الخميس 24 شوّال 1445 . 2 مايو 2024

الحلقة (111) - سورة آل عمران 189-194

الحمد لله رب العالمين، وأصلي، وأسلم على عبد الله، ورسوله الأمين، وعلى آله، وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:189] {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاختلاف اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190] {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191] {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [آل عمران:192] {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} [آل عمران:193] {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:194]. هذه الآيات من سورة آل عمران جاءت في ختام هذه السورة، يخبر الله -تبارك وتعالى- فيها عباده أهل الإيمان بأن له ملك السماوات والأرض، قال: {وَلِلَّهِ} قدَّم هنا لله، وذلك أنه لا لغيره {مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}, الله الاسم العلم على ذات الرب التي ترجع إليه كل الأسماء، وكل الصفات؛ فهو الرب الإله، المعروف بهذا الاسم عند كل أهل الأرض، هذا اسم الله -تبارك وتعالى- الأعظم؛ فهو الإله، المعبود، الذى تألهه الخلائق كلها -سبحانه وتعالى- وتصمد إليه، لله لا لغيره {مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} وهذا الملك، ملك رقبة يملك رقبتها، ذاتها، وذلك أنه منشئها، مبرزها من العدم؛ فهو خالق كل شيء، الله جعل الخلق له وحده -سبحانه وتعالى- لا يقدر على الخلق إلا هو, ليس هناك مخلوقٌ في السماوات، ولا في الأرض يستطيع أن يخلق ذرة، يخرجها من العدم، أو يعطيها صورتها، وهيئتها؛ فالله خالق كل شيءٍ، خالقه إبرازًا من عدم، وخالقه هو الذى يقدره، يعطيه حجمه، وصفته، ولا يستطيع أحدٌ تبديل خلق الله، لا تبديل لخلق الله؛ فهذا لله وحده -سبحانه وتعالى, ثم هو مالك هذا الخلق تصريفًا؛ فكل ما يقع لهذا المخلوق من التحويل من حالة إلى حالة الله يملكه، ولا يملك أحدٌ مع الله -تبارك وتعالى- تصريفًا في شيء؛ فالإحياء، والإماتة، والصحة، والمرض، والإغناء، والإفقار، والهداية، والإضلال، والضحك، والبكاء، والرضا، والغم، والهم كل ما يعتور المخلوق كل المخلوق هو لله، الله يملك هذا التصرف؛ فلا يتصرف المخلوق أبدًا بغير مشيئة الله، وبغير إرادة الله -تبارك وتعالى- {وَأَنَّ إلى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم:42] {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:43] {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} [النجم:44] {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} [النجم:45] {مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} [النجم:46] {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى} [النجم:47] {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} [النجم:48] أغنى بما يعطيك من المال وأقنى من القُنية، أي ما تقتنيه من ثياب، من دواب، من مراكب، من مفارش، كل ما تقتنيه من أوانٍ كله من الله {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} [النجم:48] {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} [النجم:49] {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى} [النجم:50] هذا من تصريفه {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} [النجم:51] {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} [النجم:52] {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم:53] المؤتفكة قرى لوط أفكها الله -تبارك وتعالى- على رؤوس أصحابها {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} [النجم:54] من المطر، ومن الحجارة {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} [النجم:54] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} [النجم:55] {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى} [النجم:56] فالرب -تبارك وتعالى- {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26] {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:27].

