الأربعاء 26 جمادى الأولى 1446 . 27 نوفمبر 2024

الحلقة (117) - سورة النساء 24-30

الحمد لله رب العالمين، وأصلى، وأسلم على عبد الله، ورسوله الأمين، وعلى آله، وأصحابه، ومن إهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

يقول الله -تبارك وتعالى- {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:24] قول الله -تبارك وتعالى- وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ هذا معطوفٌ على جملة المحرمات من النساء التي ذكرهن الله -تبارك وتعالى- قبل هذه الآية، وهم كما علمنا هم من محرمات بسبب النسب، ومحرمات بسبب الرضاعة، ومحرمات بسبب المصاهرة، ومحرمات بسبب الجمع، وهذه حرمتهم، حرمة وقتية، كالجمع بين الأختين، والجمع بين المرأة، وعمتها، والمرأة وخالتها، وقد جاء هذا في السنة؛ ثم السبب الخامس للتحريم هو أن تكون المرأة محصنة بالزواج؛ فإذا كانت صاحبة زوج؛ فإنه لا يحل العقد عليها حتى تفارق هذا الزوج، إما بطلاق منه، وإما بأن يموت عنها، قال -جل وعلا- وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ أى ذوات الأزواج، وأصل الإحصان يأتي في القرآن لمعاني الأصل كأنه حصن، محصن من الحصن، الدخول في الحصن؛ فالزواج حصن، والعفة حصن، وجاء معنى المحصنات العفيفات كما في قوله -تبارك وتعالى- {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ........} [النور:23] المحصنات العفيفات حتى إن لم تكن ذات زوج، ويأتي الإحصان أيضا بمعنى الإسلام تسمى المرأة إذا أسلمت؛ فالإسلام حصن، يحصن المرأة، والزواج حصن، والعفة حصن وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ هنا المحصنات بمعنى ذوات الأزواج، المرأة التي هي عند الزوج؛ فهي امرأة محصنة بالزواج، ولا يحل أن يعقد عقد عليها؛ ثم قال -جل وعلا- إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ أى بالسبى إذا وقعت امرأة الكافر أسيرة، وسبية؛ فإنها  هنا تحل بعقد آخر، وهو أحلها الله -تبارك وتعالى- للمؤمنين بوقوعها في ملك أهل الإيمان إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ثم قال -جل وعلا- كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هذه الفريضة المذكورة من المحرمات النسائية كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ فريضة الله -تبارك وتعالى- عليكم المفروضة، المكتوبة عليكم أيها المؤمنون؛ ثم قال -جل وعلا- وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أحل الله -تبارك وتعالى- ما وراء هذه المحرمات، هذه النساء المخصوصات؛ فالمحرمات منصوصٌ عليها؛ فما وراء هذا، ما عدا هذا من النساء فهو حلال لكم, ما وراء ذلكم أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ أن تبتغوا بأموالكم بالمهور التي تدفعونها في الزواج مُحْصِنِينَ حال كونكم محصنين، تريدون العفة غَيْرَ مُسَافِحِينَ بالزنا, تريدون فقط سفح وأصل السفح، هو الهدر، وكأن الذى يزنى إنما يهدر ماءه، ولا يضعه في مكان الخير، والذرى مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ قال -جل وعلا- فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً فالمهر إنما هو ما يدفعه الرجل إنما هو فريضة للاستمتاع بالمرأة، فهو يدفع من أجل هذا فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ  أن تتنازل المرأة عن شيء من المهر لزوجها، أو أن يعطيها شيئا من هذا، أو أن تطلب منه شيئًا من هذا؛ فهذا كله من الأمر الجائز، وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ من بعد الفريضة وهو المهر المفروض {........إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:24] وهذا تذكير منه -سبحانه وتعالى- بصفاته العلى، كلما حد الله -تبارك وتعالى- حدودًا للإسلام أن يعلمهم بصفته؛ فإعلامهم هنا بأنه عليم بكل أعمالهم -سبحانه وتعالى- حكيم يضع الأمور في نصابها، ومن أجل ذلك شرع لهم هذه التشريعات التي هي بناء على علمه -سبحانه وتعالى- وحكمته -جل وعلا- {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ........} [النساء:25] وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا الطول هنا بمعنى المال، لا يقدر أن يدفع المهر أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ هنا المحصنات بمعنى الحرائر، الحرة المؤمنة، قال -جل وعلا- فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ إذا لم يستطع أن يتزوج بحرة مؤمنة، وهذا  الأكمل، والأولى، والأحرى فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ يتزوج من ما ملكت أيمانكم، وهن الأرقاء مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ فتياتكم الرقيقات المؤمنات، وهذا القيد يخرج غير المؤمنة، لا يجوز للمؤمن أن يعقد عقد النكاح على أمة كافرة، يجوز التسرى بالأمة الكافرة حال تسريها في الملك، تقع في ملك يمينه  يشتريها، تقع في ملكه بأي صورة من صور المشروعة للوقوع في الملك في تسراها، وهى كافرة، نصرانية، أو يهودية، أو مجوسية، لكن لا يحل أن يتزوج بغير الأمة المؤمنة، فالأمة غير المؤمنة لايحل الزواج بها، قال -جل وعلا- مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثم قال -جل وعلا- وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ تعنى أن الإيمان أمر أيضًا  ليس أمرًا ظاهرًا فقط، بل هو أمر يتعلق بعمل القلوب، وهذا غيب وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ لكن الحكم هنا على الظاهر، قال -جل وعلا- بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ بعضكم من بعض أي ما دامت هى مؤمنة، وأنت مؤمن؛ فأنتم بعضكم من بعض في الإيمان، وكذلك بعضكم من بعض في البشرية، وإن كان هذا حر، وهذا عبد، قال -جل وعلا- بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ثم قال -جل وعلا- فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ انكحوهن تزوجوهن، النكاح هو العقد، والزواج، عقد النكاح بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ بإذن أهلهن أي من يملكونهن سواء أن كان فردًا واحدًا، أو أفراد، ربما تكون أمة يملكها اثنان، أو أكثر؛ فهذى لا بد ان يكون كل هؤلاء كل من يملكوها قد يكونون هنا طرفا في العقد فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ الأجر الذى يسمى هنا ينبغى كذلك كما تدفع، يدفع للحرة، كذلك يدفع للأمة، وكذلك بالمعروف، قال -جل وعلا- مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ حال كون هذه الأمة محصنة، تريد العفة غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ زانيات، والمسافح هنا الزاني التي تؤجر نفسها للعموم وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ وهى التي تتخذ صديقًا، وخدنًا واحدًا؛ فلا يحل الزواج بمن هذه حالتها من الإماء سواء كانت زانيىة مشهورة بالزنا عند العموم، أو هى خليلةٌ تتخِذ  خدنًا، وهذ كما حرم الله -تبارك وتعالى- كذلك من تعرف بالزنا من الحرائر، كما قال -تبارك وتعالى- {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3] وهنا لا ينكحها  لا يتزوجها، وسيأتي هذا في سورة النور إن شاء الله, تفصيل هذا الأمر؛ فينبغي ألا يتزوج إلا بالأمة العفيفة، المعروفة بالعفة، وأما إنها أمة فقط مشهورة، أو معلومة بالزنا؛ فإنه لا يجوز الزواج بها، قال جل وعلا حال كونهم يتزوجوهن، حال كونهن مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أخْدَانٍ فَإذا أُحْصِنَّ أي بالزواج فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ إذا أحصنت الأمة بالزواج، كتب عقدها على رجل، وأصبحت هي زوجة له، قال -جل وعلا- فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ بعد ذلك، بعد الإحصان بالزواج فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ إذا أتت بالفاحشة، الفاحشة هنا فاحشة الزنا، والحد الذى يتنصف هو الجلد؛ فإذن تجلد خمسين جلدة، ولما كان  الرجم لا يمكن تنصيفه؛ فإنه ليس على الأمة إذا زنت رجم، وإنما عليها فقط الجلد وخمسون جلدة هو نصف عذاب، نصف حد الحر، أما إذا لم تكن محصنة،  بالزواج، وفعلت الفاحشة هذه إنما تؤذى فقط، تؤذى، وتعذر، وليس عليها حد محدود؛ فلأن قول الله، مفهوم قول الله فَإذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ دل هذا على أنه قبل الإحصان ليس فيه تنصيف لهذا الحد ولذلك فيها التعزير قال -جل وعلا- ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ ذلك المشار إليه هنا ما أباحه الله -تبارك وتعالى- لمن الزواج بالإماء، قال:  ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ هذا أول شيء، والعنت هو التعب، والإرهاق الشديد، والشعور الأليم بحال العزوبة، والبعد عن النساء؛ فهذا الذى يخشى العنت هو الذى أباح الله -تبارك وتعالى- له