الحمد لله رب العالمين، وأصلي، وأسلم على عبد الله، ورسوله الأمين، وعلى آله، وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى-: بسم الله الرحمن الرحيم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتقوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتقوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء:2] {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء:3] هذه الآيات من سورة النساء، وسورة النساء مدنية بتمامها، أي أنها من القرآن المدني، والقرآن المدني هو الذى نزل على النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بعد هجرته من مكة, سواءً نزل في المدينة، أو نزل والنبي خارج المدينة.
بدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة بقوله -جل وعلا- {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتقوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ........} [النساء:1], هذا نداء من الله -تبارك وتعالى- وأمر منه -جل وعلا- إلى الناس جميعًا، كل بنى آدم يَا أَيُّهَا النَّاسُ من الرب -تبارك وتعالى- اتقوا رَبَّكُمُ خافوا الله -تبارك وتعالى- اجعلوا وقايةً بينكم، وبين عذاب الله -جل وعلا-, رَبَّكُمُ خالقكم، بارئكم، مربيكم، سيدكم، كل هذه من معانى كلمة الرب؛ ثم ربكم أضاف الله -تبارك وتعالى- العباد هنا المخاطبين بهذا الخطاب إليه -سبحانه وتعالى-؛ يبين قربه -سبحانه وتعالى- منهم، وأنه هو بارئهم، وهو خالقهم، وهو سيدهم، وهو مربيهم -سبحانه وتعالى-, ثم وصف الله -تبارك وتعالى- نفسه، فقال: الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ الذى هدى ربكم، الذى خلقكم جميعًا, يَا أَيُّهَا النَّاسُ من نفس واحدة، وهو آدم -عليه السلام-، وهو أصل البشر، أصل البشر جميعًا على اختلاف ألوانهم، وأشكالهم، وشعوبهم، وأعراقهم, كلهم خلقهم الله -تبارك وتعالى- من نفس واحدة هو آدم، وقد بيّن الله -تبارك وتعالى- أنه خلق آدم من طين هذه الأرض، وأنه صوره -سبحانه وتعالى- بيديه في السماء؛ ثم نفخ فيه من روحه؛ ثم أسجد له ملائكته، بعد ذلك كـرّمه الله -تبارك وتعالى- تكريما عظيمًا, لم يكرم الله -تبارك وتعالى- فيما قص الله -تبارك وتعالى- علينا مخلوقًا من المخلوقات التي خلقها، كما كرم الله -تبارك وتعالى- به آدم -عليه السلام-؛ فإن الله -تبارك وتعالى- قد أمر كل ملائكته أن يسجدوا له بمجرد خلقه, {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} [ص:71] {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص:72] اسجدوا له أجمعين؛ {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر:30] {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ}[الحجر:31]؛ فهذه النفس الواحدة التي خلق الله -تبارك وتعالى- منها البشر جميعًا وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا خلق منها، من هذه النفس الواحدة، وهي آدم، زَوْجَهَا وهي حواء -عليها السلام-؛ فإن الله -تبارك وتعالى- خلقها من آدم، كما جاء في الحديث، أن الله -تبارك وتعالى- ألقى على آدم النوم؛ ثم أخذ ضلعًا من أضلاعه؛ فخلق له زوجه، حواء؛ فقام من النوم؛ فإذا هي بجواره، وزوجه الله -تبارك وتعالى- إياها، وهذا من رحمة الله -تبارك وتعالى- أن جعل للإنسان زوجًا منه، نظيره في الخلق؛ فهي ضلع؛ لذلك كانت النساء شقائق الرجال؛ حتى تتم القربى، المعاشرة، الأنس، السكن؛ فيسكن الإنسان، كأنه يسكن إلى ذاته، بضعة منه؛ فالمرأة جزء من الرجل، إذن أصل واحد هو آدم، أصل الخلقة، خلق الله -تبارك وتعالى- منه زوجه، وهي حواء؛ ثم قال -جل وعلا- وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً بثَّ، نشر, مِنْهُمَا من آدم، وحواء -عليهما السلام- رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً النساء شقائق الرجال، بثَّهم الله -تبارك وتعالى- وهذا عن طريق التناسل الذى جعله الله -تبارك وتعالى- السبيل إلى النسل، اجتماع الذكر، بالأنثى.
