الحمد لله ربِّ العالمين، وأُصَلِّى، وأُسَلِّم على عبدالله ورسوله الأمين، وعلى آله، وأصحابه، ومَن اهتدى بهديه، وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- : {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}[آل عمران:155], {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[آل عمران:156], {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[آل عمران:157], يُخْبِرُ الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين في سياق ما أنزله -سبحانه وتعالى- على المؤمنين في شأن غزوة أُحُد، يُخْبِرَهُم -جلَّ وعلا- أنَّ الذين تولوا منهم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا، {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ}, أي فروا مِن المعركة، وتركوا النبي -صلى الله وسلم- والبقية الباقية التي تقاتل, {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}, في أُحُد جَمْعُ أهل الإيمان، وجَمْعُ أهل الكفر, {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا}, إنما للحسرة, {اسْتَزَلَّهُمُ}, أي طلب الشيطان زلتهم، وهى إمالتهم وإبعادهم عن الثبات في المعركة, {اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا}, أي أنه قد كانت هذه السيئة، السيئة الفرار بسبب سيئاتٍ سبقت مِن ذلك, {بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا}, فكأن السيئة تُورِثُ السيئة، أي لما كانت لهم ذنوب سابقة فإنَّ الشيطان قد قَدَرَ عليهم، وكانت له يدٌ عليهم, فكأن الشيطان سلطانه الكبير على مَن كان له سابقة في المعصية، أما أهل الاعتصام، والبُعد عن المعاصي، والثبات على الصراط فإنَّ الشيطان لا يستطيعهم ولا ينالهم، وهذا بيان لشؤم المعصية، وأنَّ المعصية قد تَجُرُّ إلى مثلها، والعكس بالعكس، الطاعة والإيمان، الحسنة تَجُرُّ إلى أختها ومثلها، والمعصية تَجُرُّ إلى مثلها, فهذا تحذير مِن الله -تبارك وتعالى- بشأن المعاصي، وأنَّ هؤلاء الذين ضعفوا عن الثبات في القتال، إنما كانوا قد ضعفوا قبل ذلك أمام الشيطان في معاصٍ ارتكبوها, {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا........}[آل عمران:155], ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ}, وهذا مِن رحمته -سبحانه وتعالى-, عفى الله -تبارك وتعالى- عنهم في الذنب الذى ارتكبوه بالفرار، هذا، علمًا أنَّ الفرار مِن الموقعة كبيرة عظيمة مِن الكبائر، كما قال النبي : « اتقوا السبع الموبقات», وذَكَرَ مِنهم هنا النبي -صلوات الله والسلام عليه- «والفرار يوم الزحف», فمِن رحمة الله -تبارك وتعالى- أنَّ كل الذين أخطئوا يوم أُحُد غَفَرَ الله -تبارك وتعالى- لهم ، الذين تركوا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- مِن الرماة، والذين فروا عن النبي في المعركة، كل هؤلاء عفا الله -تبارك وتعالى- عنهم، قال -جلَّ وعَلا- : {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ}, أي فلا يؤاخذهم يوم القيامة بهذه المعصية, {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}, {غَفُورٌ}, ساتر للذنب -سبحانه وتعالى- {حَلِيمٌ}, لا يُعَجِّل العقوبة، وإنما يعفو ويصفح -سبحانه وتعالى- وهذا مِن اتصافه -سبحانه وتعالى- بالحلم، -سبحانه جلَّ وعلا-, اللهم اغفر لنا ذنوبنا، برحمتك يا أرحم الراحمين، كل هذا عبارة عن برد وسلام ومحو للآثار التي خلفتها هذه المعركة، خلفت هذه المعركة آثار عند الصحابة مِن الغمِّ، مِن الهمِّ، مِن الحزن الشديد، فوات ما فاتهم مِن النصر، الألآم التي حصلت للنبي -صلى الله وسلم- بسبب شقه وجرحه ووقوعه في حفرة مِن الحفر التي حفرها أبو عامر الفاسق، الذى كان يُسَمَّى أبو عامر الراهب فسمَّاه النبي الفاسق، أمور كثيرة وآلام وجراحات وقَتْلَى وهزيمة وعلو للكفر، هنا الله -تبارك وتعالى- يمحو ويمسح هذه الآثار التي وقعت فمِن رحمته -سبحانه وتعالى- بيان العلة والسبب في الهزيمة, ثم يأتي -سبحانه وتعالى- ببيان مِن رحمته، وإحسانه فيُبَيِّن، هؤلاء الذين فروا بمعصية سابقة، ومع ذلك فالله -تبارك وتعالى- قد سامحهم في كل ذلك, {........وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}[آل عمران:155].
ثم بعد ذلك توجيه لأهل الإيمان, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا.......}[آل عمران:156] في أي شيء تتشبهوا بالكفار، تكونوا كالذين كفروا، تتشبهوا بهم، تكونوا مثلهم في أي شيء، قال -جلَّ وعَلا- : {وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ}, الذين هم على شاكلتهم، إخوانهم إما إخوان في النسب، أو إخوان في الكفر, {إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا}, جهال، كفار يظنون أنَّ الإنسان ممكن أنْ يفر مِن المقادير بالاحتراز، وأنه لا يكون الأمر كما وقع، بل إذا وقع الأمر هذا الذى كتبه الله -تبارك وتعالى- ولا بد أنْ يكون ما كان كما كان؛ لأنَّ الله -تبارك وتعالى- قد كَتَبَ له أنْ يكون على هذا النحو، أما لو قال إنسان بعد أن وقع أمر ما لو لم أفعل كذا لما كان كذا هذا مِن جهله كيف له لم يفعل كذا، لابد أنْ يفعل كذا؛ لأنَّ الله -تبارك وتعالى- قدر أنْ يقع هذا الأمر, {وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ}, نسبًا أو إخوانهم في الكفر، عقيدة, {إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ}, الضرب في الأرض هو السير فيها، ويُسَمَّى ضرب، كأنَّ السائر يضرب بقدميه بالأرض, {إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ}, أي سفرًا فيها, {أَوْ كَانُوا غُزًّى}, أي غزاة في سبيل الله، يقولون : {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا}, لو لم يخرج فلان هذا للتجارة، ويخرج إلى هذا السفر الذى مات فيه، ولم يخرج هذا المؤمن الذى غزا في سبيل الله، وقُتِلَ في هذا الغزو، لو بقى وسمع كلامنا ولم يخرج في هذا الأمر، {مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا}, ما ماتوا مِن ضرب في الأرض، وما قتلوا الذين غزوا، وقتلوا، هذا جاهل عظيم، قال -جلَّ وعَلا- : {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ}, أي يبقى هذا ندم، ويظن هذا الجاهل أنَّ الكافر أنه يمكن أنه كان يتغير القضاء، والقدر لو أنه حرص على تبديل الأسباب، قال -جلَّ وعَلا- : {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ}, وهى التندم على أنه لم يأخذ ما يظنه مِن الحيطة، والحذر قبل أنْ يقع ما وقع مِن القَدَر، قال -جلَّ وعَلا- : {وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ}, الإحياء والإماتة لله -تبارك وتعالى- ويميت الله -تبارك وتعالى- بالقضاء والقدر، هذا مكتوب عليه يقتل أن هنا؛ فيقتل، هذا مكتوب عليه أنْ يموت حتف أنفه هنا؛ فيموت حتف أنفه, فإنَّ الحياة، والموت لله -تبارك وتعالى- بيده -سبحانه وتعالى-, وليست بيد الخلق، أنت ممكن تتحكم في موتك فتقول أنا إذا ما خرجت هذا المكان لا أموت لا، إنما الموت لله -تبارك وتعالى- هذا أمره لله، كما أن َّالحياة له فالموت له, {........وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[آل عمران:156], بصير بكل أعمالكم، لا يخفى عليه شيء من خَلقه -سبحانه وتعالى- ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[آل عمران:157], أي علام يندم مَن خرج في سبيل الله فمات! ومَن خرج يقاتل فقُتِلَ في سبيل الله! على أي شيء يندم! هذا قد نال الخير، {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}, قدم القتل لأنه الأفضل {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}, جهادًا, {أَوْ مُتُّمْ} عندما خرجتم في سبيل الله، أو متم مِن دون قتل, {........لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[آل عمران:157], فهذا الذى يناله مِن مغفرة الله -تبارك وتعالى- {وَرَحْمَةٌ}, هذا أفضل ممن يبقى، ويجمع في الدنيا، ولم ينل هذا الأمر، لم ينل الموت في سبيل الله، ولا الشهادة في سبيل الله, {خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}, أي في هذه الدنيا، إذن الفائز على الحقيقة ليس هو الذي نجا في ظنهم مِن القتل، أو مِن الموت في سبيل الله، بل الذى مات في سبيل الله، أو قُتِلَ الذى قُتِلَ في سبيل الله هو الفائز؛ لأنه نال مغفرة الله -تبارك وتعالى- وكذلك نال ثوابه في الآخرة، وقد جاء أنَّ الشهيد يغفر له كل ذنبه في أول دفقة مِن دمه، أول دفقة تخرج مِن دمه يمحو الله -تبارك وتعالى- جميع سيئاته، كما قال -صلى الله وسلم- : « يُغْفَرُ للشهيد كل شيء» ثم قال النبي : «إلا الدين سارني بها جبريل آنفا», فهذا نال مغفرة الله -تبارك وتعالى- ونال رحمة الله وهي الشهادة، والمنزلة في جنة الله -تبارك وتعالى- فهذا خير, فالذي يموت هذه الموتة في سبيل الله، يُقْتَل هذه القتلة قد نال الخير، أفضل مِمَن يعيش، ويجمع في هذه الدنيا, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ}[آل عمران:158] أي بأي سببٍ تكون نهاية الحياة، موتًا كان، أو قتلًا فإنَّ حَشْرَ الجميع إلى الله -تبارك وتعالى-, {تُحْشَرُونَ}, أي تُجْمَعُونَ في النهاية إلى الله -تبارك وتعالى- فإذن سواءً كان لابد أنْ يكون لكل حي نهاية، وهذه النهاية تكون إما أنْ تكون بالقتل، أو بالموت على الفراش، وفى النهاية، لكن هذا لابد أن يكون؛ ثم الجميع سيحشر إلى الله -تبارك وتعالى- إذن معنى هذا أنه سيفوز، مَن كان موته لله، وقتله في سبيل الله، وأما مَن كان قد عاش للدنيا فقط فهذا هو الخاسر.
ثم قال الله -تبارك وتعالى- لرسوله -صلى الله وسلم- وجه الخطاب لرسوله -صلى الله وسلم- : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}[آل عمران:159], قدَّم الله -تبارك وتعالى- هنا بيان رحمته وإحسانه على عبده ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي حَلُمَ وصفح عن الذين تسببوا في هذه الهزيمة، مِن الذين تركوا مواقعهم على الجبل الذى مَسَّكَهُم النبي إياه، وقال لهم: الزموا مكانكم هنا، انضحوا عنا وجوه الخيل، لا تتركوا مكانكم، أي إنْ رأيتمونا هُزِمْنَا، أو انتصرنا، الزموا مكانكم، بل قال الزموا مكانكم، ولو رأيتم الطير تتخطف لحومنا، لا تبرحوا المكان الذى أنتم فيه، هؤلاء تسببوا في الهزيمة، وكذلك الذين فروا عن النبي -صلى الله وسلم- وهو يدعوهم يا قوم إلىَّ عباد الله يناديهم كل هؤلاء سامحهم النبي -صلى الله وسلم- لم يقم لهم كما الشأن عند أهل الباطل محكمة، ومحاكمة عسكرية لهذه الخيانة، والفرار, بل إنما سامحهم النبي -صلى الله وسلم- وعفا عنهم، وأخبره -تبارك وتعالى- بأنَّ ما كان منه -صلى الله وسلم- في قلبه مِن مسامحة هؤلاء، قد كان برحمة مِن الله, {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ}, كنت لينًا معهم، وخاطبهم النبي خطابًا لينًا، أي لم يعنفهم، ولم يجزرهم لما كان منهم, ثم قال له الله -تبارك وتعالى- بأنَّ هذا هو الأمر