السبت 19 شوّال 1445 . 27 أبريل 2024

الحلقة (123) - سورة النساء 58-64

الحمد لله ربِّ العالمين، وأُصَلِّي وأُسَلِّم على عبد الله والرسول الأمين، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهديه وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا}[النساء:58], {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}[النساء:59].  

قول الله -تبارك وتعالى- : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ}, صدَّرَ الله هذه الأوامر, وهذا فاصل جديد مِن هذه السورة فيه مجموعة مِن الأحكام يعظ الله -تبارك وتعالى- بها عباده المؤمنين صدَّرَهَا بقوله : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ }, فالله -سبحانه وتعالى- هو الذي يأمركم, وهذا فيه تعظيم لهذا الأمر، وهو أنَّه أمر الله -تبارك وتعالى- ،وأكده -جلَّ وعَلا- بإنَّ الله {يَأْمُرُكُمْ }, أي أيها العباد المؤمنين, {يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}, الأمانات جمع أمانة وهي كل ما ائتُمِن العبد عليه, وأعظم هذه الأمانات بالنسبة للعباد أمانة الحُكْم وذلك إنها أمانة مِن طرفين؛ أمانة مِن الله -تبارك وتعالى- فالله هو الذي يقيم هذا, ثم أمانة كذلك من العباد, فإنَّ مَن أُسْنِدَ إليه الحكم قد ائتمنه الناس على دمائهم وعلى أموالهم وعلى ما يقع بينهم خصومة واشتجار أنْ يَحْكُمَ فيه بالعدل كل مقدرات التي عنده هي أمانةٌ تحت يده هو مسئول عنها أعظم أمانة يؤتمن عليها إنسان أمانة الحُكْم,, مسئول عن الصغير والكبير فيه, لذلك قال النبي: عن أمانة الحكم «قال يا عبد الرحمن أنها أمانة وأنها يوم القيامة ويوم القيامة خزيٌ وندامة إلا إذا أخذها في حقها ووضعها في حقها», وقد جاء أيضًا قول النبي: -صلوات الله والسلام عليه-  «كلكم راعٍ ومسئول عن رعيته», فالإمام راعٍ, أي لكل ما تحت يده , هو مسئول عن رعيته مسئول يوم القيامة عن رعيته وقد ذكرنا في الحلقة الماضية كيف أنَّ عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- لما عُزِّيَ مِن ابن عباس -رضي الله وتعالى عنه- بعد طُعِنَ وقيل له: أبشر يا أمير المؤمنين صحبت رسول الله -صلى الله وعليه وسلم- وأحسنت صحبته ثم مات وهو عنك راضٍ, ثم صحبت صاحب رسول الله وهو أبي بكر وهو صاحب رسول الله إذا أُفرِد وقيل صاحب رسول الله لا ينصرف إلا لأبو بكر فإنه هوالذي صاحبة قبل البعثة وبعد بعثته وهو لم يفارقه في موطن من المواطن قط لم يكن هناك أبو بكر مفارق للنبي -صلوات الله والسلام عليه- بني هذا  الموطن الذي لم يصاحب النبي غيره وهو موطن الهجرة, الشاهد قال له أيضًا ابن عباس يقول لعمر: صحبت صاحب رسول الله وأحسنت صحبته أي كنت وزير صِدْقٍ له ثم مات وكان عنك راضٍ, ثم صحبت صَحَبة رسول الله  أنت عندما كنت أميرا  صحبت أصحاب النبي  وأحسنت صحبتهم قال ولئن مِت أي فإنهم عنك راضون؛ كل أصحاب النبي راضون عنك فقال له: وكانت عندما  كُلِّم ماعند هذا الكلام نائم على سريره قال لهم اجلسوني فاجلسوه ثم قال له: يا ابن عباس أما ما ذكرته مِن صحبتي لرسول الله وإحساني لصحبته ثم موته وهو عنه راضي فذلك مَنُّ الله وفضله, وأما ما ذكرت مِن صحبتي  صاحب رسول الله ثم موته وهو عني راضٍ فذلك مَنُّ الله وفضله, ثم ما ذكرت مِن صحبتي لصحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأحسانه صحبتهم فذلك مَنُّ الله وفضله.

 ثم قال له والله لوددت أنه لا بي ولا على وددت أن الأمر كفافا أي أتمنى أنْ يكون الأمر عند الله -تبارك وتعالى- كفافا لا لي ولا علي لا لي حسنة في مقابل هذا كله ولا علي سيئة أكون متعادل الحسنات والسيئات, ثم ذكر الله السبب قال: في هذا (والله لو أنَّ بغلة عثرت في العراق لسُئِل عنها عمر بين يدي الله -عز وجل-) مجرد أنْ تعثر بغلة في العراق يسأل عنها عمر بين يدي الله -تبارك وتعالى- فكيف بهذه الجموع العظيمة مِن أهل الإسلام وأنَّ الله سائلني عن الصغير والكبير فيه.

