الحمد لله ربِّ العالمين، وأُصَلِّى وأُسَلِّم على عبدالله ورسوله الأمين، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهديه، وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- : {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}[آل عمران:181], {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}[آل عمران:182], {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[آل عمران:183], {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ}[آل عمران:184], يُخْبِرُ -سبحانه وتعالى- عن مقالة أخرى فاجرة مِن مقالة اليهود لعنهم الله، وذلك بقول مَن قال منهم إنَّ الله فقير ونحن أغنياء، قيل إنَّ السبب في مقالتهم هذه ما سمعوه مِن القرآن الكريم مِن أنَّ الله -تبارك وتعالى- عندما طلب مِن عباده الإنفاق في سبيله طلبه أحيانًا على صورة القرض لقوله –سبحانه وتعالى- : {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[البقرة:245], وطلب الله -تبارك وتعالى- مِن عباده أنْ ينفقوا في سبيله، طلب الله ذلك على صورة القرض أنه قرض لله، كأنَّ الله هو المقترض -سبحانه وتعالى-, وهو الرَّب الإله الغَنِى عن عباده -سبحانه وتعالى-, ولكنه خاطبهم بهذا الأسلوب الرحيم؛ ليحثهم على الإنفاق في سبيله، وأنَّ مالهم الذي ينفقونه كأنهم يعطونه لله على صورة القرض، هو مقترض ويتعهد الرَّب -تبارك وتعالى- بأنْ يَرُدَّ هذا لعباده حال كونه أضعافًا كثيرة، هذا الأسلوب الرحيم مِن الرِّب -تبارك وتعالى- لعباده الذي فيه رحمة بعباده وإحسان لهم، وحث لهم أنْ ينفقوا المال في سبيله، وأنه هو الذي يأخذه، وهو الذي يقترضه منهم، وهو الغنى، وهو الذى سيعطيهم عليه أضعافًا كثيرة، استهزأ اليهود -لعنة الله عليهم- بهذا الأسلوب الرَّحيم مِن الرَّب الكريم لعباده المؤمنين -سبحانه وتعالى-, وقالوا إنَّ الله يطلب القرض إذن فهو فقير ونحن أغنياء, عندنا أموال كثيرة لا نطلب القرض.
فقال -جلَّ وعَلا- : {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ........}[آل عمران:181], وقول الله : {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ}, تهديد، أي أيها المجرم مقالتك قد سمعها الرَّب الإله -سبحانه وتعالى-, {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ}, أي يطلب القرض, {وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ}, أي أننا مستغنون بما عندنا مِن الأموال، قال -جلَّ وعَلا- : {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا}, بعد سمع الله -تبارك وتعالى-, {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا}, يكتب الله -تبارك وتعالي- ذلك في صحائفهم، وقد أخبر -سبحانه وتعالى- أنَّ الإنسان لا يلفظ مِن قول إلا لديه رقيب عتيد، وكل ما يفعله العباد مزبور فى هذه الكتب, {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ}, أي أننا سنكتب ذلك، وذلك أنَّ هؤلاء المجرمين هم على دين أسلافهم في الإجرام، وفي قتل الأنبياء, {وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ}, ولا يُقْتَلُ نبي بحق، لكن قول الله, {بِغَيْرِ حَقٍّ}, مما يدل على أنهم معتدون، ظالمون، يعلمون أنهم مِن أهل العدوان, {........وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}[آل عمران:181], يوم القيامة، ذوقوه؛ قاسوه، {عَذَابَ الْحَرِيقِ}, عذاب النار التي تشتعل في قلوبهم، وتَطَّلِعُ على أفئدتهم، {ذَلِكَ}, هذا الجزاء والعذاب الذي يعذبهم الله -تبارك وتعالى- به يوم القيامة، قال -جلَّ وعَلا- : {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}, مِن الكفر, {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}, أي بما سلف منكم وفعلتموه، ولما كانت اليد أعظم كاسب، نسب الكسب كله إلى اليد, {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}, وإنْ كان بعض هذا قد قالوه بألسنتهم, {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}[آل عمران:182], الله لا يظلم أحدًا -سبحانه وتعالى- لا يظلم عباده وإنما يُجَازِى كل إنسان بما فعل، وهؤلاء قد فعلوا الإجرام، هذا الإجرام الذي استحقوا عليه هذه العقوبة التي ذكرها الله -تبارك وتعالى-, {........وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}[آل عمران:181].
