الحمد لله ربِّ العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله الرسول الأمين، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهديه وعَمِلَ بِسُنَّتِهِ إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تباك وتعالى- : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا}[النساء:51], {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا}[النساء:52], {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا}[النساء:53] ,{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا}[النساء:54], {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا}[النساء:55], الآيات مِن سورة النساء, ومازال السياق في بيان فضائح هؤلاء اليهود الصادِّين عن سبيل الله, المعاندين لهذه الرسالة الخاتمة؛ رسالة النبي محمد –صلوات الله والسلام عليه-, يُعجِّبُ الله -تبارك وتعالى- رسوله مِن هذه الطائفة فيقول : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ........},تعجيب مِن الله-تبارك وتعالى- لرسوله مِن هذه الطائفة, {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ........}, عَلَّمَهُم الله –تبارك وتعالى- {نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ}, المُنْزَل؛ التوراة , والنصارى قد تعلموا التوراة والإنجيل, ما يسمونه بالعهد القديم والعهد الجديد, قال -جلَّ وعَلا- : {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ}الِجْبت؛ السِّحر, والطاغوت؛ كل ما جاوز حده مما عُبَدَ مِن دون الله -تبارك وتعالى- مِن الشيطان الذي يأمر بمعصية الله -تبارك وتعالى- رأس الطواغيت هو الشيطان, وهذه الطاغوت صيغة مبالغة مِن الطاغي, طاغي فهو طاغية فهو طاغوت هذا أكبر شيء، فكل ما عُبِدَ مِن دون الله -تبارك وتعالى- مِمَن دعا الناس إلى عبادته أو فجعله الناس طاغوت، أمَّا مَن عبد مِن الله -تبارك وتعالى- فهو لن يرضي بذلك فإنَّ في هو ذاته ليس بطاغوت، وإنْ كان جعله عُبَّاده إلي حمد الله -تبارك وتعالى-، الطواغيت هي هذه الأصنام وهؤلاء المتجبرون الذين دعوا الناس الي عبادة أنفسهم، فهؤلاء اليهود يؤمنون بالسِّحْر, ويؤمنون بالطاغوت, وهو كل مَن عَدَلَ عن أمر الله -تبارك وتعالى- عن حُكْم الله إلى حُكم نَفْسِهِ أو حُكْم مَن يُحَكِّمُهُ الله دون الله-تبارك وتعالى-.
فهذا الذي يأمر بالجِبْتِ والطاغوت لا شك أنَّه كافر بالله -تباك وتعالى- فإنَّ هذا طريق، وهذا طريق؛ هذا طريق الشيطان وطريق المعاندين لله -تبارك وتعالى- طريق الكفر, هذا يؤمنون بالجِبْتِ والطاغوت مع أنَّ الله -تبارك وتعالى- عَلَّمَهُم وقد أوتوا نصيبا مِن الكتاب تعلموه وعرفوا أنَّ الكتاب المنزل مِن الله -تبارك وتعالى- إنما يدعوا إلي عبادة الله تعالى وحده لا شريك له وطاعته -جَلَّ وعَلا-, وهؤلاء يعبدون غير الله -تبارك وتعالى- يعصون الله -تبارك وتعالى- عن عمد وإصرار, ومع هذا {يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا}, فهم كفارٌ في أنفسهم ثم زادوا على ذلك أنهم يشهدون بالزور, {يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا}, مِن مشركي العرب أنَّ هؤلاء المشركين أهدى مِن النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنون معه.
