الجمعة 25 شوّال 1445 . 3 مايو 2024

الحلقة (109) - سورة آل عمران 177-180

الحمد لله ربِّ العالمين، وأُصَلِّى وأُسَلِّم على عبدالله، ورسوله الأمين، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهديه، وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- : {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[آل عمران:177], {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}[آل عمران:178], {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}[آل عمران:179], الآيات مِن سورة آل عمران، وما زال سياق الآيات في بيان هذه الحِكَم والمواعظ، والاعتبارات والدروس المستفادة مِن غزوة أُحُد.

مضى في الآية السابقة أنَّ الله -تبارك وتعالى- قد هوَّن على النبي، وقد خَفَّفَ عنه حزنه الشديد على الكفار الذين يرتكبون هذه الجرائم الكبرى في حربهم لله، وحربهم لرسوله، وأنَّ هذا مآله إلى خسارهم، ودمارهم، وكان النبي يَشُقُّ عليه, هذا إشفاقًا حتى على الكفار مما هم فيه؛ فهنا هوَّن الله عليه، وقال : {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ}, يسرعون السير فيه, {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ}, إنَّ هذه مشيئة الرَّب -تبارك وتعالى- أن الله -تبارك وتعالى- لا يريد أن يجعلهم من أهل الجنة في نهاية المطاف, {........أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[آل عمران:176], هذه إرادة الرَّب -تبارك وتعالى- ومشيئته فيهم بكفرهم وعنادهم ومسارعتهم في الصد عن سبيل الله، وحرب الله، وحرب رسوله, ثم أكد الله -تبارك وتعالى- هذا المعنى فقال : {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[آل عمران:177], {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ}, أخذوه, {بِالإِيمَانِ}, دفعوه, الإيمان الذي دفعوه لا يريدونه، وأخذوا الكفر بدلًا عنه, {لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا}, فالرَّب -تبارك وتعالى- هو الإله الرَّب المحمود بذاته الغَنِى عن كل خلقه -سبحانه وتعالى- لا يعوزه شيء، ولا يحتاج  إلى شيء، ولا يفتقر إلى شيء -سبحانه وتعالى-, ولا يضره شيء، لو كل أهل السماوات والأرض على قلب رجلٍ واحد في الكفر فإنهم لا يضروا الله تبارك وتعالى شيء، ولا يضرون إلا أنفسهم «يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضَرِّى فتضروني، ولن تبلغوا نفعى فتنفعوني» فالله -تبارك وتعالى- فوق الضر، فوق النفع، لا هو القاهر فوق عباده -سبحانه وتعالى- لا يستطيع أحد ضره -جلَّ وعَلا- فهذا الذي نأى بِنَفْسِهِ عن الإيمان، وحارب الله، وحارب رسوله، هذا ما ضر إلا نَفْسه، أمر الله نافذ، ومشيئته نافذه -سبحانه وتعالى-, ولا يستطيع أنْ يعوق شيئًا يريده الله -تبارك وتعالى- لا بد أنْ يكون ما أراد الله -تبارك وتعالى- فهذا يضر نفسه، هذا الذي يختار الكفر، ويفعله إنما يَجُرُّ الشر، والضرر إلى نفسه، وليس إلى الرَّب -جلَّ وعَلا-, {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ}, أخذوه، وهذا هو سبب عقوبتهم؛ فهم الذين أرادوا هذا الكفر وأخذوه، اشتروه، وذلك أنهم أحبوه وأرادوه، ودفعوا الإيمان عن أنفسهم لا يريدونه, {اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ}, علمًا أنَّ الإيمان في متناول اليد يستطيعون أخذه، والإيمان هذا الرسول موجود، هذه دعوة الله موجودة، هم يعلمون أنَّ هذا صِدْق ولكنهم لا يريدونه, {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[آل