ثم جريمةٌ أخرى مِن جرائم هؤلاء اليهود، قال : {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ........}[آل عمران:183], هؤلاء السخفاء، المعاندون، الذين دُعُوا إلى الإيمان بمحمد -صلى الله وسلم- والإيمان بالدخول في الإسلام، قالوا معتذرين أو قالوا متكبرين : {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ........}[آل عمران:183], أي يا محمد إنْ كنت تستطيع أنْ تأتينا بقُربان، القربان هو ما يَتَقَرَّب به العبد إلى الله -عزَّ وجلَّ- تنزل نار مِن السماء فتحرقه كما كان الشأن فى الأمم السابقة، كان العبد المؤمن إذا تقرب بقربان تأتى نار مِن السماء تأخذه، وتحرقه, فقالوا نحن لا نؤمن لرسول قد عهد الله إلينا بمعنى أنه أخذ ميثاقه علينا، أو أعلمنا في السابق وأرشدنا إلى ألا نؤمن لرسول، أنه لا نؤمن لرسول حتى نعلم صدقه، أو آية صدقه أنْ يأتينا بقربان تأكله النار، قال -جلَّ وعَلا- : {........قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[آل عمران:183], والحال أنَّ هؤلاء كَذَبَة، مفترون؛ فإنَّ الرسول الصادق يؤيده الله -تبارك وتعالى- بالبراهين والبينات، محمدٌ -صلوات الله والسلام عليه- رسول أمين، صادق، يعلمون صِدقه وأمانته، وقد أيده الله -تبارك وتعالى- بآلاف الأدلة التي تدل على صدقه منها هذا القرآن المنزل، منها الغيوب العظيمة التي أخبر بها، ومنها ما أخبرهم به مِن الغيوب السابقة التي في كتبهم، بل نشر فضائحهم وما كانوا يخفونه مِن الكتاب, {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ}[المائدة:15], {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[المائدة:16], فهذا رسول مؤيد بهذه المعجزات، ثم ما أجرى الله -تبارك وتعالى- على يديه مِن المعجزات العظيمة، انشقاق القمر، نصره في بَدْر -صلوات الله والسلام عليه-, نبع الماء مِن بين أصابعه، الطعام القليل ليكون كثيرًا، إخباره بالغيوب الإضافية، هذا أمر وكل ما يحتف حوله مِن أدلة الصِّدْق -صلوات الله والسلام عليه-, قولهم أنَّ الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار مِن إفترائهم، ومِن كذبهم على الله -تبارك وتعالى-, بل إنهم قد أُمِرُوا نصًا في كتبهم أنْ يؤمنوا بالنبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- الذي بعثه الله -تبارك وتعالى- مُصَدِّقًا لما عندهم في التوراة والإنجيل، لذلك بيَّن الله -تبارك وتعالى- أنهم ما قالوا هذا إلا كفرًا وعنادًا، قال : {قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ}, الأدلة الواضحات, {وَبِالَّذِي قُلْتُمْ}, وأيضًا جاءوا بهذا الأمر، وهو القرابين التي تأكلها النار, {........فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[آل عمران:183], لم قتلتموهم، وذلك خاطب هؤلاء وإنْ كان القاتل أي الذين قتلوهم هم آبائهم وذلك أنهم على دين هؤلاء، على دين هؤلاء المتمردين، الكافرين, فلما كانوا على ملتهم، وعلى منهجهم مقرون لهم, خوطبوا بهذا الأمر أنهم كانوا على ذلك أي كان أسلافهم، ومَن أنتم على شاكلتهم، كانوا على هذا النحو, {........فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[آل عمران:183], أي صادقين في أنكم مُنَفِّذُونَ أو ستنفذون عهد الله -تبارك وتعالى- بأنه إنْ جاءكم رسول، وأتى بقربان تأكله النار كان هذا دليلًا عندكم على صدقه؛ فتؤمنون به، قال -جلَّ وعَلا- : {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ}[آل عمران:184], هذا تسلية مِن الله -تبارك وتعالى- لعبده ورسوله محمد -صلى الله وسلم- وأنَّ هؤلاء معاندون، مُكذِّبون، وأنَّ شأنه في تكذيب المعاندين كشأن إخوانه مِن الرسل السابقين, {فَإِنْ كَذَّبُوكَ}, أي يا رسولنا، يا محمد -صلوات الله والسلام عليه-, {فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ}, رُسُل كثيرون كُذِّبُوا آخر هؤلاء الرسل الذين كُذِّبُوا؛ كَذَّبهم بنو إسرائيل هو عيسى بن مريم -عليه السلام-, {مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ}, الأدلة الواضحات، أكثر مِن عيسى نبى مِن أنبياء بنى إسرائيل قد أجرى الله عليه الأدلة العظيمة، والبينات الكبيرة، والمعجزات الباهرة, {وَالزُّبُرِ}, الكتاب المزبور, {وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ}, الكتاب المنير الواضح الذى فيه نور واضح، بيِّن يضئ ما حوله، ويضع ضوئه على كل الأشياء فيفرق بين الحق والباطل, والهُدى والضلال, ثم هو واضح بيِّن لكل ذى عينين، وكذلك هو كتاب منير فيه شريعة، بيِّنةٌ واضحةٌ مضيئةٌ، مع إتيان الرسل السابقين بهذا إلا أنَّ هؤلاء المكذبين، المعاندين قد كذَّبوه، هذه الآيات هنا مِن أول : {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ........}[آل عمران:181], هو فاصل جديد فى هذه السورة، سورة آل عمران بعد الفاصل السابق الذي استمر معنا ستين آية كلها نزلت في شأن غزوة أُحُد, ثم جاء هذا الفاصل الجديد ليردنا إلى أول السورة ؛ فإنَّ هذه السورة قد ذكرنا أنها سورة البيِّنات والأدلة الواضحات على أنَّ محمد بن عبدالله هو رسول الله حقًا وصدقًا -صلوات الله والسلام عليه-, هذه هنا إبطال دعاوى اليهود في أنهم أهل دين، وأنهم يريدون الإيمان ويريدون الإخلاص، وأنَّ كفرهم بمحمد، إنما هو كفر عن تمسكهم بالدين، إبطال هذا كما أبطل الله تعالى شُبُهَاتِهِم التي قالوها في شأن ما نال المسلمين يوم أُحُد, ثم بعد ذلك السورة بدأت تدخل مرحلة الختام، وأنَّ الله -تبارك وتعالى- يختم هذه المعاني التي وردت في هذه السورة؛ فقال -جلَّ وعَلا- : {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}[آل عمران:185], هذه آية عظيمة لله -تبارك وتعالى- فيهالا موعظة، بليغة، عظيمة.
