الخميس 17 شوّال 1445 . 25 أبريل 2024

الحلقة (11) - سورة البقرة 6-16

تفسير الشيخ المسجل في تلفزيون دولة الكويت

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله و رسوله الأمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

يقول الله –تبارك وتعالى- {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[البقرة:6] {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[البقرة:7]، هذا بيان من الله –تبارك وتعالى- لحال القسم الثاني من أقسام الناس بإزاء هذا القرآن، وهذه الرسالة التي أرسل بها النبي محمد –صلوات الله وسلامه عليه- وهم الذين كفروا، قال –جل وعلا- مؤكدًا {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[البقرة:6] الكفر أصله في لغة العرب هو الستر والتغطية، كفر الشيء بمعنى غطاه وستره، ومنه تسمي العرب الزراع الكفار، من باب أنهم يكفرون الحب، يعني يضعون الحب البذر في الأرض ويسترونه بالتربة، كمثل غيث ومنه  قول الله {كمثل غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ}، يعني الكفار هنا يعني الزراع نباته، أما في الكفر في لغة القرآن، وفي كلام النبي –صلوات الله وسلامه عليه- يعني بالمعنى الشرعي، هو جحد ورد وتغطية أدلة الإيمان، وإظهار التكذيب بها، مع وضوح الصدق في القلب، يعني التبين أن يتبين للشخص أنّ كلام الله حق، وأنّ وعده ووعيده حق، ولكنه يكذب بذلك، يكذب بذلك ظاهرًا، ولكن في حقيقة قلبه أنّ هذا حق، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا}، يعني أظهروا التكذيب والرد وكفروا أدلة الدين، بعد ما تبين لهم الحق وظهر في قلوبهم، قال –تبارك وتعالى- {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}، {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ}، الإنذار هو الإخبار بما يسوء، وضده التبشير، فالبشرى هي الإخبار بما يسر، والإنذار هو الإخبار بما يسوء، فأخبر –سبحانه وتعالى- أنّ حال هؤلاء الكفار سواء، يعني يستوي عندهم الإنذار وعدم الإنذار، فإذا أنذرتهم خوفتهم عقوبة الله –تبارك وتعالى- على كفرهم هذا وتركهم للدين، أو لم تخوفهم تركتهم، فإنهم لا يؤمنون، أي أنّهم محجوبون عن الإيمان، ثم بين الله –تبارك وتعالى- السبب في أنهم لا يؤمنون لماذا لم يؤمنوا ! قال –جل وعلا- {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}، الختم بمعنى ... الختم يوضع كعلامة على أمر يقفل ثم يختم عليه، يعني هذا علامة على أنّ القفل هذا لا يفتحه إلا من مهره، وخته بهذا الخاتم، فختم الله على قلوبهم، بمعنى أنه أغلقها وطبع عليها بخاتمه؛ خاتم الغلق هذا، (وبالتالي) فلا يمكن أن يفتح القلب ليتقبل يعني الإيمان، {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}، والقلب هو محل الفهم والعلم، كما قال –تبارك وتعالى- {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} ، وقال {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}، فالقلب هو محل الفهم والعقل، فهذا القلب الذي هو محل الفهم والعقل أخبر الله –تبارك وتعالى- أنه مغلق ومختوم عليه، كالصندوق الذي يقفل ثم يختم عليه فلا يفتح، أو لا يفتحه إلا من يعني ختمه بهذا الخاتم، وكذلك على سمعهم، يعني ختم الله –عز وجل- على سمعهم بمعنى أغلق أسماعهم أن تسمع يعني هذا الحق، وختم عليها –سبحانه وتعالى- ثم قال {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ}، البصر معروف هو العين، والغشاوة هي الغطاء، غطاء يغطيها، فعلى بصره غشاوة، يعني أنزل الله –تبارك وتعالى- غطاء يحجب أبصارهم عن رؤية الحق.

{وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، مآلهم ونهايتهم أنّ الله –تبارك وتعالى- جعل لهم عذابًا عظيمًا، (والسؤال) لما فعل الله –تبارك وتعالى- بهم هذا! بين الله –تبارك وتعالى- أنه بسبب الكفر، أي أنهم لما كفروا؛ ظهر لهم حقيقة الدين، وحقيقة الإيمان، وعلموا أنّ الرسول حق، وأنّ هذا دين الله حق، وأنّ القرآن حق، ثم كفروا هذه الأدلة؛ فإنّ الله عاقبهم هذه العقوبة، فلا تصبح للهداية بعد ذلك منفذ إليهم، لا هذه الحواس البصر والسمع التي هي منافذ إلى العلم والمعرفة، ولا القلب الذي هو وعاء العقل، فإنّ كل منفذ للمعرفة قد أغلق عليهم، وكذلك ألة الفهم وألة العقل قد أغلقت عليهم كذلك، وقد فعل الله –تبارك وتعالى- بهم هذا؛ عقوبة منه –جل وعلا- بسبب كفرهم، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[البقرة:6]، {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[البقرة:7]، هذه وطوى الله –تبارك وتعالى- صفحة هؤلاء مبينًا أنه عاقبهم هذه العقوبة بسبب كفرهم وعنادهم.

ثم شرع الله –تبارك وتعالى- في بيان القسم الثالث، وهذا القسم هو من جنس القسم الثاني، هم كفار؛ ولكنهم متلونون، يظهرون الإيمان ويظهرون التصديق، ولكنهم يبطنون الكفر في أنفسهم، مع كذلك بيان أنه هو حق، ولكنهم يعني قد أبطنوا كذلك التكذيب ورد هذا الحق، قال –جل وعلا- {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}[البقرة:8]، يعني ومن الناس ناسًا؛ بعض الناس، الناس هذا اسم جمع في اللغة لا مفرد له من لفظه، وهو يطلق على البشر، أما أصله هل من النوس؟ أم أصله من أنس؟ أي من الأنس، وذلك أنّ البشر يأنس بعضهم لبعض، من الناس الناس البشر ناسًا منهم من يقول آمنا بالله وباليوم والأخر، منه من يقول أي باللسان، ولكنه مجرد قول.

{آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ} ، وهذا هو يعني الشهادة المطلوب من العبد أن يشهد بها، بلسانه وبقلبه، ولكنهم يقولون هذا القول بألسنتهم فقط، آمنا بالله إيمان بمعناه الذي هو صدقنا به كما أخبر عن نفسه –سبحانه وتعالى- ونعمل بمقتضى هذا التصديق، لكنهم كاذبون فيها، وباليوم الأخر؛ اليوم الأخر يوم القيامة، وسمي باليوم الأخر لأنه نهاية المطاف، هو اليوم الذي هو نهاية مطاف يعني الإنسان، وآخر مراحل عمره، وفيه يتحدد مصير الناس إما إلى الجنة وإما إلى النار، قال –جل وعلا- مخبرًا عنهم {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}، نفى الله –تبارك وتعالى- عنهم الإيمان، وبين أنهم كاذبون في هذا الإدعاء الذي قالوه.