وَاتقوا اللَّهَ, مرة ثانية, أمر بعد أمر بتقوى الله، بمخافة الله -تبارك وتعالى-؛ وذلك أن الله أهل لأن يتقى؛ فإنه خلق خلقه ليس عبثا، وليس سدًى، خلقهم لمهمة عظيمة، هي أن يعبدوه -سبحانه وتعالى- أن يأمرهم، وينهاهم وَاتقوا اللَّهَ, اجعلوا وقاية بينكم وبين عقابه -سبحانه وتعالى- خافوه، وعظِّموه -سبحانه وتعالى-, ثم وصف الله -تبارك وتعالى- نفسه قال الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ الذى تساءلون به أي تعظمونه؛ حتى أنه ليسأل بعضكم بعضًا به؛ فيقول: بالله عليك افعل كذا؛ فأمر تعظمونه، وكان المشركون يعظمون الرب -تبارك وتعالى-, ويسأل بعضهم بعضًا إذا أراد بعضهم أن يحقق أخوه له طلبًا، أن يسأله بالله أن يفعل هذا وَاتقوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ اتقوا الأرحام، الأرحام هذه الصلة التي جعلها الله -تبارك وتعالى- بين البشر، صلة الرحم، أصل الرحم هو منبت الولد، سماه الله -تبارك وتعالى- الرحم, هذا تسمية منه -سبحانه وتعالى- كما في الحديث «أنا الرحمن, خلقت الرحم, وشققت لها اسمًا من اسمي, فمن وصلها؛ وصلته, ومن قطعها قطعته», فهذا العضو من المرأة الذى هو منبت الولد, سمى، أو سماه الله -تبارك وتعالى- الرحم، وذلك حتى يشير، ويبين لكل من يلتقون عند رحم واحدة أنهم أهل صلة، فالمتصلون بهذا منبتهم واحد، وأصلهم واحد؛ فأرحم الرحم الأم؛ لأن الابن خلق في رحمها؛ ثم الأب؛ لأنه بذرته هي التي كان منها الأبناء؛ ثم الإخوة، وذلك أنهم يلتقون عند رحم واحدة، خرجوا من رحم واحدة، ولذلك الإخوة لأم أكثر رحمًا من الإخوة لأب؛ ثم الإخوة الأشقاء، ثم الإخوة لأم؛ ثم الإخوة غير الأشقاء؛ ثم بعد ذلك كل من يلتقون عند رحم واحدة، هؤلاء هم الأرحام، الأقارب الذين يلتقون في أرحام واحدة؛ فالله يقول اتقوا الأرحام، اتقوا الأرحام أن تقطعوها، احذروا أن تقطعوا أرحامكم، التي هي بمثابة أصول واحدة تنبئكم أنكم خرجتم من أصل واحد، والتقيتم عند هذا الأمر الواحد؛ فاذكروا هذه الصلة، والله -تبارك وتعالى- يذكركم بهذا وأنكم من أصل واحد، وقد فرض -سبحانه وتعالى- صلات واجبة من التراحم، من التعاطف من التكافل، على كل من يلتقون عند رحم واحدة، بل سموا بالأرحام لهذا {........وَاتقوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] ختام عظيم لهذه الآية الجامعة، وتذكير بأن الله -تبارك وتعالى- مراقب عليكم، أي بمعنى أنه شهيد، لا يخفى عليه من أعمالكم شيءٌ، صغيرها، وكبيرها، بل مطلع على ذواتِ صدوركم؛ فالله مراقب لكم، ويحاسبكم على كل صغير وكبير, {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:7] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:8] هذه الآية هي موضوع هذه السورة، موضوع هذه السورة هو هذا، نستطيع أن نقول أن موضوع سورة النساء هو الأرحام، الصلة التي جعلها الله -تبارك وتعالى- بين الناس، كيف يمكن أن تحافظ على هذه الصلات؟، وما هو الطريق إلى وصلها وعدم قطعها؟، ما هو الفساد الذي يمكن أن يتأتى؟ كيف يمكن معالجة هذا الفساد؟ فهذه السورة بكل أحكامها التي تأتى بعد ذلك، هذا موضوعها، موضوعها تذكير الرب -تبارك وتعالى- ووضع التشاريع لصيانة الأرحام، صيانة الرحم، مراقبة الله -تبارك وتعالى- وحفظ الأرحام، وحفظ هذه الصلة التي من أجلها خلق الله -تبارك وتعالى- الناس من نفس واحدة، وبثهم هذا البث؛ فهذا تذكير من الله -تبارك وتعالى- أن أصل بنى آدم واحد، أصلهم رجل واحد، خلقه الله -تبارك وتعالى- بيديه، كرمه هذا التكريم، خلق زوجه حواء منه؛ ثم نشر الخلق كلهم؛ فمهما تباعد هذا الخلق، واختلف ألوانًا، وأشكالًا، ولغاتٍ، وصفاتٍ, إلا أنهم في النهاية يعودون إلى أصل واحدٍ، كيف يمكن الحفاظ على هذه الصلة؟ ومتى يكون الشخص خارجًا من هذه الصلة؟ بكفره، بخروجه عن تقوى الله- تبارك وتعالى-, وما الأحكام والضوابط التي يمكن أن نحافظ بها على هذه الصلة التي أرادها الله -تبارك وتعالى- أن تكون على هذا النحو؟.
أول حكم من الأحكام قدمه الله -تبارك وتعالى- في أحكام هذه السورة، أحكام اليتامى، قال -جل وعلا- {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء:2] اليتيم، هو الذى مات أبوه وهو دون البلوغ، واليتيم مات سنده، وعضده، مات أبوه، وهو الكاسب، وهو دون البلوغ، البلوغ أصلًا نقول أنه حد الكسب، وحد العمل، حد السعي، والقوة، الطفل، والإنسان دون البلوغ، ما زال ضعيفًا، يحتاج، يحتاج أن يعتمد على غيره، الأب هو الذى أناط الله به الكسب؛ فالرجل هو الذى أناط الله -تبارك وتعالى- به الكسب، وأعطاه القوة، والمنعة؛ فهو الذى يحمى أبناءه، وبناته، وزوجته, إذا مات الأب، انكشف الأولاد، أصبح الأولاد يتامى، يتيم، هؤلاء هم أضعف فصيل، وطائفة، وفرقة في مجتمع ما.