يقول الله -تبارك وتعالى- : {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}, هذه حقيقة، بديهية، مشاهدة, حسية, الكل يراها لكن الله يُذَكِّر بها, بأنَّ كل نَفْسٍ لابد أنْ تذوق الموت مهما كانت هذه النَّفْس شريفة، وضيعة، مؤمنة، كافرة، صغيرة، كبيرة، كل نَفْس لابد أنْ تذوق الموت، كل نَفْس خلقها الله -تبارك وتعالى- لا بد أنْ تذوق الموت، وكلمة الله تذوق الموت معناها أنه له طعم، له أثر؛ فالمؤمن الموت عنده راحة مِن كل هم، وطيرانٌ إلى الجنة، والكافر موته غُصَص؛ فإنَّ روحه تُنْزَع منه كما قال النبى: « انتزاع السَّفُّودِ مِن الصوف المبتل تتفرق في بدنه، وينزعها ملك الموت منه», {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ........}[آل عمران:185], أي وإنما الأمر والشأن والحال ما يتوقف عليه نهاية المطاف، الأمر الخطير هو توفية الأجور يوم القيامة, {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}, فهذه هي نقطة الحسم، النقطة الفاصلة، هذا هو الأمر المهم جدًا في كل شيء، وإلا الموت هذا نهاية كل حي، عاش فى هذه الدنيا مُنَعَّمًا، مُتْرَفًا، عاش فيها شقيًا، مُقاسيًا، مريضًا، متألمًا، كله سيكون إلى الموت، لكن العبرة بالمستقبل أي ليست العبرة بهذه الحياة؛ فإنَّ هذه الحياة مهما كانت سيكون الموت فكاك وانتزاع لِمَن كان فى غنىً وعزة وتمكين ومال وجاه سيأتي الموت لينزعه مِن مكانه، وكذلك مَن كان في مرض، وآلام ومشقات، ومقاساة كذلك سيأتي الموت نهاية له، وخلاص له، لكن الأمر الذي يجب أنْ يكون موضع الاعتبار هو المستقبل ذاك أمر لا موت بعده، سيكون ثم حياة هناك فيها استقرار لا موت فيها, {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}, أي فيما بعد هذه الحياة, {وَإِنَّمَا}, الشأن والحال، الشيء العظيم, {تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}, توفية الأجور ستكون يوم القيامة، قال -جلَّ وعَلا- : {........فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}[آل عمران:185], {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ}, ومعنى زُحْزِحَ هنا بالبناء لما لم يُسَمَّ فاعله أي آتاه أي قوة تزحزحه وتبعده، الزحزحة هي الإبعاد بشيء مِن المعاناة عن النار، {وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ}, كذلك وأُدْخِلَ بالبناء بما لم يُسَمَّ فاعله، ولا شك أنَّ لا يُدْخِل الجنة إلا الله -تبارك وتعالى- الله يقول : {فَقَدْ فَازَ} هذا الذى فاز الفوز كله مهما كانت حياته، مهما كانت الحياة التي مضت لكن حصل هذا له الفوز، وذلك أنَّ الجنة خلود في الحبور والسرور والنعيم الميقيم، والجنة جارية حسناء، ونهر مُطَّرِد، وثمرات لا تنقطع، وسرور لا ينتهى لا زحزحة عنها بعد ذلك؛ فهذا الذى قد فاز، والمفهوم الذى لم يُزَحْزَح عن النار، ولم يُدْخَل الجنة فقد خَسِرَ هذا هو الخسران المبين، وقال الله -عزَّ وجلَّ- : {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}, {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}, بالحصر, {إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}, المُغَرَّر به الذى يظن هذه الحياة شيء كبير، وأنها دار للإقامة، ويركض خلف السعادة ولا يحصلها فهذا المغرور هو الذي وضع أمله ونهاية مطافه في هذه الدار فهي متاع المغرور، وذلك أنها سويعات قليلة ثم تنتهي ويفارقها.
