الخميس 24 شوّال 1445 . 2 مايو 2024

الحلقة (116) - سورة النساء 17-23

الحمد لله رب العالمين، وأصلى، وأسلم على عبد الله، ورسوله الأمين، وعلى آله، وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى-  {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:17] {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:18] يخبر -سبحانه وتعالى-  أن التوبة التي يقبلها الله -تبارك وتعالى- من عباده  هي للذين يعملون السوء بجهالة إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ  قبولها التي أوجبها الله على نفسه يقبلها  من عبده، قال لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ لا يعصى الله تبارك وتعالى إلا جاهل، وإلا لو كان عالمًا علمًا حقيقيًا بأن الله، الرب الإله الذى لا إله إلا هو خالق السماوات، والأرض، مطلع عليه، ناظر إليه، وأنه في قبضته، وتحت قهره، وأنه يؤاخذ بالذنب، ويعذب به، لما عصى الله -تبارك وتعالى- حق المعصية، قال النبي: «لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن»  فالجهالة هنا إنما هي الجهل بالله -تبارك وتعالى- وإلا لو كان عالمًا بالله على الحقيقة, لما عصى الله -تبارك وتعالى- وليس معنى الجهالة هو أن يكون ممن يجهل الإثم, فلا يعرف أن هذا الأمر قد حرمه الله -تبارك وتعالى-, ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ قيل هنا من قريب من وقوع الذنب أنه يبادر إلى التوبة، ولا يظل مصرًا عليها؛ فهذا قذ يظلم قلبه، ويحرم التوفيق, كما قال -تبارك وتعالى- {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف:202] وقال أيضًا -سبحانه وتعالى- في وصف عباده المؤمنين {وَالَّذِينَ إذا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ........} [آل عمران:135] فإذا فعلو فاحشة يذكرون الله {........ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ وعلى كل حال التفسير الآخر هو أن قريب أي قبل الموت، وسيأتي هذا في الآيات التي بعدها، بين الله -تبارك وتعالى- أن من تاب قبل أن يموت، قبل الله -تبارك وتعالى- توبته ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أولئك  الذين يعملون السوء بجهالة، بجهلهم بالله -تبارك وتعالى- ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ومعنى يتوب الله عليهم، يقبل توبتهم -سبحانه وتعالى- ورجوعهم إليه فإنه هو التواب، التواب هو كثير قبول توبة عبده إذا رجع إليه، بل إن الله -تبارك وتعالى- يفرح بعبده التائب، والراجع إليه {........وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}[النساء:17] عليمًا بشئون عباده -سبحانه وتعالى- حكيم  يضع كل أمر -سبحانه وتعالى- في نصابه؛ فيعلم من تاب على الحقيقة، ومن رجع إليه على الحقيقة؛ فيقبل توبته -سبحانه وتعالى- وفي هذا توجيه من الله -سبحانه وتعالى- إلى إحسان التوبة، والرجوع إلى الله -تبارك وتعالى- والاستغفار منه بعد الذنب فإن الله عليم حكيم بمن يستحق، بمن يتوب التوبة الصحيحة ويقبل الله -تبارك وتعالى- توبته.

