الخميس 20 جمادى الأولى 1446 . 21 نوفمبر 2024

الحلقة (121) - سورة النساء 44-50

الحمد لله ربِّ العالمين، وأُصَلِّي وأُسَلِّم على عبد الله الرسول الأمين، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهديه وعَمِلَ بِسُنَّتِهِ إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} [النساء:44], {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا}[النساء:45], {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:46] .

فَاصِل جديد مِن هذه السَّورة؛ سورة النساء ، وهذا الفاصل مع اليهود, وهذا عَقْلُهم، فكرهم, سلوكهم مع النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-, ومع أهل الإيمان, يُعَجِّبُ الله -تبارك وتعالى- رسوله مِن حال هؤلاء المجرمين فيقول : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ........} [النساء:45], انظر تعجيب الله -تبارك وتعالى-  لرسوله -صلى الله عليه وسلم-  مِن هؤلاء الذين أوتوا نصيبًا مِن الكتاب, عندهم عِلْم مِن الكتاب الذي أَنْزَلَهُ الله -تبارك وتعالى-, وإذا كان الإنسان عنده نصيب مِن هذا الكتاب؛  كتاب يَأْمُرُ بعبادة الله وحده لا شريك له يعلمه بأنَّ الله -تبارك وتعالى- خالق هذا الكون ، وأنَّه مُدّبِّرهُ وأنَّه أَرْسَلَ الرسل ، وأنَّ هناك يوم القيامة يحاسب فيه بين يدي الله -تبارك وتعالى- يأمره بالإيمان بالله,  يُحَذَّرُهُ مِن مَعْصِيَتِهِ ومخالفته,  فهذا أقل نَصِيب يمكن أنْ يكون قد ناله مَن قَرَأَ كتابًا مِن الكتب المُنَزَّلَة مِن الله -تبارك وتعالى-.

 فهذه المبادئ الأساسية الموجودة في كل كِتَاب أَنْزَلَهُ  الله-تبارك وتعالى- , الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له, تَقْوَى الله -تبارك وتعالى- , السَّير في طريقه, طاعة الرَّب -تبارك وتعالى-, التحذير مِن معصيته, يوجد يوم القيامة سيحاسب فيه بين يدي الله -عز وجل- , هذا أقل قَدْر ممكن أنْ يكون قد ناله مَن قَرَأَ كتابا لله -تبارك وتعالى-، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَاب},  ومع هذا {يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ}, مجرمٌ في نَفْسِهِ يريد الإجرام للناس, يشترى الضلالة ، يأخذها, يرُيِدُهَا, يترك الدين، يترك الحق, يترك هذا الذى عَلِمَهُ مِن كتاب الله -عز وجل-، ولكنه يأخذ الضلالة, يريد أنْ يَضِل حين ينظرها فيشتريها شراء،  وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيل {, ليس لنفسه لا يضل بِنَفْسِهِ فقط بل يريد أنْ يضل غيره، ومِن هذا الغير الذي يضله المؤمنون؟ المسلمون, النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- النبي الخاتم ومَن تبعه، يريدون لهؤلاء أنْ يضلوا السبيل، ويريدون أنْ تضلوا أي أنتم يا معشر أهل الإيمان والإسلام  {السَّبِيل} ,الطريق, فهم مجرمون في أنفسهم قد اشتروا الضلالة تركوا دين الله تركوا ما عَلِمُوه مِن الكتاب فَضَلُّوا عنه، وأَخَذُوا الضلالة شِرَاع ثم يريدون أنْ يصدوا الناس المهتدين عن دين الله -تبارك وتعالى-, قال -جلَّ وعَلا- : {الله اعلم بأعدائكم}، هذا الإخبار الذي يخبركم الله -تبارك وتعالى- به الله وهو أعلم بأعدائه يعلم مَن هم أعدائكم, ويَعْلم ما يُدبر هؤلاء الأعداء والله أعلم بأعدائكم وكفي بالله وليا وكفي بالله نصيرا تصميم مِن الله -تبارك وتعالى- وتوجيه للمؤمنين أنْ يَتَمَسَّكُوا بالله -سبحانه وتعالى- أي كَفَى به وَلِىّ,  أي لا تحتاجون مع الله إلى غيره -سبحانه وتعالى-, كفي به ،وليًا, تكفيكم ولايته -سبحانه وتعالى- , وتكفيكم نصرته, {وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا}, مَن كان الله معه لا يخاف مِن هذه، والله ناصره كفي به ناصرًا لِمَن تولاه  -سبحانه وتعالى-, وكفي به وَليًا لِمَن يتولاه جلَّ وعَلا-, { وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا}.

