الحمد لله ربِّ العالمين، وأُصَلِّى وأُسَلِّم على عبدالله، ورسوله الأمين، وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهديه وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- : {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[آل عمران:162], {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}[آل عمران:163], {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[آل عمران:164], هذه الآيات مِن سورة آل عمران، وفى سياق هذه المواعظ الجليلة والتربية العالية التى رَبَّى الله -تبارك وتعالى- بها، ووعظ بها عباده المؤمنين بعد هذه المحنة التى أصابتهم يوم أُحُد، وقال فيها الكفار ماقالوا مِن التشكيك فى دين الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال -جلَّ وعَلا- مخاطباً عباده المؤمنين : {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ}, هل يستوي مَن اتبع رضوان الله، رضوان، رضائه -سبحانه وتعالى- صيغة مبالغة مِن الرضا, {كَمَنْ بَاءَ}, رجع واستحق سخط الله -تبارك وتعالى-, الذي اتبع رضوان الله هو النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- والمؤمنون الذين قاتلوا معه، والذين اتبعوا وباؤوا بسخط الله هم هؤلاء الكفار الذين حاربوهم فى أُحُد، هَب أنَّ الكفار رجعوا بالنصر، والمؤمنون قد نالتهم هذه الجراحة وهذا القرح، وهذه الهزيمة، لكن أليس المؤمنون فى رضوان الله -تبارك وتعالى- وأليس الكفار فى سخط الله -عزَّ وجلَّ- هل هذه هى نهاية المطاف؟ لا شك أنَّ هذه فتن، ودول تعتور ويُجْرِيهَا الله -تبارك وتعالى- على أهل الإيمان وأهل الكفر, فالكافر فى سخط الله وإنْ انتصر وإنْ عز يومًا فى هذه الدنيا، والمؤمن فى رضوان الله -تبارك وتعالى- وإنْ ناله ما ناله, {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[آل عمران:162], هذا مصير مَن باؤوا بسخط مِن الله -تبارك وتعالى- مأواه، مستقره النهائي وداره التي يَأوِي إليها، وسكنه الذى يسكن فيه، ويبقى فيه بقاء لا انقطاع له، {جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}, وبئس مصيرًا أنْ يكون على هذا النحو، مَن فَكَّرَ فى هذه النهايات، لا شك أنه لا يهتم بهذه البدايات، لايهتم بما يكون فى هذه الدنيا، فمهما كان المؤمن مِن شقاء الدنيا، مِن الفتن، مِن الابتلاءات، مِن المِحَن فهو فى النهاية في رضوان الله -تبارك وتعالى- وآيلٌ إلى رضوان الله -تبارك وتعالى- فى الجنة، وأما الكافر فإنه في سخط الله -تبارك وتعالى- وآيل إلى مستقر غضبه وسخطه، هذا سؤال يراد به التقرير, {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[آل عمران:162], الجواب لا يمكن, يستحيل مَن يكون نال رضوان الله -تبارك وتعالى-,{كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ}.