 ثم بين الله الحالات التي لا يقبل التوبة فيها {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ........} [النساء:18] هنا بين الله -تبارك وتعالى- الحالتين التي يقبل -تبارك وتعالى- فيهما توبة التائب وهي أن يأتي فيتوب قبل أو عند نزع الروح قال -جل وعلا- وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ أي من الله -تبارك وتعالى- لعباده التي يقبلها الله  لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ السيئات هي المعاصي، المعاصي وهي سيئة، وسميت سيئة لأنها تسوء صاحبها، لأنها تسوء صاحبها، تجلب له السوء حَتَّى إذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ جاء الموت إلى أحدهم، وهذا عند نزع الروح كما قال النبي: «يغفر لأحدكم ما لم يغرغر»  والغرغرة أن تصل الروح خلاص يبدأ الملك بنزع الروح، وتنزع الروح الأول من أطراف الجسم؛ ثم إلى الحلقوم فتخرج؛ فهذا الذى يتوب عند الموت؛ فيستغفر الله، ويرجع إليه مما كان قد أسلفه، هذا لا يقبله الله -تبارك وتعالى- وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ولا الذين يموتون وهم كفار إذا مات على الكفر؛ فهذا لا يقبل الله -تبارك وتعالى- توبتهم؛ فهذا في الأول بالنسبة إلى أهل المعاصي هو دون الكفر, فهذا ما يقبل الله -تبارك وتعالى- توبته عند النزع، وكذلك الذى يموت على الكفر لا مجال له بعد ذلك للاستغفار، كما أخبر الله -تبارك وتعالى- عن فرعون؛ فإن هذا تاب عن الكفر، وعن إجرامه قبل الموت عند الغرغرة كما قال -تبارك وتعالى- {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بنو إسرائيل وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[يونس:90] قال له -جل وعلا- {آلآنَ........}[يونس:91] سؤال يراد به التقريع، والتوبيخ، والتأنيب, آلآنَ هل هذا هو وقت التوبة {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91] {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس:92]  أنجى الله تبارك وتعالى من الغرق جثمانه فقط؛ ليكون هذا الجثمان آية لمن وراءه أنه ليس فرعون هو الرب، وليس إلها، وأنه وقع عليه الموت كما يقع على الآخرين، وأنه عقوبة الرب الإله -سبحانه وتعالى- الذى كانوا يتندرون به إله بنو إسرائيل قد أهلكه الله -تبارك وتعالى- وقد أغرقه على هذا النحو، الشاهد أنه لا تقبل التوبة عند الغرغرة, هذى الحال التي لا تقبل فيها، باب التوبة مفتوح، الله -تبارك وتعالى- يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ولكن لا تقبل التوبة إذا وصلت الروح الحلقوم، من مات على الكفر؛ فإنه لا مجال بعد ذلك ليعتذر عند الله -تبارك وتعالى- إذا اعتذر في الموقف، إذا اعتذر في القبر، بكى، حاول التوبة، وحاول الرجوع, فإن الله لا يقبل توبة التائب  من ذنبه في هذا الوقت، قال -جل وعلا- أُوْلَئِكَ أولئك بالإشارة البعيد إبعادًا لهم، وتحقيرًا لهم  {........أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:18]  أعد الله -تبارك وتعالى- لهم، وأعتدنا بزيادة الحرف ليبين إن هذا العدة جاهزة لهم أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا العذاب الأليم معد، ومهيأ لهم عياذًا بالله, جاءت هذه الآيات بعد ذكر  فاحشة الزنا، وكيف يتصرف المسلمون فيها؟ قبل وهذا أن ينزل الحد، وذلك بحبس النساء في البيوت، وكذلك أذية من يفعلها كذلك من الرجال، من النساء، قال: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:16] ثم قال {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ........} [النساء:17]

 ثم قال -تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}[النساء:19] هذا أمر من الله، هذا الأمر من الله -تبارك تعالى- لعباده المؤمنين بحسن معاشرة الزوجات، قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ........}[النساء:19] لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ العضل: هو منعها من الزواج، وكان هذا في شأن الجاهلية، كانت المرأة تورث إذا مات زوج امرأة فيتسلط عليها قريب الزوج، أخوه، أبوه، أقرب الناس إليه؛ فيمنع المرأة من زواج غيره، ويعضلها، إما أن يتزوجها هو، ويتزوجها بغير مهر، وإنما يزوجها غيره كما يشاء ويأخذ مهرها، وإما أن يجبرها فيأخذ ميراثها الذى أخذته من هذا زوجها الذى مات؛ فيرثها كرهًا عنها، وهذا كان من شأن الجاهلية، وفعلهم السيء بالنساء؛ فكانوا يأخذون ميراثهن من أزواجهن إذا مات الزوج، وورث زوجته يعضلها، ويجبرها حتى يأخذ ما ورثته، والذى يفعل هذا قريب الزوج، أحيانًا يكون ابن الرجل مثلًا، ابن زوجها يعضلها؛ فإما أن تتنازل له عن حقها الذى ورثته، وإما بعضهم كان يتزوجها، يتزوج  زوجة الأب، أو يزوجها، ويأخذ مهرها؛ فنهاهم الله -تبارك وتعالى- عن كل ذلك؛ فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا تأخذ ميراثها من زوجها الذى مات رغمًا عنها وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ العضل هو أن يجعلها معلقة، ويمنعها فلا هو يطلقها، ولا هو يعاشرها، وإنما يمنعها عن أن تخرج من عصمته، وتتزوج بغيره، أو يعضل هذه زوجة القريب؛ فيمنعها من الزواج لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ حتى إذا كان أخذت مالا مهرا، أو غيره تتنازل، تفتدي نفسها؛ فتدفع  مال لهذا الذى عضلها هو قريب الزوج حتى تفتدي بنفسها، وتخرج من هذا الأسر، قال -جل وعلا- إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فعند ذلك، هذا يجوز أن تفتَك منه بشيء مما أعطاها؛ ثم قال -جل وعلا- {........وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19] وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ المعاشرة هي الحياة مع الزوجة تحت سقف واحد؛ فينبغي أن تكون العشرة بالمعروف، إنفاقه بالمعروف، كذلك خلطتهم، كلامهم بالمعروف, إما بما عرفنا الله -تبارك وتعالى- إياه، وهو الإحسان، والأدب، والسماحة، والفضل، والخلق الكريم، وكذلك بالمعروف بما هو متعارف عليه بين الناس في الإنفاق, هو أن صاحب المال الكثير ينفق مما وسع الله -تبارك وتعالى- عليه، وصاحب المال القليل ينفق من حسب استطاعته؛ ثم قال -جل وعلا- {........فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]  إذا كرهت الزوجة فلا ينبغي أن يكون هذا مدعاة للفراق، كما قال النبي -صلوات الله وسلامه عليه- «لا يفرك مؤمن مؤمنة إن سخط منها خلقًا رضى منها الآخر»   لا بد أن يكون فيها أخلاق يرضاها؛ فالشخص إذا كان فيها بعض الخلق لا يرضاها؛ فلا شك أن فيها جوانب طيبة يرضاها، ولا ينبغي أن يكون الطلاق لمجرد شيء من الكراهية, بل يجب أن يحبس  نفسه ربما كان فيه هذه المرأة التي كره منها بعض الشيء، أمور أخرى من الخير يرزقه الله -تبارك وتعالى- منها الولد الصالح، يثيبه الله -تبارك وتعالى- على الصبر معها، لا يعرضها إلى  البلاء بطلاقها؛ فيبتغي بذلك وجه الله يقول: فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ربما كرهت شيئًا والله -تبارك وتعالى- يجعل في هذا الذى تكرهه خيرًا كثيرا، والخير الكثير الذى يمكن أن يتأتى من امرأة يكرهها الرجل أمورٌ عظيمة كالولد، كالأجر في هذا الأمر، كالستر، كأن يغير الله -تبارك وتعالى- ما بالنفوس، يتغير خلق هذه المرأة، يتغير ما فيها مما يكرهه الزوج، يبسط الله -تبارك وتعالى- ويفتح لهما أبواب من الخير, قد يكونون لا يعلمونه في هذا الوقت الذى تشتد الكراهية، وتعظم الرغبة في الفراق فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ثم قال -جل وعلا- {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء:20]  أنه إذا بلغ الحال أنه لا صبر على البقاء في عقد النكاح، وأراد الرجل أن  يطلق زوجته هذه التي كرهها، وكرهته، ولم يستطيعا أن يتعاشرا بالمعروف، هنا أمر الله -تبارك وتعالى- الأزواج بأنه يعطى هذه المرأة، وإن كان كرهها كل ما أعطاها سواء أعطاها وقت العقد للمهر، أو بالوعد، وعدها بأمر، أو لها مؤخرُ صداق عنده، كل ما لها عنده في ذمته ينبغي أن يعطيه إياه مهما كان، ولو  كان قنطارًا من ذهب، قال: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ تطلق امرأة لتتزوج بأخرى، وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا آتيتموه سواء كان استلمته المرأة، أو لم تستلمه بالعقد، أو بمؤجل، أو بوعد وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا أي من ذهب، وهذا مما يدل على أنه  يجوز الغلاء في المهر إذا كان في قدرة الإنسان وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا لا يجوز للرجل أن يسترد من هذا المال الذى أعطاه إياها، قال -جل وعلا- أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا هذا سؤال للإنكار الشديد أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا لأن كذب أنت كذبت، قد وعدتها، وفرضت لها هذا المهر، وأعطيتها هذا؛ ثم تسترده بعد هذا فهذا كذب؛ فهذا يكون كذبا، بهتانا، وهذا البهتان هو الكذب الذى يبهت الشخص عند سماعه، والبهت هو التحير، والسكون أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا كذبًا عظيمًا وَإِثْمًا مُبِينًا وإثمًا مبينا، إثم ذنب، مبين واضح لا شبهة فيه؛ فهذا تحذير شديد من الله -تبارك وتعالى- للرجل إذا طلق امرأته أن يأخذ شيئًا مما أعطاها، ولو كان قد أعطاها قنطارا من الذهب، وأخبر الله -تبارك وتعالى- أن هذا من البهت، من البهتان، من الكذب؛ لأنه أعطى سواء أعطى بالكلام، والعقد، أم أعطى بالفعل، وبالتسليم وَإِثْمًا مُبِينًا ثم قال -جل وعلا- {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء:21]  كيف تأخذونه؟ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ أفضى الرجل إلى المرأة، والمرأة إلى الرجل، المرأة سلمت نفسها في مقابل العقد، وكانت قبل ذلك حرامٌ على الرجل أن يتكشف عليها، وأن يعاشرها، وكان هذا بمقتضى العقد؛ فهي سلمت ما لها, يجب أن يسلم الرجل ما التزم به؛ فإذا كان بضع المرأة حرامًا على هذا الرجل، وهي وافقت على تسليم نفسها، والإفضاء إلى هذا الرجل بالعقد الذى عقده؛ فيكون الرجل قد أخذ ما عاقد عليه، والمرأة لم تأخذ هذا، فهنا يخبر الله -تبارك وتعالى- بأن هذا أمرٌ شديدٌ, كأنك قبضت الثمن، أخذت البضاعة، ولم تؤد الثمن، هذا أمر عظيم {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء:21] عقد النكاح، أخذن منكم أي العهد الذى أخذته المرأة بموجب عقد النكاح, سماه الله -تبارك وتعالى- ميثاقًا غيظا، ميثاق العقد المؤكد، غليظ أي أنه شديد عظيم؛ فليس مجرد مواعدة سهلة، ولا هي أمر اختياري، لا، بل هذا  عهد مؤكد مغلظ، فهاتان الآيتان فيهما تشديد، ووعيد شديد لمن يحجب، ويأخذ الشيء من المهر الذى أعطاه لزوجته عند إرادته مفارقتها وطلاقها.

ثم شرع الله -تبارك وتعالى- في بيان النساء اللاتي لا يجوز للرجال الزواج منها؛ فقال -جل وعلا- {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء:22] يحرم على الرجل أن يتزوج امرأة قد تزوجها أبوه, مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ الأب وإن علا الأب، والجد، وإن علا؛ فأية امرأة ينكحها هؤلاء لا يحل للابن، وإن نزل، أن يتزوج امرأة لأبيه إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ قد كان هذا في الجاهلية، قد كان في الجاهلية من شئونهم أن الابن يتزوج  زوجة أبيه إذا مات عنها، مات عنها كان يرثها، ويتزوجها، قال -جل وعلا-  إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ وقع هذا في الجاهلية إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً غليظا في القبح وَمَقْتًا مقتًا من الله يمقت الفاعل، ومقتا كذلك في الناس؛ فإن هذا من أسباب الكراهية بين الناس أن الابن يمقت أباه، وأن الناس تمقت من يفعل مثل هذا؛ فهذا مقت، ويؤدى إلى المقت، وقد يؤدى إلى المقت بين الذرية، كذلك يكون هذا الذى تزوج زوجة أبيه ينجب يصير هذا ابنه، وهذا الثاني هذا أخوه فيكون ابنا، وأخا في نفس الوقت؛ فيصير مقتا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا  ساء هذا الطريق أن سلكوه، وتسيروا فيه؛ ثم قال -جل وعلا- {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ........} [النساء:23] هذه أولى المحرمات ذكر الله -تبارك وتعالى- المحرمات من النساء؛ فذكر أول المحرمات للنسب، أعظم هذه المحرمات الأم، الأم وإن علت كل من لها ولاية عليك، أمك، وأم أمك، وأم أبيك, كل الأم وإن علت حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ البنت، وإن نزلت كذلك بنت، وبنت الابن، وبنت البنت وهذا كله هذه بنات، بنات الشخص وَأَخَوَاتُكُمْ سواء كانت الأخوات أخوات شقيقات، أو أخوات لأب، أو أخوات لأم وَعَمَّاتُكُمْ العمات أخت الأب، وأخت الجد كذلك هي عمة بهذا وَخَالاتُكُمْ أخت الأم، وكذلك أخت الجدة هذى خالة كذلك وخالاتكم وَبَنَاتُ الأَخِ بنت أخيك وَبَنَاتُ الأُخْتِ كذلك, هذه كلها السبع هؤلاء من النساء، هؤلاء يحرمن من النسب، هذه سبب الحرمة هنا النسب؛ ثم قال -جل