عمران:177], يُخْبِرُ -سبحانه وتعالى- أنَّ لهؤلاء {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}, عذاب النار عياذاً بالله, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}[آل عمران:178], هذا ظن الكافر إذا أنه يأتيه الوقت منتصر، يُمَدُّ بالمال، يُمَدُّ بالجاه, فيرى الأمر كأنه بيده، وكأنَّ المقادير تجري لإسعاده وإعزازه، قال -جلَّ وعَلا- {وَلا يَحْسَبَنَّ}, لا يظنن, {الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ}, الإملال هو الإمهال، وإطالة الحبل، إطالة الأمد، وهم يسيرون في الكفر، يكفر ويعتدي ويحارب الله، ويحارب رسوله، ومع ذلك يُمَدّ بالمال، ويظل في قوته، وينتصر بعد ذلك, فيظن أنَّ هذا أمر له، وهذا الأمر ليس لله -سبحانه وتعالى-, قال -جلَّ وعَلا- : {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ}, هذا ليس خير، إنه والله نال مالًا وجاهًا وانتصر على رسول الله، وأُمِدَّ له في الحياة مع كفره، وعناده هذا ليس خير له، {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا}, نمهلهم ولا نُعَجِّل لهم العقوبة لتزداد آثامهم, {لِيَزْدَادُوا إِثْمًا}, تكثر جرائمهم، وبالتالي يَكْثُر بكاؤهم غدا، ويَكْثُر ندمهم، وتَكْثُر عقوبتهم, {........لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}[آل عمران:178] , ذُكِرَ العذاب هنا بأنه مهين أي ذو إهانة العذاب، عذاب الله وصف بالألم، الحُقد، وشدته، نار وصف بأنه مهين، فيه إذلال؛ فإنه لا يذهب في النار هكذا على قدميه، وإنما يذهب على وجهه، يُدَعّ, {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا}[الطور:13], يُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ}, يؤخذ بناصيته، ويُلْقَى في النار، يُسْحَب مِن رجله ويُلْقَى في النار, {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ........}[القمر:48], فلا يُكْتَفَى بعذاب النار المؤلم، ولكن يُسْحَب فيها على وجهه فهذه إهانة، يُقْرع بصروف التقريع، {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}[الدخان:49], فالله يُخْبِرُ بأن َّلهم عذاب مهين أي يهانون فيه بكل صنوف الإهانات, ثم وجَّهَ الله بعد ذلك الخطاب إلى المؤمنين، مرة ثانية الخطاب إلى أهل الإيمان، وعلاج هذه القضية التي أثرت في النفوس، قضية الهزيمة يوم أُحُد، قال -جلَّ وعَلا- لأهل الإيمان : {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ........}[آل عمران:179], {مَا كَانَ اللَّهُ}, أي هذا لا يكون ولا ينبغي، ولا يمكن أنْ يستمر, {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ}, ليترك المؤمنين, {عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ}, المؤمنون والمنافقون صف واحد موجود، لا بد أنْ يتميز هذا، ولا بد أنْ يظهر أهل الإيمان على الحقيقة، وأهل النفاق؛ لأنَّ أهل النفاق كفار مستترون، مختبئون مع أهل الإيمان؛ فالله -تبارك وتعالى- يقول ليس مِن سُنَّتِهِ، ولا الشأن عنده أنْ يجعل هؤلاء المتلبسون بالإيمان ظاهرًا، وهم كفار في حقيقتهم يجعلهم مختبئين في أهل الإيمان، ولا يُمَيِّز صفهم عنهم حتى يعرفوا, {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ}, ليترك, {الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ}, مجتمعين، الكفار في وسطكم, {حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}, {حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ}, أهل النفاق, {مِنَ الطَّيِّبِ}, أهل