فبدأ الله -تبارك وتعالى- الأحكام التي تعتنى بهم، وتضعهم في أولويات المجتمع, أولًا تحافظ على حياتهم؛ فقال أولًا وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ أعطوا اليتيم ماله، ماله الذى ورثه، إذا كان له مال ورثه عن أبيه، أو عن غيره، فهذا اليتيم يُعْطى ماله، قال: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ, ونسب هذه الأموال إليهم، وإن كانوا صغارًا، أيتامًا، قال: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ, نهي الأولياء الذين يقومون على هؤلاء الأيتام أن يتبدلوا الخبيث بالطيب، من هذا المال، بأن يكون أبوه قد ترك له مثلًا أرضًا جيدةً؛ فيأتي هذا الولي، ويأخذ هذه الأرض الجيدة، ويعطيه أرضًا أخري غيرها، أو يكون أبوه ترك له أنعامًا جيدة مثلًا نياقًا، وجمالًا جيدة؛ فعددًا معينًا تركه، ترك خمسين، مائة رأس؛ فيأخذ هذه الجيدة، ويعطيه الرديئة، ونحو ذلك؛ فيتبدل الخبيث بالطيب، سواءً كان يتبدل فيه، وما زال اليتيم يتيمًا، أو بعد أن يكبر، ويريد أن يصل سن الرشد, ويريد أن يسدد له ماله فيعطيه المال الخبيث الرديء، يأخذ يكون هو قد أخذ المال الجيد قال: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وهذا؛ حتى يقطع الله -تبارك وتعالى- الطريق، ويسد الذريعة على من يفعل مثل هذا الفعل، وقد يوهم نفسه، أنه لم يأخذ شيئًا من مال اليتيم، وإنما كان له مثلًا عشرون رأٍسًا من الإبل؛ فهو له عشرون رأسًا، لكن شتان بين ناقة وناقة, بين أرض وأرض, بين مال ومال, يجب أن يعطى ماله الذى هو ماله، الذى تركه له مورِّثه وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ أن يخلط ماله بمال اليتيم، يخلط مال اليتيم بماله, ثم يصرف منه، وفى النهاية هو يفقد هذا المال، ويقول: لا هذا ماله، نحن كانت بيننا خلطة؛ ثم يضيع مال اليتيم في ماله وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إما بخلطه على هذا النحو، وإما بأن يضيفها إلى نفسه، وأن يأكلها، قال -جل وعلا- {........إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء:2] إِنَّهُ هذا الفعل، أكل مال اليتيم، أو تبديده، أو خلطه على هذا النحو؛ ثم ظلمه في هذه الخلطة, حُوبًا الحوب، الإثم، والذنب العظيم، كبيرا، إنه كان ذنبًا عظيما، أن يفعل الإنسان هذا.
ثم قال -جل وعلا- {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء:3] هنا أتى الله -تبارك وتعالى- إلى اليتامى الإناث، قد يكون هؤلاء اليتامى إناثًا موجودين في حجر الولي عليهم؛ فكانت عادتهم، عادة كثير من الناس ظلمًا منهم لليتامى, إذا كانت في حجره يتيمة، غنية, ترك لها مورِّثها مالًا، وجميلة، يقوم يرغب في نكاحها؛ فلا يعطيها مهر المثل، وهذا؛ ليستولي على مالها، وهي امرأة جميلة فيطمع فيها فلا يعطيها مهر المثل، ولا حقها، ويضم مالها إليه، ويتزوجها، يتزوجها لكن على طريق نوع فيه من الهضم، والظلم للحقوق، وأما إن كانت هذه اليتيمة ذميمة، وليست ذات مال؛ فيرغب عن نكاحها، ويزوجها من يطلبها منه؛ فالله قال: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى ومعنى تقسطوا تعدلوا، وتتزوج اليتيمة التي عندك، أو تزوجها لابنك أو غيره، وتعطيها المهر الذى يليق بها في مستوى مثيلاتها، وتحافظ على مالها وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ غيرهن، لا تظلم نفسك، وتتزوج هذه اليتيمة، أو تزوجها ظلمًا، وعدوانًا، وإنما إن أردت أن تتزوج، تزوج غيرها بعيدًا عن اليتيمات فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ طاب لكم، حسُن في أعينكم من الطيبة، التي تحسن في عينك تزوجها، المرأة تتزوج، لمالها، لجمالها، لحسبها، لدينها، وهي أطيب الطيب أن تتزوج المرأة من أجل دينها, كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه-: «تنكح المرأة لأربع: لمالها, ولجمالها, لحسبها، ولدينها, فاظفر بذات الدين تربت يداك» الشاهد قول الله فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ غيرهن, غير اليتيمة التي لا تحسن إليها ولا تعطيها، ولا تريد أن تعطيها ما تستحقه من مهر المثل، وكذلك أن تحافظ على مالها الذى هو مالها فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى أي أباح الله -تبارك وتعالى- لك أن تنكح مثنى أي اثنتين وَثُلاثَ تجمع بين الثلاث وَرُبَاعَ تجمع بين أربع فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا؛ هذا تتمة لما أباحه الله -تبارك وتعالى- من زواج النساء فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا أي مع الزواج باثنتين أو ثلاث أو أربعة، اقتصروا على امرأة واحدة, أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وهي ملك اليمين أي الأمة ذَلِكَ الاقتصار على واحدة، أو ملك اليمين، وذلك أن ملك اليمين لا يشترط لهن العدل بينهن في القسمة، فله ألّا يقسم بين ملك اليمين، قال: {........ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء:3] تظلموا من العول، و هو الميل ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا تميلوا، وذلك أن الميل غالبًا ما يكون في من تزوج اثنتين أو ثلاث أو أربع ربما مال مع واحدة دون الأخريات ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ألا تميلوا، وفسر كذلك في الوجه الثاني من التفسير ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا تكثر عيالكم؛ فتصبحوا عائلين، والعائل، هو الذى كثر عياله؛ فافتقر لهذا، اكتف على واحدة حتى يصبح عندك أولاد قليلين، ولا تأخذ أربع، ويكثر عيالك؛ فيكون هذا مدعاة إلى الفقر والعيل.