الحسن الذى وفقك الله -تبارك وتعالى- إليه، ووضع في قلبك ما وضع مِن الرحمة للمؤمنين، قال له : {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}, الفَظّ هو الفاحش، الشديد، القاسي, {غَلِيظَ الْقَلْبِ}, أي لا ترحم؛ فالذي لا رحمة في قلبه هذا غليظٌ قلبه، قال -جلَّ وعَلا- : {لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}, أي لو كنت تُعَنِّف هذا، وتُؤَنِّب هذا، تقسو على هذا لكان هؤلاء الذين حولك انفضوا، تركوا الدين وذهبوا, {لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}, قال -جلَّ وعَلا- مُبينًا هذا الذي فعله النبي هو الخير، وهو الحسن : {فَاعْفُ عَنْهُمْ}, والعفو هو المسامحة، وعدم المؤاخذة, {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ}, أكثر مِن هذا، هذا يبيِّن الإحسان، ليس فقط العفو والسماح، بل استغفر لهم اطلب مِن الله الله -تبارك وتعالى- أنْ يغفر ذنوبهم، ودعاء النبي -صلى الله وسلم- مستجاب عند الله، وشفاعته مستجابة عند الله, ثم : {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}, أمرٌ مِن الله لرسوله أنْ يشاور أصحابه في الأمر، علمًا أنَّ الهزيمة كان سببها الأخذ بما شار به مَن أشار مِن المتحمسين، المتحرِّقين لقتال العدو، وقولهم اخرج بنا يا رسول الله، أي إلى أعدائنا نقاتلهم، لا نمكث هنا في المدينة، بل اخرج بنا، نريد أنْ نخرج إليهم لنقاتلهم، وقد أخذ النبي برأيهم، وترك رأيه -صلى الله وسلم- أنه يبقى في المدينة، ورأى بعض مَن أشار إليه من البقاء في المدينة، وبالرغم مِن أنه قد كان هناك سهم مِن سهام الهزيمة في هذا الأمر في أخذ النبي بأمرهم لكن ربنا يريد أنْ يجعل الشُّورَى أساس في الأمر قال : {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}, قال كثير مِن أهل العلم بأنَّ النبي -صلى الله وسلم- لا شك أنه مستغنٍ عن المشورة بما له مِن كمال العقل، وكمال الحكمة، والعِلْم الذى علَّمَهُ الله -تبارك وتعالى-, ولكن أمره بهذا الأمر ليكون هذا تشريع في الأمة كلها لِمَن بعده فتكون الشورى تشريعًا, فإذا كان الرسول نفسه -صلى الله عليه وسلم- وهو من هو علمًا وعبقريةً وخبرةً وفهمًا للأمور يأمره الله -تبارك وتعالى- بأنْ يشاور أصحابه مع استغنائه عن هذا, ثم يشاور أصحابه كذلك حتى في الوقت الذى تسببت فيه المشورة في الهزيمة, فيأمرهم بهذا قالوا : ليكون هذا تشريعًا عامًا لا ينساه المسلمون، وأنْ يبقى هذا تشريع عام في المسلمين، وذلك أنَّ الله وصف أهل الإيمان فقال : {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}, فأمر المسلمين يجب أنْ يكون مشاورة، وألا يستبد الحاكم، أي حاكم مهما كان برأيه؛ فإذا كان لم يُتْرَك للنبي أنْ يفعل برأيه دون مشورة أصحابه فكيف بِمَن هو دون النبي -صلوات الله والسلام عليه- قال : {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}, وهو أمر الحرب، تطبيق هذا الدين، هذه هو ميادين الشورى, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه}, أي إذا عزمت على أمر فلا تتردد، لأنَّ التردد أي الفشل, {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه}, فامضِ في الأمر الذى عزمت عليه, فالأول مشورة وتقليب للأمر ثم إذا استقر الأمر لك، واتخذت قرار لا ينبغي بعد ذلك أنْ تَرُدَّ عن هذا القرار، كما فعل النبي -صلى الله وسلم- عندما لبس لَئْمَة الحرب بعد أنْ شاورهم وقال، ناس قالوا نخرج، ناس قالوا نقاتل مِن المدينة، ثم إنَّ النبي دخل بيته فلبس لَئْمَته، ثم قال هؤلاء الذين قالوا ضايقنا النبي، ألزمناه، أجبرناه على الخروج على أمرٍ يكرهه، ثم