ارتباط هذه الآية بالسورة ارتباط عظيم، السورة تكلمت عن غزوة أُحُد، وما كان فيها مِن معاناة، والآلام التى مرت بالمسلمين، هنا يعلق الله -تبارك وتعالى- قلوب أهل الإيمان بالآخرة، وأن الحياة الدنيا معبرة وأمرها سهل وأنها متاع الغرور، وأنه لا بد لكل أحد أن يذوق الموت، سواء أن كان سَيَذوقه على فراشه، أو يذوقه فى ساحة الوَغَى المهم أنه سيموت، من لم يمت بالسيف، مات بغيره؛ فهذا لابد أن ينال الموت في أي مكان ولكن العبرة بالنهاية، العبرة بمن له عمل يُزَحزِحُهُ عن النار، يدخله الجنة، نسأل الله -تبارك وتعالى- أن نكون من هؤلاء؛ ثم بعد ذلك جاءت الآية لتوطين المؤمنين على المعاناة والمقاساة وتحمل الشدائد, فقال لهم الله -تبارك وتعالى- : {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}[آل عمران:186] هذا وضوح، وبيان لأهل الإيمان مِن أنَّ الطريق طويل وفيه معاناة، ويُقْسِمُ الله لهم قال: {لَتُبْلَوُنَّ}, والله لَتُبْلَوُنَّ, { فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ}, باللام المؤكدة، الموطئة للقَسَم, {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} هذه طبيعة الطريق، هذه طبيعة طريق الإيمان, {لَتُبْلَوُنَّ}, خطاب من الله -تبارك وتعالى- لأهل الإيمان أنكم سَتُبتَلَوا في أموالكم، بنقصها، بضياعها، بالأمر بأنْ تنفقوها في سبيل الله, {وَأَنْفُسِكُمْ}, بالشهادة في سبيل الله، بأمراض، بعدوان, {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا}, السب، والتشهير، والشكوك، والأذى الكثير, {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} قدمهم الله - تبارك وتعالى- لأنَّ المعركة معهم تستمر ليوم القيامة, {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا}, قيل الذين أشركوا بعد هؤلاء هم العرب، وذلك أنَّ المعركة معهم حُسِمَت سريعًا في عهد النبى -صلوات الله والسلام عليه-, ودخل الناس في دين الله أفواجًا؛ فقدَّم الله أهل الكتاب مِن اليهود، والنصارى، وذلك أن المعركة معهم مستمرة، وهم أكثر عدو سيبقى مع المسلمين، وأكبر عدو يُلْقِى الشُّبَه، ويُسْمِع المسلمين الأذى فى سبهم لله، وسبهم لرسوله، وسبهم لدينه، وصدِّهم عن سبيل الإسلام, {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}[آل عمران:186], يقول الله لأهل الإيمان, {إِنْ تَصْبِرُوا}, على هذا الابتلاء في المال والنفس، وعلى سماعكم ما تسمعون مِن الأذى مِن أهل الكتاب, {وَتَتَّقُوا}, تخافوا الله -تبارك وتعالى-, {فَإِنَّ ذَلِكَ}, أي الصبر، والتقوى, {مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}, أي مما عُزِمَ عليهم، بمعنى أوجبه الله -تبارك وتعالى- عليكم، أو أن هذا من عزائم الأمور أي من الأمور القوية، العظيمة التي ينبغى أنْ تأخذوها وأنْ تعملوا بها, هذه الآية أيضًا تأتى في آيات الختام في السورة لتبين للمؤمنين الطريق أنَّ هذا طبيعة طريقكم وأنها طريق ابتلاء, ثم يُذَكِّرُهُم الله -تبارك وتعالى- بأهل الكتاب الذين لم يَفُوا، ولم يقوموا بما كلفهم الله -تبارك وتعالى- به.
