الخميس 20 جمادى الأولى 1446 . 21 نوفمبر 2024

الحلقة (105) - سورة آل عمران 150-154

  الحمد لله ربِّ العالمين، وأُصَلِّى، وأُسِّلم على عبدالله، ورسوله الأمين، وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهديه، وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.

يقول الله -تبارك وتعالى- : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ}[آل عمران:149], {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ}[آل عمران:150], {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ}[آل عمران:151], {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران:152], يُحَذِّرُ الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين أنْ يطيعوا الذين كفروا، الذين قامت سُوق كفرهم بعد ما نال المؤمنين ما نالهم يوم أُحُد، وأنهم إنْ أطاعوهم فإنَّ هدفهم فى النهاية أنْ يردوا المؤمنين على أعقابهم إلى الكفر، وعند ذلك يكون المؤمنين قد خسروا إيمانهم، خسروا آخرتهم، قال -جلَّ وعَلا- : {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ}, اعلموا أنَّ الله معكم، مولاكم، هو مؤيدكم وناصركم وهو خير الناصرين, ثم بيَّن -سبحانه وتعالى- صورة مِن صور حربه، وعقوبته للكفار، قال : {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا........}[آل عمران:151], هذا جندٌ مِن جند الله -تبارك وتعالى- يخبر الله -تبارك وتعالى- ما الذى سيصنعه بأهل الكفر نحو أهل الإيمان, قال : {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} الرعب الخوف الشديد، يرعب مِن المؤمنين، وهذه الجنود مِن جند الله -تبارك وتعالى- جعلها الله -تبارك وتعالى- هذه مع أهل الإيمان، ومما خص الله -تبارك وتعالى- به هذه الأمة الخاتمة، كما قال النبي : «ونُصِرْتُ بالرعب مسيرة شهر», أي لو كان العدو يبعد عن المسلمين مسيرة شهر حتى تصله الإبل، يُرعب مِن المسلمين، ويخاف منهم إذا عَلِمَ أنهم يريدونه، أو يتوجهون إليه, فكل عدو مسيرة شهر يظل فى رعب عن أهل الإيمان، وهذا قد كان، انظروا حروب المسلمين جميعًا فالمسلمون فى كل تاريخهم مع قلتهم عن أعداد الكافرين، لكن كان جميع أعدائهم على اختلافهم يُرْعَبُون منهم، قال -جلَّ وعَلا- : {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ}, والرعب إذا كان في القلب يفر البدن, {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ}, ثم أخبر الله -تبارك وتعالى- بأنَّ هذا الفعل الذى يفعله بهم جزاء لهم قال : {بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا}, أي لأنهم أشركوا بالله -تبارك وتعالى-, {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا}, ولا شك أنَّ الله لم يُنْزِل سلطان على الشرك، بل إنَّ الله -تبارك وتعالى- في كل رسالاته قد دعا إلى توحيده -سبحانه وتعالى- دعا رسل الله جميعًا إلى توحيد الله، وأنه لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى- ولم يُنْزِلُ الله -تبارك وتعالى- ولم يأمر عباده أنْ يشركوا به شيئًا فهنا {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا}, هذا بيان الحال التي عليها أهل الشرك، والواقع، وهم أنهم اتخذوا لهم آلهة دون الله, أشركوا بهم مع الله -تبارك وتعالى- دون أنْ يكون معهم سلطان ، أي شيء له سلطة وقهر، ككتاب مِن الله، برهان حقيقي، دليل يقوم على شركهم، لا؛ فمثلًا أنَّ مشركو العرب الذين أشركوا الملائكة، ماذا عندهم مِن برهان؟ زعموا أنَّ الملائكة أنهم هم بنات الله، وأنَّ الله تزوج مِن الجِنّ، وولد له الملائكة، وأنهم لا يملكون مع الله، وإنما يشفعون عند الله، ظنون هذه خرافات هم افتروها مِن عند أنفسهم، وفعلوها، ماذا عند النصارى فى أنَّ المسيح عيسى هو الله، ظنون وشكوك، بشر مِن البشر، ويأكل ويشرب وتدفعه ضرورة الأكل والشرب لهذا، ويعيش معهم، يخاف كما يخافون ويفر مِن عدوه، وكيف يكون مثل هذا هو الله! أو ابن الله، أنَّى يكون لله ولد -سبحانه وتعالى-! {........أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[الأنعام:101], ظنون وأوهام ويزعمون أنهم على الرسالة السابقة، في أي رسالة سابقة أخبرهم الله -تبارك وتعالى- بأنه سيرسل ابنه، وأنَّ له ولد وسَيُنْزِلُه، هذا إبراهيم، وهذا موسى -عليه السلام-, وهذه كل الرسالات السابقة دعت إلى أنَّ الله هو الإله الواحد الذى لا إله إلا هو، وأنه ليس له صاحبة، وليس له ولد، وليس ثلاثة كما يقولون افتراء، كذب افتروه مِن عند أنفسهم وغلَّفوه، وأصبح هذا شرك قائم، وهذا كل مَن أشرك بالله -تبارك وتعالى- غيره ليس عنده أى سلطان على هذا الشرك، ما عنده دليل، ولا برهان, فلأنهم أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، سيضع الله -تبارك وتعالى- في قلوبهم الرعب مِن أهل الإيمان لذلك {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ........}[آل عمران:151], باء السبب هنا كذلك بسبب إشراكهم بالله ، {....... مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ}[آل عمران:151], هزيمة في الدنيا، وكذلك عقوبة في الآخرة, {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ}, المأوى هو ما يلجأ إليه الإنسان لراحته وسكنه، سميت النار مأوى، والحقيقة هي ليست مأوى، وإنما سميت مأوى؛ لأنها هي المستقر النهائي لهؤلاء ، يأوون في النار، ولا شك أنَّ مَن يأوي إلى النار لا يكون في سكن ولا في أمن ولا في راحة، وإنما في عذاب مستقر عياذاً بالله, {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ}, هي مستقرهم ونهاية مطافهم, {وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ}, لا يكون هذا مأوى، كبيت يأوي إليه الإنسان لكن كله فراشه نار وجدرانه نار وغلافه نار، بئس مأوىً هذا, فإنه إذا كان لك بيت، ولكن كله حيَّات وعقارب وخوف ورعب ونَتَن، وقَذَر ولكن بئس مأوىً هذا، بئس بيت يبيت الإنسان فيه أنْ يكون على هذه الحال, فالنار هي مأوى الظالمين، وبئس، بئس لإنشاء الذَّم أي يذم الله -تبارك وتعالى- النار أنْ تكون مأوى، لكنها للظالمين, {وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ}, مثواهم أي أنها المثوى مكان الثواء، الذى ثوى إلى مكان بمعنى أنه أَوَى إليه، والتجأ إليه, {وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ}, ثم بعد ذلك وجَّه الله - تبارك وتعالى- الخطاب إلى أهل الإيمان قال:  {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ........}[آل عمران:152], {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ}, أي بالنصر حصل موعود الله -تبارك وتعالى- لكم بأنه ينصركم, {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ}, بالنصر هذا في أول المعركة,  {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ}, الحس القتل, {بِإِذْنِهِ}, بمشيئته هو الذى أمركم، وهو الذى شاء هذا, {........حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران:152], هذه الآية جمع الله -تبارك وتعالى- فيها أسباب الهزيمة، ما السبب الذى حقق هذه الهزيمة؟ ففي أول المعركة الله -تبارك وتعالى- قال: فى أول المعركة حصل لكم النصر، وكان هذا مصداقًا لوعد الله -تبارك وتعالى- لكم بالنصر، قال : {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ........}[آل عمران:152], في أول المعركة عندما أمرهم النبى بالقتال، شدَّ الزبير بن العوام على ميمنة خالد فاندحرت، وشد حمزة بن عبد المطلب -رضى الله تعالى عنه-، وكان فى الرَّجالة لا يقوم له شيء، وشد المسلمون عليهم؛ فهربوا جميعًا حتى إنَّ النساء التى كانت خلفهم ركضن إلى الجبل، وشمَّرن عن سوقهن حتى بدت خلاخيلهن، وهنا لما فروا هذا الفرار الكفار تَنَادَى بعض الرُّماة الذين كانوا يحمون ظهر المسلمين فقالوا فرَّ القوم، والغنيمة الغنيمة، عبد الله بن الجبير قال لهم: يا قوم لا، الزموا مكانكم، أبهذا أمركم رسول الله -صلى الله وسلم-؟  