا مليون ولا اثنين مليون سنة، بل إنما خلود فلا موت، هذا نِعْم هذا الأجر، أجر مِن يعمل، ويتلقى مثل هذا الجزاء, {.......وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}[آل عمران:136], ثم بعد ذلك جاء السياق، سياق الآيات إلى حديث الرَّب -تبارك وتعالى- مع المؤمنين الذين نالوا في أُحُد ما نالوه.

قال -جلَّ وعَلا- : {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}[آل عمران:137], {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ} أيها المؤمنون، أصحاب محمدٍ -صلى الله وسلم- {مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ}, سُنَن لله -تبارك وتعالى- السنة هى الطريقة، والعادة المتبعة فالله -تبارك وتعالى- كان له مع السابقين سُنَّة وأمر دائم مع عباده المؤمنين، مع أعداءه الكافرين, فسُنَّة الله -تبارك وتعالى- فى المؤمنين أنه فى نهاية المطاف أنجاهم ونصرهم، وفى المسيرة كان يصيبهم بلاء، أذى، ينال منهم العدو، تعتورهم المحن والمشكلات والمصاعب, ثم جعل الله -تبارك وتعالى- الخاتمة لهم, فهذه سُنَن الله -تبارك وتعالى- فى أهل الإيمان، ثم الكفار، يعلون ويضطهدون أهل الإيمان، ويفعلون بهم، ويفعلون؛ ثم ما المآل، وما النهاية، النهاية أنْ يستأصلهم الله -تبارك وتعالى- أنْ يهلكهم، ويكون مآلهم إلى خسارة فهذه سنن الله -تبارك وتعالى- الجارية في السابقين، وأنتم أي أيها المؤمنون، إنما ستجرى عليكم كذلك سُنَن الله -تبارك وتعالى- فى ما جرت فيه، سَتُبْتَلَوْنَ، يُنال منكم، يعلوكم الكفار أحياناً، تبتلون منهم، ولكن العاقبة لأهل الإيمان, {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ........}[آل عمران:137], سيروا في الأرض للنظر، والاعتبار، هذه مساكن الغابرين، هذه مدائن صالح، هذه الأحقاف، المكان الذى أهلك الله -تبارك وتعالى- فيه عاد، هذه قُرَى لوط مكانها البحر الميت، هذه ديار قوم فرعون، سيروا في هذه الأرض وانظروا كيف كانت العاقبة والمآل, {........فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}[آل عمران:137] العاقبة، المآل والنهاية، المكذبين ماذا كان مآلهم؟ أهلك الله -تبارك وتعالى- قوم نوح وأغرقهم، قوم فرعون دمَّرهم، خسف بِمَن خسف منهم الأرض، عاد، ثمود، قُرَى لوط، ثمود فى مدائن صالح هذه هي مصارع الغابرين هذه أمامكم, {........فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}[آل عمران:137], ثم قال -جلَّ وعَلا- : {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران:138], {هَذَا}, الذى ينزله الله -تبارك وتعالى- فى هذا القرآن, {بَيَانٌ لِلنَّاسِ}, أمر يُبَيِّن الحقائق، يُبيِّن مَن الذى سيفوز، وينجو، ومَن الذى سيهلكه الله -تبارك وتعالى- كيف تكون العاقبة، هذه سُنن الله -تبارك وتعالى- الجارية فى عباده يبيِّن الله -تبارك وتعالى- لعباده كل هذه الأمور، ويُفَصِّل لهم حتى يعرفوا الحقائق هنا على الأرض كيف تكون؟ {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ}, كل الناس، يستطيع يفهم هذا المؤمن والكافر ولكن {........وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران:138], بالنسبة للمتقين, {وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ}, {هُدًى}, هداية، ليست هداية بيان، هداية توفيق منه -سبحانه وتعالى-, {وَمَوْعِظَةٌ} الموعظة، هذا الكلام المباشر الذى يَعِظُ الله -تبارك وتعالى- به عباده فيأمرهم بتقواه، يأمرهم بالحَذَر، يأمرهم بأنْ يأخذوا الطريق إليه، يحذرهم مِن النار، يُهِيبُ لهم بالجنة؛ فيعظهم بهذا, {وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ}, خصَّها بأهل التقوى لذلك أنهم هم الذين يستفيدون بهذه الموعظة، وهم الذين يهديهم الله -تبارك وتعالى- هداية خاصة, ثم بعد ذلك قال -جلَّ وعَلا- للمؤمنين : {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[آل عمران:139], رفعٌ لهذا المعنى، رفعٌ لشأنهم، لقلوبهم، مسح لكل ما أصاب هذه النفوس مِن الضعف مِن أثر هذه الهزيمة, {وَلا تَهِنُوا}, الوَهَن الضعف والشعور بشيء مِن الإذلال والخشوع بعد أنْ عَلَى الكفار عليهم هذا العلو، وهزموهم هذه الهزيمة قال : {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا}, على ما أصابكم؛ فالحزن هو الغم, والهم ما يصيب بسبب أمر واقع سابق, يحزنون لفقد مَن فُقِدَ منهم مِن السبعين الذين قُتِلُوا، ما نال النبى -صلى الله وسلم- مِن الجراحة والأذى، ما افتخرت به الكفار مِن نصرهم على أهل الإيمان، وشماتة الأعداء بهم، وشماتة المنافقين، وقولهم : {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا}, فقد حصل لهم شماتة فى المنافقين، انتفاخ وعِزَّة للكفار، الجرحى، القتلى الذين قُتِلُوا, {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ........}[آل عمران:139], { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ}، الأعلى مِن هؤلاء الكفار {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} إنْ كنتم مِن أهل الإيمان فأنتم الأعلون فى الدنيا وفى الآخرة عليهم.

 ثم قال لهم الله -تبارك وتعالى- : {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}[آل عمران:140], {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ}, جراحة وألم، السبعين الذين قُتلوا والجراحات التى كانت فيهم، الله يقول : {فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُه}, القوم هنا قريش أصابهم {قَرْحٌ مِثْلُه}, في بدر فإنكم هزمتموهم، أوقعتم بهم الهزيمة، أرجعتموهم خائبين، قتلتم منهم سبعين، أسرتم منهم سبعين، حصل لهم كذلك, أنتم أصابكم قرح، والقوم قد مَسَّهُم قرح مثله، وكذلك أصابهم قرح مثله فى نَفْسِ الغزوة فلم يكونوا سالمين سِلمًا كاملًا، بل قتل منهم كذلك عدد، وتحملوا هذا الطريق الطويل، وهذه المشقات، وكان منهم هذا, {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ........}[آل عمران:140], سابقًا, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}, هذه هي الأيام, {نُدَاوِلُهَا}, نجعلها دُوَل، دولة لك، ودولة عليك، مرة لك الدولة لك المرة هذه فى النصر، ومرة يكون عليك، هذا شأن الله -تبارك وتعالى- في أنْ يجعل الناس، يجعل الكافر أحيانًا يُدَان للمؤمن، والمؤمن يُدَان للكافر، ولكن العاقبة للمتقين، العاقبة بعد ذلك للمتقين كما جاء فى سؤال هرقل لأبى سفيان لما قال له عن النبى هل حاربتموه؟ قال: نعم، قال: كيف الحرب بينكم وبينه؟ قال: سِجَال، يدال منا، وندال منه، يدال منا أي نحن نغلبه، وندال منه، يغلبنا أحيانًا, فقال أبو سفيان: قال هرقل لأبى سفيان : سألتك هل حاربتموه؟ قلت: أى نعم، وسألتك هل كيف الحرب بينكم وبينه؟ قلت: يدال منا، ويدال منه، قال: هو كذلك الرسل، يُبْتَلُونَ ثم تكون العاقبة لهم، قالوا: هذا شأن محمد، شأن الرسل السابقين، يُبْتَلُونَ، يبتليهم الله، يبتليهم الله -تبارك وتعالى- بالكفار ولكن العاقبة تكون لهم, فالله يقول لأهل الإيمان : {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ}, أي في أُحُد,  {فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ}, في بدر, {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا}, ليس علم عن جهل؛ فالله -تبارك وتعالى- يعلم أهل الإيمان قبل أنْ يخلقهم، بل قبل أنْ يخلق السماوات، والأرض، ويعلم أهل الكفر كذلك، وإنما {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ}, أهل الإيمان يقيم هذا العلم فى الأرض؛ فيظهر للجميع, {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا}, هذا العِلْم الذي هو تنفيذ ما يكون في عِلْمِ الله -تبارك وتعالى- لأنَّ هو هذا الذى يتعلق عليه بعد ذلك الثواب، والعقاب, {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ}, هذا إذن الشهادة اصطفاء واختبار واجتباء وانتقاء, {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ}, يريد الله -تبارك وتعالى- أنْ يتخذ منكم شهداء إذن لا بد أنْ يمكن الكافر مِن أنْ يقتل بعضكم ليكون هذا الذى يُقْتَل فى سبيل الله شهيدًا عند الله -تبارك وتعالى-, ومعنى أنه شهيد أي يُسْتَشْهَد يوم القيامة على مَن قتلوه، شهادته مقبولة عند الله -تبارك وتعالى- يشهد هذه أولًا له شهادة أنْ يأتى القتيل، الشهيد الذى قُتِلَ فى المعركة، يأتى يوم القيامة بحاله، جرحه كما جُرِحَ، كهيئته تمامًا يوم جُرِحَ، غائر، شَقّ، فضغ، كسر، لون الجرح، لون الدم، وريحه ريح المسك شهادة, فهذه يكون دمغة، هذه شهادة له إنَّ هذا قد قُتِلَ وهو يقاتل في سبيل الله, فهذه شهادة له يكون هذا  شهادة له وكذلك يُسْتَشْهَد بعد ذلك على الآخرين, {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ}, قال -جلَّ وعَلا- : {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}, لا تظنوا أنَّ الله عندما نصرهم لأنه يحبهم بل هؤلاء هم ظالمون، ظلم كفر، وظلم عدوان، وظلم حرب لله ورسوله, فالله لا يحبهم -سبحانه وتعالى- أيضًا, {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}[آل عمران:141], التمحيص هو الترقية بالشدة, {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا}, بمعنى أنه ينقيهم، المؤمن يتنقى بمعنى إنه يذهب منه كل غرض للشيطان، يُجْعَل بعد ذلك خالص لله -عزَّ وجلَّ- إذا وقعه البلاء على هذا النحو فيتطهر، ويتنظف كما يوضع الذهب تِبرًا مع شوائبه فى النار، يخرج بعد ذلك مِن النار المعدن الصافى، وكل ما هو مِن الشوائب، يُخْرَجُ منه, فهو تمحيص للمؤمن، كذلك تمحيص للصف؛ فصف أهل الإيمان يُمَحَّص، كل مَن كان داخل فى أهل الإيمان هكذا مدعى أنه مؤمن وليس كذلك بالشدة تخرجه، تُظْهِرُهُ كما حصل فى أحد لأنه فى أُحُد لما جاءت الشدة، وجاء الموت رجع عبد الله بن أُبى بثلث الجيش، ورجع هذا، ظهر هنا بعد ذلك أهل الإيمان الحقيقي مِن الذين قد يظهرون الإيمان، وليسوا مِن أهله, {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا}, في أنفسهم تمحيصهم في أنفسهم ينقيهم الله، يُنَقِّي قلوبهم ونفوسهم مِن حظ الشيطان، مِن الجبن، مِن البخل يجعلهم خالصين لله -تبارك وتعالى- بعد أنْ يبتليهم فيجعلهم مِن أهل الصلابة والصبر والشدة والنقاوة، ينقى، يصطفى معدنهم، وكذلك يُصَفِّى صفهم، مِن هذا الداخل فيه وليس منه, ثم : {........وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}[آل عمران:141], المحق الإهلاك للنهاية، وهذا يكون فى النار، وهذا يرتكب الذنوب؛ لأنَّ الكفار عندما يقاتلوا أولياء الله -تبارك وتعالى- والمؤمنين ارتكبوا ذنب عظيم وهو ذنب الكفر، وذنب الصد عن سبيل الله، وقتل أهل الإيمان؛ فاستحقوا بذلك غضب الرَّب -جَلَّ وعَلا- فيمحقهم  الله -تبارك وتعالى- فإذن توجد أهداف هائلة، ومنافع عظيمة جدًا، فيها كل هذا, إنه يعلم الله الذين آمنوا، يتخذ منكم شهداء, {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}[آل عمران:141], هذه أربعة غايات عظيمة مِن الأهداف التي تكون مِن هذا البلاء الذى يوقعه الله -تبارك وتعالى- على أهل الإيمان مع جريان ذلك على السُّنَن التي يجريها الله -تبارك وتعالى- فى عباده بأنْ يبتلى عباده المؤمنين بهذا الخير والشر, {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ........}[آل عمران:140],  هذه سُنَّة الله -تبارك وتعالى- فى المؤمنين والكافرين, {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ}, فالشهادة اصطفاء واجتباء واختيار؛ فإنَّ الذى قُتِلَ هذا ليس هو الذى خسر، هو الذى فاز، الذى قُتِلَ فى المعركة هذا هو الذى فاز، ونال أعظم الدرجات, {........وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}[آل عمران:140], {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}[آل عمران:141], ثم قال -جلَّ وعَلا- : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}[آل عمران:142], هذا إذهاب لظن ممكن أنْ يظنه المؤمنون، وهو أنهم سيدخلون الجنة هكذا، بهداوة وبراحة وبطمأنينة, وبلا عناء وبلا مشقة فى هذه الدنيا، وكما يقال كمن يظن أنَّ الطريق إلى الجنة مفروش بالورود، وأنه لا همَّ فيه ولا غم ولا حزن ولا فتن، ولا بلاء لا, بل هذا طريق فيه أشواك، فيه مصاعب وفيه مشاق، وفيه ابتلاءات عظيمة، حتى تصل إلى الجنة، الطريق إلى الجنة طريق شاق, {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ........}[آل عمران:142], هكذا, {........وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}[آل عمران:142], {وَلَمَّا}, لم يكن بعد، لم يصبح بعد، ويَعْلَم هنا، ليس يَعْلَم عن جهل تعالى الله -سبحانه وتعالى- أنْ يكون لا يَعْلَم عباده قبل أنْ يخلقهم بل علمهم -سبحانه وتعالى- وعَلِمَ ما يكون منهم قبل أنْ يخلقهم -سبحانه وتعالى-, وإنما العلم هنا إنما هو إقامة هذا العِلْم في الأرض، وظهوره حتى يكون عليه الحساب والعقاب, {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ........}[آل عمران:142], هكذا بدون مشقات ومصاعب, {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا}, دون جهاد, {........وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}[آل عمران:142], أي لا تكون جنة إلا بجهاد، وصبر ومعاناة فهذا طريق الجنة ليس طريقًا سهلًا بمعنى أنه لا مشكلات فيه، ولا آلام ولا أحزان لا، هذا طريقٌ فيه جهاد، والجهاد فيه ما فيه، وفيه صبر يجب أنْ توطنوا أنفسكم على أنَّ هذا هو الطريق إلى جنة الله -تبارك وتعالى-.

نقف عند هذا، وأستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.