 {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ........} [سبأ:22] كل من دُعٍيَ من دون الله ملائكة، رسل، جن، إنس {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ........} [سبأ:22] أي ليس لهم شركة مع الله في الملك {........وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ:22] وَمَا لَهُ لله مِنْهُمْ من هذه الآلهة المعبودة التي عبدت من دون الله مِنْ ظَهِيرٍ من مُعين {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ........} [سبأ:23] لهم الشفاعة لكن بعد إذنه -سبحانه وتعالى- فهذا الذى يملكونه، ملّكهم الله -تبارك وتعالى- إياه {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23] فالله له ملك السماوات، والأرض، وما فيها, يملكها ذاتًا؛ فهي له -سبحانه وتعالى-, يملكها تصريفًا، يتصرف فيها تصرف المالك في ملكه، لا يملك رقبتها؛ ثم يترك تصريفها لغيره، لا، كما الشأن يملك الإنسان شيئًا، المخلوق يملك شيئًا؛ ثم يوكل غيره يتصرف فيه لا، لا يتصرف في ملك الله إلا الله -سبحانه وتعالى- {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ........} [التكوير:29] فالله هو الذى يتصرف في ملكه بما يشاء -سبحانه وتعالى-, فله التصريف كله، له الخلق كله، وكذلك له التصريف كله {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران:83] {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:189] الله قادر على كل شيء, لا يعجزه شيء -سبحانه وتعالى-, فالذي خلق هذا الخلق العظيم، الكبير، وضبطه الضبط الهائل الذى لم يبلغ المخلوق لليوم مبلغ ضبط الله -تبارك وتعالى- لمخلوقاته, {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر:41] انظر الشمس، تدور، تسير في مسارها، الأرض في مسارها، القمر في مساره، هذه الأجرام العظيمة الكبيرة، الكواكب، النجوم، المجرات في مداراتها، في مساراتها ساعة، ساعة بحساب دقيق لا يتأخر الواحدة جزء بل جزيء من الثانية، كما قال -تبارك وتعالى- {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن:5] ليس حساب فقط، بل بحسبان، الحسبان مبالغة من الحساب؛ فهذا الرب الإله الذى ضبط كل شيء، هو قادرٌ على كل شيء -سبحانه وتعالى- هو قادرٌ، وقدير على كل شيء {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:189] لا يعجزه شيء -سبحانه وتعالى-, ثم قال -جل وعلا- {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاختلاف اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190] هنا وجه الله -تبارك وتعالى- نظر العباد إلى هذا الخلق العظيم الذى هو ملك الله، قال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} في خلقها {وَاختلاف اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} خلق السماوات، والأرض لا شك أنه أمر لا تسع عقول الخلائق معرفته على الحقيقة؛ فلا يحيط علمًا بخلق الله إلا الله -سبحانه وتعالى-, فالسماوات من السعة، ومن العظمة بحيث نحن البشر الكائنون على هذه الأرض -وهى كويكب صغير في هذا الفضاء المترامي الأطراف الذى لا يعرف له نهاية، ولا سعة- لم نصل علمًا بجنبات هذا الكون العظيم؛ فخلق السماوات، والأرض، سعتها، متانتها، إحكامها، نواحي الرحمة فيها، إعجاز فيها، التعدد، التنوع، العمق الهائل؛ فكل شيءٍ له عمقه، ورقة الشجرة الصغيرة هذه, الدخول إلى أعماقها يجد الإنسان عالمًا كبيرًا، الخلية الصغيرة من الجسم الحي، خلية صغيرة, في جسم الإنسان ستون مليار خلية، الخلية عمق، كل شيء له عمق هائل، الدخول في هذه الخلية, نجد أننا دخلنا إلى عالم واسع، رهيب، متعدد الجوانب، متعدد الأطراف، فيه من الأسرار أمرٌ يهول، يهول أهلُ العلم بذلك، فما يُسمَى بالبصمة الوراثية، شفرة الإنسان، ووجودها في هذا العالم، ما فيه من أسرار هائلة جدًا داخل الخلية، نواتها، ما حولها، أمرٌ يفوق الوصف؛ فهو عميقٌ، كذلك عمق هذا الكون عميق، اتساع، وعمق إلى هذا الجزيء الصغير يحتاج إلى بعد هائل، إلى تعمق هائل جدًا حتى تصل إلى أعماقه ولا تصل، ولا يصل الإنسان بتاتًا فهذه {إِنَّ في خلقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاختلاف اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ........ } [آل عمران:190] على سطح هذه الأرض، هذه آيتنا التي نعيش بها، أكبر آية ننظرها، وتكتنفها، فنحن بين ليل، ونهار، محتاجين إلى الاثنين، يحتاج الإنسان إلى الليل، والنهار، حاجته إلى الحياة؛ لأنه لا حياة إلا بذلك، وهى تعتور هذا تختلف في الليل، والنهار اختلاف الطول والقصر في المكان الواحد اختلاف الطول والقصر في الأماكن المتباعدة، اختلاف في الحرارة والبرودة، اختلاف في الضوء والظلمة، وكل مخلوق في حاجة الليل على النحو الذى خلقه الله -تبارك وتعالى- {وَاختلاف اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}.

