الخميس 24 شوّال 1445 . 2 مايو 2024

الحلقة (120) - سورة النساء 40-43

الحمد لله رب العالمين، وأصلى، وأسلم على عبد الله، ورسوله الأمين، وعلى آله، وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء:40]{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:42] بعد أن أمر الله تبارك وتعالى عباده أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئًا قال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء:36] ]{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ........} [النساء:37] {........وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} [النساء:38] هذه هي أصناف الناس الذين لم يمتثلوا لأمر الله -تبارك وتعالى- بعبادته وحده لا شريك له، وأن يحسنوا إلى هؤلاء الذين أمرهم الله -عز وجل- بالإحسان إليهم بدء بالوالدين ونهاية بملك اليمين، أصناف هؤلاء الناس قال {........اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء:36] أهل الاختيال، والفخر، ثم أهل المراءة {وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ........}[النساء:38] ثم الكفار بالله -تبارك وتعالى- وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وأخبر سبحانه وتعالى أن الحامل لكل هؤلاء على هذا الفساد، والكفر الذى هم فيه الاختيال، والفخر، والمراءة، والبخل بما آتاهم الله، وكتمان ما آتاهم الله, كل هذا من اتباع الشيطان {........وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} [النساء:38] ثم قال - جل وعلا- {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ........} [النساء:39] ماذا يضيرهم؟، ماذا يضير العبد إذا آمن بالله -تبارك وتعالى- وباليوم الآخر؟ هذا حق؛ فإنه يؤمن بحق، وينفق مما أعطاه الله، ليس ينفق كل ما أعطاه الله، وإنما مما رزقه الله -تبارك وتعالى- {........وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا} [النساء:39]، يعلم كل ما ينفقونه؛ فإذن لا يضيع؛ ثم أخبر الله -تبارك وتعالى- فصل لهم إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ يعنى من خير الإنسان يعمل مثقال ذرة من خير لا يضيعها الله -تبارك وتعالى-, انظر إحسان الرب، وعطفه، ورحمته، وكرمه -سبحانه وتعالى-, العبد أنه إذا فعل شيئًا قليلًا جدًا مثل مثقال ذرة ما يضيعها, يثيبه عليها -سبحانه وتعالى- إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً إن تك حسنة، إن وجدت حسنة ما، حسنة منكرة ، أية حسنة يضاعفها، وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا يضاعفها في الثواب، ويضاعفها كأنه أنفق من هذه الحسنة عشرًا؛ فلو كان درهمًا أنفقه فإن الله لا يحاسبه إلا كأنه أنفق درهمًا، بل كأنه أنفق عشرة دراهم، ويعطيه أجر هذا، أجر كمن أنفق عشرة دراهم، وقد جاء في الحديث قال النبي -صلى الله عليه وسلم- إن الله كتب الحسنات والسيئات, الله كتب الحسنات والسيئات عنده, يعنى هذا العمل جزاؤه كذا، وأن هذا العمل جزاؤه كذا قال النبي -صلى الله وسلم- يقول عن الله -تبارك وتعالى-: فمن هم بحسنة فلم يعملها؛ كتبها الله تعالى له حسنة كاملة للهم لمجرد أنه نوى هذا, فهذا نوى خيرًا أن يعمل هذه الحسنة، ولم يعمل هذه الحسنة؛ فتكتب له حسنة؛ فإن عملها؛ كتبت له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف, إلى أضعاف كثيرة, أكثر من هذا؛ فهذا في الحسنات تضاعف الحسنات، ويبدأ الحسنة بالهم، ومن عمل سيئة؛ فلم يعملها كتبت له حسنة كاملة، لم؟، هم بالسيئة؛ لأنه لم يعملها تركها، مجرد تركه للسيئة خير, فلما هم بها، وتركها، مخافة الله، وخاف من الله, ما عملها كتبت له حسنة، حسنة كاملة؛ فإن عملها كتبت له سيئة واحدة فقط تكتب له سيئة واحدة, لما عمل هذه السيئة؛ فانظر باب الحسنات تضاعف، وتكتب بدءً من الهم بها، ونيتها؛ ثم يضاعفها الله -تبارك وتعالى- ثم هناك بحسنات يضاعفها الله أضعاف محددة، معلومة، سبعمائة ضعف، وهناك حسنات يضاعفها الله -تبارك وتعالى- إلى أضعاف غير محددة {........إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] بغير عد؛ فهذا ليس له عددٌ محدودٌ يحاسبه الله -تبارك وتعالى- مثل الصوم، كما قال الله -تبارك وتعالى- كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزى به, الله يجزى بكل أعماله الله يجزى بها، لكن الصوم أنا أجزى به, يضع حسنات من عنده -سبحانه وتعالى- دون عد، ودون حصر، يدع طعامه، وشرابه، وشهوته من أجلى, يقول الله هذا العبد ترك طعامه، وشرابه، وشهوته من أجلى؛ فلما فعل من أجل الله -تبارك وتعالى- كان له ثوابٌ عند الله بغير عد, فالله ربٌ إلهٌ كريمٌ -سبحانه وتعالى-, الحسنة تطلق كذلك على الثواب، الثواب ليس مساويًا للعمل، ولا هو مقارنة فيه؛ لأن الإنسان إذا أنفق دينارًا في سبيل الله، لا يأخذ ما يساويه جزاءً في الجنة بما يقابل هذا الدينار، الجنة لا مثيل لها، ولا ثمن لها، موضع قدم في الجنة خير من الدنيا وما فيها؛ فلو أن إنسانًا يملك الدنيا وما فيها، ويبغي أن يشترى بهذه الدنيا التي يملكها كلها بما فيها من خيرات، من أراضٍ، من معادنَ، من نفائسَ، كلِّها أراد أن ينفقها في مقابل شيءٍ من الجنة فإنfoot) ) قدمًا في الجنة, موضع سوط الشخص في الجنة خير من الدنيا وما فيها؛ فالجنة ليست ثمنًا, لا ينفق الإنسان، إذا أنفق الإنسان ألف دينارٍ، ألفين دينارٍ، مليون دينارٍ في سبيل الله؛ ليس الذى يُعْطى من الثواب لهذه الحسنة في الجنة هي مساوية لهذا, ليس هناك مساواة، لا مساواة للعمل؛ فمهما كان العمل قام الإنسان بصلاته، بصيامه، بزكاته، بحجه كل هذه الأعمال لو جمعت فإنها كثمن أصلًا لا تساوى نعمة من نعم الله في الدنيا، كثمن للمتاع الأخروى, لما عند الله في الجنة, لا مقابل, وليست الجنة ثمنًا، وإنما المضاعفة هنا في معنى إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا يمعن أنه يعطيها ثواب مضاعف لها من حيث الثمنية، لا، وإنما يضاعفها فمن أنفق دينار سبيل الله؛ فكأنه أنفق عشرة، كأنه أنفق سبعمائة، كأنه أنفق أضعاف كثيرة، ثم يأخذ بعد ذلك ثواب ذلك عند الله، وثواب الله -تبارك وتعالى- ليس مقابلًا للعمل، والحسنات التي يفعلها العبد, وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا يؤت من عنده -سبحانه وتعالى-, يضاعف الحسنة، ويؤت من لدنه أجر عظيم، أجر الله -تبارك وتعالى- لعمل عظيم، وليس ثمنًا لما فعله العبد، وإنما هذا أجرًا من لدنه  مِنْ لَدُنْهُ من عنده -سبحانه وتعالى- والعظيم عندما يعطى يعطى عظيما، لذلك أصبح هذا الأجر عظيمًا؛ لأن الذى يعطيه هو الرب الإله -سبحانه وتعالى-, ثم وجه الله -تبارك وتعالى- تحذيرًا إلى هؤلاء الكفار المجرمين؛ فقال: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:42] سؤال للتقريع، والتأنيب، ولتعظيم الأمر، وتهويله فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ كيف حال هؤلاء الكفار المجرمين الذين أضاعوا أعمارهم، وأموالهم، وكفروا بالله، وجحدوا؟ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ رسول يشهد عليهم، وجئنا بكم -يا محمد- على هؤلاء شهيدا على أمتك، وعلى هؤلاء يعنى الذين حضرهم النبي -صلى الله وسلم-, يكون شهيدًا عليهم يَوْمَئِذٍ في هذا اليوم التي تأتى كل أمة، ورسولها شاهد عليها يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ يود يحب، يتمنى الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ تبتلعهم الأرض؛ فتسوى بهم يصير سواء من فوق، وهم في باطنها، يهربون في باطن الأرض, هذا غاية أمانيهم، أن يـهربوا من وجه الحكم عليهم، ما ينتظرهم من العذاب، قال -جل وعلا- وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا لا يستطيعون أن يكتموا الله -تبارك وتعالى- حديثًا، بل يعترفون على أنفسهم، ويشهدون, إن حاولوا الكتمان بألسنتهم أنطق الله -تبارك وتعالى- جوارحهم، ينطق الله تبارك وتعالى حتى الأرض التي كانوا يسيرون عليها {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة:1]{وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة:2] {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4] تحدث الأرض أخبارها تقول، يقول هذا المكان فعل على كذا، وكذا في يوم كذا، وكذا فتشهد الأرض.

{وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ}[فصلت:22] {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:23] فيشهد كل شيء ينطق الله تبارك وتعالى جوارحه؛ لتشهد عليه فالله شاهد، ملائكته شهود، شاهد بنفسه، يقول الكافر يوم القيامة أن لا أقبل إلا شاهدًا من نفسى؛ فينطق الله تبارك وتعالى يده؛ فتشهد، رجله؛ فتشهد، وبشرته؛ فتشهد؛ كل شيء يشهد عليه وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا لا يستطيعون أن يكتموا الله تبارك وتعالى حديثا، بل يعترفون بألسنتهم، ومن جحد بألسنته, يأتي وقتٌ يقول الكفار نجحد؛ حتى نخرج من العذاب {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة:18] يحلفون لله كما يحلفون للعبيد, يظنون أنهم إن حلفوا لله أنهم كانوا مؤمنين، وكانوا كذا، وما أشركوا, أن هذا ممكن أن يروج في هذا الوقت؛ ثم يفضحهم الله -تبارك وتعالى- بأن يجعل أعضاءهم تشهد عليهم -سبحانه وتعالى- وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا.

كان النبي -صلوات الله والسلام عليه- كان يحب أن يسمع القرآن من غيره, قال يومًا لعبد الله بن مسعود: اقرأ على فجلس عبد الله بن مسعود يقرأ, قرأ هذه السورة سورة النساء إلى أن وقف إلى هذه الآية {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا}[النساء:42] يقول: فقال النبي حسبك: حسبك يعنى يكفيك، قف هذى فرفعت عيني إلى النبي -صلى الله وسلم- فوجدت عينيه تذرفان، وجدت النبي يبكى -صلوات الله والسلام عليه-, آية لا شك أنها تبكى، والنبي يعلم هذا، تذكر هذا الموقف، وأنه في هذا اليوم يؤْتى به -صلى الله وسلم-؛ ليشهد، ويستشهد -صلوات الله وسلم-, يشهده الله تبارك وتعالى شهادته على من أطاعه له الجنة، وعلى من عصاه بالنار -صلوات الله وسلامه عليه-, فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا السؤال هنا –بالطبع- ليس له جوابٌ، ولكن {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] يعنى كيف يكون حالهم؟، الذل، القهر، الخيبة، الخسارة، يتمنون أن يردوا إلى الدنيا, {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:42] فاصلٌ عظيمٌ من هذه السورة؛ ثم عاد الأمر إلى بعض الأحكام {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء:43] نداءٌ، وأمرٌ من الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين، ويناديهم الله تبارك وتعالى بأنهم يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بهذا الاسم الحبيب، العظيم، الذى يذكرهم الله -تبارك وتعالى- فيه بأنهم آمنوا، إذن آمنوا عندما يأتيه الأمر من الله -تبارك وتعالى-  يجب أن يمتثل بمقتضى هذا الإيمان الذى آمن به؛ ثم لأن فيه حظ كذلك، هذا فيه تشريف للمؤمن, أنت -يا أيها المؤمن-, افعل كذا، وافعل كذا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى نهى الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين أن يقربوا الصلاة حال كونهم سكارى، سكارى جمع سكران, وهو الذى يعنى غطت الخمر يعنى عقله حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ لا تأتى إلى الصلاة لتصلي، أو تقربوا الصلاة كذلك، أماكن الصلاة، مرورًا بالمسجد إذا كان الإنسان في حالة سكر، قال: حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ إلا اذا رجع الإنسان فاق الإنسان من سكره، ورجع إليه عقله، وأصبح يعلم، ويعي الذى يتكلم به، بالطبع هذه الآية نسخها الله، منسوخة، منسوخ حكمها بما أنزله الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك في سورة المائدة من قوله -تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90] الخمر لم تحرم إلا في السنة الثالثة من هجرة النبي -صلوات الله وسلامه عليه-, وفى الفترة هذه كلها فترة العهد