 ثم بدأ الله -تبارك وتعالى- يُفَصِّل  هؤلاء حال هؤلاء الأعداء قال : {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا},  أي هؤلاء الذين أوتوا نصيبًا مِن الكتاب, وهذه حياة الذين اشتروا الضلالة ويريدون أنْ تضلوا السبيل, قال : {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا}, بعض مِن الذين هادوا, هادوا هذا اسمهم وذلك لأنهم قالوا: { إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ}, فَسُمُّوا يهود.

ثم وَصَفَ الله -تبارك وتعالى- قال : {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ}, التحريف بمعني تبديل الحروف حرف الذي هو واحدة مِن مبنى الكلمة في اللغة, وهذا التحريف أي حذف حرف، وضع حرف آخر, استبدال حرف بحرف يؤدى إلى فساد المعني فهذا التحريف لفظي، والتحريف المعنوي أنْ يقال بأنَّ هذا الحرف، وهذه الكلمة معناها كذا وكذا فينحرف بمعناها إلى معاني بعيدة وهذا وهذا قد فعله اليهود, }يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ}, الكَلِم كل الكلام يدخل في كلام الله -تبارك وتعالى- , كلام رسوله, كلام العباد, يحرفونه {عَنْ مَوَاضِعِهِ}, التي وُضِعَ فيها؛ وضعه فيها المتكلم.

 {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} منافقون يُظْهِرُونَ خلاف ما يُبْطِنُونَ يقولون للنبي : {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} أي سمعنا كلامك وعصينا, وهذا قد قالوه كذلك للرَّب -تبارك وتعالى-, فهم أهل عناد, أي منذ التشريع الأول, منذ الرسالة الأولى؛ رسالة موسى -عليه السلام-, كانوا دائما يقولون:  {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} ، أَخَذَ الله -تبارك وتعالى- عليهم  المواسيق، والعهد بأنْ يلتزموا شريعته ولكنهم قالوا : }سَمِعْنَا{ أي سمعنا كلام الله -تبارك وتعالى-, وقالوا: {عَصَيْنَا} إما قالوها بألسنتهم أو قالوها بفعالهم، ويقولون : {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} في أنفسهم أو يُخَاطِبُونَ رسولهم بهذا الأمر ويقولون للنبي كما يقولون: {سَمِعْنَا}, أي سمعنا كلامك كان دائما لما النبي يعرض عليهم الدين وكذا وكذا يقولون قد اسمعت يا أبا القاسم قلت ما عليك فعلت ما كُلفت, {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا}, أنت سمعت ينبغي أنْ تطيع إذا كنت تَعْلَم أنَّ هذا هو مِن الله -تبارك وتعالى- ورسول الله -عزَّ وجلّ- يجب أنْ تُطيع لكنهم يقولون : {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا}،وكذلك يقولون: {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ {، أي غير مسمع منا ما يسؤك فيظن المتكلم أنهم يريدون أنْ يقول اسمع منا غير مسمع ولكن}  وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ}, أي ما يسرك وإنما  أضمروا في أنفسهم ضد ما يفهمه السامع مِن كلامهم،  }وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ}, غير مسمع منا ما يسؤك فيظن أي يظن المتكلم أنَّ هذا قصدهم ولكنهم يريدون } وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} مِنَّا ما يَسُرُكَ.