قال -جلَّ وعَلا- : {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}[آل عمران:187], هذا تذكيرٌ مِن الله -تبارك وتعالى- بأهل الكتاب, {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}, اذكر إذ, {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}, ومعنى أخذ الله ميثاقهم أي أخذ العهد المؤكد عليهم أخذ عليهم العهد المؤكد {أُوتُوا الْكِتَابَ}, اليهود والنصارى, {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ}, إيجاب بيان الكتاب، وهو أنْ يقوموا به فيبين الحق للناس, {وَلا تَكْتُمُونَهُ}, تخفونه، قال -جلَّ وعَلا- : {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ}, النبذ هو الإلقاء بإهمال أي ألقوه وراء ظهورهم على هيئة المهمل، والمُضَيِّع له, {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}, أي أخذوا الثمن القليل مِن مناصب الدنيا، مِن أكل الرشى، مِن الكذب على الله، وأخذ المال بذلك, مِن تبديل دين الله -تبارك وتعالى-, {ثَمَنًا قَلِيلًا}, هذه الدنيا، هذه الدنيا التي أرادوا الكسب فيها، والعيش فيها، ولم يقوموا، ويعملوا بالكتاب المنزل عليهم، قال -جلَّ وعَلا- : {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}, بئس الذي اشتروه, بئس شيئًا يشترونه، وذلك لو أخذت الدنيا كلها أيها المغفل، ماذا استفدت, وتركت الدين, حُرِمْتَ الجنة وأخذت النار؛ فأنت صفقة خاسرة، هذه صفقة خاسرة، بئس لإنشاء الذنب، أي بئس الذى أخذته، إنْ كنت أخذت الدنيا كلها، نلت الملايين والمناصب، وأخذت هذا المال السُّحْت حرقت نفسك، تتمتع بهذا المال وقت قليل؛ ثم مآلك إلى النار، قال -جلَّ وعَلا- : {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} هذا تزهيد وتوبيخ وتأنيب وتحقير لهذا الأمر الذي اشتروه في مقابل الدين.
ثم أتى الله -تبارك وتعالى- أيضًا بذم طائفة مِن أَخَسِّ طوائف الناس، قال -جلَّ وعَلا- : {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[آل عمران:188], {لا تَحْسَبَنَّ}, لا تظنن, {الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا}, يحتمل أول معنى مِن الدنيا، إذا ما أتوه مِن الدنيا، مِن المال، مِن المناصب يفرحون به فرح عظيم، وهذا الدنيا ليست مما ينبغى أن يُفْرَح به؛ لأنها متاع زائل، أو يفرحون بما أتوا هنا فرحهم بما أتو من الطاعة رياءً وسمعة، يراؤون وينتفشون بما فعلوه, {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا}, يحبون أنْ يحمدهم الناس بأمر لم يفعلونه, ينسبون لهم أمور ما فعلوها، ويحبون أنْ يُحْمَدُوا عند الناس رياءً وسمعة بهذا، قال -جل وعلا- {فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} لا تحسبن هؤلاء فائزون، لا تحسبن هؤلاء فائزين مِن العذاب, {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} لأنَّ هذه مِن أخس طبائع البشر، أنْ يفرح بالذي أوتيه مِن هذه الدنيا، والحال أنه لا ينبغي الفرح بذلك, {........لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}[القصص:76], أي بهذه الدنيا؛ لأنه تعلق قلبه بها، وانتفخ بها وتكبر بها، وظن أنَّ هذا هو كل الأمل، وكل المراد، والحال أنَّ الدنيا معبرة مهما آتاك الله -تبارك وتعالى- بها فأنت مفارق، وقد يفارقك هو؛ فاعلم أنه متاع قليل، ومتاع زائل, وأنت أعطاك الله -تبارك وتعالى- ليبتليك ويختبرك، هل تشكر نعمته أم لا؟ {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا}, مِن الخير؛ فلم يفعلوا هذا الخير، ويحبون أنْ يمدحهم الناس بها، هذه الآية في اليهود خاصة، وفي كل مَن تَشَبَّهَ بهم عامة؛ فكل مَن تشبه بهذا فيقع تحت مفهوم هذه الآية, قال -جلَّ وعَلا- : {فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ}, {بِمَفَازَةٍ}, بمنجى, {مِنَ الْعَذَابِ}, عذاب الآخرة, {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}, في الآخرة، وهو عذاب النار عياذاً بالله.
نقف عند هذا، أستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده، ورسوله محمد.