 ولذلك قيل أنَّ عمر قد رآه بعض الصحابة بعد موتة بعام فقال له: ماذا فعل الله بك؟ فقال: لم أفرغ مِن حسابي حتى الآن قال: ما فرغت الآن مِن السؤال إلا الآن بعد عام مِن موته -رضى الله تعالى عنه- وأرضاه الشاهد على كل حال أمانة الحُكْم أعظم الأمانات ودونها بعد ذلك كل ما يؤمن الإنسان عنده فالرجل الذي ولَّاه الله -تبارك وتعالى- ما في بيته أمانة عنده زوجته وأولاده, والمرأة هي أمينة كذلك في على ما ائتمنت عليه في بيت, زوجها الخادم في مال سيده يقول النبي: «راعٍ وهو مسئول عن رعيته», الأمانات كلها أمانة إما مِن الله -تبارك وتعالى- وإما مِن العباد وكل مسئول عن هذه الأمانات وهذه أعظم الأمانات, {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}, فكل ما ائتمنت عليه يجب أنْ تؤديه لأهله وهنا بالنسبة لأمانة الحكم هذا أمر مِن الله -تبارك وتعالى- للأمة للرعية أنْ يولوا الحكم الأهل المؤهل لهذا الذي فيه الأهلية بهذه وقد نص أهل العلم على مَن تكون له الأهلية مِمَن هو مِن أهل الدين والاستقامة والشجاعة والقيام بالأمر كذلك مِن المواصفات كما قال النبي: لأئمة مِن قريش  هناك مواصفات ذكرها أهل العلم في ما له الحق أي يجب إسناد الأمانة إليه, {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}, فهذا أمرٌ للأمة كلها, ثم قال : {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}[النساء:58]هذا الأمر هنا لِمَن أسند اليه الأمانة أنْ يحكم بالعدل لأنَّ هذه الأمانة التي وُكِّلَهَا أسندت إليه مِن قَبْل الناس بأمر الله -تبارك وتعالى- وهي تعتبر ولاية مِن الله -تبارك وتعالى- فالله يؤتي ملكه مَن يشاء -جلَّ وعَلا-, {وَإِذَا حَكَمْتُمْ}, أيها الحكام أن تحكموا بين الناس بالعدل؛ العدل الذي هو خلاف الظلم أنْ يعطى كل ذي حقٍ حقه لا يجور.

 ثم قال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ}, إنَّ الله الذي يأمركم بهذه الأوامر يعظكم بها {نِعِمَّا}, نعم الأمر نِعْمَت أوامر الله -تبارك وتعالى- أي أوامر عظيمة هذه الذي يأمركم الله –تعالى- بها, {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ}, أي نِعِم نعمت هذه الأوامر حسنت هذه الأوامر التي أمركم الله الله الذي يأمركم بها -سبحانه وتعالى- ولا شك أنه ما يأمركم به الله -تبارك وتعالى- عبادة حسنة أي الأمر هنا بإسناد الإمامة والإمارة إلى أهلها, ثم أمره الولاة بأنْ يحكموا بالعدل, هذه أوامر حسنة عظيمة.

ثم قال -جلَّ وعلا- : {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا}, عَقَّبَ الله-تبارك وتعالى- على هذه الأوامر وهذه الموعظة بأنه سميع بصير وهذا فيه وعيد وكذلك فيه وعد, وعد بأنه -سبحانه وتعالى- أنَّ مَن قام بالإحسان فالله سميع بصير له لا يُضيِّع الله -تبارك وتعالى- مِن إحسانه شيء وكذلك مِن فَعَلَ الإساءة وقام بالخيانة فالله سميع بصير فإنه -سبحانه وتعالى- سميع وبصير لا يغيب عنه شيء مِن عمل عباده, وبالتالي يكون هذا تهديد, فهذا تعقيب على هذه الأوامر بتذكير الله -تبارك وتعالى- العباد بأنه سميع بصير فيه وعد لأهل الإحسان ووعيد لأهل الإساءة.