الإيمان, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ}, أيضًا ما كان الله -تبارك وتعالى- ليطلعكم على الغيب فيوحي إليكم يقول لكم ترى فلان وفلان وفلان وفلان، هؤلاء منافقون مستترون، هذا ليس أيضًا مِن سُنَّةِ الله - تبارك وتعالى- وما هو مِن الشأن عنده؛ لأنَّ الإطلاع على الغيب، هذا لا يُطْلِعُ الله -تبارك وتعالى- عليه إلا مِن ارتضى مِن رسول، ولأمر ولحكمة يريدها الله -تبارك وتعالى-, حتى المنافقين في أول الأمر ما كان النبي يعلمهم -صلوات الله وسلم- حتى أعلمه الله، وأعلم الله النبي لذاته ليكون فيه حكمة هنا، والنبي لم يشع عِلْم المنافقين في المؤمنين جميعًا، وإنما خص به رجلًا واحدًا منهم، وهو حذيفة -رضى الله تعالى عنه- وهو كان عنده سِر النبي في هذا الأمر، وقد قال الله -تبارك وتعالى- لنبيه : {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ........}[التوبة:101], فأخبر الله -تبارك وتعالى- بأنَّ النبي ذاته -صلى الله عليه وسلم -لا يعلم أهل النفاق كلهم الذين كانوا معه, قال : {........لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ}[التوبة:101], فالرَّب -تبارك وتعالى- يقول لأهل الإيمان بأنه أراد أنْ يُظْهِرَ المنافقين أمامكم عيان، يظهروا، تأتى المحنة، تأتي الشدة في أُحُد؛ فعند ذلك لا يصبر المنافق  يذهبوا للقتال، ويُقْتَلُوا هكذا, لابد أنْ يُظْهِرُوا نفاقهم  وأنْ يقول قائلهم على ما نقتل أنفسنا، يرجعوا فيتميز الصف، يرجعوا عن القتال فيظهروا، كذلك تقع المعركة، وتقع الجراحة بعدها يخرج نفاقهم هذا يقول يا ليتنا مَن يذهب ويأخذ لنا أمان مِن أبى سفيان، والثاني يهرب إلى هنا، والثالث يهرب إلى هناك ، فعند ذلك يظهرون ويتضحون ويعرفهم أهل الإيمان هذه مواقف ضعفهم، وأما أهل الصبر واليقين عرفوا كذلك، هذا أنس بن النضر يقول لبعض الصحابة الذين فروا : أين تذهبون؟ يقولوا قُتِلَ محمد، يقول : وما تفعلون بالحياة بعده، ماذا تسوى الحياة بعد النبي -صلى الله وسلم-؟ ثم  يقول لسعد بن معاذ : الجنة وربُّ الكعبة إني لا أجد ريحها مِن دون أُحُد، ويذهب يقاتل، هذا حمزة، هذا عبدالله بن الجبير، يقول أين تذهبوا، الرسول مَسَّكَكُم هذا المكان، لا تخرجوه، لا تبرحوه، يقولون لا, الغنيمة، الغنيمة، الناس ذهبوا فيذهب؛ فعند ذلك يظهر كل أحد؛ ففي هذه الفتنة تتحدد المواقف، ويظهر أهل الإيمان على الحقيقة، أهل الكفر والنفاق يظهرون تمامًا، الذي فيه كذلك نوع مِن الضعف يظهر كذلك؛ فالله -تبارك وتعالى- يقول : {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ}, يظل الناس هكذا الصف مستتر، منافقون يعيشون مع المؤمنين، ومؤمن قوى الإيمان، ومؤمن ضعيف الإيمان، ولا يأتي ما يُمَيِّز هذا ولا ذلك؟ لا، ما يستقر هذا، ، نعم الله يعلم، يعلم هذا المؤمن على الحقيقة لكن الله لا يحاسب الناس بحسب عِلْمِهِ -سبحانه وتعالى- بل بحسب ما يظهر في هذه الدنيا، في مقام العمل يحاسب على هذا، وإلا لو كان لم تأتِ مِحَن تميز الصفوف؛ فإنه يمكن يوم القيامة إذا أراد الله -تبارك وتعالى- أنْ يُدْخِلَ هذا العبد إلى أعلى عِليين في الجنة؛ لأن الله يَعْلَم منه الإيمان الصادق مِن قلبه، وهذا واحد ثاني كان منافق لكنه مستور، يدخله النار، وهذا ضعيف الإيمان يدخله رُتبة أقل مِن رتبة ذلك يقول : لا يا رب أنا كنت معه، كنا جميعًا مع بعض، وكنا نُصَلِّى سويًا، وكنا عملنا واحد؛ فيحتج بهذا، الله لن يحاسبه عند ذلك يقول له : لا أن أعلم مِن قلبك، إنك كنت أقل إيمانًا مِن هذا، ولذلك هذا أُنْزِله هذا المنزل، وأُنْزِلك هذا المنزل يكون يحتج على الرَّب -جلَّ وعَلا- لذلك أخبر الله -تبارك وتعالى- بأنَّ هذه الدرجات التي ينالها أهل الإيمان في الجنة، والدَّرِكَات التي ينالها أهل الكفر في النار لا بد ألا ينالها مَن ينالها، لا ينزل كل إنسان منزلته إلا بظهور العمل في هذه الدنيا، والعمل هذا لا يُظْهِرُهُ إلا هذه المِحَن والابتلاءات, {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ........}[آل عمران:179], حتى يأخذ كل واحد أجره الذي يستحقه يوم القيامة هذه واحدة، وكذلك يتميز صف المؤمنين ليحذروا هؤلاء المنافقين، قد يقلدوهم المناصب، ويضعوهم في الأماكن، وهم منافقون هذا خطر على أهل الإيمان؛ فلذلك أيضًا فيه مصالح كثيرة مِن أنْ يُعْرَف المنافقون في الدنيا؛ لأنَّ هذا فيه مصالح لأهل الإيمان؛ فلذلك الله أخبر بهذا على أن هذا ليس مِن الشأن، ولا مِن الحال، ولا مِن السُّنَة عند الله -عزَّ وجلَّ-, هذه الآية عظيمة في بيان أنَّ هذا ما يمكن أنْ يكون.

 {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ........}[آل عمران:179], أي هذا لا يكون لله أبدًا كأن هذا كأنه في سُنَّةِ الله لا يكون, {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ........}[آل عمران:179], {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ}, فهو يطلعهم على الغيب أي هذا الغيب إنما هو خاص بالله -تبارك وتعالى- وهو لا يطلع الله -تبارك وتعالى- على غيبه إلا مَن شاء مِن رسله, {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ}, وسَلِّمُوا الأمر لله -تبارك وتعالى-, {........وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}[آل عمران:179], إنْ تؤمنوا بالله -تبارك وتعالى- وتتقوا الله -تبارك وتعالى- فاعلموا أنَّ لكم أجر عظيم عند الله -تبارك وتعالى-.

 ثم قال -جلَّ وعَلا- {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ.......}[آل عمران:180], الجهاد أي محقة للمال لأنه لا جهاد إلا بالمال، المال هو قوام الجهاد في سبيل الله؛ لأنَّ الجهاد هو عدة الحرب، هو زاد المجاهد، هو ظهره الذي يركب, هو الأفراس, الركاب، فلا قيام للجهاد إلا بالمال، والمال تخرج الغزوة فتَسْتَهْلِك، يُقْتَل بَشَر، تُعْقَرُ الأفراس، تذهب الأموال، تُهْلَك، وقد يكون هذا في ساعةٍ واحدةٍ في معركة واحدة يذهب هذا، وتحتاج إلى تجديد عدة مِن جديد؛ فالحرب هي أكبر باب لأخذ المال، وهي تحتاج إنفاق ولا حرب بدون نفقة في سبيل الله، وكأنَّ الله يُعُدّ الإيمان  إلى أنَّ طريق البذل طويل، وهو واسع، قال -جلَّ وعَلا- : {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ.......}[آل عمران:180], هذا تحذير مِن أنْ يبخل مسلمٌ بماله عن سبيل الله, {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ}, البخل هو الإمساك والشح, {بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}, أنْ تبخل ليس بمالك أنت, بمال الله، أي هذا مال الله الذي آتاك, {بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}, تبخل أنْ تُنْفِق مال الله الذي عندك، هو عالية الله الذي أعطاك هو -سبحانه وتعالى-, {بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}, مِن إحسانه، وجوده -سبحانه وتعالى-, {هُوَ خَيْرًا لَهُمْ}, هذا يفكرون هو خير يخزن، ويحفظ هذا المال، قال -جلَّ وعَلا- : {بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ}, بل إمساك المال هذا الزائد عن الجهاد في سبيل الله شرٌ لصاحبه.

