الخميس 24 شوّال 1445 . 2 مايو 2024

الحلقة (108) - سورة آل عمران 168-176

الحمد لله ربِّ العالمين، وأُصَلِّى وأُسَلِّم على عبدالله ورسوله الأمين، وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهديه وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الرِّب الإله الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى- : {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}[آل عمران:169], {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}[آل عمران:170], {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران:171], يبيَّن الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين في معرض ما أنزله -سبحانه وتعالى- إثر غزوة أُحُد، هذه الغزوة التي كان فيها ما كان مِن القرح، والآلام التي وقعت بالمسلمين, حيث قُتِلَ منهم سبعون، وهُزِمُوا هزيمة وقْعُهَا أليم كانت على المؤمنين، ونَجَمَ فيها نَجْمُ النفاق، وقال المنافقون فيها ما قالوا، وفعلوا فيها ما فعلوا تخذيلًا لأهل الإيمان وشماتةً بهم، كان مِن جملة هذه الشماتة أنْ قال المنافقون بعد الغزوة وقعودهم عنها قالوا : قال ­-جلَّ وعَلا- الذين قالوا هؤلاء المنافقين قال : {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا........}[آل عمران:168], قال -جلَّ وعَلا- : {........قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[آل عمران:168], أي ما دام أنكم تعرفون الأسباب التي لو فعلها غيركم لم يصبه الموت إذن ما دام أنكم تعرفون هذه الأسباب, {........فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[آل عمران:168] والحال أنَّ أحدًا لا يستطيع أنْ يدرء عن نفسه الموت، كيف يكون عنده مِن العلم ما يستطيع أنْ يدرء عن غيره الموت كَذِب، وظن أنه يمكن للإنسان بشيء مِن الحذر، وشيء مِن عدم الذهاب إلى عن مواطن الخطر نجا مِن الموت الذي كتبه الله -تبارك وتعالى- له في هذا المكان؛ فإنَّ مَن كتب الله -تبارك وتعالى- عليه موتًا لا بد أنْ يموته على الصورة والهيئة، وفى اللحظة التي كتبه الله -تبارك وتعالى- عليه، قال : {........قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[آل عمران:168].

 ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- أنَّ الفوز كل الفوز لِمَن قتل في سبيله، هذا الذى فاز فوزًا حقيقيًا، أولاً لم تَفُتْهُ مَلَذَّات، وشهوات هذه الحياة، بل انتقل الى ملذةٍ وحياةٍ أكمل منها، بل لا مقارنة بين هذه وتلك فلم يفته شيء، بل نال الفوز الحقيقي، قال -جلَّ وعَلا- : {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا........}[آل عمران:169], أي انتهى أمرهم، وفُقِدُوا، وانتهت لذتهم واستمتاعهم, قال -جلَّ وعَلا-  {بَلْ أَحْيَاءٌ}, بل، ضرب على هذا القول بأنهم أموات، قال -جلَّ وعَلا- : {........بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}[آل عمران:169], أحياءٌ عند الله -تبارك وتعالى- والعِنْدية، تعني علوهم في الجنة ومكانتهم فيها, {يُرْزَقُونَ}, رِزْق حقيقي بمعنى أنهم ليسوا في موت غافلون، ونائمون ومنقطعون عن الحياة، ليست فقط حياة روحية، بل حياة حسية، كاملة، {يُرْزَقُونَ}, يأكلون ويشربون, {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ........}[آل عمران:170], هذه كذلك حياتهم الروحية الفرح, {بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} الشهادة، درجة في الجنة، السرور، الحبور، كذلك هذه الحياة التي يحيونها, {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ}, أيضًا ليسوا منقطعين عن الأحداث، بل هم مع الأحداث كذلك ليسوا فقط يأكلون، ويشربون في جَنَّة وبستان مغلق عليهم، وانقطعوا عن أحداث الأرض، بل هم كذلك متابعون للأحداث التي تقع فهم يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم، إذا جاؤوهم يستبشرون بهم، ويسألونهم عن أهل الأرض, {........أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}[آل عمران:170], فيبشر بعضهم بعضًا عندما يأتيهم الوافد الجديد، يقوله أبشر لا خوف عليك بعد الآن؛ فهم يتولون بشارته, {........أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}[آل عمران:170] {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ.......}[آل عمران:171], دائمة، كل يوم تأتيهم نعِمَ متجددة مِن الله -تبارك وتعالى-, {وَفَضْلٍ}, جديد مِن الله؛ فهم في استمرار وزيادة دائمة للفضل المُتَنَزِّل عليهم مِن الله -تبارك وتعالى- مع فرحهم بِمَن يأتيهم مِن أهل الإيمان يقومون فورًا باستقباله والاستبشار به، قال -جلَّ وعَلا- : {.......وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران:171], الله -سبحانه وتعالى- لا يضيع أجر المؤمنين، وهؤلاء لهم أجر عظيم؛ لأنهم قتلوا، قدموا أنفسهم لله -تبارك وتعالى- فَقُتِلُوا في سبيله.