انظر شهادة الزور التي يؤدونها معه أنهم مَن الذين أُوتوا نصيبًا مِن الكتاب, جاءت قريش وسألوا اليهود وقالوا لهم: أنتم أهل كتاب، أنتم أهل كتاب وهل ترون ما نحن عليه خير؟ أم ما عليه محمد خير؟ قالوا: بل ما أنتم عليه هو الخير، فانظر شهادتهم؛ شهادة الزور وتعديلهم دين المشركين والكفار, وذَمَّهُم في دين النبي الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويقولون هؤلاء أي الكفار {يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} الكفار، المعاندين لله، والمشركين به، القائلين فيه ما لم يقل المكذبين بالبعث شراب الخمور الذين عندهم مِن المفاسد، ومِن الشرور ما لا يعلمها إلا الله -سبحانه وتعالى- شرور كثيرة في كل شأن مِن شئونهم الذين يَأدُونَ البنات يظلمون يظلم بعضهم بعضا يُحِلُّونَ ما حرم الله يحرمون ما أحل الله كل هؤلاء، هؤلاء الذين على هذا الفساد يقولون لهم: أنتم أهدى دينًا وأقوم سبيلًا مِن الرسول محمد -صلوات الله والسلام عليه- الذي جاء بالهدى والنور, الداعي بالإيمان بالله -تبارك وتعالى- وحده لا شريك له, المعظم لرسل الله -تبارك وتعالى-, المؤمن بهم, الذي يدعوا إلى الهدى المستقيم، الصراط المستقيم، الخُلُق القويم ,هذا بشهادة هؤلاء المجرمين هذا بشهادتهم هو الضال والمشركون مِن أمثال أبي جهل وأبي لهب، وما هم عليه يقولون لهم أنتم ِ {أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا}.
قال-جلَّ وعَلا- : {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} ,أولئك, بصيغة الإشارة إلى البعيد لهم أي لهؤلاء الوعود الذين لعنهم الله{لَعَنَهُمُ اللَّهُ}, طردهم مِن رحمته -سبحانه وتعالى- فجعلهم على هذا النحو مِن الكفر والعناد وشهادة الزُّور قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نصِيرًا}, {مَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ} مَن يَطْرِدِ الله -تبارك وتعالى- مِن رحمته {فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نصِيرًا}, ينصره لا مِن نَفْسِهِ ولا مِن غيره لا ينصر, وذلك لأنَّ الله خذله, خذله وطمس بصيرته وأعمى قلبه فجعله يَرَى الحق باطلا, ويَرَى الباطل حق, ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- العِلَّة والسبب الذي مِن أجله عاندوا هذا العناد وكفروا هذا الكفر قال -جلَّ وعَلا- : {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا}, {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ} مِن مُلْكِ الله -تبارك وتعالى-, أي لو لهم نصيب مِن مُلْكِ الله -تبارك وتعالى- أعطاهم الله هذا النصيب يتصرفون به, {فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا}, النقير هو: مِقْدِار ما يأخذه الطير بمنقاره هذا الطير القدر القليل مِن الشيء بخل, فالله -تبارك وتعالى- يخبر بأنَّ الملك له -سبحانه وتعالى- وأنه أعطى هذا النبي -صلوات الله وسلامه عليه- الهداية والنور والصراط المستقيم والملك والتمكين وأعطاه مفاتيح كنوز الأرض لأنه النبي الخاتم, وأعطى أمته ما أعطى مِن العرب هؤلاء حسدوا حقدوا على هؤلاء هذا النبي الذي أوتي الرسالة وتحول الملك وقيادة البشرية, وكنوز الأرض كلها, وكذلك مُلْك السماء بعد ذلك إلى النبي محمد -صلوات الله وسلامه عليه- ,لذلك حقد هؤلاء اليهود وحسدوا أنْ تحولت الرسالة مِن بني إسرائيل إلى بني إسماعيل, قال -جلَّ وعَلا- : {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا},{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا}[النساء:54], {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}, الناس هنا المؤمنون النبي والذين آمنوا معه -صلوات الله سلامه الله عليه- , {مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}, هذا فضل الله -تبارك وتعالى- النُّبوة والِّرسالة والهداية للدين, هذا فضل الله ورحمته -سبحانه وتعالى- ,ويحسدون الناس ناس غيرهم؛ غير بني إسرائيل فهؤلاء يحسدونهم وذلك أنَّ هذه الرسالة الخاتمة جاءت للناس كلهم ليس للعرب