} وَرَاعِنَا{,  يقولون راعنا, أي من الرعونة والمستمع لهم يظن أنَّ راعنا أي مِن الرعاية فيقولون: راعنا يا رسول الله أي ارعنا سمعك اسمع منا وهم يعنون راعنا أي أنْ تَرْعَنا -وصلي الله وسلم على عبده ورسوله محمد، فانظر إجرامهم يأتون بالكلمات التي يوهمون بها المستمع أنهم يريدون بها معنى حسنًا والحال أنهم يريدون بها معنى سيئًا, وكان هذا دأبهم حتي في تحيتهم للنبي -صلي الله عليه وسلم-, إذا جاءوا للنبي يحيونه ويقولون: السَّام عليك, فالمستمع يظن أنَّهم يلقون السلام، وهم يعنون السَّام, الموت أي الموت عليك فلا يقولون السَّلام عليك, فهذا دأبهم أي بدءًا  بالتحية بدءًا بخطاب النبي -صلى الله عليه وسلم-.

إذًا جَمَعُوا أنهم سَلَكُوا سبيل الضلال, تركوا الحق, سعوا بكل سبيل لإضلال أهل الإيمان، واستخدموا الكَذِب، وتحريف الكلام عن مواضعه, استخدموا النِّفاق, ومخاطبتهم النبي, ومخاطبتهم أهل الإسلام بمعاني يظنها مَن يسمعهم أنْهم يريدون بها خيرًا وهم يريدون بها شرًا, قال -جلَّ وعَلا- : {لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ}, يقولون هذا لَيّ, يلوون هذا الكلام,  {بِأَلْسِنَتِهِمْ}, {سَمِعْنَا},هذه, {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا },قال جلَّ وعلا يقولون هذا حال كونه {لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ}, لَيّ؛ يلوون الكلام ليظنه المستمع معنيً صحيحًا, وهو معنىً فاسدًا في قلوبهم, } وَطَعْنًا فِي الدِّينِ{, يريدون بذلك الطعن في الدين, والطعن معروف وهو الضرب مثلا برمح وبغير وهنا الطعن بكلامهم في الدين قال -جلَّ وعَلا-  : {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا}[النساء:46], أي الإيمان قريب وخُلُق وكله خير، ولكن هؤلاء اختاروا الطريق الشَّاقَّة, اختاروا طريق النار, فالله يقول : }وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا{ سمعوا الكلام الذي يأمرهم الله -تبارك وتعالى-  به إلى الإيمان وأطاعوا الله -تبارك وتعالى-، {وَاسْمَعْ {, أي اسمع مِنَّا يا رسول الله, {وَانظُرْنَا}, ما قالوا راعنا قالوا انظرنا فالفرق بين هذه كلمة وهذه كلمة؛ لكن هذه كلمة تريد النار، وهذه كلمة تريد الجنة،{ وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا} قال -جلَّ وعَلا- :  {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ} , لو أنَّهم سَلَكُوا الطريق الحق علي هذا النحو كان خيرا لهم وأقوم في السبيل حتي لو كان هذا الدين ليس نهايته الجنة فيكفي أنَّه خُلُق في الدنيا لا يُعْرِضُ عنه العاقل أي عاقل ذو عقل وذو لُب, ويحب الاستقامة يأخذ هذا الدين لأنَّه خُلُق واستقامة حتي لو لم يكن هناكُ جزاء أخروي علي السعي فيه, لكن هؤلاء يريدون العَوَج, يريد الخِسَّة والدناءة, والميل في طريق الحق, مع ما ينتظرهم عَقِبَ ذلك مِن الهلاك والدمار, {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} أي لماذا يختار هؤلاء الناس أنْ يَضِلُّوا على هذا النحو, أنْ يُضِلُّوا غيرهم, أنْ يسيروا في فساد الأخلاق والإجرام؟ على هذا النحو قال -جلَّ وعلا- : {لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} اللعنة طردهم مِن رحمته-سبحانه وتعالى- بسبب كفرهم, أي أنَّ هذه عقوبة لهم من الله -عز وجل- جاءتهم على هذا النحو فاستحبوا العمى الذي ساروا فيه واستحبوا فساد الأخلاق الذي ساروا فيه على هذا النحو لمَّا كفروا الله -تبارك وتعالى- عاقبهم الله -عز وجل-, {وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا}, {فَلا يُؤْمِنُونَ}, أي هذه الطائفة إلا قليلًا منهم هم الذين يؤمنون بالنبي -صلوات الله والسلام عليه-.