هذا الحكم، أحكام الله -تبارك وتعالى- الخاصة باليتامى ذكورًا، وإناثًا أنه يجب العدل معهم على هذا النحو؛ ثم بعد ذلك أتى الله -تبارك وتعالى- بالأحكام الخاصة بالزوجات {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً........} [النساء:4] هذا أول أمر من الأوامر في النساء، قال: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ صدقاتهن جمع صداق، والصداق هو المهر الذى يعطى للزوجة في عقد النكاح، بموجب عقد النكاح، وهو في مقابل الاستمتاع، والبضع، قال: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً الهبة المقطوعة، وأمر منتحل أي قد نحلته لهذه المرأة بمعنى أنه هبة، هي حق لها، مقطوع لها قد ملكتها إياه نِحْلَةً اقتطع منك، وأصبح من حق المرأة؛ ثم قال -جل وعلا- {........فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4] هذا جعله الله -تبارك وتعالى- من باب للإحسان وللتراحم بين الزوجين قال اذا طابت نفس المرأة عن شيء من الصداق لزوجها، تنازلت له عن شيء، أو بعد أن ملكته، أعطته منه شيئا، أو أكل منه شيئا، أو استخدم منه شيئا بطيب نفس من المرأة قال -جل وعلا- فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا أي أنه حلال أحله الله -تبارك وتعالى- حلال طيب ليس فيه شيء من الخبث؛ فحتى لا يظن أن المرأة ملكت هذا المال كمقابل للبضع، وأنه لا يحل للرجل أن يسترد شيئًا، أو أن يأخذ شيئا، أو ينتفع بشيء من هذا المال فإن الله -تبارك وتعالى- جعل هذا، وإن كان قد تملكته المرأة، لكن من باب الإحسان أنه اذا سمحت المرأة للزوج، بأن يأكل شيئًا، أو تتنازل له، أو أن تعطيه شيئًا من هذا المهر، أو الصداق الذى أعطاها؛ فلا بأس للرجل أن يأكل هذا؛ فإن هذا كما قال الله -تبارك وتعالى- فَكُلُوهُ هَنِيئًا الهنيء المريح، هنيء من الهناء مَرِيئًا مستساغًا ليس فيه أي حرج، ولا أي إثم في أكله, ثم رجع الحكم إلى بيان كيفية معاملة اليتامى والصغار في المال، قال -جل وعلا- {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء:5] وَلا تُؤْتُوا لا تعطوا السُّفَهَاءَ جمع سفيه، والسفيه، هو الخفيف، الطائش الذى لا يحسن ولا يقدر قيمة المال؛ فقد ينفق مالًا كثيرًا في شيء قليل، رخيص؛ لأنه لا يقدر قيمة المال، السفه يكون بأسباب، إما كبير السن، ولكن ضعيف العقل، وإما صغير السن، ولم يبلغ العقل بعد ذلك؛ فهذا كله سفيه، وإما كبر، وخرف، وأصبح سفيهًا من حيث التصرف؛ فكل هؤلاء يدخلون في باب معنى السفاهة وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ هنا جعل الله -تبارك وتعالى- مال هذا السفيه هو مال الأمة، مال الأولياء، قال: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا علمًا أن هذا ماله، علما أن هذا قد يكون مال اليتيم نفسه الصغير السن، هو ماله, لكن هنا ما قال الله: "وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَهم" لا بل قال وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ جعلها مالكم؛ وذلك أن مال الفرد، هو مال الكل في النهاية، ولا يجوز أن يمكن السفيه من أن يحرق ماله، أو أن يبدده، أو أن يبذره، لأن هذا في النهاية يعود لأنه مال الكل، وأنه مال الأمة؛ فالتبديد وترك السفهاء ليبذروا أموالهم، ليتلفوها يعود بالنقص على الأمة، لأن نحن أمة، وإن كنت هذا يملك مالا، وهذا يملك مالا لكن في النهاية هذا مالنا جميعًا؛ فقال -جل وعلا- وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا جعل الله تبارك وتعالى هذا المال قيامًا لكم؛ فلا قيام إلا بالمال؛ فالمال المسكن، والمأكل، والمشرب، ونفقة الحرب، وعدة الجهاد، هذا لا قيام إلا بالمال؛ فتمكين السفيه من أن يتلف ماله، نعطيه مالًا يتلفه، يحرقه، يبذره هذا في النهاية ضياع لثروة الأمة، ولأموال الأمة كلها؛ فلذلك قال: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ لا تمكنوا السفهاء تعطوهم {أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء:5] أرزقوهم في هذا المال فِيهَا هذا يدل على أن المال كله له مال السفيه، له اذا كان ورث، ما ورث؛ فهذا ماله؛ فيرزق في ماله هذا رزقه، طعامه، شرابه، وكسوته، فينفق عليه من ماله يكون هناك يد عليا، تمسك هذا المال، ولى، أو الإمام، أو من ينوب عن الإمام, يمسك هذا المال لهذا السفيه، بهذه المعاني التي تركناها، كان هو صغير السن، يتيم صغير السن لم يبلغ بعد، رجل كبير ولكنه قد خرف قد يتصرف بالمال تصرف غير صحيح، الكبير في السن بلغ سن الرشد لكنه ضعيف العقل، لا يحسن إدارة ماله؛ فكل هؤلاء تكون له يد عليا، ولى يمسك هذا المال، ويرزق هذا السفيه، ينفق عليه من ماله {........وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء:5] أيضا لا ينبغي أن يقال له أنت سفيه، أنت لا تحسن التصرف بالمال، وإنما يقال له قول معروف, مالك في الحفظ، وفى الصون، سينفق عليك من هذا المال، ولا تخاف لن يضيع عنك شيء من مالك، المال محفوظ لك، وإنما هذا بيد أمينة إذا كبرت ستعطى مالك هذا كاملًا, هذه حساباته، قول معروف، يعامل بالمعروف، حتى لو كان كبيرًا مثلًا كرجل كبير ولكنه خرف, كذلك إذا حجر عليه يخاطب أيضا بالمعروف؛ فالخطاب وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا لا تؤنبوهم، ولا تبكتوهم، ولا تذكروهم بأنهم سفهاء، ضعاف العقول، لا يستطيعون التصرف في المال، لا بد أن يجبروا على هذا الأمر، وإنما يجب هذا من رحمة الله -تبارك وتعالى- ومن تعليمه بالخلق الفاضل أن نخاطب هذا السفيه، خطابا طيبا، لائقا، معروفًا حتى لا تكسر من نفسه، ومن عزيمته.
نكتفى اليوم بهذه الآية، ونكمل إن شاء الله في الدرس الآتي، أستغفر الله لي، ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده، ورسوله محمد.