وحدهم, {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا}[النساء:54], مِن التوفيق والهداية إلى هذا الدين القويم قال -جلَّ وعَلا- : {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا}الله الذي أعطى آل إبراهيم؛ إبراهيم وبنوه -صلوات الله وسلامه عليه- فإنَّ إبراهيم أعطاه الله-تبارك وتعالى- النبوة والرسالة وعَلَّمَهُ الحِكمة وجعل ابنه إسماعيل رسولا,, جعل ابنه إسحاق بعد ذلك رسولا بعد إسحاق يعقوب رسولا, جعل بعد ذلك سلسلة عظيمة مِن الرسالات في أبناء إبراهيم -عليه السلام- مِن فرعه إسرائيل, {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} الكتاب المُنزَل مِن عنده -سبحانه وتعالى- والحكمة العلم الكامل حيث يضعون الأمور في نصابها هذه السُّنة التي علمهم الله -تبارك وتعالى- إياها {وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا}، ملكًا عظيمًا في الدنيا والآخرة هذا الملك تحقق لهم في الدنيا مِما مَلَّكَهُم الله -تبارك وتعالى- في أرض المقدسة وكان منهم ملوك كداوود وسليمان, وملوك تعاقبوا على الحكم هذا ملك في الدنيا وكذلك الملك العظيم بعد ذلك في الآخرة, {وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا}، قال -جلَّ وعَلا- عن بني إبراهيم : {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا}[النساء:55], ومنهم؛ مِن الذرية؛ ,أي ذرية إبراهيم, { فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ}, مَن آمن بالله -تبارك وتعالى-, {بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ}, وكذلك آمن بهذا الفضل والدين الذي خصهم -تبارك وتعالى- به وأعطاهم الله -عز وجل- إياهم منهم من صدا عنهم، صد تأتي لازم أي صد بنفسه عن الأمر وصد تأتى متعدية صد غيره عنه أي صد بنفسه عن هذا وابتعد عنه، وصد غيره كذلك, قال -جلَّ وعَلا- : {وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا}, أي هؤلاء الذين فعلوا الفعل تكفيهم جهنم، تكفيهم جهنم مسعرة مشتعلة يمكثون فيها مكثًا لا انقطاع له, أي أنَّ هؤلاء هذه العقوبة كافية لهم ثم بيَّن -سبحانه وتعالى- كيف ستكون هذه العقوبة فقال : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا}[النساء:56] ,{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا}, كلهم مِن أي فريق و مَن أي قبيلة ومِن أي أُمَّة كفرت بالله -تبارك وتعالى-, {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا}, آيات الله -تبارك وتعالى- المُنْزَلَة على ألسنة رسله, قال -جلَّ وعَلا- : {سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا} في الآخرة ومعنى نصليهم أي نشويهم, نذيقهم. يُلْقَوْنَ , {نَارًا}, ثم وصف الله -تبارك وتعالى- هذه النار قال: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ}, نضجت بلغت حدها مِن الاستواء والاحتراق يجددها الله -تبارك وتعالى- يجدد لهم هذه الجلود مرة ثانية فيستمرون أبدا على هذا النحو تنضجوا النار جلودهم ثم تُنْبِتُ لهم في الحال جلودا جديدة ليستمروا عذابهم على هذا النحو بلا انقطاع, عياذا بالله, فقد جاء في الحديث أنَّ جِلْدِ الكافر؛ سماكة جِلْدِهِ مسيرة ثلاثة أيام، مسيرة ثلاثة أيام للراكب هذه سماكة جلده وما بين ِمنكبيه مسيرة ثلاثة ايام, مقعده يقول النبي: «مقعد الكافر مِن النار ما بين مكة والمدينة جثة هائلة كبيرة» وهذا عياذا بالله يكون على هذا النحو ليذوق العذاب {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا}.
ختم الله هذه الآية وفي هذا الوعيد الشديد بأنَّ العزيز الغالب الذي لا يغلبه أحدا -سبحانه وتعالى- الحكيم كذلك الذي يضع كل أمرًا في نصابه فالعقوبة في هذه السورة في مكانها المناسب تماما ليس زائدة، ليس زائدة عن الحدِّ بل في موضعها المناسب أي أنَّ الله -تبارك وتعالى-عندما اختار لهؤلاء الكفرة لهذا النوع مِن العذاب فهو في حكمته سبحانه وتعالى وأنَّ هذا هو الأمر المناسب فهو عزيز غالب لا يغلبه أحد وهو حكيم يضع كل أمره في نصابه -سبحانه وتعالى-.