إذن من الخاسر؟ الخاسر هنا، هو الذى قعد عن الجهاد، وأن بقيت له شيء مِن الحياة لأيام أو سنوات؛ فهو الذى قد خسر، خسر أول شيء، أقل خسارة أنه لم يَفُز هذا الفوز، لم ينل هذه الدرجة، ولم ينل هذا الأجر العظيم, ثم أنه خِسِرَ بعد ذلك بسخط الله -تبارك وتعالى- باء بسخط مِن الله، باء بغضبه، باء بعقوبته -سبحانه وتعالى-, بقعوده عن نصر الدين، وقد أمره الله -تبارك وتعالى- بنصر الدين؛ إذن العقوبة تنتظره, فاته الخير وتنتظره العقوبة، وأما المؤمن فإنه مَن مات، عَجَّل الله -تبارك وتعالى- به إلى الحياة الحقيقة، إلى حياة الآخرة، يُرْزَقُ فيها، ويتنعم، فَرِح أشد الفرح بما هو فيه، وفى نعمة دائمة متجددة، وينتظر بعد ذلك دخول الجنة ودرجاتها يوم القيامة؛ إذن هذا الرابح على كل حال، وهذا الخاسر على كل حال, {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ}[آل عمران:172], هذه غزوةٌ ثانية بعد غزوة أُحُد فإنَّ النبي -صلى الله وسلم- ، المعركة كانت يوم السبت الخامس عشر مِن شهر شوال في السنة الثالثة مِن هجرة النبي -صلوات الله والسلام عليه- رَجَعَ النبي -صلى الله وسلم- إلى المدينة يوم السبت، ورجع المسلمون منكسرين يحملون هذه الآلام التي تحملوها، الآلام الحسية مِن القتل والجراحة، والآلام النفسية مِن الشعور بأنَّ الكفار كيف علوا هذا العلو! وكيف نال المسلمين ما نالهم مِن هذا الأمر! وفى يوم الأحد نادى فيهم النبي -صلوات الله والسلام عليه- أنَّ كل مَن كان في الغزوة فليتجهز وليخرجوا، ولا يخرج معهم أحد غيرهم بل فقط الذين كانوا في الغزوة، وأخبرهم بأنه سيذهب في إثر الكفار ليستأنف القتال معهم مِن جديد، وهذا أمر عظيم هائل، المسلمون في جراحاتهم, بعض البيوت قُتِلَ منها أكثر مِن رجل واحد ليس رجل، وهم في حزن وفى آلام، وكثير مِن المسلمين رجع بجراحته، هذا قد شُلَّت يده، وهذا كُسِر، والنبي ناله ما ناله فقد دخلت السهم في صِدْغِهِ -صلى الله وسلم- وكُسِرت رباعيته، والمسلمون جميعًا في آلام لكن النبي يناديهم -صلوات الله والسلام عليه- فليخرجوا، وليخرج الجميع الذين كانوا في المعركة، ومَن لم يخرج أول الأمر لا يخرج، وفى هذا الأمر مِن النبي -صلوات الله والسلام عليه- حِكَم عظيمة جدًا، أولًا حتى ينزع هذا الذي ضعضع النفوس، هذا الألم الذى ضعضع النفوس ينزعه مِن المسلمين، ويعيد فيهم الهمة والجد والنشاط، والرغبة في القتال مِن جديد، وإرادة القتال مِن جديد، وأنه مهما كان الأمر فالقتال ماضٍ، هذا أمر آخر, ثم ليُرهب الكفار ويعلم الكفار أنهم قد انتصروا ليس لأنهم استحقوا النصر بهذا؛ ولكن لأنهم وجدوا ثغرة، وجدوا غِرَّة مِن المسلمين، نفدوا مِن هذه الثغرة، وليس في كل مرة سيجدون مثل هذه الثغرة، الثغرة فقط في أنَّ الرُّماة خالفوا أمر النبي، وإلا لو ثبت الرُّماة مكانهم لما كان لهؤلاء مع كثرة عددهم شيء؛ فإنه في أول الأمر لما هجم المسلمون عليهم، وهم قلة ولووا الأدبار, فهذا أمر آخر، حتى يعلم الكفار أنَّ نصرهم الذى انتصروه لم يكن إلا حالة استثنائية ليس هو الأساس الذي ينبغي أنْ يكون، وإنْ كانوا أكثر عددًا, فكان هذا حكمة عظيمة مِن النبي -صلوات الله والسلام عليه- ثم تربية جديدة لأصحاب النبي -صلى الله وسلم-  أنْ يسيروا في هذا الأمر رغم الجراح، واستجاب كل مَن كان مع النبي -صلوات الله والسلام عليه- يوم واحد، هذه هي يوم السبت هذا الخروج إلى حمراء الأسد كان في يوم الأحد، وفى هذا تجهز المسلمون، وخرجوا في إثر الكفار إلى مكان يُسَمَّى حمراء الأسد على بعد اثنى عشر مِن المدينة, ثم عَلِمُوا أن الكفار قد فاتوهم هروبًا إلى مكة, ثم بعد ذلك الكفار لما جاوزوا المرحلة ومكثوا, راجعوا حساباتهم، قالوا: ماذا صنعنا! هل قتلنا محمد؟ ادعى بن أبى بن قميئة أنه قتل النبي -صلوات الله وسلم- وإنما كان الذي قتله هو مصعب بن عمير إذ ظنه رسول الله -صلى الله وسلم- وذهب وقال قتلت محمدًا، لم يكن عندهم يقين أنهم قد قتلوا النبي، أو قتلوا أبا بكر الصديق، أو قتلوا عمر بن الخطاب، وظنوا أنهم قد كان استئصال المسلمين أصبح قريب في متناول اليد يمكن أنْ ينالوه، ولكنهم لم يُجْهِزُوا على المسلمين، ولم يفعلوا؛ فتشاور أبو سفيان مع قوم في الأمر، وأشار بعضهم لابد أنْ يرجعوا، لابد أنْ يرجعوا ليستكملوا هذا النصر باستئصال المسلمين، واستئصال شأفتهم، وأنهم لا ينبغي أنْ يدعوا الأمر على هذا النحو بعد أنْ أصبح انتصارهم وقضائهم على الإسلام والمسلمين قريب، لكنَّ أبا سفيان كان رجلًا زكيًا، بارعًا عَلِمَ كذلك أنَّ النصر الذي قد كان في أُحُد، قد كان بثغرة، بحالة استثنائية، لم يكن الأمر بأنهم بالفعل يستحقوا النصر, فقد هُزِمُوا أول المعركة، ونالتهم الهزيمة، ولكن لما وقع هذه المخالفة وجدوا فرصة؛ فعلم أنه لا يمكن في كل معركة يخطئ المسلمون مثل هذا الخطأ، ولذلك كان رأيه ألا يرجعوا، لم يُرِد أنْ يفسد حلاوة النصر الذي حققوه، وأنه إنْ ذهب ثم بعد ذلك نالتهم نكسة وانتصر المسلمون؛ إذن سريعًا ستذهب حلاوة النصر الذي حققوه، ويكون قد دفنوا نصرهم في المدينة التي انتصروا فيها، وبسرعة في أسبوع واحد يكون قد ضاعت نشوة النصر وزهوته، وخبره الذي انتشر في كل مكان؛ فلذلك كان رأيه وهو قائد الناس ألا يرجع، لكنه فكَّر في حيلة خبيثة يَفُتُّ بها في عضد المسلمين؛ فكان ثمة وفد مِن وفد عبد القيس ذاهبين إلى المدينة للميرة فقال لهم لما عَلِمَ هجرتهم إلى المدينة قال: هل أحملكم رسالة إلى محمد؟ قالوا: ما هي؟ قال: أخبروه بأنا راجعون إليه، استئصال، قال: أخبروا محمد أنَّ أبا سفيان، وجيشه قد أعدوا العدة واستعدوا، وهم راجعون لاستئصالكم، وهذه حرب هائلة، حرب نفسية، وذلك يريد أنْ يحطم قوة أهل الإسلام، وإرادة أهل الإسلام بهذا، وينشر الرعب فيهم، فبعد ما نالهم مِن الهزيمة يصيبهم الرعب أيضًا بأنه عائدون إليهم؛ فلما جاء هذا الآتي وأخبر النبي -صلى الله وسلم- وقال له: إنَّ الناس قد جمعوا لكم، أي إنَّ أبا سفيان قد جَمَعَ جموع جديدة، وجاءه مدد جديد وهم آتون لاستئصالكم؛ فقال النبي -صلى الله وسلم- : (حسبنا الله ونعم الوكيل)، الله كافينا، نحن معنا الله -سبحانه وتعالى- وهذه كلمة قالها النبي في هذا الموطن، وقالها إبراهيم -عليه السلام- لما جَمَعُوا له ليلقوه في النار, فقال حسبي الله ونعم الوكيل، كما قال بن عباس -رضى الله عنهما- : {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}[آل عمران:173], قال : هذه الكلمة قالها إبراهيم حين أُلْقِىَ في النار، وقالها محمدًا -صلى الله عليه وسلم- عندما قال له الناس: أرسل له أبو سفيان يقول له : {........إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}[آل عمران:173], هذه الغزوة التي خرج فيها النبي -صلى الله وسلم- هي غزوة حمراء الأسد، قال -جلَّ وعَلا- : {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ........}[آل عمران:172], بعد ما أصابهم القرح والهزيمة قال لهم النبي أخرجوا اليوم الثاني، يوم الأحد, فخرجوا, قال -جلَّ وعَلا- : {........لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ}[آل عمران:172], {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ}, وهذا غاية الإحسان، أنْ يخرج الإنسان بجراحته، قد قٌتِل أخوه، قُتِلَ أبوه يخرج بعد ذلك في الغزوة يتجهز لمثلها, لحرب جديدة, {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا}, خافوا الله -تبارك وتعالى-, {أَجْرٌ عَظِيمٌ},أجر غزوة، ولم يحصل فيها قتال، لكنهم أخذوا أجر غزوة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال -جلَّ وعَلا- : {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ........}[آل عمران:172], أي في نزول النبي -صلى الله وسلم- لما خرج إلى حمراء الأسد، ومَرَّ عليه هذا المار, فقال لهم : {إِنَّ النَّاسَ}, أي أبو سفيان, {قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ}, لِيَفُتَّ في عضدهم إنهم سيرجعوا، وفرقٌ بين أنْ يخرج المسلمون لقتال قوم ذاهبين، وبين أنْ يخرجوا لقوم آتين، هذا أمر فعله أبو سفيان ليكسر نفوس المسلمين، لكن نفوس المسلمين كانت معتصمة بالله -تبارك وتعالى-, {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا........}[آل عمران:173], ازادوا إيمان بالله -تبارك وتعالى- ما زادهم هذا الأمر خوفا، وجبناً لا, {........وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}[آل عمران:173], الحسب هو الكافي، أي يكفينا الله -تبارك وتعالى- لا نحتاج مع الله، إذا كنا مع الله -تبارك وتعالى- فلا نحتاج إلى قوة أخرى، وإلى عون آخر؛ فإنَّ الله -تبارك وتعالى- يكفينا, {وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}, الوكيل، القائم بالأمر, فهو الله متوكل بكل أمور عباده -سبحانه وتعالى- فنعم هو -جل وعلا-, قال -جلَّ وعَلا- : {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ........}[آل عمران:174], أي رجعوا، انتظر النبي ثلاثة أيام في حمراء الأسد، وبعد ذلك عَلِمَ أنَّ أبا سفيان قد شدَّ رحاله وذهب مع الجيش إلى مكة, بعد أنْ جلس النبي ينتظر ثلاثة أيام في هذا المكان, ثم عَلِمَ أنَّ أبا سفيان قد فاته، وذهب، قال -جلَّ وعِلا- : {فَانْقَلَبُوا}, أي رجعوا إلى المدينة, {بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ}, نعمة وأمن, {وَفَضْلٍ}, منه نعمة مِن الله أجر، هذا الأجر العظيم بأنهم قد نالوا غزوةً جديدةً مع النبي -صلوات الله والسلام عليه- {وَفَضْلٍ}, زيادة مِن الله -تبارك وتعالى-, {لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ}, أي خرجوا في غزوة، نالوا ثواب هذه الغزوة، ورجعوا ما ضربوا فيها ضربةً بسيف، ولا أطلقوا فيها سهمًا، ولا أحد نالهم بشيء، أطلق عليهم سهم، أطلق عليهم حَجَر، ما مسهم سوء, {وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ}, أي