السبت 22 جمادى الأولى 1446 . 23 نوفمبر 2024

الحلقة (112) - سورة آل عمران 195-200

الحمد لله رب العالمين، وأصلي، وأسلم على عبد الله، ورسوله الأمين، وعلى آله، وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران:195] {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} [آل عمران:196] {مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:197] {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ} [آل عمران:198] بعد أن دعا أهل الإيمان، أولو الألباب، الذين ذكرهم الله بأنهم يتفكرون فى خلق السماوات، والأرض، ويذكرون الله قيامًا، وقعودًا، وعلى جنوبهم، ويقولون بعد تفكرهم هذا، ربنا أي يا ربنا {........مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191] باطلًا أي سدى، لا يؤمر الناس، ولا ينهون، ولا تُنْزل رسل، ولا تبين شرائع، وإنما يفعل كل ما يشاء؛ ثم يكون موت، ولا يكون حساب, تعالى الله -عز وجل- عن ذلك؛ فيقولون سبحانك تنزيها لك أن تكون لاعبًا، لاهيًا، أن تترك خلقك سدى، وعبثا؛ ثم توجهوا لله -عز وجل- يقولوا: {........فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191] ] {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [آل عمران:192] {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ........} [آل عمران:193] محمدًا -صلوات الله والسلام عليه- {........أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} [آل عمران:193] {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ........ } [آل عمران:194] من الجنة، والرضوان {وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} من حرمان، ودخول النار {.....2...إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:194], وعدت ولا بد أن يفى الله -تبارك وتعالى-, فالله ليس من صفته -سبحانه وتعالى- أن يخلف وعدًا وعده وقطعه على نفسه -سبحانه وتعالى- تعالى الله عن ذلك أن يكون الله يخلف الميعاد، بيَّن جل وعلا- أن هؤلاء أهل الإيمان لما دعوه -سبحانه وتعالى- بهذا الدعاء قال -جل وعلا- {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ........} [آل عمران:195], أجابهم الله -تبارك وتعالى- إلى ما دعوه -جل وعلا- {رَبُّهُمْ} وربهم هنا فيه بيان معنى القرب، معنى قربهم منه أي ربهم، إلههم، سيدهم، خالقهم، بارئهم؛ فهو الرب الإله السيد -سبحانه وتعالى-, قائلًا لهم {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} لا يضيع الله -تبارك وتعالى- عمل عاملٍ منكم، كل من عمل ولو ذرة من الخير وفّاه الله إياها، وهذا بيان إيفاء الله -تبارك وتعالى- لعمل العامل من الخير، ولو ذرة صغيرة {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} فالله -تبارك وتعالى- كلّف الذكر، والأنثى، وكذلك يوفى الجزاء لكل من الرجل والمرأة -سبحانه وتعالى-, {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} أي الرجال من النساء والرجال، والنساء من الرجال والنساء, والرجل من ذكر وأنثى، والمرأة هى من ذكر وأنثى كذلك {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} النساء شقائق الرجال، كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- فالمرأة شقيقة الرجل، وهما مكلفان، وكذلك مثابان ومعاقبان، الله يثيب الرجل والمرأة، وكذلك يعاقب الرجل والمرأة, فكل منهما مخلوق مكلف؛ فلا يضيع الله -تبارك وتعالى- عمل عامل من أهل الإيمان ذكرًا كان أو أنثى، قال -جل وعلا- {........فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران:195].