فلم يطيعوه وخرجوا، كانوا خمسين لم يبقَ معه فقط إلا خمس لما نظر المشركون بعد ذلك ونظر خالد وكان مُجَنبًا للخيل بعيدًا، بعد ذلك عن المعركة، ونظر أنَّ الرماة تركوا مكانهم، انكشف ظهر المسلمون, فالتف حول جند المسلمين، أتى بهؤلاء الخمسة قتلوا، وكان خيل الكفار فى ذلك اليوم، كان معهم مائة فارس قتلوا هؤلاء الخمسة, ثم اندفعوا خلف جيش المسلمين يضربونهم، لما انشغل المسلمون بأنْ رجعوا مرة ثانية لقتال الخيل التى جائتهم مِن الخلف، ونظر الفارُّون مِن المشركين أنَّ خيلهم تقاتل فى آخر، تقاتل المسلمين، رجعوا مرة ثاني إلى القتال, فأصبح المسلمون بين قتال مِن خلفهم قد جاءهم؛ ثم جاءهم الكفار الذين فروا مرة ثانية يقاتلونهم؛ فتمزق صف المسلمين, فالله قال :  {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ}, في أول المعركة {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ}, تحسونهم القتل, {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ}, {تَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ}, أي أمر هذه المعركة، وما أمركم به النبى -صلى الله وسلم- أنْ قفوا هنا، افعلوا هنا, {وَعَصَيْتُمْ}, أمر النبى -صلوات الله والسلام عليه- وحدثت المعصية {مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ}, النصر، مِن بعد ما أراكم الله النصر رأى العين، وهو فرار الكفار، وقرب نهاية المعركة أراكم الله -تبارك وتعالى- ما تحبون, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ}, {مِنْكُمْ}, بعض، {مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا}، الذين خافوا على ضياع الغنيمة، وظن أنْ يلحقوا بالكفار قبل أن يفروا بأموالهم, فأرادوا أنْ يلحقوهم لينالوا الغنيمة, {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا}, قال جلَّ وعَلا- : {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ}, فهذا أيضًا إشادة مِن الله -تبارك وتعالى- بشأن المؤمنين المخلصين فى قتالهم، وأنه لم يكن كل الصحابة مع النبى يريد الدنيا، بل يقول بن مسعود : ما كنت أظن أنَّ أحدًا مِن أصحاب النبى يريد الدنيا حتى نزل هذا، حتى نزلت هذه الآية, وذلك أنَّ إرادة الدنيا قلبية أي عمل قلبي فالله -تبارك وتعالى- كشف أنَّ بعضهم يريد هذا,  {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ}, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ}, هنا يُخْبِرُ الله -تبارك وتعالى- أنه كان ما كان بأمره -سبحانه وتعالى- وأنَّ هذه الصرفة التى جاءت للمسلمين عن الكفار، وتحول الكفار بعد ذلك إلى قتال المسلمين، وإحاطتهم بهم أنه كان بمشيئة الله، وبأمره، وليس هذا أمر أي ما فعله الكفار ليس جبرًا على الله ولا خارج عن أمر الله -تبارك وتعالى-  ولكنَّ الله شاء هذا، وسمح به، قال : {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ}, أي أيها المؤمنون بما حصل لكم مِن الشتات والفُرقة والفرار، قال -جلَّ وعَلا- {لِيَبْتَلِيَكُمْ}, هذا ابتلاءٌ منه -سبحانه وتعالى-, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ}, أي عن المنهزمين, فهؤلاء الذين انهزموا فى هذه المعركة عفا الله  -تبارك وتعالى- عنهم وهذا مِن رحمته -سبحانه وتعالى-, {........وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران:152], الله -سبحانه وتعالى- ذو فضل أي إحسان ومِنَّة وعطاء -سبحانه وتعالى-, ومِن فضله أنْ محا عنكم  إثم هذا الفرار, {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}, فهذا أثبت لهم الإيمان –سبحانه وتعالى مع ما وقع منهم مِن هذا الخطأ, إذن هذه الآية جمعت الأسباب، أسباب لما كانت ثمَّ هزيمة؟ عصيان الأمر، حصول الفشل، لأنَّ هذا فشل، عدم التمسك بالأمر الذى مُسِّكُوا به وحصل ما حصل مِن هذا الخوف، والفرار هنا، وهنا، إرادة الدنيا, فهذا هو الذى سبب هذه الهزيمة، وإنْ كانت هى فى النهاية واقعة بمشيئة الله -تبارك وتعالى- وأمره ثم أنَّ الله -تبارك وتعالى- عفى عن هؤلاء الذين قَصَّرُوا هذا التقصير، وكان بسبب تقصيرهم  الهزيمة, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[آل عمران:153], هذا تصوير مِن الله -تبارك وتعالى- لحال المؤمنين، حال الفرار مِن المعركة، وهذا ليُبيِّن الله -تبارك وتعالى- لهم ما كان ليُبيِّن كيف عوقبوا هذه العقوبة ولماذا, {إِذْ تُصْعِدُونَ}, أي في الجبل، فرارًا؛ فإنَّ منهم لما صرخ الشيطان بعد هذا الالتفاف المشركين بهم، قُتِلَ محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- شتَّ المسلمون هنا وهناك، وبعضهم بدأ هروبًا يَصَعد فى الجبل بعيد عن الكفار, {إِذْ تُصْعِدُونَ} ركضًا, {وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ}, أي يميل واحد إلى الثاني ليسمعه لينقذه, {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ}, النبي -صلى الله وسلم- لما رأى نَفْرَتَهُم، وفرقتهم على هذا النحو، وشتاتهم صار يناديهم : إلىَّ عباد الله، يناديهم أنه الرسول، وأنه باقٍ فى المعركة، ويصرخ فيهم، لكن مع الرعب والخوف الذى نالهم لم يُعِيرُوا نداء النبي اهتمامًا -صلوات الله والسلام عليه-, {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ}, في مؤخرة الجيش، باقي النبي في أرض المعركة، وينادى هؤلاء الفارين, قال -جلَّ وعَلا- {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ}, هنا الثواب سُمِّى ثواب، لكنه بمعنى العقوبة, {غَمًّا بِغَمٍّ}, غم متواصل مع غمّ، الغم الأول غمّ الهزيمة، الغم الثانى غم أنَّ النبي يناديهم ولا يسمعون له -صلوات الله والسلام عليه-, الغمُّ الثالث فات النصر، النصر كان قريب أصبح فى اليد فضاع, ثم حصلت الهزيمة فجابت غم, ثم النبي يناديهم، وكذا فأصبح غمّ، وكذلك غمهم فى سماعهم بموت النبي؛ فأصبحت مجموعة غموم، هموم تراكمت بعضها على بعض مما حصل, {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ},  غم متواصل مع غمّ، قال بعض أهل التفسير : {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ}, بالغم الذى أصبتم به النبي -صلى الله وسلم- , أي كأنَّ الله عاقبكم لأنكم أصيب النبي بالغم بسبب فراركم؛ فجاءكم غم في قلوبكم بهذا، لكن الصحيح هو المعنى الأول أنه قد جاءكم غم متواصل مع غم آخر، قال -جلَّ وعَلا- : {........لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[آل عمران:153], أي أنَّ الله -تبارك وتعالى- أراد أنْ يوقع هذه المصيبة بكم حتى أول شيء تعلموا أنَّ ما قدر يكون {تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ}, مِن النصر، النصر كان قريب وسيقع، والغنيمة كانت أصبحت في متناول اليد, فتعلموا أنَّ الأمر لله -عز وجل- {تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ}, أي مِن النصر, {وَلا مَا أَصَابَكُمْ}, لا تحزنوا كذلك على ما أصابكم مِن الجراح, فإنه فاتهم النصر، وحصلت لهم الجراح {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}, والله -سبحانه وتعالى- خبير بما تعملون، وهذا فيه تحذير، وكذلك  فيه وعيد، وفيه كذلك تبشير لأهل الصبر، وأهل الثبات, {خَبِيرٌ}, الخبرة هي العلم الدقيق، العلم الخفي, فالله عليم علمًا خفيًا بكل خفايا الأمور -سبحانه وتعالى-, {خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}, بالذي تعملونه, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ........}[آل عمران:154] هذا بعد ما حصل هذا، غمهم على فوات النصر، وغمهم على الهزيمة، إلا أنَّ الله -تبارك وتعالى- أنزل سكينة مِن عنده بعد الغم, {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً} الأَمَنَة نوع مِن السكينة، أمان، هدوء، راحة فى القلب، وهذا شيء عجيب بعد هذا الغم يثير حفيظة النَّفْس، ويجعل الأمر يسوَّد فى الوجه، لكن تأتى هذه أمان مِن الله -تبارك وتعالى- وسِكْنَةٌ عنده, {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ} أي مِن عنده, {مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا}, سكينة فى القلب مصحوبة بالنُّعاس، النُّعاس هو النوم الخفيف, {يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ}, الله جعل له طائفة، جماعة مِن أهل الإيمان، منهم أبو طلحة -رضى الله تعالى عنه- يقول: وقع السيف مِنِّى ست مرات مِن يدى وأنا بالموقعة، أي وهو بالموقعة، والقتل قائم، والكفار بكل مكان، والموت منتشر فى كل مكان، ومع ذلك  السيف يقف، ويقع السيف مِن يده مِن النُّعاس، حامل السيف ثم ينام، ينعس ويقوم السيف ثم يستيقظ فيأخذه مرة ثانية، النُّعاس هنا فى وقت المعركة، دليل على الطمأنينة، وسِكْنَةُ القلب, لأنَّ الخائف لاينام، الخائف لاينام، لا نامت أعين الجبناء، الخائف لاينام والمغموم لالا يأتيه نوم بل يأتيه الأرق والسُّهاد, فهذا إنسان يكون وسط الموت, ثم يأتيه غَشْيَةُ النُّعاس هذه، هذا معناه هدوء قلب، وثبات {يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ}, قال -جلَّ وعَلا- : {........وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[آل عمران:154], يُخْبِرُ الله أنَّ طائفة أخرى غير هذه الطائفة التى أنزل الله -تبارك وتعالى- عليها هذه الطمانينة، وهذه الأمنة، وهذا النُّعاس, {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ}, أصبح كل ما يفكرون فيه هو كيف ينجون بأنفسهم، أنفسهم هي التي تهمهم أصبح الآن ما القضية، أمر الدين الذي يهمهم، أمر النبي -صلى الله وسلم- يفكرون فيه، مستقبل هذا الدين لا، أصبح يفكر فى نفسه، كيف الخلاص؟ كيف أخرج؟ كيف أنجو؟ قال -جلَّ وعَلا- مُبَيِّن ما في قلوب هؤلاء : {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}, أنَّ دينه سينتهى، وصلنا إلى نهاية المطاف، رسوله قد قُتِل، لا إسلام بعد ذلك، هذا أين, فهذا ظن غير الحق، الله أخبر، وقال قبل هذا بأنَّ دينه لابد أنْ يظهر، ولا بد أنْ يكون, {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}[الفتح:28]، {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:173]، {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}[المجادلة:21], فهذا وعد الله -تبارك وتعالى- ولا بد أنْ يكون, فهؤلاء ظنوا بهذه الهزيمة الجزئية بأنْ الأمر انتهى، وأنه ما أصبح فيه مجال لهذا فهم {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}, ظن أهل الجاهلية في الله -تبارك وتعالى- وأنَّ الله -تبارك وتعالى- أهل الجاهلية ظنوا بالله ظن سيء، وهو أنه لا يثيب طائع، ولا يجزى عاصي، وإنما هى دنيا فقط، وبعد إذا متنا فلا يكون حكومةٌ ولا حساب، وأنه موتٌ واحد، {يَقُولُونَ}, هؤلاء الذين ظنوا هذا الظن مِن المنافقين, {هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ }, كلمة ملتوية, مَن يسمعها يظن أنهم يعنون بها المعنى الحقيقي الظاهر منها، ولكن هم يعنون معنىً آخر فى أنفسهم, {يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ}, فمَن يظن هل لنا مِن الأمر أي أمر الحياة وشأن الوجود والمقادير، أي أنَّ المقادير كلها لله -تبارك وتعالى- ليس لنا مِن الأمر شيء، وينبغى لنا أنْ نستكين نرضى ونصبر لقضاء الله -تبارك وتعالى- وحكمه, فهذا معنى حق، والسامع لهذه الكلمة منهم، يظن أنهم يعنون هذا الأمر, {هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ}, لكنهم لا يعنون هذا المعنى المتبادر مِن هذه الكلمة, {هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ}, وإنما