 ثم قال -جلَّ وعَلا- : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}[النساء:59], {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}, نداء, خطاب مِن الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين يَعْقُبُهُ أمر فيه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}, للتهييج على الفعل حين يصفهم الله -تبارك وتعالى- بمسمى الإيمان, ابن مسعود يقول: إذا قال لواحد عظني عظني مِن القرآن فقال له: (إذا سمعت يا أيها الذين آمنوا فارعه سمعك فإنَّه إما أمر يأمرك الله -تبارك وتعالى- به وإما نهي ينهاك الله -عز وجل-, وإما موعظة يعظك الله -تبارك وتعالى- به) عندما تسمع {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أي يقول لك اسمع جيدًا لأنَّ هذا خطاب مِن الله -تبارك وتعالى- لكن أنت متداخل في هذا, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ}, أمرٌ بطاعة الله -تبارك وتعالى- وقال {أَطِيعُوا اللَّهَ}, هنا بدون أي قيود طاعةً مُطْلَقَة, {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}, كذلك بلا قَيْد طاعة مُطْلَقَة وذلك أنَّ طاعة  النبي -صلى الله عليه وسلم- هي طاعة الله -عزَّ وجَلّ-.

 ثم قال: {وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ،  وَأُوْلِي الأَمْرِ}, معطوف على طاعة الله وطاعة الرسول ليبين أنَّ هذه {وَأُوْلِي الأَمْرِ}, أنَّ طاعتهم إذا كانت في طاعة الله والرسول أما إذا كانت في معصية الله أو معصية الرسول فإنه لا طاعة لهم, كما قال -صلى الله عليه وسلم- :                «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» الخالق لا يجوز بأن يطاع مهما كان أميرًا أبًا زوجًا رئيس عمل كل هذا, يطاع هؤلاء يطاعون بأمر الله -تبارك وتعالى- إذا كان في طاعتهم طاعة الله ورسوله, أما إذا كان في طاعتهم معصية لله ورسوله فلا طاعة لهم, {قال وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}، ثم قال جلَّ وعَلا: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}، فإنْ تنازعتم مع أولي الأمر وليس هنا إنْ تنازعتم أي في بينكم وبين أولي الأمر في شيء لا تنازع مَن نازع الله تبارك في حكمه كَفَر ومَن نازع النبي كفر أي إذا جاء أمر مِن الرسول وقال له افعل وقال لا لم تأمر بهذا؟ كفر وإنما التنازع هنا إنما التنازع مع أولى الأمر قال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ}: ومعنى التنازع:  كلٌ يظن أنَّ الحق معه وأنَّ الرأي له أن ما يأمر به الآخر هو غير الحق.

 ونحو ذلك قال -جلَّ وعَلا- : {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول} أي ارجعوا هذا التنازع ليكون الله والرسول هو الحَكَم في ما بينكم مِن خِلَاف, والرد إلى الله رد إله كتابه لأنَّ هذا هو حكمة أي حكم الله -تبارك وتعالى- في كتابه, والرد الي الرسول رد إلى سنته وإلى كلامه فردوا إلى الله والرسول .

قال -جلَّ وعَلا- : {إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}, {إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}, افعلوا هذا مفهوم هذا إنما لم يرد ما يتنازع فيه إلي الله والرسول ليس مِن الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر اليوم الآخر يوم القيامة سمي يوم الآخر لأنَّه نهاية المطاف هذا آخر الأمر, فيه يكون المستقر أهل الجنة في الجنة وأهل في النار في النار ما في نَقْلَة, لا انتقال بعد أن في إلي الناس في هذا اليوم فالناس في الدنيا ينتقلون في البرزخ ثم في المحشر ثم بعد ذلك اليوم الآخر الذي يكون فيه ختامه وفي نهايته أهل الجنة أهل الجنة وأهل النار في النار, سمى اليوم الآخر بذلك قال: {ذَلِكَ}, أي الرَّدُّ إلى حُكم الله وحُكْم رسوله, {خَيْرٌ }, خير أي خيرا لكم,  {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}, خير مِن كل الوجوه خير أنه الإذعان هنا ليس القوة والسلطان وإنما الإذعان لحُكْم الله وحُكْم رسوله ثم إنَّ هذا يحسم الخلاف وذلك أنَّ كلام الله -تبارك وتعالى- جامع وما ترك الله -تبارك وتعالى- لنا مِن أمر فقد أنزل كتابه تبيانا لكل شيء وجاءت السنه مبينة أي مفصلة لكل شيء فهذا خير, ثم هذا فيه تأليف القلوب ووحدة المسلمين والقضاء على الخلاف, قال : {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}, {تَأْوِيلًا}, مآل فأحسن في المآل في الدنيا أنْ تجتمع كلمة ويتفق أهل الإسلام ,كذلك أحسن مآلًا في الآخرة مِن حيث الجزاء عند الله -تبارك وتعالى-.