انظر هذه الصفات التى جمعها الله -تبارك وتعالى- والأعمال التى قام بها أهل الإيمان إنها تنطبق أول ما تنطبق على هؤلاء الذين قاتلوا فى أحد، والسورة إنما نزلت فى ذلك؛ فهم قد جمعت لهم كل هذه الصفات؛ فهم قد هاجروا من ديارهم، وأخرجوا كذلك منهم من هاجر بنفسه، ومنهم من أخرج إخراج، أي أجبره الكفار على الخروج من داره, {وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي}, بشتى أنواع الأذى، منهم من سلب ماله، منهم من ضرب، منهم من أهين، منهم من عذب, {وَقَاتَلُوا} فى سبيل الله {وَقُتِلُوا} فمنهم من كان منهم هذا، قاتلوا فى بدر، قاتلوا فى أحد، وقتلوا منهم من استشهد هنا، وهناك، قال -جل وعلا- الذين جمعوا هذى الصفات قال -جل وعلا- لَأُكَفِّرَنَّ بلام التأكيد عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ يؤكد الله -تبارك وتعالى- بأنه سيكفر عنهم سيئاتهم، بمعنى أنه يمحوها، ويسترها -سبحانه وتعالى- كل ما مضى من أعمالهم السيئة يغطيها الله -تبارك وتعالى- ولا يحاسبهم على شيء من ذلك، وفضل عظيم، نعمة عظيمة، وفضل عظيم، أن يستر الله -تبارك وتعالى- كل سيئاتهم؛ ثم {وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} يقسم الله -عز وجل- بأنه لا بد أن يدخلهم جنات تجرى، ولأدخلنهم باللام المؤكدة، لأدخلنهم اللام المؤكدة، ونون التوكيد الثقيلة، {وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} من تحتها، من تحت أشجارها، وتحت قصورها، {الأنهار} مختلفة الطعوم، والأشكال {ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} الثواب، جزاء العمل، وقول الله -تبارك وتعالى أن هذا الثواب من عند الله؛ إذًن عظمة الثواب هذه من عظمة الرب -جل وعلا-؛ لأن عندما يقول الله أنا الذى أثيب، الله عظيم -سبحانه وتعالى-؛ إذن لا بد أن يكون ثوابه عظيمًا, {ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ثم يأتي تأكيد لهذا المعنى {........وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران:195], {وَاللَّهُ} الرب، الإله، العظيم الغنى الذى ليس لغناه حد،  الذى يعطى بلا حد -سبحانه وتعالى- والذى لا يفقره عطاء، الله لا يخشى الفقر، وكل عطاء عنده لا يُنْقِصُ من عنده شيئا كما فى الحديث « يا عبادى لو أن أولكم وأخركم وإنسكم وجنكم وقفوا فى صعيد واحد وسألنى كل مسألته فأعطيته إياها ما نقص ذلك من ملكي شيئًا إلا كما ينقص المخيط اذا أدخل البحر» فلو أن كل الخلائق هذه من أول آدم إلى آخر البشر، وكل الجن كلهم وقفوا فى وقت واحد، فى صعيد واحد، وكل تمنى من الله -تبارك وتعالى- فأعطاه الله، واحد تمنى كرة أرضية، واحد تمنى أكبر، واحد تمنى أكثر، وأعطى الله -تبارك وتعالى- كلًا ما يريد من قصور، من دور، من حور مما يشاء، ما نقص ذلك من مُلْك الله -تبارك وتعالى- شيئا؛ هذا الله لا يُفْقره، ولا يكرثه، ولا يتعبه عطاءٌ -سبحانه وتعالى- ولا ينقص شيء مما عنده؛ {والله عنده حسن الثواب}، الثواب الحسن، ولذلك أعد -سبحانه وتعالى- لعباده المؤمنين الجنة، ما فيها، وما دخره الله فيها، ومَّما دخره الله -تبارك وتعالى- أمور أكثر مما ذكره لنا فى القرآن من الحور، والقصور، والدور، والبهجة، قال: «أعددت لعبادى الصالحين ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر» أمور فوق ما ذكر كذلك، والله عنده حسن الثواب -سبحانه وتعالى-, إذن هؤلاء الذين تحملوا ما تحملوا من هذه المشاق هم الفائزون، هم الموعودون برضوان الله -تبارك وتعالى- ، وحسن ثوابه، حسن ثواب من الله -تبارك