ثم بين الله –تبارك وتعالى- السبب، يعني سببهم في هذا، {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}[البقرة:9]، الخداع المخاتلة إظهار ما لا يبطنون، وفي ظنهم أنهم يخادعون الله، والحال أنّ الله لا يخدع – سبحانه وتعالى- لأنّ الله هو العليم بعباده –سبحانه وتعالى- العزيز القوي القاهر الذي لا يقهره أحد، ولا يغلبه أحد –سبحانه وتعالى- لكن هؤلاء يعني الأغبياء الضعفاء المهازيل، يظنون أنهم بهذا العمل ينطلي الأمر على الله –سبحانه وتعالى- وأنّ الله من جنس يعني المخلوقين، ممكن أن يخادعوا المخلوقين، فيخادعون الله –تبارك وتعالى- كما يخادعون الخلق، {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا}، أي كذلك يخادعون أهل الإيمان، فيظهرون لهم هذا ليخدعوهم، وينالوا مآربهم من إظهار الإيمان، في أن يعيشوا بين المؤمنين آمنين، يتزوجوا منهم، يطلعوا على عوراتهم، يأمنوا على أموالهم، لا يحاربهم أهل الإيمان ليصلوا إلى مرادهم، والحال أنهم على غير الدين، وعلى غير الملة، ويستطيعون أن تكون لهم يدٌ مع أعداء أهل الإسلام، كما سيأتي في أحوال المنافقين مع أهل الإيمان، قال –جل وعلا- وما يخدعون إلا أنفسهم على الحقيقة، لأن مغبة ومآل وعاقبة هذا الخداع منهم لله وللمؤمنين سيعود عليهم، فالعود بالخسران إنما هو عليهم لا على الله –تبارك وتعالى- ولا على المؤمنين، قال –جل وعلا- {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ} يعني في الحقيقة، {وَمَا يَشْعُرُونَ}، لكنهم لا يشعرون بهذا الذي يصنعون، ويشعرون بالمآل الذي سيئولون إليه، وذلك من جهلهم وفساد قلوبهم، من فساد قلوبهم ومن جهلهم، ظنوا أنّ خدعتهم تنطلي على الله –تبارك وتعالى- وتنطلي على عباده المؤمنين، والحال ليس كذلك.

قال –جلا وعلا- {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}، هذا الذي أوصلهم إلى هذا الأمر، إنه في قلوبهم مرض، المرض هو هذا، المرض ضعف، حالة تذدري الإنسان، والمرض مرضان؛ مرض حسي بدني، ومرض نفسي قلبي، فا المرض الحسي البدني معروف، كالضعف والفتور والعلل والأسقام التي تصيب البدن، وأما المرض النفسي كذلك فمعروف، مرض القلب مرض يكون بشهوة، ميله إلى شهوة محرمة، وكذلك قد يكون بشبهة، تعلقه بالظنون والأوهام، رؤيته للأمر على غير حقيقته، فهذا من سُقم قلبه ومن مرض قلبه، فهؤلاء في قلوبهم مرض، فالذي يظن أنه يخدع الله ويخدع المؤمنين وأنّ العاقبة كلها مع كذبه على الله –تبارك وتعالى- وعلى عباده المؤمنين لا شك أنه مريض القلب؛ سقيم.

قال –جل وعلا- {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا}، أي بضلالهم هذا وإنحرافهم فإنّ الله –تبارك وتعالى- زادهم مرض على مرضهم، فأصبح بعد ذلك يزداد الأمر، يخيل لهم أنهم يعني على هدى، وعلى... وهم أهل الحق، وأنّ الريح لهم، وأنّ المآل لهم، وأنهم هم يعني الفطنون، وهم الأذكياء، وهم الذين سيكون لهم المآل، والحال أنّ الخسران كله يعني سيلحق بهم، قال –جل وعلا- {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا}.

قال –جل وعلا- {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}، لهم عند الله –تبارك وتعالى- عذابٌ أليم، عذابٌ مؤلم، ثم أخبر –تبارك وتعالى- أن هذا بسبب كذبهم، قال بما كانوا يكذبون، أي بسبب كذبهم، فالكذب الذي قالوه هو أنهم أظهروا يعني الإسلام، والحقيقة أنهم ليسوا بمسلمين، وليسوا بمؤمنين.

ثم قال –جلا وعلا- في وصفهم {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}[البقرة:11]، وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض، الفساد ضد الصلاح، وإفسادهم في الأرض بهذا الكذب والتلون، وكونهم مع الكفار في الحقيقة، ولكن يظهرون أنهم مع أهل الإيمان في الظاهر، وسعيهم في إيقاف عجلة الدين، وفي الصد عن سبيل الله بأعمالهم هذا، لا تفسدوا في الأرض على هذا النحو، لأنّ هذا إفسادٌ في الأرض، {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}، وصفوا أعمالهم وطريقتهم التي يعني ساروا فيها هنا بأنّ هذا هو الإصلاح، {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}.

