السبت 22 جمادى الأولى 1446 . 23 نوفمبر 2024

الحلقة (104) - سورة آل عمران 142-150

الحمد لله ربِ العالمين، وأُصَلِّى وأُسَلِّم على عبدالله ورسوله الأمين، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهديه، وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.

وبعد أيها الإخوة الكرام يقول الله -تبارك وتعالى- : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}[آل عمران:142], {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}[آل عمران:143], {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}[آل عمران:144], الآيات مِن سورة آل عمران، وما زلنا في سياق حديث الرَّب -تبارك وتعالى- عن غزوة أُحُد، وما كان فيها مِن الأحداث والحِكْمة مما جرى للمسلمين في هذه الغزوة.

يخاطب الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين الذين استعظم بعضهم ما نالهم مِن الهزيمة والقرح في يوم أُحُد مبينًا -سبحانه وتعالى- أنه لا بد أنْ تجرى عليهم سنة الأولين مِن الابتلاءات والاختبارات, حتى يتبين أهل الإيمان مِن أهل النفاق، ويُمَحِّص الله -تبارك وتعالى- الذين آمنوا, وتزداد جرائم الكفار عند الرَّب؛ فيمحقهم الله -تبارك وتعالى- مَحْقًا في الدنيا بالعذاب المؤجل، ومَحْقًا في الآخرة بعذاب النار، قال -جلَّ وعلا- : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}[آل عمران:142], هل تظنون أيها المؤمنون {حَسِبْتُمْ}, ظننتم, {أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ}, ولما يحصل لكم بعد ذلك, {يَعْلَمِ اللَّهُ}, -تبارك وتعالى-, {.......الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}[آل عمران:142], أي لا جنة إلا بالجهاد والصبر، لا بد أنْ يكون ثمة جهاد وصبر, {وَيَعْلَمِ اللَّهُ}, هذا العلم الذى يتحقق عليه الثواب والعقاب وإلا فالله -تبارك وتعالى- يعلم ما هو كائن في خلقه قبل أنْ يخلقهم -سبحانه وتعالى-, ثم قال لهم الله -عز َّوجلَّ- : {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْه........}[آل عمران:143]. قد كنتم تتحرقون للقاء العدو، وتتمنون أنْ تموتوا شهداء في سبيل الله، وقد قام مَن يتحرقون للشهادة قبل الغزوة، وقالوا: يا رسول الله أخرج بنا إلى أعدائنا، ولم يرضَ كثير مِن الصحابة في يوم أُحُد أنْ يقاتلوا مِن المدينة بل تحركوا، واشتاقوا أنْ يخرجوا لأعدائهم ليقاتلوهم خارج المدينة، وكذلك مَن قد فاته القتال في بدر، كان مشتاقًا للقاء العدو، كان مشتاقًا للشهادة, فأخبرهم الله -تبارك وتعالى- أنه ما ينبغي لهم أنْ يضعفوا وأنْ يستكينوا، وأنْ يقولوا لما حصل ذلك؛ فإنه قد كانوا يتمنون الموت, {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْه........}[آل عمران:143], {تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ}, في سبيل الله, {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْه}, في هذه الغزوة فقد لَقِى الموت مِن الصحابة سبعون رجلًا {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ}, قال -جلَّ وعَلا- : { فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ }, وهذا فيه نوع أيضًا مِن العتاب للذين يتحركون للقتال قبل المعركة ثم إذا وقعت المعركة حصل منهم، تقصيرٌ أو تهاونٌ أو عدم صبر على مشقة القتال وآلامه, قال : {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ}, أي في الغزوة, {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}, ورؤية الموت هنا رؤية أسبابه فقد أحاط بهم الكفار بعد ذلك مِن كل جانب، ورأوا أسباب الموت قائمة، وذلك بعد أنْ التف عسكر الكفار بالمسلمين، وأصبح المسلمون مُطَيَّرونَ في كل مكان، وصرخ فيهم الشيطان قُتِلَ محمد؛ فأصبحت أسباب الموت تحيط بهم مِن كل مكان وفَتَّ هذا الأمر في عضده, {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}[آل عمران:143], {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ........}[آل عمران:144], {وَمَا مُحَمَّدٌ}, أي ما شأن النبي محمد -صلوات الله عليه وسلم-, {إِلَّا رَسُولٌ}, أي هذا أمره فليس ملكًا لا يموت ولا يُقْتَل ومَخَلَّد، وإنما هو رسول لله -تبارك وتعالى-, {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ}, شأنه شأن جميع الرسل الذين سبقوه، والرسل الذين سبقوه كلهم قد ماتوا، لا يوجد رسول حَيّ، باقٍ في الأرض إلا مَن كان مِن شأن عيسى الذى رفعه الله -تبارك وتعالى- إلى السماء بذلك السبب, {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ........}[آل عمران:144],  سؤال للإنكار، أي هل إذا قُتِلَ النبي أو مات, {انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}, أي كفار, وذلك أنَّ إبليس لما صَرَخَ في المسلمين في ذلك اليوم قُتِلَ محمد، وضاعت مِن الناس أي مِن أهل الإسلام وسائل الاتصال بعضهم مع بعض بعد أنْ أحاط بهم الكفار مِن كل مكان، والتف خالد بن الوليد خلف الجبل وفاجأهم مِن خلفهم؛ فتشتت المسلمون يقاتلون مِن أمامهم، مِن جنبهم، وانقطعت وسائل الاتصال مِن بينهم، وصرخ الشيطان هذه الصرخة فَفَرَّ الناس ظنًا أنه قد انتهى الأمر، يقول سعد بن معاذ -رضى الله تعالى عنه- يحكى عن هذه اللحظة بعد الغزوة يقول: يا رسول الله أدركني أنس بن النضر، وهو خارج مِن المعركة فقال له إلى أين يا سعد! فقال: قُتِلَ محمد قال : قُتِلَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-  فقال له : وما تصنع في الحياة بعده؟ أي ما قيمة الحياة بعد النبي؟ ثم قال له : الجنة ورب الكعبة، إني لأجد ريحها مِن دون أُحُد، يقول: ثم استقبل الكفار ظل يقاتلهم حتى قتل، قال: يا رسول الله فو الله ما استطعت ما استطاع، قائل هذا هو سعد بن معاذ سيد الأوس المحارب، الفذ، القوى، الذى وقف يوم بدر يقول له : (يا رسول الله امضِ لما أراك الله فو الله إنا لصُبُرٌ في القتال، صُدُقٌ عند اللقاء فلعل الله -تبارك وتعالى- أنْ يُقِرَّ عينيك بنا)، لكن كان الأمر في أُحُد في غاية الشدة، كان المواصلة في القتال تعنى الموت، يقول لذلك قال والله يا رسول الله ما استطعت ما استطاع, فيقول أنس بن مالك -رضى الله تعالى عنه- خادم رسول الله يقول : لم نعرف جثمان أنس بن النضر وهو خال لأنس بن مالك يقول : لم تعرفه إلا أخته ببنانه كان في جسده أكثر مِن بضع وثمانين ما بين طعنة برمح، أو ضربة بسيف، وُمثِّل به تمثيلًا شديدًا, فهذا أحد الذين صمدوا في هذه المعركة، وقاتلوا الكفار حتى النهاية، هنا يعاتب الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين الذين فروا في هذه المعركة بعد أنْ سمعوا أنَّ النبي قد قُتِلَ -صلوات الله والسلام عليه-, قال لهم الله : {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ}, فشأنه شأن الرسل ولا بد أنْ تستمر الدعوة، تستمر الرسالة لآخر الزمان، وأما النبي فإنه معكم فترة مِن الزمان ثم يموت ويلحق بالرفيق الأعلى, {أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}, أي كفارًا رجعتم القهقرة، قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ}, أنْ يرجع إلى الكفر, {فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا}, إنَّ الله -سبحانه وتعالى- لا ليس في حاجة إلى أحد لينصر دينه، ويُعِزَّ كلمته فإنَّ الله غالب على أمره -سبحانه وتعالى- قال -جلَّ وعَلا- : {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}, فالمرتد لا لن يضر الله شيئًا، والشاكر لنعمة الله -تبارك وتعالى- الذى يقوم بحق الله -تبارك وتعالى- سيجزيه الله -جلَّ وعَلا-.