ثم لمَّا ذكر الله -تبارك وتعالى- أي عذاب السورة العذاب للكفار ذكر السورة المقابلة فهذا دائما في القرآن يبين الله -تبارك وتعالى- هذه السورة؛ سورة العذاب يُبَيِّن سورة الرحمة -سبحانه وتعالى- فقال -جلَّ وعَلا- : {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا}[النساء:57], {وَالَّذِينَ آمَنُوا }, هؤلاء في مُقَابِل الكفار والإيمان بكل ما أخبر الله به حقيقة الإيمان هي التصديق والعمل بمقتضى هذا التصديق, التصديق بكل ما أخبر الله -تبارك وتعالى- ليس مجرد تصديق بل عمل بمقتضى هذا التصديق, فإذا عَلِم وعَلِمَ بأنَّ الله هو الرَّب الرَّحمن قام في قلبه مِن معنى طَلَبِ هذه الرحمة والسعي فيها, إذا عَلِمَ إنَّ الله -تبارك وتعالى- شديد العقاب قام في قلبه مِن المخافة، والخشية لهذا الرَّب ما هو مِن مقتضى إيمانه بأنه شديد العقاب, فهذا معنى الإيمان, أي إيمان بالقلب تصديق، وعمل بمقتضى التصديق, أما التصديق المطلق هذا ليس لا عَمَلَ له فهذا فِعْل الكفار كله، الكفار كلهم في أي قبيلة وفي اي زمن لا شك أنهم يعلمون بالاضطرار أنَّ ما يقوله الله حق بضرورة الأمر فيعلمون أنَّ لهم خالق وعندما تتلى عليهم آيات القرآن وتأتيهم البراهين يعلمون بأنّ هذه البراهين لا يمكن أنْ تكون إلا مِن الله -تبارك وتعالى- وإنها صادقة , لكنهم يجحدونها ويرفضونها, هذا أعظم الكفار في الأرض فرعون يعلم بأنَّ هذه الآيات التي أجراها الله -تبارك وتعالى- علي يد موسى آيات الله ما هي مخاليق ولا هي سحر ولا هي كذب ذلك قال له موسى : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ….….}[الإسراء:102].
أنت تعلم هذا إنها آية الله ما هي هذه الخوارق ليست مِن عندي يعلم بأنَّ عصا موسى كانت آية مِن الله -تبارك وتعالى- وليست سحرًا مِن السحر, إبليس يعلم حقيقه الأمر الذي رأس الكفر كله لا شك مِن حيث التصديق مُصدِّق بكل ما أخبر به الله -تبارك وتعالى- غير مكذب بهذا مصدق بالوعد، بالوعيد، بالجنة، بالنار, بأمر الله, بأسماء الله, بصفاته, كل هذا يصدق به؛ لكنه لم يعمل بمقتضى هذا التصديق لم يخف الله -تبارك وتعالى- لم يطع الله استكبر على أمر الله -تبارك وتعالى- هذا عناد.
كذلك شأن الكفار؛ الكفار الذين كانوا في مكة والنبي معهم -صلوات الله وسلامه عليه- كان يشاهدون آياته ويعلمون أنه الرسول الصادق الأمين لا يمكن أنْ يقول كذبًا كان يهدد أحدهم بأمر قل بل أنا أقتلك فيعلم بالفعل لا يمكن أن يقع القتل عليه مِن النبي -صلوات الله عليه- وسلم عليه والله قال لرسوله: فانهم لا يكذبونك, {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ }[الأنعام33], فإنهم لا يكذبون في قرارات أنفسهم يعلمون صدقا ، {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ نعود فنقول الإيمان حقيقته تصديق, عمل بمخطرة التصديق عمل بالقلب .ثم بعد ولذلك عمل بالجوارح لذلك عقب الله -تبارك وتعالى- قال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}, فهذا هو الإيمان الصحيح الإيمان لا يمكن أن يكون إلا تصديق القلب عَمَل القلب، عَمَل الجوارح، عَمَل الصالحات، الأمور الصالحة بجوارحهم صلوا صاموا ذكوا، هذا كل ما يأمر الله –تعالى- به مِن عمل فهو مِن الصالحات فهؤلاء الذين قالوا الله فيهم : {سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} هذا وعد الله لعباده المؤمنين قال: {سَنُدْخِلُهُمْ}, والتعبير هنا سندخلهم لبيان أنَّ الوعد قريب أنه قريب جدا قال: {سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ} بساتين, {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}, مِن تحت أشجارها , مِن تحت قصورها الأنهار المختلفة مختلفة الأشكال والألوان, {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ}[محمد:15], {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}, {خَالِدِينَ فِيهَا}, الخلود هو المُكْث الطويل أي ماكثين فيها مكثًا أبديًا لا انقطاع له لا انقطاع له لا نهاية له كما قال-تبارك وتعالى- : {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} ,عطاء مِن الله ليس لا يُجَذّ, ما هو مقصوص وإنما هو عطاء دافئ ثم له فيها أزواجا مطهرة أزواج زوجات مطهرة مِن كل دَنس سواء كان هذا الدنس دنس خُلُقِي كالغيرة والحسد، والتباغض, والفَرَك كل ما هو مِن الأدواء التي تصيب نساء الدنيا؛ هذه النساء الأخرى مبرآت مِن هذا, ثم كذلك مطهرة مِن القاذورات والنجاسة الحسية, فهنَّ لا يطمسن لا يصيبهن الطَّمس ولا البول ولا الغائط, فكل أهل الجنة لا يمتخطون ولا يبصقون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يصيبهم كل هذه النجاسات التي في الدنيا نساء الآخرة مبرآت مِن ذلك لهم فيها أزواج مطهرة من كل الأدوار الخُلُقِيَّة، وكذلك الخَلْقِيَّة.