 ثم قال -جلَّ وعلا- مبين كيف يكون شر قال : {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} طوق ويطوقون ما بخلو به الذي بخلوا به سيطوقون به يوم القيامة، ليته طوق مِن هذا الذهب، والفضة بارد, وإنما يتحول ذهبه وفضته وكنزه إلى ثعبان شجاع أقرع يقول النبي -صلى الله وسلم- « ما مِن صاحب كنز لا يؤدى زكاته إلا مُثِّلَ له كنزه يوم القيامة شجاعًا أقرع يأخذ بِلِهْزِمَتَيْه»  أي يطوقه ويرسل أنيابه إلى لِهْزِمَتَيْهِ شدقيه، كلا الشدقين, « ثم يمسكه مِن شدقيه ويقول له أنا مالك أنا كنزك», أي أنا المال الذي كنزتني في الدنيا، أنا كنزك، انظر العقوبة الشديدة فلو أنفقه وتخلص منه في الدنيا، كان خيرًا له, أما يكنزه لكي يُسَمِّن ويُقَوِّى ويُكَبِّر هذا الثعبان الذي يأخذه على هذا النحو، وفي الحديث الآخر : « ما مِن صاحب ذهب وفضة لا يؤدى زكاتهما إلا صُفِّحَت له يوم القيامة صفاح فيُحْمَى عليها في نار جهنم»,  تُصَفَّح صفائح لكي تتسع، يُحْمَى بها، أي يُحْمَى عليها في نار جهنم؛ ثم يُكْوَى بها جبينه وجنباه، وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة, ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة وإما إلى النار، هذا المسلم الذي لا يؤدي هذه الزكاة.

 وما مِن صاحب إبل لا يؤدى زكاتها إلا جيء بها يوم القيامة أوفر ما كانت لا يغادر منها فصيل، أي لا يوجد فصيل، الفصيل هو الذي انفصل عن أمه بعد الرضاعة أبو سنيتين ما يغادر، يأتي كل الإبل أكثر ما كانت أكبر عدد وصله في حياته؛ ثم يبطح لها بقاع القرحة هذا صاحب يُبْطَح لها، البطح هو أنْ يُلْقَى على بطنه بقاع قرقر، أي أرض يابسة, ثم تمر عليه تضغطه بأخفافها، وتعضه بأنيابها كل ما مرَّ عليه أُخراها، رُدَّ عليه أُوْلَاهَا فتدور عليه بأول بعير فيها إلى آخر فصيل فيها كل ما مرَّ عليه أخراها، آخر واحد، رُدُّ عليه أُوَلَاها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة؛ يُرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، وجاء في الحديث كذلك أنَّ صاحب الكنز يأتي يوم القيامة الثعبان يتبعه في المحشر، يركض وراءه؛ فيهرب منه فيقول له: تعالى، تعالى خذ كنزك، كنزك عندي، الثعبان يخاطبه يقول له: كنزك عندي، كنزكم مالك عندي، يقول النبي: فلا يجد له بُدًا مِن أنْ يرجع؛ لأنه يذهب أينما يذهب, يذهب وراءه يقول له لن أتركك كنزك عندي تعالى خذه؛ فيفتح له فمه؛ فينظر فإذا كنزه بالفعل الذي كان في الدنيا، أي سبائكه الذهبية، نقوده، أمواله موجودة في داخل بطن الثعبان، يتمثل له فيرى أنه يخلص حاله يروح يأخذ حتى يخرج كنزه ويتخلص؛ فإذا جاء إليه أدخل يده ليُخْرِج هذا الكنز، قبض على يده، وأمسك به، ويظل يأخذ بعد ذلك  بشدقيه ويقول له أنا مالك، أنا كنزك، أنا هذا الثعبان، أنا مالك، أنا كنزك , فهذه أمر عظيم فالله يقول -سبحانه وتعالى- : {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ.......