 {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ} [القصص:71] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [القصص:72] {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ........} [القصص:73] أي في الليل {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} أي في النهار بالعمل، والتجارة {........وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص:73] ففي اختلاف الليل والنهار على هذا النحو فالله يقول: {لَآيَاتٍ} ليس آية واحدة {........لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190] لكن {لِأُولِي الأَلْبَابِ} لأولى العقول التي تتفكر في هذا الأمر، وتنظر، وتمحّص، وتتعلم وترى {........لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190] {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191] أولو الألباب هؤلاء هم الذين يذكرون الله قيامًا، وقعودًا، وعلى جنوبهم، أي في كل أحولهم؛ لأن الإنسان حالته، إما قائمًا، وإما قاعدًا، وإما على جنبه, هذه أحوال وجود الإنسان، إذن في كل أحوالهم يذكرون الله -تبارك وتعالى-, ذكرهم لله -تبارك وتعالى- يشمل النظر في هذه المخلوقات، ونسبتها إلى الله -تبارك وتعالى- ، وربط هذى الأسباب التي  يرونها، وهذا الخلق كله بالله -تبارك وتعالى- فهذا خلق الله أمامهم، الشمس آية ينظرون فيها، القمر آية، وجودهم آية، ما حولهم آية، طعامهم، شرابهم، نومهم، يقظتهم، كل هذه تذكرهم بالله تبارك وتعالى وجهنا الله إلى هذا قال: {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إلى طَعَامِهِ} [عبس:24] {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} [عبس:25] {ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا} [عبس:26] {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا} [عبس:27] {وَعِنَبًا وَقَضْبًا} [عبس:28] {وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا} [عبس:29] {وَحَدَائِقَ غُلْبًا} [عبس:30] {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:31] {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس:32] فينظرون في طعامهم، في شرابهم، في كل شئونهم ينظرون نعمة الله -تبارك وتعالى- التي تحيطهم، وتحتف بهم من كل جانب، هذا خلق الله، هذه نعمته، هذا أمره؛ فهذا أولًا, ثم يذكرون الله -تبارك وتعالى- بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا؛ فيسبحونه، ويحمدونه، يقولون سبحان الله، تنزيهًا لله -تبارك وتعالى- حمدًا لله -تبارك وتعالى- فهم بين التسبيح، والتحميد، هذا من ذكرهم لله -تبارك وتعالى- كذلك من ذكرهم لله -تبارك وتعالى- ذكرهم آلاءه، ونعمه، أيامه، يذكرون أيام الله -تبارك وتعالى- وخاصة اليوم العظيم، يوم القيامة؛ فهم قلوبهم متعلقة بالرب -تبارك وتعالى- في كل أوقاتهم، حال كونهم قائمين، حال كونهم قاعدين، حال كونهم على جنوبهم، هم لا ينقطع ذكر الله -تبارك وتعالى- من قلوبهم، ومن عقولهم، ومن ألسنتهم أبدًا، بل الله -تبارك وتعالى- دائما في قلوبهم، وفي ألسنتهم {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} أيضًا من عملهم هو التفكر في خلق السماوات، والأرض، لأن كل جزئية من جزئيات الخلق، أولًا تنبئك بالخالق؛ ثم تنبئك بعظمة الخالق، عظيمة، هي في ذاتها عظيمة، خلق الله -تبارك وتعالى- كله عظيم؛ لأن الله أحسن كل شيء خلقه {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة:7] فهذا إحسان الخلق ينبئك بالرب -سبحانه وتعالى- خالق هذا الخلق؛ فعظمة المخلوق دليل على عظمة الخالق -سبحانه وتعالى-,

يصلون بعد هذا إلى أمر قناعة راسخة، ويقين ثابت، حيث يقولون {........رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191] {رَبَّنَا} أي يا ربنا, يدعون الله -تبارك وتعالى- فهؤلاء أولو الألباب الذين يتفكرون في خلق السماوات والأرض، والذين هم على هذا النحو يذكرون الله -تبارك وتعالى- يقولون: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} ما خلقت هذا الخلق العظيم، الكبير، المتسع، الذى بهذا الإتقان، وإتقان الصنعة، والإجادة، وهذه السعة الهائلة، وبهذه المقدرة، والعلم الهائل باطلا، عبثًا، سدى؛ فمن لا يؤمن بالحساب، وأن هناك يوم قيامة, يتهم الرب بأنه خلق هذا الخلق عبثًا، وسدى، أي له هدف، له غاية يسعى إليها، كيف يكون قد خلق الله -تبارك وتعالى- هذا الخلق ولم يأمر عباده ولم ينههم، ولا يكلفهم، ولا يعرفهم بنفسه -سبحانه وتعالى- وبما يريده بهم؟! ، وإنما يخلقهم ليأكلوا، ويشربوا، ويتمتعوا، يسفكوا الدم، ويفعلوا ما يشاؤوا، يحل ما شاءوا، ويحرموا ما شاءوا، وينعموا في ملك الله حسب أهوائهم، وحسب أمزجتهم، ويظلم من يظلم، ويُظلم من يُظلم؛ ثم لا تكون حكومة، ولا حساب، ولا عقوبة، هذا اعتقاد الكفار، اعتقاد الكفار جميعًا, أنه لا حكم، لا بعث، ولا نشور، ولا محاسبة على العمل، وأن كل إنسان في هذه الدنيا كما يقال وشطارته فليعمل ما يشاء, ولينل من الدنيا ما يشاء، ليحل ما شاء، يحرم ما شاء يسير كيف يشاء، يبنى كيف يشاء، يتزوج كيف يشاء، يفعل ما يشاء، وليس هناك رسل، ولا كتب، ولا شرائع، ولا دين، ولا أمر، ولا نهى لهذا الرب الإله الذى خلق هذا الخلق، وإنما خلق خلقه، وجعلهم يفعلون ما يشاؤون ثم يموتون، ولا يكون هناك بعث، ولا نشور، ولا حساب أحد على فعله، سبحانك، تنزيهًا لك أن تكون كذلك، سبحانك، يا رب ننزهك أن يكون الأمر على هذا النحو، لأنه لو كان الأمر على هذا النحو لكان هذا لهوًا, قال -جل وعلا- {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27] وقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر:85] قال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الدخان:38] {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الدخان:39] فالذين كفروا يظنون أن الله -تبارك وتعالى- خلق هذا الخلق سُدًى، وعبثًا؛ فتعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.

