السبت 22 جمادى الأولى 1446 . 23 نوفمبر 2024

الحلقة (115) - سورة النساء 11-17

الحمد لله رب العالمين، وأصلي، وأسلم على عبد الله، ورسوله الأمين، وعلى آله، وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالي- {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امرأة وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [النساء:12] بعد أن بين الله -تبارك وتعالي- وصية الأبناء، وميراث الأبناء، وميراث الآباء, هنا جاء في هذه الآية ميراث الأزواج والزوجات, وميراث الإخوة لأم؛ فقال -جل وعلا- وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ الخطاب للمؤمنين الذكور وقال: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ أي زوجاتكم لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فإذا ماتت المرأة، ولم يكن لها ولدٌ لا منها، ولا من زوجها الذى ماتت عنه؛ فهذا الزوج يكون له نصفُ تركتِها فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ ولد لهذه المرأة, سواء كان من هذا الزوج، أو من غيرها, لها ولد, فَلَكُمُ الرُّبُعُ لزوجها الذي ماتت المرأة وهى عنده الربع مِمَّا تَرَكْنَ, ثم قال -جل وعلا- مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ أنه لا توارث، لا ميراث إلا بعد إنفاذ وصايا الميت، وأداء الديون التي عليه للأفراد، الوصية: ذكرنا أن الوصية لا تحل إلا حدها الأعلى في ثلث التركة, كما جاء في حديث سعد بن أبى وقاص في الصحيح أنه لما مرض في فتح مكة، وجاء النبي -صلى الله وسلم- يعوده؛ فقال له يا رسول الله إني ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة؛ أفأجعل مالي كله في سبيل الله، قال له النبي لا، قال فالشطر قال له النبي لا, قال: فالثلث, قال له النبي: الثلث، والثلث كثير, ثم قال له: يا سعد, إنك إن تدع ورثتك أغنياء خيرًا من أن تدعهم عالة يتكففون الناس, ثم أخبره النبي -صلى الله وسلم- بأن كل نفقة ينفقها يبتغى بها وجه الله يؤجر عليها، قال له: واعلم أنك لن تنفق نفقة تبتغى بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى اللقمة تضعها في فيّ امرأتك أي في فم امرأتك؛ فكل نفقة ينفقها العبد يبتغى بها وجه الله حتى ما أوجبه الله -تبارك وتعالي- عليه من النفقة لأولاده، ولزوجته؛ فهو مأجورٌ على ذلك ما دام أنه يبتغى بذلك وجه الله, فيدخل في هذا كذلك ما يورثه المؤمنُ لورثته يبتغي بذلك وجه الله، يبتغى أن يعفهم عن المسألة، وأن يكون هذا سترًا لهم، ويريد بهذا وجه الله -تبارك وتعالي- أن هؤلاء أبناؤه، ويجعل لهم هذا المال سترة لهم، وأن هذا تنفيذٌ لأمر الله -تبارك وتعالي-؛ فيكون مبتغيًا بهذا وجه الله, فهو مأجورٌ على هذا؛ فالشاهد أن الوصية لا تحل إلا في ثلث المال، وأما في الزيادة عن الثلث فباطلةٌ، وكذلك أيضًا لا تحل الوصيةُ لوارثٍ، كما قال النبي -صلى الله وسلم- بعد نزول آيات الميراث إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه؛ فلا وصية لوارثٍ، هذا الوارث أعطاه الله -تبارك وتعالي- حقه فلا يجوز أن يوصى له بشيء من المال زيادة على الفرض، أو النصيب الذى جعله الله -تبارك وتعالي- له مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا يوصين بها الزوجات أَوْ دَيْنٍ, ثم قال -جل وعلا- وَلَهُنَّ الرُّبُعُ, هذا ميراث الزوجات من الأزواج، قال: وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ, فإذا مات ميت، رجلٌ، وترك زوجةً، ولم يكن لهذا الميت ولدٌ، سواءً كان منها، من هذه الزوجة أو من غيرها؛ فتكون لهذه المرأة لها الربع, وَلَهُنَّ الرُّبُعُ ربع التركة, مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ تكون لزوجته الثمن مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ لا يأخذ الوارث، لا تأخذ المرأة  نصيبها ربع كان، أو ثمن إلا بعد إنفاذ الوصايا التي أوصى بها هذا الميت و هو الزوج قبل موته, مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ثم قال -جل وعلا- وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امرأة وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ الكلالة هو المفسر هنا، وهو أنه ليس له أصلٌ وارث كالأب، وليس له فرعٌ وارثٌ كالأبناء؛ فليس له آباءٌ، ولا أبناءٌ، وإنما له إخوة، والإخوة هنا إخوة لأم وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امرأة كذلك تورث حال كونها كلالة وَلَهُ لهذا الرجل أَخٌ أَوْ أُخْتٌ أي من أم فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ كل واحد من هؤلاء الإخوة يأخذ السدس، وهذا يتساوى فيه الذكور والإناث, فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ إن كانوا اكثر من ذلك، من الفرد اثنين فصاعدًا فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ اثنان أخوان لأم، أو أخ، وأخت لأم فصاعدًا  إخوة متعددون فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ كلهم، وشركاء يصيرون بنسبة واحدة فِي الثُّلُثِ ثلث التركة مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ من بعد وصية يوصى بها, البناء هنا لما لم يسمى فاعله، والفاعل هنا وهو الكلالة سواء أن كان رجلًا ميت أو امرأة, ثم قال -جل وعلا- غَيْرَ مُضَارٍّ حال كونه غير مضارر, بمعنى أنه يوصى بالمال لأمر بعيد، أو ليحجب هؤلاء الإخوة, فلا يضار أحد وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ أي أن هذه الفرائض يفرضها الله -تبارك وتعالي- وهى وصية منه -سبحانه وتعالي-, فبدأ الله -تبارك وتعالي- ببيان هذه الأحكام بأنها إيصاء منه، قال: يوصيكم الله في أولادكم ثم قال: فريضة من الله، وهنا بعد أن بين الله -تبارك وتعالي- هذه الفرائض قال: وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ يعن كل هذه الأحكام إنما ينزلها الله -تبارك وتعالي- عليكم، ويبينها لكم وصية منه -جل وعلا- {........وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [النساء:12] والله عليم -سبحانه وتعالي-, وحليم من حلمه أنه لا يعجل العقوبة -سبحانه وتعالي-, وإنما يحلم -جل وعلا-, وهذا توجيهٌ منه لعباده -سبحانه وتعالي-, بوجوب الحذر منه -سبحانه وتعالي-, وكذلك بوجوب الصفح عن المسيء، وأن يعلموا أن هذه التشريعات إنما هي بناء على علم الله -جل وعلا- وعلى حلمه -سبحانه وتعالي-, ثم قال -جل وعلا- {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ........} [النساء:13] تِلْكَ المشار إليها هذه الحدود، وهذا التفصيل الذى فصله الله -تبارك وتعالي- في المواريث حُدُودُ اللَّهِ حد هو هذا  المشروع بهذه الصفة، وبهذه الفريضة هذا نصف، وهذا ربع، وهذا ثمن، وهذا ثلث، وهذا ثلثان, هذه حدود حدها الله -تبارك وتعالي- ومقادير قدرها الله -تبارك وتعالي- على هذا النحو في حضرة هذا يأخذ، وفي حضرة هذا يمنع، وفي حضرة هذا يحجب حجب النقصان؛ فهذه حدود الله -تبارك وتعالي- هو الذى حدها على هذا النحو؛ ثم قال -جل وعلا- وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ هذا وعد عظيم من الله -تبارك وتعالي- وحض منه -سبحانه وتعالي- على طاعته في أحكامه قال: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فجعل الطاعة له ولرسوله؛ لأن الرسول يأمر بأمر الله -تبارك وتعالي-, وقد بين النبي هذه الحدود، وفصلها -صلوات الله وسلامه عليه-, كما قال النبي -صلى الله وسلم- «أعطوا الفرائض لأهلها فما بقى فلأولى رجل ذكر»  وكذلك طبق بنفسه -صلى الله وسلم-  هذا الأمر فأعطى ابنتي سعد الثلثين, فبعمله، وبقوله، وبإرشاده -صلى الله وسلم- أمرنا الله -تبارك وتعالي- أن نطيعه، ونطيع رسوله -صلى الله وسلم- طاعةً مطلقةً، قال -جل وعلا- يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ المطيع لله، ورسوله موعود من الله -تبارك وتعالي- بأن يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ بساتين في الآخرة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا من تحت قصورها، أو من تحت أشجارها الأَنْهَارُ العظيمة خَالِدِينَ فِيهَا باقين فيها بقاء دائمًا لا ينقطع، الخلود هو المكث الطويل {........وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء:13] دخول هذه الجنة، وحصولها للعبد هو الفوز العظيم، أعظم فوز هذا ما في شيء أعظم من هذا، وذلك أن الدخول في هذه الدار إقامة الدائمة، لا موت، لا رحيل، لا سفر؛ ثم لا هم، ولا غم؛ ثم كل ما يحلم ويتمناه العبد يجده، ولا حجابَ دون شيء، ما في حجاب، ما في منع دون أي نعيم، وقد كمل هذا النعيم، وخلص من كل تكدير، لا تكديرَ، ولا تشويشَ في نعيم الجنة، أي تشويش {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} [الغاشية:11] {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا} [الواقعة:25] {إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:26] {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ} [الواقعة:32] {لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة:33] فانقطاع الفاكهة، تأتى في فصل، وتقطع في فصل، أو مَمْنُوعَةٍ بسور، أو بحارس، أو بسوق، لا، وإنما كل أمور الجنة  على أتم أنواع الاستمتاع بها، والسرور بها، والحبور، ولا نقص فيها؛ فهذا الفوز العظيم، وذلك الفوز العظيم من يدخله الله -تبارك وتعالي- هذه الجنة، وهى جزاء لمن أطاع الله ورسوله؛ ثم دائما الله -تبارك وتعالي-  في قضية الآخرة والنهاية والمآل يذكر ثواب الطاعة، وثواب المعصية كذلك، قال -جل وعلا- {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء:14] ذلك كان جزاء الطاعة، وهذا جزاء المعصية وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ جعل الله -تبارك وتعالي- معصية الرسول كمعصية الله -جل وعلا- وذلك أن النبي يأمر كذلك بأمر الله، وينهى كذلك عما نهى الله -تبارك وتعالي-, فنهيه نهيه, وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ أي نوع من التعدي، يحول هذه الفريضة لهذه الفريضة، لا يعطى صاحب الفرض فرضه، ينقص منه، يغير، يبدل، يجعل الأنثى مثل حظ الذكر، يعطى الذكور، ولا يعطى الإناث، يغير أي تغيير في هذا الأمر؛ فتعدى حدود الله -تبارك وتعالي- وحدوده سواء كانت هنا  في هذى المواريث و هي التي السياق فيها، أو في غير هذه الفرائض التي فرضها الله؛ فإن النص يعم هذا، وهذا، كل معصية لله، ورسوله وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا يدخله جعل الله الإدخال له، ونسبه له، لأن هو الآمر به -سبحانه وتعالي-, وأخبر -سبحانه وتعالي- أن هؤلاء أهل النار يساقون غليها سوقا، وأن الملائكة تسوقهم، وتضربهم على وجوههم، وعلى أنفارهم سوقًا إلى النار وتدعه دعا {يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور:13]  يدفعون دفعا قويًا يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا نار جهنم عياذًا بالله ثم قال -جل وعلا- خَالِدًا فِيهَا باقيا في النار بقاء لا انقطاع له، مكث طويل، وذلك نارًا خالدًا فيها باقيًا فيها ولا يموت، لا هو ميت، ولا هو حي حياة عياذًا بالله {........وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء:14] مُهِينٌ وصف الله هذا العذاب بأن فيه إهانة، وذلك دخول النار نفسه إهانة, لكنه يهان كذلك بصور عظيمة من صور الإهانة الحسية كالدفع، والدز، والجر، والسحب على الوجوه وهو في النار، والتكبيل، تكبيل الأيدي، والأرجل ففيه إهانة، والضرب بالمقامع هذا كله من الإهانة الحسية، وكذلك الإهانة المعنوية من التوبيخ، والتقريع، والتأنيب، والتذكير بجرائمه السابقة، يقال له: هل تذكر ذلك؟ يقرع، ويؤنب, هذا كله إهانة إهانة بكل معانيها {........وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء:14] هذا ختام عظيم فيه هذا الوعد العظيم، والوعيد العظيم بعد آيات المواريث، وهكذا نجد أن هذه آيات المواريث حفها الله -تبارك وتعالي- بكل أمور الترغيب، والإلزام في فعلها، والتحذير، والتخويف من عدم الالتزام بذلك يوصيكم الله فالله الذى يوصيكم، وقال: فريضة من الله، وقال: إن الله عليم حكيم، وقال -جل وعلا- بعد ذلك: وصية من الله ثم يأتي في ختام هذه الآيات الوعد، والوعيد الوعد على الالتزام والفعل، والوعيد على التفاصيل والترك.