 ثم قال -تبارك وتعالى- : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا}[النساء:60], هنا يُعَجِّبُ الله -تبارك وتعالى- عبده ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه- مِن شأن جماعة هؤلاء مِن المنافقين, {يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ}, {يَزْعُمُونَ}, إذا قيل الزعم هو أنْ يقول الإنسان قول يَشكُ فيه المخاطب والحاكم على هذا الأمر, فهم زعموا هذا؛ بمعنى أنهم قالوا لكن الله -تبارك وتعالى- يبين أنَّ مقالتهم هذه إنما هي لا مِصْدَاق لها ولا تحقيق حقيقي لها, فهم زعموا بأنهم آمنوا بالله آمنوا بما أنزل مِن النبي , ما أُنْزِلَ مَن قبل النبي؛ الكتب الذي أنزلها الله على الأنبياء لكنهم, {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ }, وهذا لا يلتقي هذا وهذا, {يَتَحَاكَمُوا}, يطلبوا الحكم إلي الطاغوت قيل بسبب نزول الآيات أنه خصومة وقعت بين أنصاري وبين يهودي في قضية مِن قضايا الدنيوية قضايا أرض, فقال اليهودي قالوا نحتكم إلى أبي القاسم إلى محمد –صلى الله عليه وسلم- فقال ذلك المسلم لا؛ نحتكم إلى كعب بن الأشرف وهو رأس مِن رؤوس اليهود وعظيم مِن عظمائهم في المدينة, ويبدوا أنه مبطل فيوالي كعب فيحكم له بمال اليهودي, وأما اليهود يبدوا أنه مُحق في خصومته فأراد حُكم النبي وأنه يعلم بأنَّ النبي لن يحكم إلا بالحق, فالله يُعَجِّب رسوله مِن دعوة هذا المنافق الذي يدعي بأنه يؤمن بالله يؤمن بما أنزل من النبي قرآن، قرآن إنما أمر بأن يكون الحكم لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- ويريد أن يتحاكم إلي الطاغوت, الطاغوت صيغة مبالغة مِن الطاغي, طاغي اسم فاعل فإذا بالغنا نقول طاغية بزيادة تاء التأنيث, وإذا بُولِغ بقول طاغوت بزيادة الواو والتاء وكل طاغوت قيل كل ما جاوز حده به ما جاوز به العبد حده مِن متبوع أو رئيس أو مطاع أو معبود, فالذي يضع نفسه في موضع الرَّبَ -سبحانه وتعالى- والتشريع يقول هذا حلال هذا حرام, أو يضع نفسه موضع الحَكَم بدل مِن الرَّب -جلَّ وعَلا- فالله هو الحَكَم والحُكْم له -سبحانه وتعالى-, ومَن يحكم بأمره حكم بالحق ومَن يحكم بغير أمره حَكَم بالباطل وبالزور فهذا طاغوت فهذا طاغوت يريدون أن يتحاكم بالطاغوت إلي هذا الذي وضع نفسه في مقام وفي حق الرب -تبارك وتعالى- بأنْ يَحْكُم مِن عند نفسه قال -جلَّ وعَلا- : {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ}, أي قد أمرهم الله -تبارك وتعالى- بأن يكفروا بالطاغوت بطلتا ما يعبد من دون الله -تبارك وتعالى- قال {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} أي أن هؤلاء إنما هم تابعون للشيطان والشيطان يريد أنْ يضلهم ضلالًا بعيدًا جدًا عن الحق, {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا}[النساء:61], إذا قيل لهؤلاء المنافقين تعالوا أقدموا أي إلى ما أنزل الله ليحكم بيننا وإلى الرسول, الرسول موجود أي في وَسَطِنا قال -جلَّ وعَلا- : {رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا},ُ {رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ} , المنافق منافقين جمع منافق والمنافق هو الذي يُظهر الإيمان ولكنه يبطل الكفر هذا المنافق نفاق اعتقادي, وفيه نفاق أقل مِن هذا وهو النفاق العملي وهو مؤمن إذا كان مؤمن لكن فيه مِن خلال وصفات المنافقين كالكذب كالوعد خيانة الأمانة فجر في الخصومة كما قال -صلى الله عليه وسلم- « أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا ، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» ففي هذه الأربعة صفات أجتمع فيه يكون منافق خالص وإن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق فتكون فيه خصلة مِن النقاق مع خصال الإيمان فقال الله -تبارك وتعالى-: حول المنافقين إذا قيل لهم تعالوا إلى حُكم الله وحُكم رسوله رأيتهم  {يصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا}, {يصُدُّونَ} أي بأنفسهم مِن صدا لازما أو يصدون إذا جاءت متعدية يصدون غيرهم والصد هو المنع عنك فيصير {صُدُودًا}, تأكيد لصدهن وبُعْدهن عن حكم الله وحكم رسوله.