وتعالى-, ثم بعد ذلك ينقلنا الله -تبارك وتعالى- نقلة مفاجأة إلى الصورة الأخرى, حال الكفار, فيقول -جل وعلا- {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} [آل عمران:196], انظر النقلة من الحال التى آل إليها أهل الإيمان، إلى حال هؤلاء الكفار الذين يتقلبون فى هذه الدنيا، فى الدور، والقصور، والمتع، وينتقلون من نعمة إلى نعمة، من الحرث العظيم الزروع، والثمار العظيمة، إلى الخيل المسوَّمة، إلى النساء، إلى القناطير المقنطرة من الذهب، والفضة، ينتقلون من متعة إلى متعة، ويتقلبون في هذه الأرض في الملك، والعز، والسلطان، قال -جل وعلا- {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} [آل عمران:196], لا يغرنك هذا، ومعنى يغرنك: تذهب عينُك إليه، تنْبهر بما فيه، تظُن أنهم على الحق، والصواب، أنهم هم الفائزون، أنهم هم الذين نالوا ما نالوا {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} [آل عمران:196] معنى تقلبهم أي تنقلهم من نعمة إلى نعمة، ومن متعة إلى متعة, قال -جل وعلا- {مَتَاعٌ قَلِيلٌ........ } [آل عمران:197] مهما كانوا فيه {مَتَاعٌ قَلِيلٌ} المتاع هو إشباع رغبة، وبسرعة تنتهى, فالمتاع هو ما يشبع رغبة ما ثم ينتهى سريعًا {قَلِيلٌ} عمر الدنيا قصير، عمره قصير، ويمضى سريعًا؛ ثم {........مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:197] مَأْوَاهُمْ مستقرهم، الماوى المستقر الذى لايبرح الإنسان ولا يخرج منه، وهذا أنهم خالدون في النار خلودًا لا انقطاع له {مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} فماذا يفيد هذا؟، ماذا يفيد من كان يتنقل من نعمة إلى نعمة في وقت قصير مائة سنة، سبعين، ثمانين، خمسين سنة, ثم بعد ذلك يذهب إلى سجن من النار يُسْجَن فيه، ويُغْلَق عليه، ويبقى على هذا النحو أبدًا، ألف سنة، ألفين، ثلاثة، ملايين الملايين التى لا تنتهى، وهو في سجن؟، ماذا يفيد هذا؟! ماذا أفاده هذا؟َ! إذن لا تغتر بما عليه هذا, انظر النهاية، نهاية المطاف التى سيكون عليها {مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:197], بئس مهدًا لهم؛ لأنه ليس مهدًا هذا، المهد هو الفراش التى تهيئه لك لترتاح عليه، أما اذا كان الفراش من نار، ولحافك نار، وجدران البيت التى أنت فيه من نار؛ فبئس مهدك، بئس مهدًا، يمهد لهم، بئس للذم {وَبِئْسَ الْمِهَادُ}, أن تكون جهنم مهادك؛ ثم نقلة بعد نقلة قال -جل وعلا- {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ........} [آل عمران:198] الانتقال من حال، وتصوير حال الكفار إلى نقلة ثانية إلى أهل الإيمان مباشرة، قال -جل وعلا- {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا} خافوا الله -تبارك وتعالى- لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ بساتين تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ من تحت أشجارها الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا ما فى أحلى، ما فى أجمل من هذا أن يعيش، وأن يحيا الإنسان فى جنات، بساتين، والأنهار الجارية فيها، جارية من تحت قصورها، وتحت أشجارها {نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} النزل هو الضيافة, أي أن الله -تبارك وتعالى- ضيفهم فى هذا، انظر ضيافة يعدها الرب -سبحانه وتعالى-, الله هو الذى أعد هذه الضيافة لأهل الإيمان، الذين آمنوا به، انظر عندما يقول هذا ملك، غنى، كريم أعد ضيافة لأحبابه، وندمائه، طبعًا سيعد لهم الضيافة على مقدار هذا الملك، وعلى مقدار غناه، والمثل الأعلى لله -تبارك وتعالى- ولله المثل الأعلى؛ فإذا كان الله -تبارك وتعالى- هو الذى أعد هذه الضيافة منه -جل وعلا- لأحبابه، ولأوليائه، وللمؤمنين به فقال: {نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ضيافة لهم، والضيافة  ضيافة إقامة، لا تنتهى {........وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ} [آل عمران:198] ما عند الله من هذا المتاع، والضيافة خير، خير من كل ما أعطاه الله فى الدنيا لأعدائه، وما شغلهم به لِلأَبْرَارِ من أهل البر الذين هم فاعلو البر، أي فاعل خير؛ ثم فى نهاية المطاف فى هذه السورة يذكر الله -تبارك وتعالى- بعد أن بيَّن فضائح أهل الكتاب، وما كان فيهم من هذه، أنهم ليسوا أي كلهم على هذا النحو، قال: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران:199] هذه الآية تبين أن أهل الكتاب كلهم لن يكونوا كفارًا، معتدين، مجرمين، لا، بل منهم من يؤمن بالله -تبارك وتعالى- ويؤمن بهذه الرسالة الخاتمة التى جاءت على النبى -صلى الله عليه وسلم- ويكون مسلمًا يحسن إسلامه، ويكون من أهل هذا الدين, {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ........} [آل عمران:199] ما أنزله الله -تبارك وتعالى- إليكم، هذا القرآن، وهذه السنة المنزلة على النبى محمد -صلوات الله وسلم- {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ} أي وما أنزله الله -تبارك وتعالى- عليهم من التوراة، والإنجيل {خَاشِعِينَ لِلَّهِ} الخشوع أي هو الذل، والخضوع لله -تبارك وتعالى- {لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} كحال أولئك المجرمين، كحال المجرمين منهم الذين آثروا الحياة الدنيا، وزهدوا فى الإيمان بالله -تبارك وتعالى- وبقوا على ما هم عليه من الرياسة، والملك، والسلطان، انظر حال هرقل، عظيم الروم فى وقت النبى -صلى الله وسلم- أرسل له النبى خطابًا، من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم السلام على من اتبع الهدى أما بعد؛ فأسلم تسلم، يؤتيك الله أجرك مرتين، أي مرة بإيمانه بعيسى، ومرة بإيمانه بمحمد -صلى الله عليه وسلم- يؤتيك الله أجرك مرتين، وإن لم تسلم فإنما عليك أثم الأريثيين؛ ثم وضع النبى الآية {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64] ودفع النبي الكتاب إلى دحية الكلبى، وأمره أن يوصله إلى هرقل؛ فذهب دحية ذهب، وأرسله أي عملائهم من العرب، وأوصله إلى هرقل، جاءه الكتاب، قرأه؛ ثم سعى للتثب فى هذا الأمر؛ حتى علم يقينًا أن محمدًا بن عبدالله هذا الذى أرسل له هذا الكتاب هو رسول الله حقًا، وصدقًا، وقام عنده الأدلة البينة، فعل أشياء كثيرة، منها مقابلة الوفد العرب، وكان فيهم أبو سفيان بن حرب -رضى الله تعالى عنه-، وكان هذا فى المدة، مدة الهدنة بين النبى -صلى الله وسلم- وبين قريش وهى بعد السنة الثالة من هجرة النبى، وقبل فتح مكة، وقال هرقل فى نهاية استفصاله فى شأن النبى محمد -صلى الله وسلم- لئن كان ما تقوله حقًا فسيملك موضع قدمي هاتين، وكان هذا فى القدس، وقال ولوددت أنى أخلص إليه، قال أتمنى أخلص إلى هذا النبي، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، يقول لو كنت عند النبي هذا لكنت خادمًا له، ليس خادمًا فقط، أغسل قدميه احترامًا، وتعظيمًا له, يقول أبو سفيان لما سمع من حوله هذا نخروا نخرة شديدة؛ ثم علت الأصوات عنده؛ فأُخْرجنا, يقول ابن الناطور، وقد كان أحد القساوسة الذين حضروا هذا المكان، وأكرمهم الله -تبارك وتعالى- بالإسلام بعد ذلك، يقول: جاء هرقل فجمع الروم، انتظر حتى ذهب إلى حمص، وجمع الروم في دسكرة أي في قلعة ثم قال لهم: يا معشر الروم لما جمعهم، في البداية أمر بالأبواب أن تغلق دون أن يشعروا أن الأبواب غلقت؛ ثم قال لهم: يا معشر الروم هل تريدون الفلاح؟ وأن يثبت ملككم؟ تريدون الفلاح، والنجاح بالفعل، وملككم يثبت فيما أنتم فيه، قالوا: وماذا؟ قال: تتبعون هذا النبى الذى خرج في العرب, يقول ابن الناطور فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب كلهم يريد أن يخرج، يقول فلما يئس منهم  ناداهم مرة ثانية وقال: إنما قلت لكم هذا؛ لأختبر به شدتكم على دينكم  فقد رضيت, يقول لما قال هذا فسجدوا له، آثر الملك، هذا فى ملكه، نعم ملك، ملك من حيث ملك الدنيا ملك عظيم؛ فهرقل كان أعظم أهل زمانه، مُلكًا، واسعًا الرومان يملك معظم المعمور فى هذا الوقت، وهو زعيم الكنيسة الشرقية, لكنه علم أن الرسول حق -صلوات الله والسلام عليه-, باع إيمانه بالنبى -صلى الله وسلم- بهذا الملك الذى هو فيه، اشترى به ثمنًا قليلًا؛ فالله -تبارك وتعالى- أخبر بأن هناك من يبيع هذه الدنيا، ويأخذ الآخرة من أهل الكتاب، ومنهم من يبيع الدين، ويأخذ هذه الدنيا قال -جل وعلا- {خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} ولو كان ملك هرقل كله، ولو كان الملك الذى فيه هرقل {لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}, كل هذا ثمن قليل {أُوْلَئِكَ} أي الموصوفون بهذه الصفة وهم الذين آمنوا من أهل الكتاب لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أجرهم ثوابهم عِنْدَ رَبِّهِمْ وقد أخبر النبى أن هؤلاء  يؤتون أجرهم مرتين، -قال صلوات الله والسلام عليه-  ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، وذكر منهم رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه؛ ثم آمن بى؛ فمن آمن بنبيه موسى، أو عيسى؛ ثم لما بُعِث النبى آمن بمحمد -صلوات الله والسلام عليه- فهذا يُعْطى أجره مرتين، قال -جل وعلا- {........إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران:199] الحساب هنا نتيجة الحساب، المعاقبة بمعنى أنه -سبحانه وتعالى- يمكن أن ينيل الشخص عقوبته فى التو واللحظة {........إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران:199] -سبحانه وتعالى-, ولا يعجزه حساب خلقه -سبحانه وتعالى-, بل يحاسبهم كنفس واحدة -جل وعلا- {........إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران:199], ثم وجه الله -تبارك وتعالى- فى ختام هذه السورة العظيمة، سورة آل عمران دعوة، ونداءً، وأمرًا إلى أهل الإيمان، أمرًا عظيمًا جدًا قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200], ختام يتناسب مع هذه السورة، سورة آل عمران التى هى سورة غزوة أحد، سورة موضوعها الأساس غزوة أحد وما كان فيه؛ فكأن الله -تبارك وتعالى- يبين لهم أن الطريق طويلٌ لابد فيه من صبر, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا} الصبر حبس النفس عن المكروه, فهذا أمر منه -ىسبحانه وتعالى- لعباده المؤمنين بأن يصبروا؛ ثم وَصَابِرُوا صابروا استمروا على الصبر أي اصبروا، وصابروا أنفسكم بمعنى غالبوها، غالبوا النفس على أن تصبر وَرَابِطُوا الرباط هو القيام فى الموقع الذى يظن أن يأتى منه الكفار، الإقامة فى الثغور، وذلك أن أرض الإسلام أصبحت لها أطراف, فى أطراف هذه الأرض يوجد كفار, من هؤلاء الكفار من هم معادون، مهاجمون؛ فرابطوا هنا فى ثغور الأمة، رابطوا فى الثغور على أرض الإسلام