أمره، ربنا قالهم أخرجوا الرسول يقول بأمر الله –عزَّ وجلَّ- أخرجوا فخرجوا فأخذوا رضا الله -تبارك وتعالى-, {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}, ذو تفضل الله -سبحانه وتعالى- على عباده عظيم -جلَّ وعلا- ومِن هذا ما تفضل به على هذه الفئة المؤمنة، المستنصرة بالله، المتمسكة التي هي حَوْلَ نبيه -صلوات الله والسلام عليه-, ثم قال لهم الله -تبارك وتعالى- : {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[آل عمران:175], إنما للحصر, {إِنَّمَا ذَلِكُمُ}, هذا الإرهاب وهذا التخويف، وهذه قوة الكفار وإرهابهم وفعلهم، قال لهم هذا الشيطان:  {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ}, هذه البهرجة والدعايا الكبيرة، إنما هو ركن الشيطان، فعل الشيطان, {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ}, أي يُخَوِّف بهذا الإرهاب الإرعاب, {أَوْلِيَاءَهُ}, أي أحباب الشيطان وأنصاره؛ فالأنسان إذا كان وليًا للشيطان فيُرْهَب، ويخاف مِن قوة الكفار، وأما المؤمن لا، المؤمن يعلم أنَّ كيد الشيطان ضعيف، وأنَّ الكفر مهما كان كفر، هو مع الله -تبارك وتعالى- أي قوة في الأرض لا تصنع شيئًا مع قوة الرِّب -تبارك وتعالى-, وأهل الإيمان مع الله فكيف يرهبون مثل هذا، قال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ}, أي منه، ومِن الكفار الذين هم يوالونه, {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ}, أي يخوفكم أيها المؤمنين مِن أولياءه أي مِن الكفار؛ فكأن الشيطان هو الذي حرَّك هذه الأمور، وهو يُرْسِل هذه الدعايات حتى يخوف المؤمنين مِن أولياءه مِن أنصاره، هذا معنى، وكلا المعنيين صحيح، يخوف الشيطان أولياءه من أهل النفاق، وكذلك يخوف المؤمنين يريد الشيطان أنْ يخوف المؤمنين أولياء الشيطان مِن أهل الكفر، والمؤمن لا يخاف لأنه يعلم أنَّ هذا كله مِن الشيطان، قال -جلَّ وعَلا- : {فَلا تَخَافُوهُمْ}, لا تخافوا الكفار لأنَّ هؤلاء أولياء الشيطان, {........وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[آل عمران:175], {وَخَافُونِ} الخوف الحقيقي ينبغي أنْ يكون مِن الله -تبارك وتعالى-؛ لأنَّ هو الذى يعاقب، هو الذى يُذِلُّ، هو الذي الأمر كله بيده -سبحانه وتعالى- هو الذي له العقوبة في الدنيا، والآخرة، هو الذي مقادير العباد بيده -سبحانه وتعالى- كلها بيديه -سبحانه وتعالى-, فالرب هو الذى يخاف منه، أما الشيطان، وأولياء الشيطان مِن الكفار ليس بأيديهم شيء، ولا يستطيعون أنْ ينالوا مؤمنًا إلا بأمر مِن الله، وبسماحة مِن الله، وبمشيئة مِن الله -تبارك وتعالى- فإنَّ الذى ينبغي أنْ يُخَاف هو الله، أما الشيطان وأولياءه ليس منهم لا ينبغي، ولا يجوز بتاتًا أنْ يكون منهم خوف, {........فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[آل عمران:175], أي بالله -سبحانه وتعالى-, ثم بدأ الله -تبارك وتعالى- يُسَلِّى رسوله -صلى الله عليه وسلم- الرسول أي انظر مع ما ناله، وينال أهل الإيمان، أذى مِن الكفار، ومِن عداوة، بغضاء لكن النبي يَعْلَم الحقائق، يَعْلَم المآل، يَعْلَم إنَّ النار أمر رهيب، وعقوبة عظيمة، شديدة، وأنَّ مآل هؤلاء الكفار إلى النار، ولا يريد النبي أحد أنْ يدخل النار وأنْ تصيبه