 هذه الآية هي التي قرأها أبوبكر الصديق -رضى الله تعالى عنه- على المنبر لما مات النبي -صلوات الله والسلام عليه- وحصل في الصحابة نوع ذهول حتى إنه لما سمعوا أنَّ النبي مات ذُهِلَ الصحابة حتى إنَّ عمر خرج بسيفه مُحْمرًا وجهه يقول : (مَن قال إنَّ محمدًا قد مات ضربته بسيفي)، قال: ما مات ويقسم بالله ما مات، وإنما ذهب يناجي ربه كما كان موسى يذهب فيناجي ربه، حتى جاء أبوبكر الصديق -رضى الله تعالى عنه-، وكان متغيبًا في أرض له بالسُّنْح مكان, وجاء ودخل بيت النبي، كشف  عن وجهه -صلى الله وسلم- قبله ورأى أنه قد توفى فقال: طبت حيًا، وميتًا يا رسول الله؛ ثم أتى، وصعد المنبر، وخطب الناس وقال: (أيها الناس مَن كان يعبد محمدًا فإنَّ محمدًا قد مات، ومَن كان يعبد الله فإنَّ الله حيٌّ لا يموت), ثم قرأ هذه الآية قول الله -عز َّوجلَّ- : {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}[آل عمران:144], يقول عمر بن الخطاب -رضى الله تعالى عنه- : (والله لما سمعت هذه الآية كأنى لم أسمعها قبلُ؛ ثم عقر بي عقر بي)، أي كأنه قطعت عراقيبه فسقط وهو قائم، سقط على الأرض, فهنا الله يعاتب عباده المؤمنين الذين فروا مِن أرض المعركة عندما سمعوا بأنَّ النبي -صلى الله وسلم- قد مات، أخبرهم أنه يجب أنْ يواصلوا المسيرة، وأنه لا ينبغي أنْ يَفُتَّ في عضدهم ألا يكون الرسول بينهم -صلوات الله والسلام عليه-, بل الجهاد ينبغي أنْ يكون باقيًا، وماضيًا, {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}[آل عمران:144], ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ........}[آل عمران:145], آية عظيمة، هذا تثبيت لأهل الإيمان، والعِلم لن تموت نفسٌ قبل أجلها قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ}, ما كان لها أي أنه لا يصح ولا يكون أنَّ هذا أمر مستقر لا يمكن أنْ يتغير، ولا أنْ يتبدل, {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ}, أي نَفْس, {أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}, بإذنه؛ بمشيئته وقضاءه وقَدَره -سبحانه وتعالى-, {كِتَابًا مُؤَجَّلًا}, أي أنَّ العمر هذا مكتوب ومؤجل؛ محدد بأجل محدد، في يوم معين، ساعةٍ معينة، لحظةٍ معينة, فكل نَفْس خلقها الله -تبارك وتعالى- يوم خلقها، وقد كَتَبَ أجلها، هذه كتابة أجل كتابة بعد كتابة؛ فإنَّ الله -تبارك وتعالى- خلق هذا الخلق، ووضع لكل مخلوق أجله، وحدَّده قال -سبحانه وتعالى- : {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا........}[الأنعام:2] لكل نَفْس, {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ}, لنهاية العالَم, {أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ}, فكل نَفْس قد كَتَبَ الله -تبارك وتعالى- أجلها، وجاء في الحديث أنه إذا مرَّ على النطفة أربعون يومًا، أَرْسَلَ الله -تبارك وتعالى- ملكًا فينفخ فيها الروح، ويقول: أي ربى ما عمله؟ ما أجله؟ ما رزقه؟ شقى أو سعيد؟ ذَكَرٌ أو أنثى؟ فهذا كله يكتب في يوم نفخ الروح، ما أجله؟ فيكتب الأجل, فالأجل يكتب مع كل نفس، الأجل وهو الميعاد المحدد، المؤقت لكل نَفْس, فيخبر الله -عز وجل- أي يا مَن تَفِرّ لن تموت قبل أجلك، وإذا كان أجلك هاهنا فإنه لن ؟؟؟ الفَرّ لابد أنْ تموت, فقال -جلَّ وعَلا- : {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ........}[آل عمران:145], بدون إذنه، بدون مشيئته، وقدره يستحيل, {كِتَابًا مُؤَجَّلًا}, كَتَبَ الله -تبارك وتعالى- لكل نَفْس أجل معين لابد أنْ تموت فيه, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا}, بعد هذا الأجل المحدد ثم المصير مختلف، المصير مختلف بالنسبة للبشر وهما مصيران, {........وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ}[آل عمران:145], {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا}, أي مَن كانت حياته للدنيا, قال -جلَّ وعَلا- : {نُؤْتِهِ مِنْهَا}, كما قال -جلَّ وعَلا- : {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ}[هود:15], {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[هود:16], فهذا مُرِيد الدنيا الذى لا يريد إلا الدنيا الله -تبارك وتعالى- يعطيه مِن الدنيا ما كتبه الله -تبارك وتعالى- له, {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ} مَن كان همه في حياته أنه يريد ما عند الله -تبارك وتعالى- مِن ثواب الآخرة، قال -جلَّ وعَلا- : {نُؤْتِهِ مِنْهَا}, كذلك كما قدَّرَهُ الله -تبارك وتعالى- وقضاه له، قال -جلَّ وعَلا- : {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ}, خاتمة الآية، تختم هذه الآية بمثل ما ختمت به الآية الفائتة, {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ}, هناك : {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}, {وَسَنَجْزِي}, المتكلم الله -تبارك وتعالى-, {الشَّاكِرِينَ}, فالذي يقوم بحق شكره لله -تبارك وتعالى- سيجزيه الله -تبارك وتعالى-,  ثم أعطاهم الله -تبارك وتعالى-, أعطى الله أهل الإيمان، مثل مِن الذين سبقوهم حتى يتأثروا، قال لهم الله -تبارك وتعالى- : {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}[آل عمران:146], {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ}, أي أنبياء كثيرون مِمَن سبقكم, {قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ}, الرَّبَّاني العَالِم المؤمن، قارئ الكتاب، المجاهد في سبيل الله, {رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ}, أنهم قرَّاءٌ ومُرَبُّونَ، رِبِّى مِن التربية، مُرَبِّى، قائم بأمر الله -تبارك وتعالى-, {كَثِيرٌ}, كثيرون, {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}, الوَهَن الضعف، أي أنهم ما أصابهم  هذا الوَهَن وهو التحلل والضعف والخَوَر, {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا}, نفى الله -تبارك وتعالى- شيء مِن الفتور، والضعف وقال : {وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا}, الاستكانة هي أعلى شيء، وهي الركون إلى الأرض، والركون إلى أهل الكفر، وتسليم الأمر مِن المسكنة، وترك الجهاد، والركون إلى الكفار, {وَمَا اسْتَكَانُوا}, أي إلى هذه الدنيا، وتمسكوا بها، وناموا عليها, {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}, والله -تبارك وتعالى- {يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}, الصبر حبس النَّفْسِ على المكروه، والقتال مِن أعظم المكروه، أي حبسوا أنفسهم على هذا، وقاموا بحق الله -تبارك وتعالى- في القتال، أي قد كان مِن قبلكم أنبياء كثيرون قاتلوا، وقاتل معهم هؤلاء العلماء، المُرَبُّون، الكثيرون ولم يهنوا, تأثروا بِمَن كان قبلكم مِن أهل الإيمان, {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ}, أي هؤلاء الأنبياء والربيون, {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[آل عمران:147], هذه مقالتهم، دعاء الى الله -تبارك وتعالى-, {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ}, أي