السبت 22 جمادى الأولى 1446 . 23 نوفمبر 2024

الحلقة (114) - سورة النساء 5-11

الحمد لله رب العالمين، وأصلي، وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء:5] {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفي بِاللَّهِ حَسِيبًا} [النساء:6] يأمر الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين، وهذا في معاملتهم لليتامى، أولًا قال: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} لا تؤتوا السفيه، ضعيف العقل، الطائش الذى لا يحسن التصرف في المال، كالصغير، أو الكبير الذى هو خفيف عقل، ليس عنده تقديرٌ للمال، أو الكبير الخرف الذى بلغ سن الخرف، وضياع العقل؛ فكل هؤلاء لا يجوز تمكينهم من أموالهم ليأخذوها، ويبذروها ويتلفوها، بل يجب أن يقوم عليهم أولياء يمسكون هذا المال، وينفقون على هؤلاء السفهاء من أموالهم، وسمى الله -تبارك وتعالى- هذا المال مال السفيه -وإن كان يملكه- كأنه ليس ماله {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} فنسبها للأولياء، وإلى الأمة، ذكرنا أن هذا لأن مال الفرد هو مال الأمة في النهاية؛ فضياع، إضاعة السفيه لماله، إضاعة لجزء من المال للأمة، قال -جل وعلا- {........وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء:5] لا تبكتوهم، وتؤنبوهم، وأنك سفيه لا تحسن التصرف في المال، لا نعطيك مالك، إنما يخاطب خطابًا كريمًا؛ ثم قال -جل وعلا- وَابْتَلُوا الْيَتَامَى ابتلوهم بمعنى اختبروهم حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ أولا لا بد أن يعوَّد اليتيم قبل النكاح على تقدير قيمة المال، حسن التصرف فيه، تعليمه كيف ينفق المال، وكيف يكسبه، حتى إذا بلغ النكاح وكان قادرًا على التصرف بالمال؛ فالأول يجرَّب، يعطى مالًا ليتجر فيه، يعمل به، حتى إذا بلغ النكاح يكون أصبح مؤهلًا لأن يأخذ ماله، يتصرف فيه تصرف المالك فيما يملك حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ قال -جل وعلا- فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا, آنستم علمتم هنا رشدًا, ظهر لنا من تصرفهم الرشد، والرشد هو نوع من كمال العقل الذى يعرف به الشخص كيف يتصرف في ماله؟، كيف ينميه؟، كيف يحافظ عليه من الضياع؟، كيف ينفقه في الوجوه الصحيحة؟, فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا أي في التصرف في المال فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ, يصبح الآن رجلًا كامل الأهلية؛ فيعطى ماله الذى يكون قد ورثه قبل ذلك، وكان محجورًا عليه في وقت الصغر في أن يتصرف في ماله فيدفع إليه، قال: فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ قال -جل وعلا- وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا هذا تحذير من الرب -تبارك وتعالى- أن يقوم الولي على اليتيم؛ فيأكل ماله في حال صغر هذا اليتيم إِسْرَافًا مبذرًا، منها أنه ليس ماله، وإنما مال هذا اليتيم؛ فيتوسع فيه في غير المطلوب وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا مبادرة هذا الكبر؛ حتى لا يأخذ ماله, فيحاول في وقت ما يكون هو محجورًا عليه أن يسرع في إنفاق ماله، وتصريف ماله حتى إذا جاء هذا اليتيم، وبلغ السن يكون قد فقد ماله، وضاع ماله, وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا قال -جل وعلا- وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ من كان من الأولياء الذين يقومون على مال اليتيم غنيًا أى بما أعطاه الله -تبارك وتعالى- من ماله الخاص فَلْيَسْتَعْفِفْ عن مال اليتيم, لا يأكل منه شيئًا، حتى في ما يقوم عليه من الخدمة، وتنمية المال، ينمي مال اليتيم، يقوم بخدمة هذا اليتيم، من الإنفاق عليه، من رعايته يستحق أجرًا هنا؛ فالله -تبارك وتعالى- قال أنت أغناك الله، إذا كان الله -تبارك وتعالى- قد أغناك من ماله لا ينبغي لك أن تأخذ أجرة، وأجرًا عن رعايتك هذا اليتيم, وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ إذا كان القائم على مال اليتيم فقيرًا؛ فليأكل من مال اليتيم بِالْمَعْرُوفِ أجرًا مثله، خد أجرًا مثله, عنده مثلًا بنايات، عنده عمارات، عنده أرض زراعية، عنده أنعام، عنده مال يستثمر، خذ من قيامك على مال اليتيم، ورعايتك له بالمعروف، بالمعروف بما هو  يتعارف عليه الناس، أنه والله يتعارف بالقيام على هذا المال على أنه يستحق كذا, وكذا من الأجر؛ فخذ أجرك بما هو متعارف عليه؛ ثم قال -جل وعلا- فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ اذا أصبح اليتيم كبيرًا، راشدًا، ودفعت إليه تريد أن تسلمه ماله الذى عندك، قال -جل وعلا- فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ أعطه ماله لكن بإشهاد، وذلك حتى لا يحصل بعد ذلك  تخوينٌ، وتخطيءٌ، وظنونٌ؛ فيكون الأمرُ واضحًا، وبإشهاد فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ قال -جل وعلا- {........وَكَفي بِاللَّهِ حَسِيبًا} [النساء:6] كفي بالله محاسبًا، لا محاسبَ كالله -تبارك وتعالى-, اعلم أن الله -جل وعلا- سيحاسب الجميع حَسِيبًا أي محاسبًا -سبحانه وتعالى-, توثيق أخذ المال على هذا النحو بالإشهاد أمرٌ عظيم جدًا، ولو كان هذا التوثيق كذلك  بكتابة مع الإشهاد يكون توثيقًا على توثيق، لأن الشهداء قد يموتون، وأما الكتابة فإنها تكون كذلك موجودة، وموثقة فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ -قال جل وعلا- {........وَكَفي بِاللَّهِ حَسِيبًا} [النساء:6].

 انتهت الآيات هنا من الطريقة المثلى، الطريقة الربانية من الله -تبارك وتعالى- جاءت منه -سبحانه وتعالى- لكيفية السير في مال اليتيم؛ ثم جاءت الأحكام بعد ذلك نقلة في المواريث، قال -جل وعلا- {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء:7].

 لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ الرجال الذكور نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وهم المورثون وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ فنصَّ على أن لهؤلاء نصيبًا، ولهؤلاء نصيبٌ، وهذا ردٌّ لما كان متعارفًا عليه في الجاهلية عند العرب أنهم لا يورثون، ما كانوا يورثون النساء، ولا كانوا يورثون الصغار من الرجال من حيث  أنهم لا مئونة لهم في الحرب، ولا في الكسب؛ فقالوا كيف نورث من لا يدافع عن المال، ولا يقاتل؟؛ فالمرأة عاجزة عن الكسب، وعاجزة عن الدفع؛ ما كانوا يورثون  الصغار، ولا النساء فقال الله -تبارك وتعالى- هذا, ولهذا له نصيب {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ........} [النساء:7] ثم قال -جل وعلا- مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ سواءً قل المال، ترك الميت مالًا كثيرًا، أو قليلًا؛ فلا بد أن يوزَّع حسب النصيب المفروض الذى فرضه الله -تبارك وتعالى- للرجال، والنساء {........نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء:7] نَصِيبًا جزءًا لكل شخص من هؤلاء الورثة رجالًا، ونساءً مَفْرُوضًا فرضه الله -تبارك وتعالى- ثم قال -جل وعلا- {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء:8] وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ قسمة التركة أُوْلُوا الْقُرْبَى أهل القرابة ممن ليسوا بوارثين وَالْيَتَامَى ضعاف مساكين، وغالبا ما يكون اليتيم الذى مات أبوه دون البلوغ من أهل الحاجة وَالْمَسَاكِينُ أهل المسكنة، والمساكين هم الذين لا يجدون غنى يغنيهم، وجاء في التعريف لا يجد غنًى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه؛ لأنه مستور، هو فقير مستور فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ بعضه, أعطوهم شيئًا من هذا المال، من مال التركة {........وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء:8] وقولوا لهم قولا معروفًا من باب الإحسان إليهم, ولا يقال لهم أنتم جئتم في وقت التركة، وأنتم كذا، وأنتم كذا؛ فيؤنبون، ويعنفون، وإنما يقال لهم قولًا معروفًا مهما أعطى شيئًا قليلًا، أو كثيرًا؛ فأمر الله -تبارك وتعالى- مع الإحسان إليهم بشيء من المال، أن يقال لهم أيضًا القول المعروف، حتى لا يصدر من أحد إساءة إليهم لحضورهم القسمة، وطلبهم لهذا المال؛ ثم قال -جل وعلا- {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9] الخشية الخوف وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ  إن كل إنسان يخاف على أولاده، وذريته الضعفاء أنهم صغار، أنه إن مات عنهم وهم صغار يخاف عليهم؛ فكما أنت تخاف أن يحصل لك هذا؛ فكذلك أحسن إلى من مات وترك ذريةً ضعافًا؛ فأحسن كذلك إليهم أنت، إذا كان العبد المؤمن يخاف على أولاده، وذريته أن يترك لهم مالًا كثيرًا؛ ثم يتسلط على مالهم هذا قريب ظالم، أو ولى ظالم؛ فيظلمهم المال، ويمنعه؛ لأنهم صغار؛ فإذن أحسن كذلك كما تحب أن يحسن إليك؛ فأحسن كذلك إلى غيرك {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ........ } [النساء:9] فليتقوا الله خافوه -سبحانه وتعالى- {........وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9]  في كل هذه الأمور، عند قسمة التركات، قولًا سديدًا بمعنى أعطوا كل ذي حق حقه حافظوا على هذا المال، لا تردوا هذا السائل، ونحو ذلك من القول السديد، القول السديد هو الصائب الذى يبلغ  هدفه الصحيح، والقول غير السديد هو القول الطائش، الذى هو من أقوال الظلم، والذى يميل، يأمر كل أمر هو مائل عن الحق، وأما القول السديد فهو القول الذى يبلغ قصده الذى هو قصده؛ ثم حذر الله -تبارك وتعالى- من أكل مال اليتيم بآية فيها وعيد شديد، قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10] قيل ليس في القرآن آيةٌ أشد زجرًا ووعيدًا من هذه الآية، هذا تهديد، ووعيد من الله -تبارك وتعالى- للذين يأكلون أموال اليتامى ظلما، قال: إِنَّ بالتأكيد يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا وجاء التعبير بالأكل هنا، وذلك أنه أعظم وجه للنفقة، والعرب تقول لكل من أخذ المال بغير حقه يقول أكله، وإن كان لم ينفقه في الطعام، وإن أنفقه في أي أمر آخر، وهو تعبير أيضا معروف عند الناس، أكل عليَّ مالي، أو أكل مالي بمعنى أنه أخذه، وجحده، وصرفه؛ فالذين يأكلون أموال اليتامى ظلما بمعنى أنهم يحوزونها، ويأخذونها سواء أنفقوها في أية صورة من الإنفاق ظُلْمًا حال كون أخذ مال اليتيم ظلمًا، قال -جل وعلا- إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا إنما للحصر, هذا الذى أكلوه، وإن ظنوه حلالًا، أو غير ذلك، أو أنه خفية، أو أن الله  لن يحاسبهم عليه، أو ظنوه أمرًا صغيرًا؛ فليعلموا أنهم لا يأكلون إلا النار إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا هذا المال الذى أكلوه سيحوله الله -تبارك وتعالى- نارًا يأكلونها يوم القيامة وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا تهديد منه -سبحانه وتعالى- أنهم سيصلون سعيرًا؛ بأكلهم أموال اليتامى ظلما؛ فهذا وعيد شديد من الله - تبارك وتعالى- على الذى يتسلط على مال اليتيم، ويأخذه على وجه الغصب، أو الخيانة، أو السرقة أو المبادرة، أو أي صورة من صور الأكل, ثم شرع الله –تبارك وتعالى- يبين كيفية التوارث؛ فقال -جل وعلا- {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ........} [النساء:11] يُوصِيكُمُ هذه وصية، وهذى وصية لا شك أنها أمرٌ لازمٌ، واجبٌ، وإنما جاءت بصورة الوصية، الوصية دائما تكون من محب لمن يحب، مِن مَن هو  حريصٌ على المصلحة؛ فدائمًا الوصية في كلام الناس؛ فنقول أبٌ يوصى أبناءه، إمامٌ يوصى رعيته، أمٌّ توصى ابنتها, صديقٌ يوصى صديقه، فدائما يأتى ممن بينهم ولاية، وصلة، ومحبة؛ فالله -جل وعلا- رب العالمين يوصى عباده المؤمنين، هذى وصية لعباده المؤمنين، من باب أنه -سبحانه وتعالى- يحب لهم الخير، ويرشدهم إليه، ويدلهم عليه، وأن هذه وصيته -سبحانه وتعالى-؛ لأن فيها خيرًا لهم في الدنيا، والأخرة يُوصِيكُمُ اللَّهُ، الله الذى يوصيكم فِي أَوْلادِكُمْ أولاد الإنسان، وهؤلاء أولادكم، لكن الله -جل وعلا- هو أعرف، وأعلم منك بما يصلحك، وهو -سبحانه وتعالى- أعلم منك  بحق أولادك، وبما يصلح أولادك, بما يكون لك الخير في معاملتك لأولادك يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ أولا قال: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ بدأ الله -تبارك وتعالى- هنا بميراث الأبناء من الآباء، وذلك أن هذا هو العام، هو أكثر شيء قبل أن يبين ميراث الآباء من الأبناء، لأن الأكـثر يكون على هذا النحو، قال: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ الذكر له نصيب مضاعف لمثل حظ الأنثيين، المرأتين؛ ثم قال -جل وعلا- فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ اثنتين فما فوق فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ إذا كان الميت، مات الميت، وله أبناء ذكور، وإناث؛ فيأخذ الذكر مثل حظ الأنثيين، أما إن مات الميت وليس له إلا نساء؛ فإن كن اثنتين فما فوق, أكثر من اثنتين فلهن ثلثا ما ترك، يأخذان ثلثين تقريبًا وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً, له ابنة واحدة فقط فلها النصف، قول الله يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ أولادكم يدخل فيها الولد وهو الابن، وابن الابن، وكذلك النساء بنات، أو بنات ابن, وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً ترك بنتا واحدة فلها النصف, ويكون طبعا الباقى لأقرب الذكور كما قال النبي «ألحقوا الفرائض بأهلها, فما بقي فلأولى رجل ذكر» هذا هو ميراث الأولاد.

 ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- ميراث الآباء؛ فقال وَلِأَبَوَيْه, أبويّ الميت لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ, أبويه أبوه، وأمه، مات ميت، ترك أبًا وأمًّا فهذان لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ, سواء أكان ذكرًا، أو أنثى، طبعًا ولد، أو أكثر، وترك أبويه؛ فيكون لكلٍ من الأب، والأم هنا يتساوى نصيب الأب، والأم؛ فكل منهما له السدس؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ ولد من صلبه، ولد وارث فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ إذا لم يكن له ولد، وإنما له أب، وأم؛ فالأم تأخذ الثلث معنى ذلك أن الأب يأخذ ضعفها، يأخذ الثلثين فَإِنْ كَانَ لَهُ إخوة وهؤلاء سواء كان هؤلاء إخوة وارثين يرثون أم لا يرثون, فلأمه السدس، الإخوة يحجبون الأم من الثلث إلى السدس, فَإِنْ كَانَ لَهُ إخوة فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ قال -جل وعلا- مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ لا توزيع للتركة إلا بعد الديون، والوصايا، أول شيء في توزيع التركة طبعًا من تركة الميت، تجهيزه، ودفنه؛ ثم بعد ذلك أداء ديونه التي هي للعباد؛ ثم الوصايا التي أوصى بها، قال أهل العلم بأن الله قدم الوصية حتى يعتنى بها، ويهتم بها، وذلك أنه ربما الورثة لا يهتمون بإنفاذ وصايا الميت من باب أنها من باب الخير، فقدمها الله -تبارك وتعالى- حتى يهتم بها، وإلا قالوا في أن الدين عن الميت مقدمٌ عن الوصية لأن الدين حقٌ للأفراد، ولازم، ويجب أن يؤديه، قالوا إن دين الأفراد يقدم؛ لأن الأصل فيها المشاحة ولأنه يعذب عليه، كما جاء أنه يعذب حتى يسد عنه، كما في الحديث الصحيح أن النبى -صلى الله وسلم- كان إذا مات الميت يسأل هل عليه دين؟  هذا في أول الإسلام فإن قيل عليه دين؛ يقول: صلوا على صاحبكم، وإن قالوا: ليس عليه دين يقوم النبى يصلى عليه، يمتنع النبى من الصلاة عليه من باب الزجر، والنهي عن الاستدانة، يقول: في حديث أبى قتادة أن النبى -صلى الله وسلم- قدمت جنازة مرة؛ فقال: عليه دين؟ فقالوا: يا رسول الله عليه ديناران؛ فقال: صلوا على صاحبكم؛ فجاء أبو قتادة رضى الله تعالى عنه؛ فقال: يا رسول الله  الديناران علىَّ، قم فصلِّ عليه؛ فقال له النبي: الديناران عليك، وبرئت منهما ذمة الميت، قال: نعم قال: فقام النبي -صلى الله وسلم- فصلى عليه؛ ثم قابلني من الغد،  بعد دفن هذا الميت في اليوم الذي يليه قابله، قال له: يا أبا قتادة ماذا فعل الديناران؛ فقلت: يا رسول الله إنه مات بالأمس ما تمكنت بعد ذلك من السداد؛ ثم يقول قابلت النبي بعد ذلك فقلت:  يا رسول الله سددت الدينارين فقال النبي: الآن بردت جلدته، في هذا الوقت الذى تم فيه السداد عن الميت، قال بردت جلدته، هذا الحديث، وهو في الصحيح فيه وعيد، وإخبار شديد بأن الدين، وإن كان أمرًا مباحًا إلا أن الميت يعذب عليه حتى يسد عنه من أجل هذا قال أهل العلم بأن الدين مقدم على الوصية، لأن الوصايا غالبًا ما تكون تبرعات، وإن كان التزمها الشخص، وفي الحديث أن النبي -صلوات الله وسلامه عليه- قالت له امرأة إن أمي نذرت أن تصوم شهرًا، وماتت، ولم تصم، فقال لها: أرأيتِ على أمك دين أكنتِ قضيته؟ قالت : نعم، قال: فاقضوا فدين الله أحق بالقضاء؛ فالنبى -صلى الله وسلم- قال لها؛ فاقضوا  إن حق الله -تبارك وتعالى- يقدم كذلك مع ما فرضه الميت على نفسه، ومات ولم يؤده فأصبح دينًا عليه نحو الله -تبارك وتعالى- يجب أن يؤدى كذلك، قالوا أيضًا بأن قول النبي؛ فدين الله أحق بالقضاء, ليس على إطلاقه في التقديم هنا تقديم الوصية التى جعلها العبد لله، كأن يقول لله على مثلًا نذر، أو إذا مِتُّ؛ فثلث مالي لله؛ فإذا قال ثلث مالي هذا لله، هذا تبرع منه؛ فهذا هل يقدم على الدين؟، قالوا الدين يقدم على هذا؛ لأن هذا من باب التبرعات، أما إن كان نذرًا لله، هل إذا كان نذرًا لله -تبارك وتعالى- وقال ووصى ترى على نذر هذا فأدوه, هل يقدم النذر الذى جعله لله على الدين للعباد؟، هذا الذى قال فيه أهل العلم بأن ما توجب للعباد هنا يقدم؛ لأن حقوق العباد قائمة على المشاحة وذلك أن العبد بخيل، وشحيح، يطالب بحقه؛ فيقدم هنا حتى يخرج المؤمن من هذه المطالبة وأما الرب -تبارك وتعالى- فمسامح كريم، قد يسمح ربنا -سبحانه وتعالى- ويغفر عن حقه خاصة إذا لم يوجد من المال إلا ما يكفي الدين فقط، ولا يسع سداد الدين، والوصايا، على كل حال تقديم الله -تبارك وتعالى- للوصية هنا لا شك أنه للعناية بها؛ ليأمر الأولياء للعناية بها, قال مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا الميت أَوْ دَيْنٍ عليه, فلابد من أداء هذا وهذا قبل توزيع التركة؛ ثم قال -جل وعلا- آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فلتوزع التركة كما أمر الله -تبارك وتعالى-, ولا يحابى الميت فيوصى مثلًا، بأن يصرف، ويوجه المال إلى الأم دون الأب، أو الأب دون الأم، أو العكس يعطى الذكور عن  الإناث، أو الإناث عن الذكور، أو يقدم بعض الأولاد على بعض، قال -جل وعلا- آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا لا تدرى من هو الأقرب نفع لك؟ ربما يكون هذا الذى أردت حجبه، ومنعه عن الميراث، أو تنقيصه من حقه هو أقرب وأنفع لك عند الله -تبارك وتعالى- لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا ثم قال -جل وعلا-  فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ حال كون هذا التقسيم، والأنصباء التى جاءت على هذا النحو، هذه فريضة من الله، الله -جل وعلا- هو الذى فرضها، ومعنىى فرضها بمعنى أوجبها, أمر لازم عليكم {........إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:11] ختم الآية الله -تبارك وتعالى- ختم هذه الآيات بأنه -سبحانه وتعالى- عليم، لا يخفى عليه شيء -سبحانه وتعالى- من  الشئون, بل الرب -تبارك وتعالى- عليم بكل شيء، عليم بما يصلح العباد، وما لا يصلحهم، ولذلك فرض هذه الفرائض بناء على علمه -سبحانه وتعالى- بصلاح عباده، حكيم يضع كل أمر في نصابه -سبحانه وتعالى- فسلموا له؛ فهو أعلم من الخلق، وأعلم من البشر، وحكيم يضع كل أمر في نصابه -سبحانه وتعالى- فهذه تقسيم، وتوزيع العليم، الحكيم -سبحانه وتعالى- ثم إنه هو الذى فرض هذا على عباده -جل وعلا-؛ ولذلك سمى هذا العلم علم الميراث، علم الفرائض، الفرائض، وهى الفروض التى فرضها الله وأوجبها الله -تبارك وتعالى- على عباده بهذا التقسيم.

نقف اليوم عند هذه الآية، وأصلى، وأسلم على عبد الله ورسوله محمد.

والحمد لله رب العالمين.