ثم قال -جلَّ وعَلا- : {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}[آل عمران:163], {هُمْ}, هؤلاء وهؤلاء, {دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ}, فأهل الإيمان درجات فى الجنة صُعُدَا درجة تعلو درجة، الجنة مائة درجة, إنَّ فى الجنة مائة درجة أعدها الله -تبارك وتعالى- للصالحين مِن عباده، أهل الجنة يتفاضلون بأعمالهم وتقواهم ومسارعتهم فى الخير، وكذلك أهل النار دَرَكَات بعضها دون بعض، وتحت بعض إلى الدَّرْكِ الأسفل، {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا}[النساء:145], وأخفهم درجة في النار يكون فى ضَحْضَاحٍ مِن النار يغلي رأسه عياذاً بالله؛ فالكافر هذا مستقره، والمؤمنون هذه, {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ}, {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}, الجميع، الله -سبحانه وتعالى- مبصرٌ بما يعمله جميع خلقه -سبحانه وتعالى- فيُجَازِي كل منهم على عمله فى نهاية المطاف، هذا كله فى سياق مَسْحِ الله -تبارك وتعالى- لهذه الجراحة التي نالت أهل الإيمان، تثبيتهم فيه، وبيان أنهم هم الفائزون، وهم الأعلون، وهم الذين رجعوا بالفوز والرضوان على الحقيقة، والكفار وإنْ رجعوا ما رجعوا منتفخين، يقولون أعلوا هُبَل، لنا العزة ولا عزة لكم، يوم كيوم بدر والحرب سِجَال، رجعوا بزهوهم ونشاطهم ونصرهم لأنهم فى سخط الله -تبارك وتعالى- يسيرون, ثم يُذَكِّر الله -تبارك وتعالى- بِمِنَّتِهِ بعد مِنَّتِهِ -سبحانه وتعالى-, مِنَّته على أهل الإيمان, قال -جلَّ وعَلا- : {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[آل عمران:164], والمعنى انظروا أيها المؤمنون بما مَنَّ الله -تبارك وتعالى- به عليكم، عندكم أكبر النعم وأفضلها, {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}, مَنَّ عليهم، تفضل عليهم -سبحانه وتعالى-, {إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ}, عربى، يعرفونه، يعرفون منشأه وأصله وفصله، وبالتالي ممكن أنْ يصلوا إلى المعنى الحقيقى له، أنه صادق، أمين، بَرّ فهم يعرفون كيف جاء بهذه الرسالة, فالوصول إلى حقيقة أمره، أمر ميسور لهم؛ لأنه مِن أنفسهم ثم ليس غريبًا عنهم، كذلك إذا كان مِن أنفسهم فيكون فيه مدى آخر مِن القُرب بعد قرب الإيمان قُرب النسب والقرابة وأنه منهم، لسانه لسانهم فهذا أمر عظيم، مِنَّةٌ عظيمة لأهل الإيمان هؤلاء الذين حَمَلُوا فى أول الأمر رسالة الإسلام إلى العالمين, {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ........}[آل عمران:164], رسول, مُعَلِّم، مُخالط معهم كل يوم معهم, {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ}, يقرأ عليهم كلام الله -تبارك وتعالى- المُنْزَل عليهم مِن السماء، نقلة هائلة مِن الرَّب الإله -سبحانه وتعالى- خالق السماوات والأرض إلى النبي الذي يعيش معهم, فيتلوا عليهم كلام الله -تبارك وتعالى- مِنَّةٌ عظيمة، اتصال بالرَّب الإله -سبحانه وتعالى-, تتصل هذه الأمة المؤمنة بالرَّب الإله خالق السماوات والأرض عن طريق هذا النبي الذي جَعَلَ الله كلامه في فيه، كلام الله -تبارك وتعالى- في فم النبي -صلى الله عليه وسلم-, {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ}, مُعَلِّم، مُرَبِّى، {زَكِّيهِمْ}, يطهرهم، يا فلان افعل كذا، يا فلان لا تفعل كذا، انشط لكذا, قصَّرْتَ في كذا، يعلم هذا؛ فيزكيهم بالتربية والعناية والتمهيد، التعليم، التقويم هذا كله يقوم به النبي -صلى الله وسلم- بِمَثَلِهِ أمامهم، تزكية عندما يكون هو النموذج الفذ، الكامل -صلوات الله والسلام عليه- ينظرون إليه فيتخذونه أُسْوَة لهم, فهو يزكيهم بقيامه في وسطهم، بتعليمه، بتقويمه، بكل معانى التربية -صلى الله عليه وسلم-, ثم : {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}, شيء