 يقولون: {........سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191] توجهوا إلى الله -تبارك وتعالى- نزهوه علموا أنه خلق ذلك الخلق؛ ليأمر عباده، ليضع لهم طريق يسيرون فيه، افعل، ولا تفعل {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] {فَتعالى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:116] {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ........} [المؤمنون: 117] ناس تسب الله وتقول له أنت لك ولد، وأنت لك زوجة، يسبون الرب، ويشتمونه، ويتركهم بعد ذلك! {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون:117] إِنَّهُ الشأن والحال؟، الكافر لا يفلح {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون:118] يقولون: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} عبثًا، وسدى {........سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191] قنا، أي اجعل لنا يا رب وقاية من عذاب النار, ثم يقولون: {رَبَّنَا} أي يا ربنا, {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} إنك من تدخل النار فقد أخزيته, هذا الخزي، والعار الحقيقي، وذلك أنه يخزى, بمعنى أول خزيه أن الإيمان كان في متناول يده في الدنيا، ولم يأخذه، يبدو له إجرامه على الحقيقة، يظهر له يوم القيامة أنه كان مجرمًا على الحقيقة, كان يعلم الحق، ولكنه لم يؤمن به كفرًا وعنادًا؛ فيظهر ما كان يخبئه، فيخزى؛ لظهور ما كان يخبئه من الكفر والعناد، كذلك يهان؛ فمن سيق إلى النار هذا هو الذى حصل له الخزي، ألا ترى أن من حُكِمَ عليه في الدنيا بعقوبة بجلد، أو بتعذيب، وسار إلى أمام الجموع إلى المقصلة، أو إلى العقوبة التي يعاقبها يخزى، في خزى وخاصة إذا كان ليس بريئًا، وإنما صاحب جريمة؛ فهذا هو الخزي؛ فهؤلاء تظهر جرائمهم على الحقيقة يوم القيامة، ويُخْزَوْن، ويُبَكَّتُون، ويُهانون، ويظهر ما كانوا يكتمون؛ ثم يساقون إلى النار؛ فيكون هذا الخزي، والدمار, {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ}, قال -جل وعلا- {........وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [آل عمران:192] {وَمَا لِلظَّالِمِينَ} هؤلاء ظالمون؛ لأن الظلم هو وضع الشيء في غير محله، وضعوا الأمر في غير محله بدلًا من يصدقوا، كذبوا، بدلًا من أن يوحدوا الله -تبارك وتعالى- أشركوا، بدلًا من أن يضعوا عبادتهم عند الرب الذى يستحق الإلاهة وضعوها عند من لا يستحق الآلهة، وضعوا الأمور كلها في غير محلها، ما لهم أنصار، ما لهم أحد ينصرهم, لا ملائكة تقف معهم، لا بشر آخرين يظاهرونهم، وينصرونهم، ما لهم أي ناصر بل كل منهم يأتي ربه فردًا، ويحاسب فردًا، ويخزى، ويلعن، ويضرب، ويصفع، ويساق إلى النار عياذًا بالله {........وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [آل عمران:192], رَبَّنَا هذا من تتمة كلام أهل الإيمان؛ لأنهم عرفوا الحق يقولون: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ........} [آل عمران:193] يعلنون هنا أنهم سمعوا المنادى وهو الرسول -صلوات الله والسلام عليه- {يُنَادِي لِلإِيمَانِ} النبي  محمد -صلى الله وسلم- يقول للناس هلموا، أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، أنا رسول لكم من الله -تبارك وتعالى- أنا النذير العريان, آمنوا بالله، اشهدوا أنى رسوله، هذا هو الطريق؛ فهذا الداعي إلى الإيمان رسول الله محمد -صلوات الله عليه،- ينادى إلى الإيمان بالله، ورسله، وملائكته، أن آمنوا بربكم أي أيها الناس آمنوا بربكم، أي الذى خلقكم، هو ربكم، سيدكم، الذى خلقكم، ورزقكم، ورباكم في هذه الأرض بنعمه -سبحانه وتعالى-, لما سمعنا هذا المنادى آمنا, هنا توسلوا إلى الله -تبارك وتعالى- بعملهم الصالح، بإيمانهم بالله -تبارك وتعالى- قالوا: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا........} [آل عمران:193] {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} أي ما دام آمنا بك ، وآمنا برسولك الذى دعانا إلى الإيمان بك {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} وغفْرها سترها، وإزالتها {ذُنُوبَنَا} معاصينا {وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} الذنوب الكبيرة، وكذلك السيئات الصغيرة, هذه كلها, لا تحاسبنا على شيء، وذلك لأنه حتى لو بسيئة واحدة فيها عقوبة فهي شديدة {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} أي الكبائر، والصغائر {.......وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} [آل عمران:193] توفانا حيث تتوفانا يوم القيامة مع الأبرار, {الأَبْرَارِ} أي فاعل البر، والبر كلمة جامعة لكل خصال الخير، ومن يفعل الخير فهو بار، والله -تبارك وتعالى- هو البر الرحيم؛ لأن كل صفات الخير فيه -سبحانه وتعالى- ليس في الله تبارك وتعالى صفة شر بأي وجه من الوجوه، تقدس، وتنزه ربنا -سبحانه وتعالى- {.......وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} [آل عمران:193] البارين الصالحين, {رَبَّنَا} أي يا ربنا، دعاء بعد دعاء {.......وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:194] بعد أن دعوا الله -تبارك وتعالى- بأن ينجيهم من النار، وأن يكفر عنهم سيئاتهم، هنا تقدموا بعد ذلك بطلب فضل الله -تبارك وتعالى- ورحمته في الجنة قالوا: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} وقالو هنا بما وعدتنا على رسلك دون أن يفصلوا هذا، الذى وعدتنا على رسلك، وقد وعد الله -تبارك وتعالى- أهل الإيمان، وجاء هذا الوعد على ألسنة الرسل بموعود عظيم جدًا، وهو الجنة، والفوز، وأن يبيض وجوههم، وأن يروا ربهم {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس:26] هذا وعد الله -تبارك وتعالى-, هذا وعد الله -جل وعلا- الذين آمنوا أن لهم الجنة، وزيادة النظر إلى وجه الله -تبارك وتعالى- فهؤلاء يقولون: {وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} أي من الجنة، والنعيم، والفوز برضوانك، والسكنى في الجنة إلى جوارك، وتحت عرشك, {وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ولا تخزنا يوم القيامة أي بأن تحرمنا الجنة، وتدخلنا النار، كل هذا من الخزي, {إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} إنك لا تخلف الميعاد، الله لا يخلف الميعاد، إذا وعد الله -تبارك وتعالى- فلا بد أن ينجز الله وعده -سبحانه وتعالى-, يستحيل أن الرب -سبحانه وتعالى- يعدُ وعدًا، ولا يفي به -تعالى الله عن ذلك-؛ فهو لا يخلف الميعاد, بأنه يجمع الناس ليوم القيامة، هذا حقٌ، هذا لا بد أن يكون يجمع الناس ليوم القيامة, لا بد,  كذلك أن يدخل أهل الجنة، الجنة، وأنه كل مؤمن يموت على الإيمان وعد الله -تبارك وتعالى- أن يدخله الجنة {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} بمواعيد، لا بد أن يفي الله وعده، لا يمكن لله -تبارك وتعالى- أن  يخلف وعده, ليس هذا من صفة الله، لأن إخلاف الوعد أن يعد الله -تبارك وتعالى- بشيء، وأن يخلفه أن يقول، لا، أي تحول الأمر، صرفت النظر, يستحيل أن الرب -تبارك وتعالى- أن يعد وعدًا ولا يفي به -سبحانه وتعالى- فيقول يا رب {إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} أنت وعدتنا هذا الوعد، فأوصله لنا؛ لأن هذه صفتك الكريمة {إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} ثم قال -تبارك وتعالى- {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} وهذا إن شاء الله بيان هذه الآيات في الحلقة الآتية إن شاء الله.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده، ورسوله محمد.