\ ثم بعد ذلك نقلة من الأحكام، وهذه هي أحكام حصول الفاحشة من النساء وكيف تعالج، يعالج هذا الأمر قال -جل وعلا- {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء:15] هذه الآية في حكم المرأة إذا زنت, ما الذى ينبغي أن يفعل بها؟، وهذه الآية كانت في أول الأمر الحكم, ثم بعد ذلك نسخت من الآيات التي أنزلها الله -تبارك وتعالي- في أول سورة النور، قال -جل وعلا- وَاللَّاتِي النساء اللاتي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ فاحشة، هنا فاحشة الزنا مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ لا تثبت فاحشة الزنا إلا بشهادة أربعة فقط، وهذا مخصوص من كل الجرائم؛ فإن كل الجرائم تثبت بشاهدين, السرقة تثبت بشاهدين، ويكون فيها الحد، القتل يثبت بشاهدين، والقذف يثبت بشاهدين، كل الجرائم تثبت بشهادة رجلين، لكن الزنا خاصة لا يثبت على فاعله، وتترتب عليه أحكامه إلا بشهادة أربعة، قال -جل وعلا- فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ ومنكم يدل على أنهم لا بد أن يكونوا مؤمنين؛ فإن كانوا هؤلاء ليسوا منا, ما هم مسلمين فلا تصلح شهادتهم في هذا الأمر، قال -جل وعلا- {........فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء:15] تمسك هذه المرأة في البيت بمعنى أنها تحبس، تحبس في البيت حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ تبقى هكذا، وممنوعة، محرومة من أي أمر حتى يأتيها الموت فيتوفاها أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا في مستقبل الأيام، وقد جعل الله -تبارك وتعالي- لهن سبيلا بعد ذلك، بعد هذا الحبس هو المؤبد هذا حتى الموت، وهذا السبيل هو ما أنزله الله -تبارك وتعالي- في قوله {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2] لما نزلت هذه الآيات قال النبي -صلى الله وسلم- خذو عنى خذو عنى قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة، وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة، والرجم؛ فبين النبي من سنته -صلوات الله وسلامه عليه- تفصيل هذه الآيات المنزلة في أول سورة النور أنه إذا زنا البكر رجلا كان، أو امرأة؛ فإنه يجلد مائة جلدة، قال البكر بالبكر جلد مائة، وتغريب عام، يغرب عاما  يبعد عن المكان الذى وقع فيه هذى الزنا سنة، وقال الحكمة من هذا هو إنه عقوبة ثم إذا كذلك تهدأ القالة، يموت الخبر، وقال النبي -صلى الله وسلم- الثيب بالثيب جلد مائة، والرجم، يجلد مائة جلدة كل منهما، والثيب هو الذى سبق له زواج، يقال رجل ثيب، وامرأة ثيب, جلد مائة، والرجم بعد ذلك حتى الموت؛ فقول الله هنا في آية النساء أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا سبيلًا بعد ذلك، سبيل إلى  إنهاء الأمر؛ فلما نهى الأمر الجلد، وذهبت العقوبة، وانتهت، ويعود هذا إلى ممارسة حياته بعد ذلك، أو الرجم, فيكون هذا سبيل  إلى الآخرة والتطهير, ثم قال -جل وعلا- {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:16]  اذا فعل هذه الفاحشة، ماذا يصنع مع الرجال؟ فالله -تبارك وتعالي- أمر بأذيتهم، قال فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا إن تابا، وأصلحا بعد ذلك فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا إذا حسنا, وآذوهما بالضرب، بالإهانة، بنحو ذلك، وهذا قبل أن تنزل الحدود، ولما نزلت الحدود قد  كان في هذا الأمر، قال بعض أهل التأويل وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ و هو إتيان  الرجل للرجل, فَآذُوهُمَا فهذا قبل أن تنزل الحدود فيؤذيان فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا ولم تكن هذه الفاحشة إتيان الذكور معروفة عند العرب، ولم تقع في الإسلام إلا في خلافة الصديق -رضى الله تعالي- عنه أوتى رجل قيل أنه ينكح كنكاح المرأة؛ فاستشار أبوبكر الصحابة في ذلك؛ فأشاروا بأن هذه عقوبة لم تقع في أمة وإلا عاقبها الله، وقعت في