ثم قال -جل وعلا- : {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا }, ندخلهم أهل الجنة ظل ظليلا كظل الدنيا في الأشجار والأبنية والسواتر يتحول مِن وقت إلى وقت أما هذا ظل ظليل لا يظل ولا يتحول بالفعل, وقد أخبر النبي قال: «إنَّ في الجنة شجرة يسير الراكب تحتها مائة عام لا يقطعها», يسير في ظل هذه الشجرة مائه عام لا يقطعها, فضلًا على أنَّ هذه الجنة ليس فيها شمس, {لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا},[الإنسان:13] الزمهرير؛ البرد الشديد هذا غير الموجود, الشمس وحرارتها غير موجود بل هي الجنة كلها ظلٌ ظليل هذا النعيم العظيم جعله الله -تبارك وتعالى- لأهل الإيمان صورتان الآن أصبحت متقابلتان الصورة الأولى بدأ الله -تبارك وتعالى- بها عذاب الكفار, {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا}[النساء:56], هذه صورة المعذبين وبدأ الله -تبارك وتعالى- بها ونفسها لأنَّ السياق بيان كفر هؤلاء اليهود وعنادهم كفرهم في أنفسهم تركهم كتاب الله -تبارك وتعالى- الذي عندهم علم منه ثم أتباعهم مِن السحر خلف الطواغيت عياذا بالله ثم صدهم عن سبيل الله ثم شهادتهم للكفار بأنهم أهدى مِن الذين آمنوا سبيلا أهدى من النبي محمد -صلوات الله وسلامه عليه- فعندهم أبو جهل وأبو لهب وكفار مكة عباد الأوثان والأصنام هؤلاء المجرمين أهدى مِن النبي محمد -صلوات الله وسلامه عليه- والمؤمنون معه, فهؤلاء الذين لعنهم الله -تبارك وتعالى- وحقدوا هذا الحقد وحسدوا هذا الحسد لأهل الإيمان هؤلاء الله -تبارك وتعالى- أي في السياق بين عذابهم وعذاب أمثالهم مِن الكفار, {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا}[النساء:56], ثم ذَكَرَ إحسانه -سبحانه وتعالى- ووعده العظيم لعباده المؤمنين فقال : {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا}[النساء:57].
فأتى بهذه السورة العظيمة والوعد الأكيد الذي أَخْبَرَ -تبارك وتعالى- أنَّه وعد صادق لا بد أنْ يحققه الله -تبارك وتعالى- لعباده قد ضمن الله -تبارك وتعالى- أنه محققه -سبحانه وتعالى-, {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ}, لابد, {........كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ}[القصص:61], إلى العذاب وعد الله لا يتخلف لابد أن يكون, {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا}.