المكي، وبداية العهد المدني السنة الأولى، والثانية كانت الخمر موجودة، تأخر تحريم الخمر لحكمة عظيمة من حكم التشريع، وهى أن العرب كانت أمة تعشق الخمر، تشربها، تتصبح بها صباحًا، وتشربها في آخر المساء؛ فهي صبوحهم، وهى غبوقهم، الغبوق ما يشرب من الشراب في المساء، ويشربونها كذلك بين ذلك، وهى مخزونهم، وهى تجارتهم، وهى عشقهم، وهى شعرهم، وهي أدبهم؛ فقد كانوا يتغنون بها، ويتفننون في صناعتها, ويشربها الكبير، والصغير, فكانت مستشرية في جسم المجتمع العربي، وكان تحريمها من أول الإسلام ربما كان سببا في أن ينفر كثير من الناس عن هذا الدين، ويستعظم الأمر؛ فإن هذا الأمر الذى أشربته قلوبهم إذا جاء الإسلام، أول ما جاء الإسلام، وحرمه عليهم لأول وهلة استعظموه، وأن هذا أمر لا يمكن يلتزموا به, لذلك تدرج الله -تبارك وتعالى- معهم في التحريم؛ فأولًا قال لهم: صلاة، وخمر لا يكون, لأن الصلاة عبادة الله -عز وجل- لا تقف بين يدى الله -تبارك وتعالى- فإن كنت مخمورًا, لا تصلى هذى بالطبع جعلت هناك ربكة في شربهم؛ فبعد أن كانوا يشربونها في أي وقت يشاؤون، أصبح لا يستطيع المسلم أن يشربها إلا إذا كان فيه وقت طويل يفيق من سكره، فأصبحوا لا يشربونها إلا بعد العشاء, أو يشربونها بعد الصبح إلى الظهر لأن هذين وقتين فيهما متسع, فهذا التشريع عمل نوعًا من التفاوت، وتغيير العادة؛ ثم نبهتهم أن الصلاة التي هي خير ما وضع الله -تبارك وتعالى- للناس في الأرض, تتعارض مع الخمر، ولذلك جاء بعد ذلك السؤال عنها يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قال -جل وعلا- قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا فنبههم الله -تبارك وتعالى- لما استفتوه شأن الخمر أنها مضار أكثر منها منافع؛ ثم بعد ذلك نزلت الآية التي تحرم عليهم بتاتًا ليس شرب الخمر، بل قربان الخمر يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ جمعها الله مع الشرك {........رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90] فعند ذلك لما نزلت هذه الآية؛ قالوا انتهينا يا رب {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [المائدة:92] {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:91] فلما نزلت هذه الآيات التي فيها هل أنتم منتهون قالوا انتهينا يا رب، يقول أنس بن مالك رضى الله تعالى عنه كنت ساقى القوم في بيت أبى طلحة مع شرب من الأنصار، مجموعة يعنى يشربون, وكان الذى يسقيهم الخمر، ويصب لهم أنس بن مالك لأنه ابن زوجة أبى طلحة زوج أم سليم رضى الله تعالى عنهم أجمعين يقول فجاءنا آت، وقال حرمت الخمر، جاء الآتي من الخارج طرق الباب وقال لهم حرمت الخمر؛ فعند ذلك قال أبو طلحة يا أنس قم إلى الدنان فاكسرها، يقول فأخرجتها، وإنها لتسير في طرقات المدينة، أخرجها كسرها يقول تسير, مباشرة لما نزل الأمر كانت الأمة الإسلامية قد استعدت وتهيئت للحكم فلما قال الله -تبارك وتعالى- فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ قالوا انتهينا يا رب, هذه الآية إذن هي من القرآن الذى بقيت تلاوته ونسخ حكمه بما أنزله الله تبارك وتعالى بعد ذلك الآية التي نزلت في سورة المائدة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا الجنب هو الذى أُمِر أن يجتنب الصلاة، والناس وهو من عليه يعنى جنابة، والذى عليه جنابة إما ان تكون بجماع، إما ان تكون باحتلام، وإما أن تكون بالحيض, هذه هي مسببات الجنابة قال: وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ عابري سبيل مسجد لا تحضروا المساجد إلا اذا كنت عابري سبيل فقط، مارًا، يعنى يمر هذا الجنب له أن يمر من المسجد، ولا يمكث فيه، ولا يجلس فيه، قال -جل وعلا- حَتَّى تَغْتَسِلُوا أي من الجنابة وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا جمع الله هذه الأحوال التي لا يمكن للإنسان فيها استعمال الماء وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى مريضًا لا يستطيع أن يغتسل بالماء أن هذا يضره فيه شج، فيه جرح، وإن استخدم الماء ضره، أَوْ عَلَى سَفَرٍ مسافر، وما يعنى ما كلف الله -تبارك وتعالى- المسافر أن يحمل الماء الذى لا بد له في سفره إذا أجنب يقوم يغتسل به؛ فالسفر مشقة، ويحمل الإنسان من الماء قدر ما يحتاجه لطعامه، وشرابه؛ فلم يكلفنا الله -تبارك وتعالى- أن نحمل من الماء ما نغتسل به كذلك  أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ قضى حاجته أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ لامستم هنا قيل أنه من الملامسة هي بمعنى الجماع فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً إذا كنتم في هذه الأحوال ووقع منكم جنابة، أو ما هو دون الجنابة, هو الحدث الأصغر فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً قال -جل وعلا- فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا تيمموا اقصدوا، الصعيد، هو ما يصعد على وجه الأرض من كل طاهر صَعِيدًا طَيِّبًا يعنى طاهرًا, ما تكون أرضًا نجسة, نجسة كأن يكون الصعيد الذى عليها مثلًا فيه بول، أو فيه نجاسة، لا، وإنما اذهب إلى أرض طاهرة، طيبة صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ فامسحوا من هذا الصعيد الطيب بوجهك، ويديك، وقد بين النبي -صلى الله وسلم- صفة المسح, فقال إنما كان يكفيك هكذا فضرب بيديه -في حديث عمار- الأرض مرة واحدة مسح إحدى يديه بالأخرى، مسح وجهه صلى الله عليه وسلم {........فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا}[النساء:43] إن الله -سبحانه وتعالى- كان عفوًا يعفو عنكم -سبحانه وتعالى- لأنه من صفته العفو, غفور مسامح -سبحانه وتعالى- ومن هذا أن شرع هذا التشريع الذى فيه يعنى فيه تيسير على أهل الإسلام، وعدم إعنات لهم بأن يحملوا الماء أينما كان موجودًا، في أي مكان, وأن يستخدم الماء، وإن ضره؛ فاستخدام الماء مع الضرر كالمريض، حمل الماء مع السفر فيه مشقة؛ فيحمل الماء لطعامه، وشرابه، وليس مفروض أن يحمل الماء لاغتساله اذا أصابته جنابة, إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا, هذه الأحكام الباقية في الآية التي نسخ من أحكامها الحكم الذى يتعلق بالصلاة مع السكر أن يقترب المؤمن الصلاة وهو سكران, بالطبع، مفهوم الآية يعنى الذى نسخ إنما هو المفهوم لقوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى فهذا هو المنسوخ وإلا فإن أيضًا الآية فيها تحذير من السكر، وإن كان فيه إقرار أنه لو كان قد سكر في غير وقت الصلاة, فهذا مسكوت عنه؛ ثم بين أن هذا المسكوت عنه هو الذى جاء النص بعد ذلك ببيان أنه ممنوع منعًا باتًا, هذا محرم على العبد المؤمن أن يشرب الخمر، أما بقية الأحكام حكم التيمم؛ فإنه باقٍ، وإلى يوم القيامة يجوز للمؤمن اذا أجنب، أو أحدث، وجاء وقت الصلاة، ولم يجد ماءً أن يتيمم، ويصلى؛ ثم قال -تبارك وتعالى- {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} [النساء:44] هذه الآية إنما هي بداية فاصل جديد من التحذير من اليهود، وبيان بعض أفعالهم الخبيثة، والمجرمة التي يعملونها يعنى مع النبي -صلى الله وسلم- ومع المسلمين، بيان هذه الأحداث، الأعمال، بيان التحذير منهم، كيف يأخذ المسلم حذره من ذلك؟ توضيح لهؤلاء، لعملهم، وسلوكهم، وطريقتهم التي اتخذوها بدأت الآيات بقول الله -تبارك وتعالى- {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} [النساء:44] وتفصيل هذه الآيات في حلقة آتية إن شاء الله.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي، ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده، ورسوله محمد.