ثم تهديد هؤلاء الذين فضح الله -تبارك وتعالى- خباياهم وبيَّن حقيقتهم على هذا النحو, وَجَّهَ الله -تبارك وتعالى- لهم  خطاب تهديد ووعيد  وزجر وموعظة فقال : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا}[النساء:47], {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} , نداء مِن الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء اليهود, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}, ونداهم الله-تبارك وتعالى- بهذا الوصف أنهم هم الذين أوتوا الكتاب, أوتوه؛ الفعل مبني لما لم يُسمَ فاعله والذي آتاهم الكتاب هو الله -سبحانه وتعالى- , هو الذي أنزل الكتاب على رسلهم؛ على موسى وعلى داود -عليه السلام-, وعلى عيسى الذي أُنْزِلَ وهو رسول لهم, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا} آمنوا بما نزلنا على  النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- أنزله الله -تبارك وتعالى- على عبده ورسوله محمد هو هذا القران وكذلك العِلْم والسُّنَة التي علمها للنبي -صلوات الله والسلام عليه- {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ }, يدعوا إلى ما دعي إليه هذا الكتاب مِن الإيمان بالله -تبارك وتعالى- وتوحيده والإيمان بالنبوة السابقة نَفْس الأخبار, خبر خَلْق الله -تبارك وتعالى- خبر بداية هذا الإنسان خَلْق الله لآدم , أنزاله الي هذه الأرض تكليفه ما مَرَّ على هذه الأرض مِن الرسالات؛ نوح وقومه, إبراهيم وهو ودعوته, وما كان مِن شأنه كل الرسالات مصدق لما معكم  أخباره واحدة, عقائده واحدة, كل دعوته واحدة إلى الإيمان بالله -تبارك وتعالى- وطاعته إذا هو هو هذا نفس الطريق، يرشد إلي نَفْس الطريق ونَفْس المنهج, {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ }, قال -جلَّ وعلا- : {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} هذه وعيد مِن الله -تبارك وتعالى- وتهديد لهم بعقوبة دنيوية, أنْ يطمس الله -تبارك وتعالى- وجه، ومعنى طَمْسُهُ أي هذا تشويه صورة الوجه الذي هو صورة الإنسان, وهو جماه يطمس العين يطمس الأنف فيها يُسَكَّرُ الوجه, ثم يجعل الله -تبارك وتعالى- هذا الوجه المطموس في قفاه, فيكون هذا مسخ وعقوبة دنيوية شديدة في هذه الدنيا, {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ } , ذَكَّرهُم الله-تبارك وتعالى- بعقوبة سابقة مضت في قِسْم منهم, وهم أصحاب السبت أصحاب القرية التي كانوا يعتدون في يوم السبت الذي فُرِضَ عليهم ألا يعملوا فيه, وكانوا هؤلاء أهل صيد فابتلاهم الله -تبارك وتعالى- بأنْ كانت تأتيهم الحيتان والصيد في يوم السبت شرعا ظاهرة في الماء, طافية لا تَفِرُّ منهم , مَن أخذها لا تفر منه لا يحتاج أخذها إلي شباك وإلى ميادير فهذا زلزل قلوبهم وبحثوا اليوم هذا ممنوع منهم أي ممنوعين في يوم السبت أنْ يعملوا الله يقول: {وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ}[الأعراف:163] قال -جل وعلا- : {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}[الأعراف:163], {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[الأعراف:164], يوجد أناس قاموا بوعظ مَن انتهك حُرْمة السبت, وقد انتهكوا حرمة السبت بنوع مِن اللف والدوران والتحايل وذلك بانهم حفروا حفائر خارج البحر وجعلوا لها طريق؛ قناة فيدخل السمك في  داخل القناه داخل الحفيرة إلي هذه الحفيرة أو البركة الواسعة ثم إذا امتلأت هذه البِرْكَة بالسمك جاءوا هم فقط سدوا على السمك وقطعوا الطريق عليه يبقي هذا في يوم السبت على هذا النحو ونحن ما صدنا يوم السبت فاذا جاء يوم الأحد انتشلوا هذه الأسماك التي حجزوها في هذه الحفائر, أو يلقون الشِّبَاك على الأسماك وهي في المياه ويجعلون يلقونها يوم السبت ثم يجرونها يوم الأحد, المهم تحايلوا بحيل في صيدهم على أنْ يمسكوا السمك في يوم السبت لكن لا ينزعوه ويأخذوه إلا في يوم الأحد وظنوا أنها حيلة تنطلي على الله -تبارك وتعالى- , فقامت جماعة منهم تحذر مِن هذا الفعل وجماعة فعلت وجماعة رضيت بهذا قال : {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[الأعراف:164], {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}[الأعراف:165] ثم قال جلَّ وعَلا : {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}[الأعراف:166] {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}[البقرة:66].