قال –جل وعلا- {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ}[البقرة:12]، ألا الإعلامية؛ إنهم تأكيد هم المفسدون، ولكن لا يشعرون، وجمع يعني الأمر وحصر الفساد فيهم وحدهم، ألا إنهم هم المفسدون، هذه صيغة من صيغ الحصر كأنه لا مفسد في الأرض إلا هؤلاء، وذلك أنهم جمعوا بين الكفر الذي هو الفساد كله، وبين الكذب على عباد الله المؤمنين، وهو كذلك فساد على فساد، فقد جمعوا كل أنواع الفساد، ألا إنهم هم المفسدون على الحقيقة، لا فساد أكبر من هذا، فهم الذين جمعوا كل أسباب الفساد، ولكن لا يشعرون، ولكنهم مع هذا فهم لا يشعرون بحقيقة الدور، وبحقيقة قيامهم بهذا الأمر الذي يقومون به.

ثم قال –جل وعلا- {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ}[البقرة:13]، إذا قيل لهم؛ قال لهم أهل الإيمان آمنوا كما آمن الناس، آمنوا يعني بقلوبكم، كما آمن الناس، الناس من ينبغي أن يسموا بالناس على الحقيقة كأبي بكر وعمر، وسائر أهل الحجى والعقل من الناس، أدخلوا في الإيمان كهؤلاء، وأول ما ظهر النفاق ظهر في المدينة، وظهر بعد غزوة بدر، وكان عامة الناس الذين هم أهل البصيرة والرأي والعلم والحجى قد آمنوا بالنبي –صلوات الله وسلامه عليه- فإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس، هذه وجوه الناس، وهذه حكمائهم، وعقلائهم، وأهل الرأي فيهم، قد آمنوا، فاتخذوا سبيل أهل الحجى، وسبيل أهل الحق، وعامة الناس قد دخلوا في هذا الدين، {آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ}، يعني ظنوا في أنفسهم العقل ورجاحته، وأنهم لا يمكن أن يتبعوا هذا الطريق، ووصفوا الذين آمنوا واتبعوا الحق بأنهم السفهاء، أصل السفه هو الخفة والطيش، يعني كأنهم يعني أربئوا بأنفسهم أن يتبعوا طريق هؤلاء، الذين وصفوهم بأنهم أهل سفه، وأهل خفة وطيش، الذين اتبعوا النبي –صلوات الله وسلامه عليه-، قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء، قال –جلا وعلا- ألا أي اعلموا إنهم هم السفاء، إنهم هؤلاء الذين يفعلون هذا الفعل هو السفيه الطائش، الذي لا لب له ولا عقل له ، ولكن لا يعلمون، ولكن لا علم لهم في حقيقة أمرهم، وذلك أنّ الذي سار هذا الطريق؛ مآله إلى الخسران في الدنيا والآخرة، فقد كتب الله –تبارك وتعالى- لأهل النفاق الخسارة في الدنيا والآخرة، لابد أن يخسروا، فإذن هو السفيه على الحقيقة، فالذي كون مآله إلى الخسران في الدنيا والأخرة، هذا فلا شك أنه هو السفيه على الحقيقة، {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ}، لكن انتفى العلم عنهم، لأنهم لا يعلمون حقيقة أنفسهم.

ثم قال –جل وعلا- {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا}، انظر إلى نفوسهم المريضة، وتلونهم وخبثهم، {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا}، إذا التقوا مع أهل الإيمان في طريق، أو في مجلس، قالوا آمنا أعلنوا إيمانهم، ضعف وجبن وخوف منهم، وعدم شجاعة في إظهار حقيقة معتقدهم وحقيقة ما يقولون، قالوا آمنا.

{وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ}، خلوا أصبحوا بمعزل عن أهل الإيمان، وإلى شياطينهم، شياطينهم جمع شيطان؛ والشيطان في لغة العرب هو المتمرد، العرب تسمي المتمرد من أي جنس من الإنس أو الجن أو الحيوان تسميه شيطان، فمتمردوا الجن شياطين، وغير متمرديهم من أهل الإيمان يسمونهم مؤمن الجن، ومتمرد الإنس كذلك الذي فيه يعني صفة التمرد والكفر والعناد شيطان كما هنا، وقال الله –تبارك وتعالى- {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}، وقال {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}[الناس:1] {مَلِكِ النَّاسِ}[الناس:2] {إِلَهِ النَّاسِ}[الناس:3] {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ}[الناس:4] {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ}[الناس:5] {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}[الناس:6]، فهذا الموسوس شيطان يكون من الجنة ويكون من الناس كذلك، فمن الناس شياطين، وجاء وصف العرب يعني الحيوان المتمرد بأنه شيطان، كما قال عمر بن الخطاب لما ركب يومًا على برزون فهملج به، فقال إنما أركبتموني على شيطان، يعني أنه متمرد، وذلك أنه كان قد عُلَّم الرقص، بيرقص براكبه، وأيضًا فُسر به حديث النبي –صلوات الله وسلامه عليه- «الكلب الأسود شيطان»، يعني أنه من جنس الكلاب متمرد، الذي يكون لونه أسود ليس فيه إشارة، فيكون يعني أكثر شيطنة عن بقية يعني الكلاب، {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ}، يعني روؤسهم في الكفر والمروق والعناد، وأهل الوسوسة منهم، والداعون إلى هذا الطريق من اللف والدوران.

{وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}، قالوا لأساتذتهم هؤلاء في الشر إنا نحن معكم، {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}، يعني إذا عوتبوا وقيل لهم إنكم أعلنتم إيمانكم عند أهل الإيمان، قالوا لا نحن معكم، يقولوا لشياطينهم؛ والشياطين هؤلاء قد يكونوا من روؤس اليهود، قد يكونوا ممن يوحون إليهم بهذا، وقد يكونوا من روؤس النفاق الكبار كعبد الله بن أبي وغيره، {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}، يعني عندما قولنا لأهل الإيمان إننا معكم مؤمنون، فإننا نستهزئ بهم، يعني صدر هذا القول منا على جهة الإستهزاء بأهل الإيمان.

قال –جل وعلا- {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}، الله اسم الجلالة؛ اسم علم على ذات الرب –تبارك وتعالى- الإله العظيم –جل وعلا- هو يستهزئ بهم، يستهزئ بهم عقوبة لهم –سبحانه وتعالى-، والإستهزاء بهم يكون بصور كثيرة من العقوبات في الدنيا والآخرة، فمن العقوبات في الدنيا أن يؤملوا وأن يمهلوا، ثم يقسم الله –تبارك وتعالى- ظهورهم، إذا فضح أمرهم، إذا نشر مخازيهم، وفي الآخرة يكون صور عظيمة جدًا من صور العذاب الخاصة بأهل النفاق، منها أنهم مثلًا إذا دعوا إلى السجود يوم القيامة وهم مع المؤمنين، فيعود ظهر المنافق طبقًا واحدًا، {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ}[القلم:42]، {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ}، يعرفوا هؤلاء المنافقون، كما قال النبي وهذه الأمة وفيها منافقوها، ثم يكون ظهور المنافقون على هذا النحو، كذلك في الطريق إلى الجنة، المؤمنون وهم في الطريق إلى الجنة يعطي الله –تبارك وتعالى- كل مؤمن نوره معه، يوم يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم، فيأتي المنافق يرى نفسه ما عنده نور، فيقول من أين نلتم نوركم هذا، فتقول لهم الملائكة ارجعوا ورائكم فالتمسوا نورا، يوجد نور في الخلف فيرجعوا، فإذا رجعوا وإنفصل هؤلاء المنافقون انفصل المنافقون عن كل المؤمنين، فيضرب رأسًا سور بينهم، يفصل بين أهل الإيمان يصبحوا في ناحية، وأهل النفاق في ناحية أخرى خارج هذا السور، كما قال –تبارك وتعالى- {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ}، {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} ماكنا معكم يعني في الدنيا، وكنا معكم الآن في الطريق إلى الجنة، قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وغرتكم الأماني حتى جاء الحق، حتى جاء أمر الله، وغركم بالله الغرور، {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[الحديد:15]، فهذه صورة من صور استهزاء الله –تبارك وتعالى- بهم يوم القيامة، أنه يصنع بهم على هذا النحو، يظنون أنهم يعني كما خفي أمرهم في الدنيا، يعني على أهل الإيمان وكانوا معهم، يتزوجون منهم، ويطلعون على أسرارهم، ويعيشون معهم، ويعاملهم المسلمون على أنهم مسلمين، فيسلمون عليهم، ويعطونهم حقوق المسلم، فيظن أنه كما انطلى يعني الأمر على المؤمنين في الدنيا، والحال أنّ هؤلاء منافقون كفار، وفي الآخرة فالله –تبارك وتعالى- يصنع بهم هذا الصنيع، يسيرون كذلك في الطريق إلى الجنة، ثم يحال بينهم بهذه الصورة التي يكون فيها نوع من الاستهزاء بهم.