في هذه المعارك، وهو الجهاد في الصبر، وصبرهم في القتال, {إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا}, أي يا ربنا, {اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا}, هذه غاية ما يريدون، أنْ يغفر الله -تبارك وتعالى- للذنوب, {وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا}, نسبوا لأنفسهم الإسراف في الأمر، الإسراف مجاوزة الحد أي في أمرنا مَن يتهمون أنفسهم بتضييع الواجبات، وفعل بعض المنكرات، وعدم القيام بالأمر كما كمان, فيقولون يا رب {اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا}, {إِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا}, في الدين، أمرنا هذا في الدين بمعنى أننا لم نقم به حق القيام بل جاوزنا الحد في ترك واجبٍ، فِعْل حرامٍ، وهذا غاية التواضع والاستكانة لله -تبارك وتعالى- والاعتذار عن تقصيرهم في حق الله -عز وجل-, {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا}, ثبت أقدامنا في القتال حتى لا نَفِرّ, {وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}, ارزقنا النصر على القوم الكافرين، قال -جلَّ وعَلا- : {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ........}[آل عمران:148], فهؤلاء نالوا الحُسْنَيَيْن, {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا}, مِن النصر، مِن التمكين على العدو، مِن العز هذا ثمرة مُعَجَّلَة كما قال -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}[الصف:10], {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[الصف:11],{يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[الصف:12], {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}[الصف:13], فوعد الله -تبارك وتعالى- أهل الإيمان ب إذا جاهدوا في سبيله آمنوا به وجاهدوا في سبيله بثواب الآخرة وكذلك ثواب الدنيا, {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}[الصف:13].

 قال -جلَّ وعَلا- عن هؤلاء الذين قاتلوا، وصبروا على هذا النحو قال : {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا}, مِن النصر والعِز والتمكين والفتح, {وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ}, أحسن ثواب في الآخرة، وهو الجنة، والمغفرة, {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}, {الْمُحْسِنِينَ}, فاعل الإحسان، وهو إذا أحسنوا، لأنهم صبروا في الجهاد، وقاموا بحق الله -تبارك وتعالى- واتهموا النَّفْسَ بالتقصير, {قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا}, فاتهموا أنفسهم بالتقصير في حق الله -تبارك وتعالى- بل الإسراف في الذنوب، وطلبوا مغفرة الله -تبارك وتعالى- أي أنهم لم يتبجحوا، ويقولوا فعلنا وفعلنا وفعلنا ويَمُنُّوا على الله بفعلهم، بل استكانوا لربهم، أخبروا أنهم مقصرون، ذوى ذنوب، بل مسرفون في الذنب، طلبوا مِن الله أنْ يُثَبِّتَ قلوبهم، ما قالوا لا نحن شجعان ونحن نقاتل ونحن سننتصر، بل قالوا ثبت أقدامنا تثبيت أقدامنا مِن عندك أنت, {وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}, النصر مِن عندك، فقد هذا إحسانهم، إحسانهم أنهم خاشعون، متواضعون، متهمون لأنفسهم بالتقصير، ناسبون النصر للرَّب -تبارك وتعالى- مستنصرون به -جلَّ وعَلا- على أعدائهم تمام الإحسان، وهؤلاء هم الذين نالوا مِن الله -تبارك وتعالى- الثوابين، ثواب الدنيا نصرًا وتمكينًا، وثواب الآخرة مغفرة لذنوبهم، وإعلاءً لدرجاتهم في الجنة.