هذه كانت رباطًا، وكذلك رابطوا للجهاد أي يكونوا منتظرين، وقائمين لانتظار الجهاد فى سبيل الله وَرَابِطُوا وقد جعل النبي أيضًا من الرباط -صلى الله وسلم- انتظار الصلاة بعد الصلاة، مسلم صلى المغرب ثم جلس فى المسجد ينتظر إلى صلاة العشاء، رباط قال النبى -صلى الله وسلم- قى الكفارات قال: «إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط»  فمن الرباط كذلك أن ينتظر المؤمن الصلاة بعد الصلاة؛ فهو مرابط لعبادة الله -تبارك وتعالى-, مرابط للجهاد فى سبيل الله, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا} أمر منه -سبحانه وتعالى- بالصبر حبس النفس عن المكروه وذلك أن الدين فيه مكاره عظيمة للنفس، الدين جاء على خلاف ما تهوى النفوس، وإنما على ماتكره النفوس, كالقتال فى سبيل الله، وأعظم ما تكرهه النفوس القتال فى سبيل الله، وقد أمرنا به {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ........} [البقرة:216] كره {........وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} احمل النفس على الصبر المرة تلو المرة وَرَابِطُوا فى الجهاد، وفى سبيل الله، وفى الصلاة {وَاتَّقُوا اللَّهَ} خافوه -سبحانه وتعالى- اجعلوا وقاية بينكم، وبين عذاب الله -تبارك وتعالى-, لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لعل للترجى، والترجى بحسب العبد وليس بحسب الله -تبارك وتعالى- فالذى يرجو هنا العبد، وذلك أنه أبذل هذه الأسباب لعلك تنفع، لعلك تفلح, {تُفْلِحُونَ} الفلاح هو النجاح، الفوز بالمطلوب الأكبر، والفلاح عند الله -تبارك وتعالى- والفوز عنده، هو تكفير السيئات، ودخول الجنة {........فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] بهذا نكون قد عشنا مع هذه السورة العظيمة، سورة آل عمران التى ذكرنا منذ مطلع السورة أنها سورة جمع الله -تبارك وتعالى- فيها البراهين على أن دين النبى -صلى الله عليه وسلم- حقٌ, فبدأ الله تبارك وتعالى هذه السورة بقوله {الم} [آل عمران:1] {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران:2] {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ} [آل عمران:3] {مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [آل عمران:4] هذه مقدمة السورة، وهى موضوع هذه السورة، ساق الله -تبارك وتعالى- فيها الفرقان، البرهان على أن هذا الدين حق، وذلك مما ساقه الله -تبارك وتعالى- نصرة الله -تبارك وتعالى- لنبيه محمد -صلى الله وسلم- فى بدر على قلة العدد؛ ثم ما ساقه الله من براهين فى إبطال دين الكفار، وأن محمدًا هو عبد الله، ورسوله حقًا، وصدقًا -صلوات الله وسلامه عليه- ثم الجواب الطويل، المفصل على الشبهه التى سيقت فى وجه هذا النبى لماذا يهزم المسلمون فى أحد ما دام أن معهم رسول الله؟، وأن هذا رسول الله حقا، وصدقًا؛ فجاء فى هذه الآيات, كلها يبين لماذا وقع هذا؟ لماذا وقع هذا الأمر؟ ثم جاءت السورة فيها تأهيل عظيم لأهل الإيمان، تأهيل لهم؛ ليقوموا بهذه المهمة العظيمة التى أناطها الله -تبارك وتعالى- بهم، وفى ختامها وعظ الله، وأمر الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين بهذا الأمر العظيم، وهو أن يصبروا، ويصابروا، وأن يرابطوا، وأن هذا طريق الفلاح، والنجاح.

أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يرزقنا تقواه، أن يأخذ بنا إلى طريقه، وأن يشرح صدورنا إلى هذا الكتاب الكريم، وأستغفر الله لى، ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده، ورسوله محمد.