هذه العقوبة؛ لذلك كان يتألم مِن كُفْرِ الكفار، لا على المشقة التي تحصل له، وللمؤمنين، ولكن على ما سينال هؤلاء الكفار، مما سينالهم مِن عقوبة الرب -تبارك وتعالى- كان يحزن لهذا، ويصيبه الحزن والغم الذى يكاد يقضى عليه، حزنًا على الكفار، حزنًا على حالهم، إنَّ مآلهم بهذا العناد، وهذا الكفر إلى النار؛ فربنا يقول له هوِّن عليك هذه مشيئة الرَّب -جلَّ وعَلا-, قال -جلَّ وعَلا- : {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[آل عمران:176], {وَلا يَحْزُنْكَ}, أي يا محمد -صلوات الله والسلام عليه- لا تحزن، الحزن وهو الألم الذى يصيب النَّفْس مِن أمر فائت, {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ}, ومعنى يسارعون فيه أي يسيرون في الكفر سيرًا حسيسًا، بسرعة، أي كُفْر بعد كُفْر، قتال لأهل الإيمان، صد عن سبيل الله، عدوان، بَذْل للمال، لإبطال كلمة الله -تبارك وتعالى- نشاط، هِمَّة جعل كل قوته مسارعة في العناد والكفر, {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ}, قال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا}, مهما بذلوا مما يبذلون فيه، ونشطوا فيه ما ينشطون فيه، ما يضروا الله -تبارك وتعالى- ضعاف، مساكين، هم في قبضة الرب -جلَّ وعلا- وهم تحت قهره لن يضروا ربنا, الله فوق الضر، مهما صنعوا بحدهم، وحديدهم؛ فلن ينالوا شيء، يضروا الله -تبارك وتعالى- {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا}, ولو شيء قليل، ولكن هذه مشيئة الرب -تبارك وتعالى-, {........يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[آل عمران:176], يريد الله -تبارك وتعالى- ألا يجعل لهم حظ أي أنصيب، في الآخرة، في الجنة، هذه إرادة الرَّب –جلَّ وعلا- الإرادة الكونية القدرية، أراد الله-تبارك وتعالى- ألا يجعل لهذا الكافر، الذى كفر بكفره، بعناده، بمسارعته في الكفر، شاء الله -تبارك وتعالى- أنْ يقع من الكفار هذا الذي يقع، ووقع هو كله بمشيئة الله، لأنَّ الله لا يريد أنْ يجعل له حظًا في الآخرة، لا يجعل له نصيب في الآخرة؛ فيجعله ينطلق في كفره، ويُسْرِع فيه بكل قواه، يدفع ماله، يصد عن سبيل الله، جهده، هَمَّه، يكد ذهنه، وفكره كل محاولة للصد عن سبيل الله، ومحاولة لإطفاء نور الله -جلَّ وعَلا- في الأرض, {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[آل عمران:176], يحرمهم مِن الجنة، ويدخلهم العذاب العظيم، وصف الله هذا العذاب، عذاب النار بأنه عظيم؛ لأنه لا أكبر ولا أعظم مِن هذا العذاب؛ لأنَّ المعذب يكون في نار، فراشٌ مَن نار، غطاءٌ مِن نار، جدرانٌ مِن نار، يأتيه الموت مِن كل مكان، يحاول أنْ يموت فلا يموت، إذن أصبح الموت هو أعظم الأماني هذا، ولا يتحقق، هذا أكبر حال بؤس، أنْ يكون الإنسان يتمنى الموت، ولا يكون بل يأتيه الموت مِن كل مكان، وما هو بميت عياذا بالله, فهذا عذاب عظيم.

أسال الله -تبارك وتعالى أن ينجينا، وإخواننا المؤمنين جميعًا مِن هذا، مِن أن ْنكون مِن أهل هذا العذاب, أستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب اللهم أعدنا إليك عودًا حميدًا، ومَسِّكْنَا بكتابك وبسنة نبيك، أستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب، والحمد لله ربِّ العالمين.