وعلا- وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ هذى المحرمات بسبب الرضاعة، قال: وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ الأم التي أرضعت، ولا شك أنه بتحريم الأم التي أرضعت يحرم، كذلك ما ينسب إلى الزوج، لأن الزوج هو صاحب هذا الحليب، هو الذى بزواجه ظهر هذا الحليب في هذه المرأة وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ كل الذين يجتمعون على ثدى هؤلاء يصيرون إخوة من الرضاعة؛ فإذا كان هذا شخص رضع من امرأة؛ فهذه المرأة، وكل من أرضعته من ثدييها فهؤلاء يصيروا إخوة من الرضاعة سواء كانوا من بنات هذه المرأة، أو من بنات أخريات، أو ذكور أخريات رضعن من هذا الثدي؛ فكل من يجتمع على ثدى واحد يرضع منه؛ فهم إخوة من الرضاعة؛ ثم قال -جل وعلا- وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ هذا هو الذى بسبب المصاهرة، هذا التحريم بسبب المصاهرة وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ أم الزوجة، وهذه تحرم بمجرد العقد على البنت، إذا عقد على ابنة فإن أمها تحرم بمجرد العقد وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ ثم قال -جل وعلا- وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ربائبكم جمع ربيبة، والربيبة هي بنت الزوجة، وقول الله -تبارك وتعالى- اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ قيل أن هذا الوصف إنما وصف بحسب الحال؛ لأنه غالبًا ما تكون بنت الزوجة في حجر الزوج، وأيضًا هذا وصف يدل على علة التحريم أنها تعتبر كأنها في حجرك تربيها عندك؛ فكأنها ابنة لك وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فلا تحرم بنت الزوجة إلا بالدخول على أمها فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ  إذا لم يكن قد دخل بهذه المرأة، وإنما عقد عقد النكاح؛ ثم طلقها، إذا طلقها يجوز له أن يتزوج ابنتها، أما إذا دخل بها؛ فإن ابنة هذه المرأة، ابنة الزوجة تكون محرمة بعد ذلك حرمة أبدية؛ ثم قال -جل وعلا- وَحَلائِلُ أبنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ هذه كذلك من المحرمات بسبب المصاهرة، حليلة الابن  وهي زوجة الابن؛ فإنها تحرم على أب هذا الزوج الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ لو كان الابن من صلب أبيه ليس بالتبني؛ فإذا كان ابن بالنسب فإن زوجته تحرم على الأب، أما إذا كان ابنا بالتبني مثلما كانت تفعل الجاهلية، كانوا يلحقون الولد بهم، ويسمى ابن فلان، ونهاهم الله -تبارك وتعالى- أن يدعوا  الأبناء بالتبني إلى المتبنى، وإنما يدعونه إلى أبيه الحقيقي إن عرف؛ فحليلة الابن من الصلب تحرم على الأب حرمة مؤبدة، أما حليلة الابن بالتبني فإنها لا تحرم على من تبناه؛ هذه كلها الآن تحريم النساء بالأسباب الثلاثة السابقة بالنسب، وبالرضاع، وبالمصاهرة؛ ثم الآن التحريم بسبب الجمع، السبب الرابع من أسباب الحرمة، قال: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ لا يحل أن يجمع بين الأختين في وقت واحد، ولكن له أن يتزوج أخت زوجته إذا ماتت الزوجة، أو طلقت يجوز له أن يأخذ أختها، قال: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ وقد أخبر النبي -صلى الله وسلم- كذلك بأنه لا يجوز الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، نهي النبي -صلى الله وسلم- أن تجمع بين المرأة، وعمتها، والمرأة، وخالتها، قال الله هنا وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ  كما كان الشأن في الجاهلية يتزوج الرجل أختين، وفي وقت واحد؛ ثم قال -جل وعلا- {........إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:23]  لما سبق من هذه المعاصي، والمخالفات، والأمور التي حرمها الله -تبارك وتعالى- كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا فيسامحكم على ما سبق من هذه الأنكحة الباطلة، هذه أربعة أسباب للتحريم، والسبب الخامس هو ذوات الأزواج، المرأة التي لها زوج، لا يحل وهي في عصمة زوج أن يتزوجها آخر، وهذه تأتى في قول الله -عز وجل- {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ........} [النساء:24] نقف هنا، ونأتي إلى الآيات إن شاء الله في الحلقة الآتية.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي، ولكم من كل ذنب، وصلى الله، وسلم على عبد، ورسوله محمد.