أكبر, {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ}, القرآن، يقرأ وليس مجرد القراءة، بل ويُعَلِّم كذلك, يُعَلِّم لما أنزل الله هذه الآية هنا، ولما قال كذا، تفصيل أحكام الله -تبارك وتعالى- يُفَصِل لهم هذه الأحكام، ويُعَلِّمَهُم تعليم عملي وتعليم قولي، كما عَلَّم الصلاة فقال: «صَلُّوا كما رأيتموني أُصَلِّى»، وعلَّم الزكاة، علَّم الحج، علَّم العبادات، علَّم المعاملات -صلوات الله والسلام عليه- تعليم كامل لكل الشؤون التي يحتاجها المسلمون ليكونوا أُمة الله، الأمة الهادية، القائمة بأمر الله -تبارك وتعالى-, {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ}, الكتاب المُنْزَل مِن الله -تبارك وتعالى-, {وَالْحِكْمَةَ}, وهو إحكام الأمر، ووضع كل أمر في نصابه، وهذا نتيجة العلم التام يُعَلِّمَهم كيف يضعون كل أمر في نصابه، {وَالْحِكْمَةَ}, وهى سُنَّتِهِ -صلوات الله والسلام عليه- العلم الذى أوتيه، السُّنة التي أوتيها النبي -صلوات الله والسلام عليه-, {.......وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[آل عمران:164], كانوا قبل هذا النبي المُعَلِّم، المُرَبِّى، المُزَكِّي قد كانوا في ضلال مبين، بَيِّن، واضح، لا شبهة فيه، ضلال فى كل شيء، فمعتقد ضال، معتقده في الله -تبارك وتعالى- أنه خلق هذه السماوات والأرض، ولكنه خلقها الدنيا فقط, دنيا كما هي لا حياة بعد الموت، إذن لا حكومة، ولا جزاء للطائعين، ولا عقوبة للعاصين، إذن هذا اعتقاد يدفع للإجرام والنهب والقتل والسلب؛ لأنهلا توجد عقوبة تنتظر للمجرم، ولا جزاء للمطيع، إذن لما يمتنع عن مال الغير، وعن سفك دمه وعن أخذه وعن غصبه، هذه إذن الدنيا للقوى الفاجر, ثم سب لله، وشتم له بادِّعاء أنَّ له ولد -سبحانه وتعالى- ثم ضلال فى عبادة الأصنام, ثم ضلال فى المعاملة مِن تشراب الخمور، وأنواع مِن الخَنَى، والزنى؛ ثم ربا؛ ثم تظالم، ثم ألآف الشرور التي كان يعيش فيها العرب فى جاهليتهم، كانوا يعيشون فى شرور هائلة جدًا؛ فقد كانوا في هذا الضلال المبين, ثم جاءت هذه النقلة الهائلة، البعيدة مِن قوم يهتدون بكل معانى الهداية، يعرفون ربهم وإلههم وخالقهم -سبحانه وتعالى- يتخذون الصراط إليه، يعرفون المآل والمصير، يسيرون إلى طريق الجنة، يبتعدون عن كل هذه الآثام والشرور التي كانوا فيها يقيموا مجتمع مِلؤه الأخوة والمحبة والتناصر والتراحم أين كانوا, ثم أين انتقلوا بعد ذلك؟ {.......وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[آل عمران:164], تكفي هذه النعمة، لو كانت هذه النعمة التى هم فيها، هي وحدها فقط، وإنْ كان ما كان مِن شقاء فى الدنيا بعد ذلك مِن فتنة للكفار، مِن تَسَلُّط عليهم، مِن هزيمة مِن الكفار، كل هذا جَلَل وقليل جدًا وأمور محتملة، ولا توازى هذه الشرور هذا الخير العظيم الذى يمتن به الله -تبارك وتعالى- به على عباده المؤمنين أنْ يكونوا مع نبي الله الذي جعل الله كلامه فى فمه، يقول، يقرأ كلام الله، وهو معهم في وسطهم ويُعَلِّمَهُم ويُرَبِّيهِم, والله لو كأنهم الكفار يركبونهم في كل وقت وكل حين، وكانوا مهزومين أبدًا، وأذلةً أبدًا، كما كان الشأن مثلًا في مكة لكان ما هم فيه هو خير، خير مما فيه الكفار مِن عزة، ومِن عنجهية، ومِن سطوة، ومِن تَسَلُّط عليهم, {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[آل عمران:164],ِ بعد هذا التذكير بهذه النعم العظيمة من الرَّب الإله -سبحانه وتعالى- للمؤمنين، بدأ الله -عزَّ وجلَّ- يعاتبهم مرةً أخرى على تململهم أو تألم البعض مِن الهزيمة التي وقعت، قال -جلَّ وعَلا- : {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا........}[آل عمران:165], سؤال يراد به العتاب، ويقول لهم الله : {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ}, مصيبة أُحُد, {قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا}, في بَدْر للكفار، أنتم قُتِلَ منكم فى أُحُد سبعون، ولكنكم قتلتم مِن المشركين فى يوم بَدْر سبعين، وأَسَرْتُم منهم سبعين فالمصيبة التي أصبتموها في أُحُد، {قَدْ أَصَبْتُمْ}, الكفار, {مِثْلَيْهَا}, في بدر, {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا}, هذا كيف يحدث هذا! كما قاله البعض : {أَنَّى هَذَا}, أنى بمعنى هنا كيف للاستغراب والاستبعاد, {أَنَّى هَذَا}, أنَّى نُهْزَم ونحن المؤمنون، وفينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لماذا يحدث هذا! فربنا يقول لهم أنتم هل نسيتم ما نصركم الله -تبارك وتعالى- في بَدْر، والهزيمة التي لحقت الكفار، لقد قتلتم منهم سبعين، وأسرتم سبعين، وفرَّ الباقى كلهم إلى مكة؛ فمصيبتكم نصف تلك المصيبة التي أُصِيبَهَا الكفار, {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ........}[آل عمران:165], قل لهم يا محمد يا رسولنا -صلى الله وسلم- : {هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ}, إنَّ الهزيمة لم تكن مِن الله هكذا ابتداءً، ولكن كانت بسبب أنفسكم، مِن عند أنفسكم جاءت المصيبة, {........إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[آل عمران:165], هو مِن عند أنفسكم، وذلك كما أخبر الله -تبارك وتعالى- فى الآية السابقة أنه قال -جلَّ وعَلا- : {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ........}[آل عمران:152], فهذا سبب الهزيمة، هذا الذى سبب الهزيمة، هو هذه الأخطاء التي وقعت منكم، عصيتم، فشلتم، تنازعتم فى الأمر, ثم بعد ذلك : {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا}, نَزَلْتُم إلى الغنيمة، وتركتم مواقعكم, {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ}, وقع هذا الأمر فبسببكم, ثم ابتلاكم الله لما وقع هذا الأمر بهذه الأسباب التي فعلتموها؛ عند ذلكِ وقعت العقوبة مِن الله -تبارك وتعالى-, وقعت هذه الفتنة والبلاء وهى خير, فإنَّ الله -تبارك وتعالى- مع هذا قدَّر وقضى لكم الخير -سبحانه وتعالى-.
قال -جلَّ وعَلا- : {........قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[آل عمران:165], قدير على كل شيء -سبحانه وتعالى- قدير على نصركم وإعزازكم وهزيمة الكفار، وكذلك قدير على أنْ يصيبكم بما أصابكم به -سبحانه وتعالى- فالله لايعجزه شيء -سبحانه وتعالى- ولا يقف أمام إرادته حائل, ثم بدأ الله -تبارك وتعالى- أسلوب عظيم كلام الرَّب -جلَّ وعَلا- بعد أنْ يُذَكِّرهم أنَّ الأمر قد كان منهم عند ذلك يمسح أيضًا على جراحهم، ويبين أنَّ الأمر قد كان بمشيئته وسماحه, ثم يقول لهم : {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ........}[آل عمران:166], اعلموا يا أيها المؤمنون أنَّ ما أصابكم يوم التقى الجمعان في أُحُد, {فَبِإِذْنِ اللَّهِ}, أي أنه لم يقع رغمًا عن الله -تبارك وتعالى- برضه بإذن الله بمشيئته -سبحانه وتعالى-, وأنَّ الله لو لم يشأ أنْ يقع هذا لَمَا وقع، لكن هذه تربية لكم وتذكير, {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران:166], {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا}, {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ}, أي حتى يَعْلَم الله -تبارك وتعالى- أهل الإيمان على الحقيقة؛ لأنَّ الإيمان كلمة سهلة فى اللسان، ممكن أنْ يقولها كل أحد، المنافقون بملء الفم يقولونها, {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ........ }[المنافقون:1], فملء الفم، بل يُقْسِمُونَ على هذا, قال -جلَّ وعَلا- : {........وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}[المنافقون:1], {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً}, {جُنَّةً}, مِن القتل, {........فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المنافقون:2], فأخبر -سبحانه وتعالى- أنه لا بد أنْ يُمَيِّز الصف، يظهر أمام الناس، حتى يوم القيامة ما يجيء هذا المنافق ويقول أنا كنت مع المؤمنين، ما تأتيه فتنة يَظْهَر نفاقه هنا فى الأرض، ويقول لا أنا كنت مع المؤمنين، لا، لا بد أنْ يَظْهَر كذلك نفاقه هنا، ويتبين حتى هناك أيضًا ينفصل عن أهل الإيمان، قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران:166], وليعلم الله -تبارك وتعالى- المؤمنين، ليس عِلْم عن سابق جهل تعالى الله -تبارك وتعالى- عن ذلك، بل ليعلم المؤمنين العِلْم الذي به يكون الثواب والعقاب يظهر هذا فى واقع الأمر, {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا}, يظهر هؤلاء، يظهر للجميع؛ فيتبين هؤلاء أهل النفاق، هذا فعلهم قد كان لما جاءت المِحنة، وهذه صورة المؤمنين، وقد ظهر بعض المنافقين قبل الغزوة، وبعد الغزوة فقبل الغزوة لما حسوا ثمة قتال رجع عبد الله بن أُبَى بِثُلُث الجيش، وقال : أيها الناس والله لا أدري على ما نَقْتُل أنفسنا, فرجع هذا ما يريد أنْ يحارب لأنَّ هذه كلفة، وبعد الغزوة كذلك، بعد أنْ تمت الهزيمة انعزل بعض الناس إلى مكان وقالوا : ليتنا نذهب إلى عبد الله بن أُبَى الذي يأخذ لنا أمانًا مِن أبي سفيان، انظر هؤلاء مع النبي يُصَلُّونَ معه، ولكن ظهر بعد ذلك نفاقهم وتمنى بعضهم بعد الغزوة أنْ يذهب ويأخذ أمان مِن أبى سفيان، رأس الكفر فى ذلك الوقت، وقائد الكفار فى المعركة، ظَهَر النفاق قال -جلَّ وعَلا- : {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ}, {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ........}[آل عمران:167], قال –جلَّ وعَلا- : {........هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ}[آل عمران:167], هذه صورة مِن صور ظهور النفاق علانية، كلام المنافقين علانية, {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا}, هذا قبل المعركة, {قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا}, أي كونوا مع المقاتلين فى أول الصفوف، أو ادفعوا مع النبي -صلى الله وسلم- لو كنتم أيضًا فى آخر الصفوف، { ادْفَعُوا}, لو تدافعون دفاع، ليس تهاجمون هجوم، لا تكونوا فى قلب الهجوم، ولو كنتم فى ساقة الناس، {قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ}, لو نعلم أنكم تقاتلون هذا اليوم لذهبنا معكم، لكن لايقولون لا يبدو أنه سيكون ثَم قتال فى هذا اليوم، قال عبد الله بن أُبَى لا ترجعوا بالجيش، اذهبوا، تعالوا، قاتلوا، دافعوا عن النبي -صلى الله وسلم- دافعوا عن دين الإسلام، قد جاء أهل الكفر, فقالوا لا نظن أنَّ الناس سيقاتلون اليوم, {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ}, هذا كلام يقولونه بألسنتهم، وهم يعلمون أنَّ قريش جاءت بكل غيظها وحقدها، جاءت لتأخذ ثأرها مِن بدر، وجاءوا سيقاتلون، يقاتلون؛ فهم يعلمون فى قرارة قلوبهم أنَّ قريش جاءت لتقاتل، ولم تأتى لمجرد أنْ تستعرض قوتها على مشارف المدينة ثم تعود، يعلمون هذا عِلم يقين، لكن هذا هو النفاق, {قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ}, قال -جلَّ وعَلا- : {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ}, وصلوا إلى مرحلةٍ على شفا الحد التى يكفرون بها بالنبي، ويقولون ما هو ليس رسولًا، وليس نبيا، وقد رجعنا, ولكن وصلوا إلى هذه المشارف، كذب إلى الكذب، وإلى إخفاء ما في قلوبهم، وإلى التخاذل والرجوع عن نصرة الله -تبارك وتعالى-, ونصرة رسوله، قال -جلَّ وعَلا- : {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}, {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ}, أنه لن يكون اليوم قتال، والذى فى قلوبهم إنما هو ستكون معركة وسيكون قتال، وإنما عادوا خوفًا مِن ذلك، قال -جلَّ وعَلا- : {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ}, الله -سبحانه وتعالى- أعلم بما يكتمونه ويخفونه في صدورهم.