جعلنا هذه العقوبة وهي أنَّ الله -تبارك وتعالى- مَسَخَ هؤلاء الناس قردة قلنا لهم : { كُونُوا} للتسخير هنا، وللأمر الكوني القدري, { قِرَدَةً خَاسِئِينَ}, فهذا بيت فلعنهم الله -تبارك وتعالى- بهذه العقوبة في الدنيا ثم بعد ذلك بما ينتظرهم مِن العقوبة الأخروية فالله يحذر هذا الكتاب أن ينزل بهم عقوبة في الدنيا كتلك العقوبة التي أنزلها بأسلافهم لما اعتدوا في السبت قال -جلَّ وعَلا- : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا}[النساء:47], أي أمر الله هذا الكوني القدَري لابد أنْ يفعله الله فهذا ليس تهديدا للتهويش بمجرد التخويف لا ينفذه الله ولايفعله بل أَمْر الله -تبارك وتعالى- مفعول تهديده واقع -سبحانه وتعالى-.

 ثم قال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا}[النساء:116], بيَّن الله -تبارك وتعالى- لهم أعظم الذنوب التي لا يغفرها الله -جلَّ وعَلا-, {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا}, الشِّرك بالله -تبارك وتعالى-:  هو الذنب الذي لا يغفره الله مَن أتى ربه يوم القيامة مشركًا فإنَّ الله -عز وجل- لا يقبل منه أي عمل اخر ويغفر ما دون ذلك ما دون الشرك يغفره الله -تبارك وتعالى- وكذلك لمن يشاء قال -جل وعلا- :  {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ}, لماذا لا يقبل الله -تبارك وتعالى-  الشرك؟ {فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} :  مَن أشرك بالله -تبارك وتعالى- {افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} لأنَّ الشِّرك إما أنْ يكون شِرك بأنْ جعل مخلوق أعطاه صفة الخالق كَذِب, الله لا مِثْل له, ولا شبيه له لا في ذاته ولا في صفاته, فلا يوجد مخلوق يسمع كسمع الله, يُبْصِرُ كبصر الله, له قدرة الله -تبارك وتعالى- له عظمته ,له كبرياؤه, خَلَقَ مع الله -تبارك وتعالى- الله خالق كل شيء الله لا يشبه في ذاته ولا في صفاته شيء مِن مخلوقاته, فهذا افتراء مَن قال أنَّ هناك إله مثلا عيسى أو العُذير إله مِن إله يخلق, يرزق, يسمع, يبصر, يحي, يميت, يفعل كما فعل الله هذا مفتري, الله لا نِدَّ له لا شبيه له ولا كفء له, كذلك مَن جعل للمخلوق حق كحق الله مفترى, فمَن جعل لإلهه الذي يعبده شمسًا كان قمرًا, صنما, ملكا, نبيا, رسولا حق كحق الله سجد له كالله, دعاه كما يدع الله -تبارك وتعالى-, أحبه كما يحب الله, خشى منه كما خشى مِن الله -تبارك وتعالى-, ذبح له تقربا كما يذبح لله, طاف ببنيه له قبر أو غيره كما يطاف كعبة الله -تبارك وتعالى-, فمفترى هذا مَن الذي أمرك بهذا تخاف اتخذت هذا على أي أساس جعلت للمخلوق مِن الخلق ما للخالق -سبحانه وتعالى- فالله أخبر بأن هذا مفترى افتراء عظيم كذاب فهذا الذى افترى هذا الافتراء العظيم , جعل الله -تبارك وتعالى- ذنبه لا يُغْفَر فمَن أتى الله -تبارك وتعالى- وهو مشرك بأي صورة مِن صور هذا الشِّرك فقد افترى إثما عظيما لا يكبر الله -تبارك وتعالى- فيه عثرته ولا فيه ذلته ولا أخذه للشرك على هذا النحو وهذا بيان أن هؤلاء أهل الكتاب مِن اليهود ومن النصارى الذين وقعوا في هذا  الشرك ثم  زعموا ما يزعمون مِن أنهم يزعمون مِن أنهم أبناء الله وأحباؤه وأنَّ الجنة لهم وأنهم إنْ دخلوا النار بسبب معاصيهم لا يدخلونها إلا مُدَّة يسيرة ثم يخرجون إنهم كذابون هذا ذنب الشرك لا يغفره الله -تبارك وتعالى- .