فقال –تبارك وتعالى- {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}[البقرة:15]، يمدهم الإمداد هو الإمهال، يعني يطيل لهم في الحبل، فيسير في الغي، عندما يرى أنه لا عقوبة في الدنيا، وأنه يعيش مع المؤمنين، وأنه مع كذبه عليهم، وإظهاره أنه مؤمن، لكن هو في الحقيقة كافر، لكنه يعيش مع المؤمنين آمن مطمئن، ولا يعاملونه معاملة الكافر الخارج عنهم، فيظن أنّ هذا قد خفي الأمر، يعني عليهم وعلى الرب الإله –سبحانه وتعالى-، الله –عز وجل- {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}، العمه هو العمى الكامل، فالأعمه هو الذي يولد أعمى، لم يرَ شيئًا في حياته، وهذا يكون أشد في العمى، غير الذي كان في فترة من حياته مبصرًا، ثم عمي بعد ذلك، فإنه إذا وصف له الأمر مما كان قد رأه في الدنيا، يعرف الألوان، يعرف البحر، يعرف السماء، يعرف الشمس، يعرف القمر، فإذا ذكرت له أسماء هذه الموجودات المرئيات التي كان رائها يعرفها، أما الذي ولد أعمى لم يرى شيئًا من هذه الدنيا، فإنه مهما ذكر له شئ لا يستطيع أن يتصورها على حقيقتها هذا الأعمى، يعمهون يعني أنهم يعمون عماية كلية، كالذي ولد أعمى لا يعرف الحق.

قال الله –جل وعلا- {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}[البقرة:15]، ثم قال –جل وعلا- أولئك يعني هؤلاء الموصوفون بهذه الصفة، وهنا الإشارة بالبعيد تحقيرًا لهم، الإشارة بالبعيد إما تأتي للتعظيم والإشادة، وإما تأتي للتحقير والإبعاد، أولئك يعني البعداء، الذين اشتروا الضلالة بالهدى، اشترى بمعنى استبدل، يعني شراء استبدال، الذي أخذه هو الضلالة، هؤلاء المنافقون أخذوا الضلالة، وباعوا الهدى، يعني الهدى باعوه، بعد أن كان في أيديهم، فقد وُضع بين أيديهم الهداية، وجاءهم نبي بالهداية، لكنهم استغنوا عنها وأخذوا الضلالة، فاشتروا الضلالة بالهدى.

فقال –جل وعلا- {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ}، فالإنسان الذي باع الهدى واشترى الضلالة؛ تجارته خاسرة، فما ربحت تجارتهم على هذه الصورة، وما كانوا مهتدين، ليسوا على هدى كما يظنون أنفسهم، بل هم الخاسرون، وهم الذين في الضلال.

هذه أوصاف أهل النفاق، وقد طال الوصف فيه لأنهم متلونون، عكس الكفار، الكفار جاء وصفهم في آيتين، لأنها صريحة، وأما هؤلاء متلونون، ثم يأتي الله –تبارك وتعالى- بعد ذلك بضرب الأمثال لهم، وهذا موضوعه إن شاء الله في الحلقة الآتية.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، و صلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.