}[آل عمران:180], لا يظنون أنَّ كنز المال، وادِّخَاره، وعدم إخراجه في سبيل الله، هذا خير لهم، لا {بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ}، ثم : {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}, الله هو الغَنِى –سبحانه-، كل ما في السماوات والأرض هي ملك لله، ميراث لله -تبارك وتعالى- ليس عن أحد سبق هذا، بل سُمِّى أنه ميراث إما لأنه يموت الجميع  وكل شيء، ويعود له -سبحانه وتعالى-, فهذا تشبيه لهذا بأنه ميراث، والملك ملك مَن يملك في الدنيا مُلك مؤقت، أو ميراث على أنه ملك لأنه قد يطلق الميراث على أنه مُلك، مُلك ثابت لله -تبارك وتعالى- وذلك أنه ملكه، هو الذى أنشأه، هو الذي أوجده، وهو الذي يُعْطِى منه مَن شاء أنْ يُعْطِى -سبحانه وتعالى- ما شاء, فالله له ميراث السماوات والأرض، إذن الله هو الغَنِى، فأنت عندما تُعْطِى تُعْطِى مِن مال الله -تبارك وتعالى- الذي آتاك, {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}, تحذير عظيم, {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}, أي أين تخبئ؟ وأين تخفي؟ الخبرة هي أداء العلم، أي خبير بكل عملك؛ فلا تظن أنَّ الله -تبارك وتعالى- أنك عندما تخفي هذا المال تقول والله ما عندي والله كذا، إنَّ هذا قد خفي على الرب -تبارك وتعالى-, {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.

 كانت هذه الآية هي آخر الآيات التي نزلت في سياق غزوة أُحُد، هذه الغزوة العظيمة التي وإنْ كان فيها ما فيها الألم والجراحة والمشقة التي نالت المسلمين، وأصابت الكل بما فيهم النبي -صلوات الله والسلام عليه-, فإنَّ النبي لم يُشَج، ولم يحصل له هذه الجراحة في أي وقت مِن الأوقات كما حصل هذا بل أشق يوم مَرَّ على النبي -صلى الله وسلم- هو يوم أُحُد، أشق منه يوم واحد فقط هو يوم الطائف، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما وقف على عمه حمزة، وقد مُثِّلَ به، قال: لم أقف يومًا هو أغيظ لي مِن هذا، وقالت له أم المؤمنين -رضى الله تعالى عنها- عائشة الفقيهة، العالمة، الصدِّيقة بنت الصدِّيق يا رسول الله هل مضى عليك يومُ أشد مِن يوم أُحُد فقال -صلى الله وسلم- : لقد لقيت مِن قومك ما لقيت,  كلمة النبي هذه لقد لقيت من قومك، قريش  ما لقيت، يعنى أيام طويلة من الأذى نالها النبي -صلى الله وسلم- وكان أشد ما لقيت يوم الطائف، قال أشد شيء لقيته يوم الطائف يوم عَرَضتُ نفسي على أبناء عبد  عَرَضَ النبي نفسه على أبناء عبد ياليل ، النبي -صلى الله وسلم- رسول ربِّ العالمين يعرض نفسه على أبناء عبد ياليل يقول لهم احموني، أي أنا جئت طالب حماية، ما أطلب شيء، وهذا