أن يتزوج  بالأمة على هذا النحو، إذن لا يحل الزواج بالأمة إلا بهذه الشروط، أول شرط بأن يكون لا يملك مهر الحرة، الشرط الثاني أن تكون هذه الأمة مسلمة مؤمنة، الشرط الثالث هو أن ينكحها بإذن مُلَّاكها، بإذن أهلها، الشرط الرابع أن يكون ممن يخشى العنت، ويخاف على نفسه، ولا يطيق  حال العزوبة، ولا يملك هذه، الشرط الخامس أن تكون هي عفيفة، وليست معروفة بزنا, سواء كانت زنا بأشخاص متعددين، أو أنها لها خدن، وخليل؛ فهذه شروط خمسة اشترطها الله -تبارك وتعالى- لمن أراد أن يتزوج بالأمة؛ ثم قال -تبارك وتعالى- وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ إذا صبرت مع هذا، مع الألم، ومع الشعور بالعزوبة الشديدة، هذا خير لكم أفضل، وذلك لما في الزواج بالأمة، هي على هذا النحو من المهانة؛ فإن الأمة تكون مشغولةً بعقد ملك عند مالكها، وبعقد النكاح هذى أمر؛ ثم إن الأولاد يسترقون الأولاد إنما هما للسيد، والمالك، وليس للزوج في هذه الحالة, فيكون الآثار التي تترتب على هذا آثار شديدة {........ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النساء:25] وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فمن صفته بأنه الغفور الرحيم، من مغفرته، ورحمته -سبحانه وتعالى- أباح لكم الزواج بهذه الصورة، في هذه الحالة، وهذا من مغفرته -سبحانه وتعالى- ومن رحمته بعباده -جل وعلا- قال -جل وعلا- {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ........} [النساء:26] هذا البيان، وهذا الإيضاح، وهذه الاستثناءات وهذا التفصيل، هذا من إرادة الله -تبارك وتعالى- الخير بعباده المؤمنين، إذا أرادا أن يبين لهم الأحكام بهذا البيان، وبهذا التفصيل وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ من أهل الهدى طريقتهم، الطريقة التي رسمها لهم من الذين سبقونا حتى يُعْصَموا من الوقوع في الفاحشة، ويخفف الله عنهم من مشقات العزوبة؛ فيبيح لهم هذا الأمر بهذه الضوابط، وبهذه الشروط وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ في الهداية وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ يريد الله -تبارك وتعالى- أن يتوب عليكم؛ فأباح لكم ما فيه شيء من الغمز، والنزول عن حد الخير، والفضيلة من باب أنه -سبحانه وتعالى- كذلك يريد أن يتوب عليكم؛ فأباح لكم هذا الأمر مع ما فيه؛ لأنه تواب رحيم -سبحانه وتعالى- {........وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء:26] عليم بكل الأحكام، عليم بعباده -سبحانه وتعالى- عليم بهذه النفس البشرية، حكيم يضع كل أمر في نصابه -سبحانه وتعالى- ومن أجل ذلك  أيضًا شرع لكم ما شرع من هذا {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ........} [النساء:27] الله -سبحانه وتعالى- الذى شرع لكم هذا يريد أن يتوب عليكم, إرادته الشرعية، وإرادته الكونية القدرية -سبحانه وتعالى- أيها المؤمنون، قال -جل وعلا- {........وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27] يريد الذين يتبعون الشهوات من البشر أن تميلوا عظيمًا بالجنوح إلى الزنا، وإلى الفجور، وإلى الفسق؛ فأما الرب -تبارك وتعالى- فإنه يريد أن يتوب عليكم؛ فأباح لكم إشباع  هذه الغريزة بأحسن الطرق، وأيسرها، وأفضلها، ومن جملة ذلك في حالة الضرورة، أباح لكم ما ينقذكم من حال العنت، وحال المشقة {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27] {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ........} [النساء:28]  مشقات العنت؛ فيخفف عنكم؛ فيبيح لكم هذه الأمور بشروطه، وضوابطه التي ذكرها -سبحانه وتعالى- {........وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28] الضعف هنا أمام داعية الشهوة, ضعيف الرجل ضعيف، والإنسان ضعيف أمام هذه الداعية؛ فإن هذه الغريزة من أعظم الغرائز الموجودة في الإنسان، ولذلك شرع الله -تبارك وتعالى- لها ما يشبعها، ولا يحرف الإنسان عن جادة الطهارة، والنظافة وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا, هذا الحديث العظيم من الرب -تبارك وتعالى- وتفصيله للأحكام على هذا النحو، وعنايته بخلقه -سبحانه وتعالى- وتشريعه بما يشبع غرائزهم، ويجعلهم من أهل الطهارة، والنظافة مع ما قد يحيط بالإنسان من أمور  الشدة، والضيق؛ فسبحان الرب العظيم الذى شرع لعباده هذه التشريعات العالية، السامية، الطاهرة، النظيفة.