صورة أخرى مِن صور أعمال المنافقين فى هذه الغزوة، قال -جلَّ وعَلا- {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا........}[آل عمران:168], انظر شماتة هؤلاء المنافقين فى إخوانهم الذين ماتوا, {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ}, في النفاق، قالوا لإخوانهم فى النفاق؟، وقعدوا عن نصرة النبي, {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا}, يقول لو أطاعونا يقول لك نصحنا لهم وقلنا لهم لماذا تخرجوا؟ لماذا تقتلوا أنفسكم؟ فلو جلسوا معنا ولم يخرجوا ما قتلوا فى الغزوة، هؤلاء يشمتون في هؤلاء الذين قد قُتِلُوا شهداء مع النبي -صلى الله وسلم-, {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا}.
قال -جلَّ وعَلا- : {........قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[آل عمران:168], إذا كنتم هكذا تعرفون الأسباب التي تنجي غيركم مِن القتل، وأنكم تعرفون أنَّ الإنسان إذا سار فى هذا الطريق يموت، وتتخذون الأسباب التي تخرجون بها مِن القتل، وتُقدِّمونَ النصائح لغيركم في أنه افعل كذا حتى لا تموت إذا, {فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ}, ما دام تقدِّمون هذا النصح، والوعظ لغيركم فهل تملكون أنْ تمنعوا الموت كذلك عن أنفسكم؟! كَذَبَة، منافقون، وغير مؤمنين بمقادير الله -تبارك وتعالى- وأنَّ الله إذا قَدَّرَ على عبد أنْ يموت، فسيموت في مكان ما فلن يبرحه، في يوم ما ولحظة ما ففي لحظته، ولن يغنى حَذَر مِن قَدَر، مهما أخذ الإنسان حَذَرَهُ، كل معانى الحذر ألا يصيبه ما يصيبه، فسيصيبه ما كتب الله -تبارك وتعالى- له, {وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}, قصور مُشَيَّدَة فإنَّ الموت لا بد أنْ يدخل عليك قصرك، سيجاوز الأبواب الحديدية والحوائط القوية، وسيدخل عليك في مخدعك، وفي مأمنك، فى كل المكان الذي تأمن منه سيأتيك الموت الذي تحذر، قل لو كنتم فى بروج مشيدة لأدرككم الموت إذا أراد الله -تبارك وتعالى- بكم ما أراد, {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[آل عمران:168], أي إنْ كنتم صادقين في أنه بنصائحكم تستطيعون أنْ تجنبوا غيركم القتل, {فَادْرَءُوا}, الدرء الدفع والمنع, {........ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[آل عمران:168], ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}[آل عمران:169], أي أيها الجهَّال، الأغبياء هؤلاء الذين قُتِلُوا في سبيل الله هم الذين فازوا، ولستم أنتم الذين قد قعدتم فنجوتم مِن القتل هذا ليس هو الفوز، الفوز هذا لِمَن قُتِلَ في سبيل الله, قال : {وَلا تَحْسَبَنَّ}, لا تَظُننَّ, {الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} كحال الأموات، ماتوا بمنعى أنهم انقطعوا عن أى حياة وهم في موت لا، قال -جلَّ وعَلا- : {بَلْ أَحْيَاءٌ}, بكل معانى الحياة، {عِنْدَ رَبِّهِمْ}, حياتهم عند الله وليسوا في قبورهم, {يُرْزَقُونَ}, أكلًا وشُربًا فإنما هم فى حياة أخرى غير هذه الحياة الدَّنِيَّة، الدنيئة، الحياة الدنيا بل هم حياة عند الرب، هم فى حياة عند الرب ويرزقون، يأكلون ويشربون.
هذا له تفصيل إنْ شاء الله فى الحلقة الآتية بعد أنْ أدركنا الوقت، أستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.