 ثم قال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا}[النساء:49], تعجيب أيضًا مِن حال هؤلاء الذين وقعوا في هذه الجرائم وهذه صفاتهم أنهم يزكون أنفسهم يزكون أنفسهم بقولهم نحن أبناء الله وأحبائه الجنة خالصة لنا مِن دون الناس نحن شعب الله المختار نحن ونحن فيزكون أنفسهم, بمعنى أنهم يرفعون منها ويجعلون لها هذا الحظ والمصير الذي ليس لهم, {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ}, أنهم باركهم الله وأنهم شعبه وأنهم لهم الجنة خالصة مِن دون الله قال -جلَّ وعَلا- : {بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} هذا الأمر ليس للخلق وإنما هذا لله -عز وجل- فالذي يصفه الله بوصف الإيمان وبوصف التقوى وإنه مِن أهل الجنة وأنه له كذا وكذا هذا الأمر مِن الله -تبارك وتعالى- {بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ}, كوصف مِن أوصاف الزكاة كوصف الإيمان ووصف الطهارة هذا لله وكذلك يزكيه في الدنيا, {بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} , فيجعل نفسه طيبة طاهرة بعيد عن الإثم والشرك هذا كذلك مِن فعل الرب -تبارك وتعالى- .

قال -جلَّ وعلا- : بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} أي ليس الأمر عند الله بما تدعيه أنت؛ بل الله هو الذي يعطيك ويضعك في مكانك الصحيح ويحكم عليك بالحُكمْ الصحيح ولا تظلم عند الله -تبارك وتعالى- فتيلا؛ الفتيل هو هذا الخيط الصغير الذي يكون في شق النواة, أي لو كان لك عند الله -تبارك وتعالى- هذا الشيء الصغير فإنَّ الله لا يظلمه لك لو أنت مثل هذا أنفقته في سبيل الله أنفقت فتيلًا ليس نواة كاملة لله -تبارك وتعالى- عملت شيء مِن الخير قَدْرَ هذا, فإنه لا تظلمه عند الله -تبارك وتعالى- بل تُعطاه له كاملا, {انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}, {وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا} , تعجيب أيضًا يعجب الله -تبارك وتعالى- رسوله مِن هؤلاء الناس يقول انظر الي فعلهم هذا {انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}, نحن أهل الجنة نحن شعب الله المختار, نحن داخلون الجنة لنا  مِن دون الله, { لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} اليهود يقولوا لا يدخل الجنة إلا اليهودي والنصارى تقول لن يدخل الجنة إلا النصارى, نحن على الحق نحن من هذه الافتراءات الكاذبة, {انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}, قال -جلَّ وعَلا- : {وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا} أي  كفى بهذه  الفِرَى التي يفترونها فق لو لم يكن لهم جريمة إلا هذه الدعاوة الكاذبة التي يدعونها تكفي تكفيهم دخول النار وكفى به إثما مبينا {وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا}, كفى به بالكذب والافتراء والادعاء أنهم يعني شعبه المختار وامته وأنَّ الجنة خالصة مِن دون الله وأنهم على الهدى المبين مِن كل ما افتروه وكذبوه هذا يكفيهم إثما مبينا بينا واضحا يستحقون عليه العقوبة عياذا بالله, كذلك يسير السياق في بيان  حال هؤلاء اليهود فيقول الله -تبارك وتعالى- : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا}[النساء:51].

 وموعدنا إنْ شاء الله مع هذا في الحلقة الآتية أقول قولي هذا, واستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.