يعنون معنى خبيث آخر، وهو أنهم يعنون أنَّ النبي لم يستشرهم، لم يأخذ برأيهم، هذا النبي مُسْتَبِدّ، وأنه أخذ للأمر دونهم، وأنه لو أطاعهم النبي ولم يخرجوا مِن المدينة ما كان ما كان, فالرد عليهم قال -جلَّ وعَلا- : {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}, إقرار بالمعنى المتبادر الذى هم يقولونه ولايريدونه، ولكن لايريدون كذلك أنْ يعرف عنهم المعنى الثاني قال : {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}, شأن العباد كله، والأمر الكوني القَدَرِي كله لله، لكن قال -جلَّ وعَلا- : {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ}, لكن يخفون في أنفسهم عندما يقولون : {هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ}, يخفون شيء آخر لا يبدونه لك, {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}, بمعنى أنه لو إستشارنا الرسول، وكان يأخذ بقولنا عندما قلنا له : {مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}, ما خرج بنا مِن المدينة، لنقتل ها هنا فى هذا المكان، لكنا جلسنا الآن فى المدينة، وقاتلنا مِن هناك وانتصرنا على أعدائنا، ولم يحصل ما حصل مِن هذه الهزيمة، انظر هذا الخبث، ولكن الله -تبارك وتعالى- أخرج ما فى نفس هؤلاء المنافقين مِن هذا الخبث الذى يخفونه،  قال -جلَّ وعَلا- : {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}, أي مع النبي, {مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}, قال -جلَّ وعَلا- : {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}, لو كنتم في بيوتكم آمنين، مطمئنين، وكان قد كَتَبَ الله -تبارك وتعالى- على بعضكم أنْ يُقْتَل فى هذا المكان، لابد أنْ يخرج لِيُقْتَل، لأنَّ هذا قضاء الله -تبارك وتعالى- وحكمه، فإنَّ الله إذا كَتَبَ لإنسان أنْ يُضْجَعَ فى مكان، يموت فيه، لابد أنْ يموت فيه، ولا يمكن أنْ يدركه الموت فى غير هذا المكان،  فلابد {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ}, أي آمنين، مطمئنين، وكان الله قد كتب على بعضكم أنْ يقتل فى المعركة, {لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}, إلى المكان الذى يُضْجَع فيه ويُقْتَل فيه، قال -جلَّ وعَلا- : {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ}, أي أراد الله -تبارك وتعالى- أنْ يُخْرِج ما فى هذه الصدور, {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ}, حتى تظهروه وتقولونه، وإنْ كان يقولونه بالإشارة والتمويه، لكن يخرجه الله -تبارك وتعالى-, {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ}, يُمَحِّصُهُ، ينقيه ويخرج حقيقته إلى الخارج {........وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[آل عمران:154] والله -سبحانه وتعالى- عليم، هذه صيغة مبالغة من العلم، ولا شك أنَّ علم الله -تبارك وتعالى-  بالغ كل مبلغ, {........قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}[الطلاق:12], {بِذَاتِ الصُّدُورِ}, ذات الصدر، هو سِرُّه الدفين الذى لم يخرجه لأحد, فكل إنسان عنده سِر لم يبلغ به أحدًا، أقرب الناس إليه ما أخبره به، وإنما هو هذا سِره هو موضوع فى صدره ما أخرجه؛ فهذا ذات الصدر، ذات الصدر السِّر الذى لم يبرح صدر صاحبه، الله عليم به -سبحانه وتعالى- ليس السر الذى نقله لغيره علمه واحد، لكن السِّر الذى لم يبح به لأحد, فالله -تبارك وتعالى- عليم به؛ فذلك عليم بأسراركم الخفية التى تخفونها، ومِن أجل ذلك أخرج هذا  بعد أنْ قلتم هذا الكلام الملفوف، الملغوم الذى يحتمل هذه المعانى، أفصح الله -تبارك وتعالى- أخرج الله -تبارك وتعالى- حقيقة المعنى الذي تخفونه في صدوركم.

نقف عند هذا، ونكمل إنْ شاء الله في الحلقة الآتية, أقول قولي هذا، وأستغفر الله مِن كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.