قالوا: يا رسول الله إنْ كنت تريد أنْ نحارب في المدينة فابقَ، قالوا أكثرن عليك في الخروج، والأمر لك, فقال لهم النبي -صلى الله وسلم- ما كان لنبي أنْ يلبس لَئْمَةَ الحرب ثم ينزعها قبل أنْ يحكم الله -تبارك وتعالى- بينه وبين عدوه إذا استقر الأمر فلا رجوع مرة ثانية ولا تردد فيه، أرشده الله -تبارك وتعالى- إلى الثبات على هذا الأمر قال : {فَإِذَا عَزَمْتَ}, العزم وهو النية الأكيدة، وأخذ القرار بالسير في طريق ما, {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه}, سَلِّم أمرك لله -سبحانه وتعالى-, {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}, {الْمُتَوَكِّلِينَ}, التوكل هو تسليم الأمر لله -تبارك وتعالى- بعد بذل الأسباب فيما تُبْذَل فيه الأسباب، تُبْذَلُ الأسباب في الجهاد ثم بعد ذلك يترك النتائج إلى الله -تبارك وتعالى-, ثم قال -جلَّ وعَلا- مخاطبًا عباده المؤمنين : {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[آل عمران:160], {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ}, إنْ كان الله -تبارك وتعالى- يريد أنْ ينصركم فإنه لا يغلبكم أَحَد, {فَلا غَالِبَ لَكُمْ}, قَطّ ما أحد مهما أوتى مِن قوة يستطيع أنْ يغلبكم إذا كان الله معكم, فإذا كان الله يريد نصركم فو الله لو اجتمعت كل أهل الأرض على أنْ يغلبوكم لا يغلبوكم؛ لأنَّ الله لا يُغْلَب -سبحانه وتعالى- فإذا كان الله معكم ويريد أنْ ينصركم -سبحانه وتعالى- فلن يغلبكم أحد, {فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ}, إذا أراد الله -تبارك وتعالى- الخذلان, {فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ}, مَن يستطيع أنْ يرد أمر الله -تبارك وتعالى- وقضائه، لا الجواب هذا سؤال يراد به أنه التقرير بأنه ليقال لا أحد، لا أحد يستطيع أنْ ينصرك، إذا أراد الله -تبارك وتعالى- خذلانك؛ فإذا أراد الله -تبارك وتعالى- خذلان أحد، عدم نصره؛ فو الله لو اجتمعت له قوى الأرض كلها، اجتمعت له قوى الأرض كلها على أنْ ينصروه فلن ينصروه، هذه الآية تقرر أمر عظيم جدًا، لو آمن به أهل الإيمان؛ فإنَّ مسألة النصر والتمكين تكون في أيديهم، وهو أنْ يعلموا أنَّ النصر كله مِن الله، وأنه إنْ أراد الله نصرهم فلا يمكن أنْ يغلبهم أحد، ولو اجتمع عليهم أهل الأرض بحدهم وحديدهم، وكذلك إنْ أراد الله -تبارك وتعالى- أنْ يخذلهم ولا ينصرهم، والله لو اجتمعت لهم كل القوى وكانوا هم أكثر الناس عددًا، وعدوهم أقل منهم فإنهم يفشلون فالنصر كله مِن الله -تبارك وتعالى- إذن يجب التوجه في هذا الأمر كله إلى الله -جلَّ وعَلا-.
ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}[آل عمران:161], هذا بيان وتحذير في شأن الأخذ مِن الغنيمة قبل القسمة، وبيان عصمة الرسل الذين يرسلهم الله -تبارك وتعالى- في أنْ يكون فيهم هذا الأمر، قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ}, أي أنه في حكم الله -تبارك وتعالى- الكوني القَدَرِي، أنه لا يمكن يجعل نبي مِن أهل السرقة مِن الغنيمة، {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ}, وذلك صونًا وحفظًا مِن الله -تبارك وتعالى-, فإنَّ الغِلّ هو السرقة مِن الغنيمة قبل القسمة، إنَّ نبي يأخذ شيء مِن الغنيمة لنَفْسِهِ قبل قسمة الغنائم كما أرادها الله -تبارك وتعالى- يستحيل أنْ يكون نبي يفعل هذا الفعل، لأن نبي يفعل هذا الفعل، تسقط عنه النبوة، هذا قادحٌ في النبوة، ولما كان الأنبياء معصومون، عصمهم الله -تبارك وتعالى- مِن كبائر الذنوب، هذا مِن كبائر الذنوب؛ فإنه لا يكون نبي هكذا؛ فإنَّ الله -تبارك وتعالى- كونًا وقَدَرًا عصم كل نبي له، أنْ يقع في كبيرة ما, {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ}, ثم هذا ليكون هذه حقيقة معلومة أنه يستحيل أنْ يتصور في النبي، أنْ يأخذ شيئا مِن الغنيمة -صلوات الله والسلام عليهم أجمعين-, ثم تحذير لكل أهل الإيمان أنْ يأخذ أحد منهم شيئًا مِن الغنائم؛ لأنَّ هذا مِن الكبائر العظيمة، قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}, يأتي هذا الذي غله يأتي به كما هو, {........ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}[آل عمران:161] , لا يظلمهم الله -تبارك وتعالى- والأخذ مِن الغنيمة قبل القِسمة يبطل الشهادة، ويبطل الجهاد في سبيل الله، كما في الحديث الصحيح أنَّ النبي لما كان في إحدى غزواته، وأُهْدِىَ له غلام، عبد يُسَمَّى مِدْعَم؛ ثم إن هذا العبد أسلم؛ ثم لما أسلم قام، وهو يرتب متاع النبي آتاه سهم في رقبته؛ فقتله, فجاء مَن يُبَشِّر النبي -صلى الله وسلم- ويقول : يا رسول الله هنيئًا له الجنة أي هنيئًا الشهادة لفلان الذي أسلم قبل قليل، واستشهد الآن, فقال النبي: والذى نفس محمد بيده، لقد رأيته في النار، ببردة غلها قبل القسمة، قال أنا الآن رأيته ، قال أنا رأيته في النار, أراه الله -تبارك وتعالى- هذا العبد الذى وقد اشتمل على بردة تلتهمه، قال إنَّ البردة التي غَلَّهَا مِن الغنيمة لتلتهب عليه نارا؛ فاستعظم المسلمون الأمر، وركضوا إلى متعاعه يفتشوه فوجدوا فيه بردة لا تساوى أربعة دراهم حتى ما تبلغ ربع دينار شيء تافه، قليل فاستعظموا هذا الأمر جدًا, فجاء رجل كان قد أخذ شراك، نعل، الشراك عبارة جلد صغير, فقالوا يا رسول الله هذا قد أخذته، يعنى تافه، أمر صغير؛ فقال له النبي: شراك مِن نار، وجاء رجل بشراكين، قال له النبي: شراكان مِن نار, فكل شيء يؤخذ غُلولًا مِن الغنيمة ولو كان تافه، حقير، كشراك النعل يأتي به يوم القيامة, فقول الله : {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}, لابد يأتي بهذا الذى غلَّه مِن الغنيمة الذي أخذه مِن الغنيمة قبل يوم القسمة يأتي به يوم القيامة عياذًا بالله، وقد حذَّر النبي -صلى الله وسلم- مِن هذا، وكذلك مِن الذي يأخذه العامل على الصدقة، أو العامل في شأن مِن شئون المسلمين يأخذه ولو على وجه الهدية، كما في الحديث أنْ رسول الله وسلم أَمَّرَ على الصدقات رجل يقال له ابن اللُّتبية؛ فجاء وقال للنبي هذا لكم ، وهذا أهدى لي هذه هدايا أهداها لي الناس، وهذا الذى لكم مِن الزكاة, فالنبي غَضِبَ غَضَب شديد، واختتطب الناس، وقال ما بالي أول رجل منكم على أمر مما ولاني الله؛ فيأتي ويقول هذا لكم وهذا أُهِدَى لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه ينظر أيهدى إليه أم لا، والله ما يأخذ أحد منه شيء إلا جاء به يوم القيامة، إنْ كان بعير له الغار يحمله على رقبته يقول يا محمد أدركني فأقول إليك عني، لا أغنى عنك مِن الله شيئا قد بلغتك، وإنْ كانت بقرة لها خوار فتقول يا محمد أدركني؛ فأقول إليك عني قد أبلغتك، لا أغنى عنك من الله شيئاً، وإن كانت شاة ترعى؛ فيقول يا محمد أدركني؛ فأقول إليك عنى لا أغنى عنك مِن الله شيئا؛ فقول الله : {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}, يشمل الأخذ مِن الغنيمة، وكذلك تشمل هدايا الحكام والعاملين على الصدقة، والعاملين فى شئون المسلمين، لا يحل لهم أنْ يأخذوا شيئًا مِن مال الله -تبارك وتعالى- بغير حقه, {........وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}[آل عمران:161].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.