أمة سابقة؛ فعاقبها الله عقابا عظيما، ولذلك اقترح بعضهم نفس العقوبة التي عاقبها الله -تبارك وتعالي- لقرى لوط؛ فقال بعضهم يلقى من علٍ، وقال بعضهم يحرق في النار؛ لأن الله -تبارك وتعالي- أرسل عليهم  حجارة من سجيل أحرقتهم، وأفك  القرية على أهلها، ولذلك حرقهم أبوبكر الصديق، حرق اللوطية, من يفعلون عمل قوم لوط بالنار؛ فيكون هذا الحكم هنا منسوخا, هذا الذى أجمع عليه الصحابة في هذا ولم يثبت حديث صحيح في الحد الشرعي هذه عقوبة إتيان الذكور، وإنما الأحاديث التي جاءت كان قول النبي اقتلوا الفاعل، والمفعول به هذا  ليس بصحيح, لم يثبت إسناده، لكن ثمة اتفاق، وإجماع ما بين المسلمين على وجوب القتل، قتل الفاعل، والمفعول به، وإنما خلافهم في صورة القتل؛ فبعضهم يقول يقتل بالسيف كشأن القتل، وبعضهم قال لا يقتل إلا بإلقائه من مكان عال، نأخذ صور القتل التي مرت بالأمم، قالوا يحرق، وقد اتفقوا على تحريقه بالنار؛ ثم قال -جل وعلا- {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:17] بين الله -تبارك وتعالي- لما ذكر الله عز وجل، قال {........فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:16]  إذا تابوا، وكذلك فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا لا تؤذوهما بعد ذلك إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا رحيم بعباده -سبحانه وتعالي- ثم أخبر -سبحانه وتعالي- بكيفية قبول الله -تبارك وتعالي- توبة عباده قال إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ  قد التزم الرب بها، وأوجبها على نفسه -سبحانه وتعالي- التوبة و هي قبول، رجوع  الراجع من الذنب إليه إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ فهذا الذى جعلها الله حقا عليه -سبحانه وتعالي- لمن يعمل السوء بجهالة، هل هنا بجهالة هو يجهل أن هذا ذنب؟ لا، قال أهل العلم بِجَهَالَةٍ أن كل من يعصى الله فهو جاهل؛ لأنه لو كان عالما على الحقيقة بأن الرب العظيم يؤاخذ بالذنب، وأنه مطلع عليه حال فعله للذنب لما فعل هذا؛ فلا يفعل هذا إلا جاهل بالله -تبارك وتعالي- إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ قال أهل العلم: يتوبون من قريب, هل هو من قريب أي أنه إذا فعل الذنب يعجل على الفور التوبة؟، قال أهل العلم إنه من قريب إنه قبل الموت لما جاءت الأحاديث المبينة أنه يغفر لأحدكم مالم يغرغر، قال رسول الله -صلى الله وسلم- «يغفر لأحدكم مالم يغرغر»  يغفر لأحدكم ما لم يغرغر حتى ولو كان هذا الذنب قد سلف، قبل سنين؛ ثم إنه بقى عليه لم يتب منه إلا قبل الموت، ولو بساعات، ما غرغر، ما وصلت الروح الحلقوم، إذا غرغر، والغرغرة و هي وصول الروح للحلقوم حتى يكون حال الإنسان وصلت الحلقوم؛ فيظهر منه الغرغرة كأنها في الحلق؛ فإنه يغفر له عند ذلك، فلذلك فسر أهل العلم أن التوبة هذه إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ قالوا من قريب قبل الموت, قال -جل وعلا- فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا, أولئك  الذين يتوبون قبل الموت، ويخرجون من الذنب هذا يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وإن كان ظاهر الآية إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ جاهل بالأمر الذى يعمله ليس جاهلًا بحكمه, ليس عالما بأن الله حرم هذا ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ يسارعون إلى  المبادرة إلى التوبة من الله -تبارك وتعالي- فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا لكن جاءت الآيات الأخرى، الآية التي بعدها تبين أن العبد يغفر له إلى أن يغرغر، قال -جل وعلا- {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:18] وإن شاء الله يكون لهذه الآيات تفصيل، وبيان في الحلقة الآتية إن شاء الله.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي، ولكم من كل ذنب، وصلى الله، وسلم على عبده، ورسوله محمد.