ثم وجَّه الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك أيضًا خطاب للمؤمنين : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ}[آل عمران:149], {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}, خطابٌ مِن الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين يناديهم باسم الإيمان، رفعًا لمنزلتهم, تشييم لهم, أنت مؤمن فافعل هذا, كما يقال يا ابن الأكرمين افعل كذا، وكذا, ثم إلزامًا لهم بمقتضى الإيمان، آمنت إذن فافعل مادام أنك مؤمن, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ}[آل عمران:149], تحذيرٌ مِن الله -تبارك وتعالى- أنْ يطيع أهل الإيمان أهل الكفر، وأخبر إنْ تطيعوهم, {........يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ}[آل عمران:149], لأنَّ الكفار لا يريدون إلا هذا، لا يريدون إلا تحويل المؤمنين عن هذا الدين وإخراجهم منه، وقد سَمِعَ المؤمنون بعد غزوة أُحُد مِن الكفار والمنافقين تبكيتًا شديدًا وتخذيلًا، ومثل قولهم أنتم قتلتم أنفسكم، لماذا تخرجون؟! لو سمعتم كلامنا ولم تخرجوا لما نالكم ما نالكم مِن القتل والجراحة، هذا الدين إلى نهاية وإلى ضلال، احذروا من هذا؛ فقد قامت سوق الكفر بعد ما نال المسلمين ما نالهم في هذه الغزوة قامت سوق الكفر، وأظهر المنافقون بعض ما يخفون، وقالوا المقالات الكثيرة, فحذَّر الله -تبارك وتعالى- أهل الإيمان مِن أنْ يسمعوا لهؤلاء الكفار، وأنهم إنما يريدون أنْ يرجعوهم القهقرة مرة ثانية إلى الكفر, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ}[آل عمران:149], إذا ذهبتوا للكفر خسرتوا كل شيء، أولا مرحلة الإيمان والعمل الصالح التي مضت انتهت؛ لأنَّ الكفر يبطل الحسنات السابقة, فخسر العمل السابق, ثم خسر حياته بعد ذلك؛ لأنَّ مَن جاء ربه مجرمًا، {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا}[طه:74]، هذه الخسارة، الخسارة الكبرى، خسر نفسه، خسر كل شيء، قال -جلَّ وعَلا- : {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ}[آل عمران:150], اعلموا أنَّ الله مولاكم ناصركم، محبكم، مؤيدكم, {وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ},لا ينصركم أحد كالله -تبارك وتعالى-, هنا قول الله : {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ}, أنه لم يتخلى عنكم، وإنما وقعت هذه الهزيمة بأسباب جاء تفصيلها، أنها جارية بقضاء الله -تبارك وتعالى-  وقدره، أنها بتفريطهم في بعض أسباب النصر التي أمرهم الله -تبارك وتعالى- بها, أنَّ في النهاية هي بمشيئة الرَّب -تبارك وتعالى- ليتحقق مِن وراءها هذه الأهداف العظيمة التي يريدها الله -تبارك وتعالى- مِن تمحيص أهل الإيمان، مِن مَحْقِ أهل الكفر والعصيان، مِن اتخاذ الله -تبارك وتعالى- لشهداء مِن أهل الإيمان لهذه التربية، وهذا التعويد على الشدة، أنه لا جَنَّة إلا بعد حصول المِحَن والابتلاءات، فيه غايات هائلة عظيمة جدًا، فلا تظنوا أنَّ الله قد تخلى عنكم,  {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ}[آل عمران:150], اعلموا أنَّ الله -تبارك وتعالى- هو مولاكم -سبحانه وتعالى- أي مؤيدكم، وناصركم, {وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ}, لا ينصركم مثله -سبحانه وتعالى- بل الناصر على الحقيقة هو الله -سبحانه وتعالى-, فإنَّ الله -تبارك وتعالى- ما أراده كان, {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ........}[آل عمران:160], {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّه}, لا نصر إلا مِن عند الله -سبحانه وتعالى-, {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}, فهذه آية عظيمة يُحَذِّرُ الله -تبارك وتعالى- فيها أهل الإيمان أنْ يطيعوا الكفار، منافقين كانوا أو كفار أصليين كاليهود وغيره,؛ فإنهم  يقول: علا سوقهم بعد بدر، وقالوا ما قالوا مِن تخذيل أهل الإيمان، ومِن أنَّ الله تخلى عنهم، وأنهم لو كانوا على حق ما هزمهم الله -تبارك وتعالى- هذه الهزيمة، وما وقع لهم ما وقع؛ فهنا يُحذرهم الله, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ}[آل عمران:149], {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ}, اعلموا أنَّ الله مؤيدكم وناصركم وهو خير الناصرين -سبحانه وتعالى-.

نقف عند هذا، ونكمل إنْ شاء الله في الحلقة الآتية، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده، ورسوله محمد.