كان شأن مِن شأن العرب، العرب كانوا يفتخرون بأنهم يجيرون المستجير، ويحمون الضعيف، ومَن التجأ إليهم أجاروه، يقولك أنا مستجير، داخل في حماك، احمني يقول له فقط احموني حتى أُبَلِّغ رسالة ربي أنا رسول مِن الله، وأطلب منكم فقط بأنكم أهل جاه، وأهل مكانة ولكم مكانة، ولكم سمعة في الجزيرة فقط أحموني حتى أُبَلِّغَ رسالة ربي، قومي آذوني، أي قريش قامت في وجهي، تمنعني مِن أنْ أُبَلِّغَ الكلمة؛ فاحموني, فيقول له واحد أنت رسول الله يقول له : لئن كنت رسول الله حقًا فأنت أكبر مِن أنْ أكلمك، وإنْ كنت كاذبًا فأنت أحقر مِن أنْ أكلمك، الله أكبر، والثاني يقول له ما وجد الله غيرك رسولًا ليرسله, والثالث يستهزئ بمثل هذا، والنبي في حال ضعف يخرج مِن مكة إلى الطائف سيرًا على الأقدام ليس عنده دابة يركبها -صلوات الله والسلام عليه-؛ ولذلك استهزأ به هؤلاء وقالوا إذا أنت رسول الله  قاله اجعله يجعل لك كنز يغنيك عن السؤال، يرسل معاك جماعة مِن الملائكة يحمونك، وخاطبوه بهذا.

 فيقول -صلى الله وسلم- فخرجت مهمومًا فلم أستفق إلا وأنا في قرن الثعالب، وقرن الثعالب هي قرن المنازل التي تسمَّى الآن قرن المنازل مكان الإحرام، الميقات الذي وقته الله -تبارك وتعالى- لأهل نجد, وهو مكان معروف الآن يقول ما استفقت إلا هناك, يقول فجلست فإذا ملك الجبال قائم أتاني جبريل فقال : إنَّ الله قد نظر إليك، وما ردَّ به  قومك عليك، وأنه قد أَرْسَلَ معي مَلَكُ الجبال؛ فمُرْهُ بما تشاء فقال مَلَكُ الجبال يقترح على النبي -صلى الله وسلم- العقوبة التي ينزلها بهؤلاء المجرمين، قال له مُرني أُطْبِق عليهم الأخشبين هذا مَلَكُ الجبال الله يرسله بإشارة ينسف جبلًا، يحطم؟؟؟؟؟؟ فقال مرني فلأطبق عليهم الأخشبين جبلي مكة أطبقها عليهم، أنهيهم؛ فقال -صلى الله وسلم- قال: أرجو أنْ يُخْرِجَ الله مِن ظهورهم مَن يعبد الله ولا يشرك به شيئًا انتظر, الشاهد أنَّ النبي -صلى الله وسلم- صبر هذا الصبر كان يوم أُحُد هو اليوم الشديد الثاني مِن أيام النبي العصيبة -صلوات الله والسلام عليه-, هذه هي الغزوة التي كانت فيها هذه الآلام الشديدة على الإسلام كانت برد وسلام ورحمة دروس عظيمة، مضى بنا ستون آية مِن آيات هذا القرآن، خطاب عظيم مِن الرب -تبارك وتعالى- مسح به الآلام، فتح أفاق عظيمة مِن البشرى والراحة والطمأنينة, جعلت مَن لم يكن في أُحُد يقول : ليتني كنت فيها، مَن لم يُسْتَشْهَد يقول ليتني لقيت الشهادة، مَن ناله شيء مِن الجراحة فَرِحَ أشد الفرح أنْ يكون قد ناله ما ناله  مِن كلام الرب العظيم في هذا الدرس الذي هو أعظم دروس الإسلام غزوة أُحُد.

أسأل الله -تبارك وتعالى- أنْ يردنا إليه ردًا جميلًا, الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على نبيه الكريم -صلى الله عليه وسلم-.