 ثم قال -جل وعلا- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29] هذا نداءٌ من الله -تبارك تعالى- وأمرٌ لعباده يصدره الله تبارك وتعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ينادى الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين ليأمرهم وينهاهم -سبحانه وتعالى- واصفًا إياهم بهذا الوصف، الذين آمنوا، وهذا أكرم الأوصاف، وأعلاها، وهذا فيه حظ، وتهييج على الفعل، يا أيها المؤمن إفعل كذا، وذلك فيه إلزام، يا أيها المؤمن، يا من آمنت، استجب لأمر الله -تبارك وتعالى- الذى يدعوك إليه يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ جعل الله -تبارك وتعالى- مالَ أهلِ الإيمان كأنه مالٌ واحدٌ؛ فمال الأخ كأنه مالك، ونهانا الله -تبارك وتعالى- أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل يأكل الإنسان، ويأخذ الإنسان مال أخيه المؤمن بالباطل، وكلمة الباطل كلمة عامة، كبيرة تشمل كل ما لم يشرعه الله -تبارك وتعالى- لعباده من الكسب الطيب، المشروع، كأخذ المال من الغير عن طريق كسب تجارة، عن طريق الإيجارة، عن طريق العمل أدى له خدمة، عن طريق الوكالة ففيه أمور هنا من الحق، كل ما يأخذه الإنسان من أخيه المسلم بالباطل، كأن يأخذه ربًا حرمه الله، أو مقامرة، أو غش، أو تدليس، أو أى صورة من الصور كذلك، يدخل فيها كذلك الغصب ، والسرقة، وبيوع الغرر، كل ما هو داخل في هذا المعنى، معنى  الباطل، وهى كلمة كبيرة ضد الحق لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ثم قال -جل وعلا- إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ذكر الله -تبارك وتعالى- التجارة، وهى أن يبيع الإنسانُ لأخيه، ويكسب منه، وذلك لما في هذه التجارات من الخير؛ فإن التاجر أولا يقوم بخدمة عظيمة للمشتري، لمن يشترى منه؛ فإنه يشترى السلعة، يجلبها، يخزنها، يعرضها، يحافظ عليها، ثم يقدمها للمشترى؛ فيخدم المشترى بهذا، فله أن يكسب من هذا، أباح الله -تبارك وتعالى-  الكسب من التجارة، والتجارة هي أعظم المكاسب، وأكبرها في الأرض، بل كل ما يخرج من الأرض، وما يعمله الإنسان يذهب، ويتوزع  عند الآخرين عن طريق التجارة، ولذلك قيل التجارة هى تسعة أعشار الرزق، وذلك أن كل الأموال مثلًا، الزارع عندما يزرع، والصانع عندما يصنع، والذى يغوص في البحار، ويخرج  اللآلئ، والذى يحفر الأرض يخرج كنوزها، ومعادنها، كل مقدرات الكسب تذهب تجارة؛ ثم بعد ذلك تتوزع في الناس، التجارة هي أعظم أنواع المكاسب، قال الله -عز وجل- إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً وشرط الله -تبارك وتعالى- قال: عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ عن تراضٍ بين الطرفين البائع، والمشترى؛ فله أن يبيع, يكون شيء وقف عليه بدينار، يبيعه مثلًا بدينارين، أو ثلاثة أخذ الضعف, لكن هذه خدمة فعلها، والتاجر مخاطر أباح الله -تبارك وتعالى- له هذا، ولم يجعل هذا من الباطل، بل جعله الله -تبارك وتعالى- من الحق إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ثم قال -جل وعلا- {........وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29] قال أهل العلم في وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ لا تقتلوا إخوانكم فهو نهى عن القتل هنا بمعنى القتل الذى هو على ظاهره قتل النفس الأخرى، وهذا قد حرم الله -تبارك وتعالى- على المؤمنين أن  يقتلوا مؤمنا، حرم  دم كل مؤمن على  إخوانه المؤمنين، كما قال النبى -صلوات الله وسلامه عليه- «إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا»  خطب النبي بهذا  في خطبة عامة في اليوم الحرام العاشر من ذي الحجة قال: «أي يوم هذا أي شهر هذا أي بلد هذا»  ثم لما سماه النبى -صلى الله وسلم-  قال إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرام؛ فلا تقتلوا أنفسكم هذا المعنى الأول  هو القتل بمعناه، وقيل هنا لا تقتلوا أنفسكم  أخذ مال الغير بالباطل سبب في قتله فيكون هذا من أسباب القتل كذلك،  إذا أكلت مال أخيك المسلم بسبب باطل، فإنك قد تتسبب في قتله؛ فإن المال كما يقولون شقيق الروح؛ فمن  أخذ ماله مقامرة، أو غصبًا، أو سرقة، أو بصورة من الصور؛ فأكل ماله ظنا مصادرة أخذ ماله قد يكون ذلك سببا في غمه الذى يفنى به  إلى الموت، كثير من الناس يموت إذا ذهب ماله أصابه الغم، والضيق، والهم فقد يكون هذا سببًا في موته وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إما بالقتل المعروف وهو العدوان، وإما وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ بأخذ وأكل أموالكم بالباطل يتسبب هذا في قتل أنفسكم، وهنا قال أنفسكم مقصود إخوانكم، وذلك أن الأخ بمنزلة النفس {........إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29] إن الله رحيم بكم -سبحانه وتعالى- ولذلك شرع لكم أن يأخذ الإنسان من مال أخيه بالحق يبيعه، فيكسب منه، يخدمه خدمة، فيأخذ منه مقابلا لها كأن يكون وكيلًا عنه؛ فهذه صور: يؤجره يعمل له عمل فيأخذ هذا بالأجرة أى يؤجر له متاع فيأخذ أجرًا على ذلك هذا باب الحق، وأما غير ذلك فهذا باب باطل، والله -تبارك وتعالى-  معنى إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا فيما شرع لكم من أخذ المال بالحق، وما حرم عليكم -سبحانه وتعالى- من اكل المال بالباطل، وبيان أن أكل المال بالباطل قد يكون سببًا في أن يقتل  المسلم أخاه؛ ثم قال -جل وعلا- {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء:30] وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يأكل مال أخيه بالباطل، تسبب في قتله عُدْوَانًا يفعل هذا عدوان على المؤمن؛ فيغصب ماله، يأخذ ماله بغير حق وَظُلْمًا لأخيه فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا تهديد، ووعيد من الله -تبارك وتعالى- لهذا الذى ظلم، واعتدى على هذا النحو، والنار هذه نار الآخرة عياذا بالله، معنى نصليه  نحرقه؛ فالصلي هو الوضع في النار، وتسمى هذه شاة مصلية، وهى التي شويت على النار {........فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء:30] هذا الأمر على الله يسير، بعث هذا العبد، وحسابه، ومعرفته، ومجازاته، وإدخاله النار هذا أمر يسير على الله -تبارك وتعالى- لا يعجز الرب -تبارك وتعالى-, بيان أن هذا الأمر هو في مقدور الرب -تبارك وتعالى- وأنه لا يتعاظم على الله شيء فلا يظن مثلًا، ملك، أو جبار، أو كذا معنى أنه يأخذ مال الغير، أو يصادر أموال الغير، ويأخذها، وأنه بمنأى، وبمنجى عن عقوبة الرب، لا، بل هو في قهر الرب -تبارك وتعالى- وهو واقع تحت التهديد، ويقول الله فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ثم قال -جل وعلا- {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء:31] ونأتي إن شاء الله إلى هذه الآية، وما بعدها في الحلقة الآتية إن شاء الله.

أستغفر الله لي، ولكم من كل ذنب، وصلى الله، وسلم على عبده، ورسوله محمد.