ثم شرع الله -تبارك وتعالى- في توجيه أهل الإيمان بمجموعة مِن الأحكام بدأها الله -تبارك وتعالى- في قوله : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا}[النساء:58], هذا أمر مِن الله -تبارك وتعالى- {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ}, الله هو الذي يأمركم وبالتأكيد بإنَّ, {أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}, {أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}, الأمانات؛ جمع أمانة والأمانة كل ما أتمن عليه الإنسان مِن عهد من متاع, مِن سر, وسواء كان الذي أتمن العبد هو عبدا مثله أو أنَّ الأمانة هذه هي أمانه الله -تبارك وتعالى- التي فرضها والزم بها عبادة -سبحانه وتعالى-{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}, أمانات الله -تبارك وتعالى- ما ائتمن الله -تبارك وتعالى- العبد عليه فالصلاة أمانة وصومك وزكاتك وحجك وكل العبادات السرية أمانة, فأنت مؤتمن على هذا الأمر, غسل الجنابة قال السلف غسل الجنابة أمانة وذلك أن هذا أمر ما يطلع عليه غيرك ربما يحتلم العبد وما يدرى عنه أحد قد كلفك الله -تبارك وتعالى- أنك لا تصلى إلا بالطهارة فلابد أنْ تغتسل فهذه أمانه ما ائتمن عليه العبد كذلك ما أتمن عليه العبد من أماناته بينه بين العباد هذه يجب أن يؤديها {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}, كل أمانة إلى أهله ما منها الوديعة، ما استودعك ما استودع عندك يجب أن يكون فيه أمن, سميت أمانه كان يجب أنْ تكون آمِنة ليست معرضة للضياع ثم تُؤَدَّى إلى أهلها.
أيضًا يدخل في هذا أمانة الحُكْم فإن الحكم أمانة ويجب أنْ يتولاه أهل هذه الأمانة وهم أهل القوة والدين والقيام بالحق حتى يستطيع أنْ يَطلع بأمانة الحُكْم كما أمر الله -تبارك وتعالى-أن يحكم بالناس بالعدل أنْ يأخذ الحق مِن القوي للضعيف أنْ يَقْسِم بين الناس بالسَّوِيَّة فهذا اطلاع بالأمانة أنْ يدافع عن حياض المسلمين فهي اطِّلاع أمان فالذي يدل على أنَّ الحُكم أمانة قول النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: «يا عبد الرحمن إنها أمانة وإنها يوم القيامة خِزْيٌ وندامة», أي يوم القيامة هذه الأمانة تصبح خزي وندامة ولذلك أنَّ العبد الذي يطلع على هذه الأمانة سَيُسْأَل عن الصغير والكبير فيها, كما قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه - لما قال له بعد أنْ طُعن؛ طعنه المجوسي وجاء الطبيب وقال اسقوه لبن فإنْ خرج اللبن مِن جُرحه فاعلموا أنه ميت, يكون قد قطع الأمعاء وإنْ لم يخرج فهذا يرجي شفاؤه, فلما أُسقي اللبن فخرج اللبن مع الجرح فعلموا بأنه لا حياة له بعد ذلك, فجاء ابن العباس والمسلمون, وابن العباس يُجَزِّع عمر بن الخطاب أي يصبره يقول له لمؤمنين لقد صحبت رسول الله فأحسنت صحبته فمات وهو عنك راضٍ وصحبت صاحب رسول الله فأحسنت صحبته ثم مات عنك وهو عنك راضٍ, ثم صَحِبتَ صَحَبَة رسول الله ثم أحسنت صحبتهم هذا في مدة حكمك فإنْ مت لتموتن وهم عنك راضون, قال عمر أجلسوني أجلسوه وقال كلامًا طويلًا لعلنا نذكره في تمامه في الحلقة الآتية, خلاصته وقد أدركنا الوقت قال له : (والله وددت أن, يكون كل هذا كفافا لا لي ولا علي) أتمنى أن يكون مِن الله الذي فعلته كفافا لا لي ولا علىّ (والله لو أنَّ بغلة عثرت بالعراق لسُئل عنها عمر بين يدى- الله تباك وتعالى (-هذا معنى الأمانة هذا يفسر معنى الأمانة أنَّ أمانة الحُكم الذي أخذ أمانة الحكم قد أخذه الله تبارك وتعالى على كل ما تحت يده: كما قاله النبي صلوات الله والسلام عليه : «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته» أمام الله تبارك وتعالى «فالإمام راع ومسئول عن رعيته», {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}.
نأتي إن شاء الله بتفصيل معاني هذه الآيات في الحلقة الآتية. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب وصلى الله على عبده وسوله محمد .