 قال -جلَّ وعَلا- : {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا}[النساء:62], هذا سؤال يراد به التعجيب والتفظيع لأمرهم وحالهم الذي صاروا إليه, {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}, كيف يكون حالهم يصرخون, يستغيثون, {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} أي في الدنيا, {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} وهو تحاكمهم إلى غير حُكم الله وحُكْم رسوله ثم جاءوك إذا انزل الله -تبارك وتعالى- عقوبتهم الدنيوية,{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا}, أي ما أردنا أنْ نذهب إلى كعب الأشرف أو غيره, {إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا}, أي بين المتخاصمين وأن نريد الإحسان أنْ نصلح ونريد أنْ نلم شمل هؤلاء المتخاصمين, ولا شك أنَّ هذا ليس إحسانا وتوفيق فإنَّ تحكيم  اليهودي في خصومات بين المؤمنين وترك حُكْم النبي -صلوات الله والسلام عليه- فيه مِن الفساد ما الله به عليم, ورجوعه إلى سلطان كافر وترك سلطان الله -تبارك وتعالى- وحُكْم النبي -صلوات الله والسلام عليه- فكيف يكون هذا إحسانا وتوفيقا! {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا}.

قال -جلَّ وعَلا- : {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} وأنهم كاذبون وإنما هم مُبغِضون لحكم الله وحُكم رسوله, {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُم........}[النساء:63], أي بالعقوبة, هنا صرف الله -تبارك وتعالى- رسوله أنْ يعاقبهم وعقوبتهم هذه  تستحق القتل لأنه إذا قيل له تعالى إلي حُكم الله ولن يرضى وذهب إلى حُكم غير الله فقد كفر, وهذا يستحق القتل قال -تبارك وتعالى : {........ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا}[النساء: 63], وكان النبي لا يقتل مِن أصحابه مِن قال الكفر كذا وظهر نفاقه على هذا النحو وكان يفعل هذا خشية مِن يقول الناس: إنَّ محمدًا يقتل أصحابه فيخوف هذا الناس ويصدون عن الناس.

 قال -جلَّ وعَلا-: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} أنْ يوجه لهم كلامًا فيه زجر عن العمل الذي عملوا والمعصية التي ارتكبوها, {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا}, {قُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ}, في خاصتهم أي اجتمع بهم في خاصتهم سرًا وقل لهم : {قَوْلًا بَلِيغًا}, يبلغ المقصود ويبلغ القلب ويعظون فيه وعظ مباشر حتى يصل تصل هذه المعلومة إلى قلوبهم.

 ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}, هذا بيان أنَّ الله لم أَرْسَلَ الرسول ليس مجرد أنه مُبشِّر باصطلاح الناس مبشر نصراني يقول الحق وكل واحد هو وشأنه يختار ما يشاء ويفعل ما يشاء, لا بل الله -تبارك وتعالى- أرسل الرسول ليطاع كذلك ليكون له سُلطة وأمر في الدنيا قال : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}, أنَّ مَن اتبع هذا النبي يجب أنْ يطيعه فإذا قال له افعل يفعل لا تفعل لا تفعل, يحكم في حُكم مما يشتجر فيه الناس فيقبل حُكم الله -تبارك وتعالى-, هذه هي مهمة النبي ليس مجرد أنْ يقول لك الأمر, يبلغك أمر الله وخبره ثم كلا يفعل ما يحلوا له, ويتحاكم عند من يحلوا له, بل قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}, فالمؤمن الذي يتبع هذا النبي يجب أن ْيطيعه ولو في أمره الخاص [الأحزاب:36].

  ما ليس له أنْ يختار غير أمر الله -تبارك وتعالى- وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- لله يجب على مَن آمن به أنْ يطيعه أذن الله -تبارك وتعالى- بهذا ثم قال الله -تبارك وتعالى- هذا توجيه لهؤلاء المنافقين أنهم في حل مِن أنْ يأخذ حُكْم النبي في خصوماته أو لا يأخذ حكمه النبي -صلى الله عليه وسلم- سبحانه وتعالى- ليطاع بإذن الله.

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}[النساء:64], هذا توجيه مِن الله -تبارك وتعالى- وحضٌ لهؤلاء الذين تحاكموا إلى غيره  وفعلوا هذا الفعل الشنيع الكبير في الكفر أنهم ينبغي أنْ يعودوا ويستغفروا الله -تبارك وتعالي- {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ}, حيث أنهم ظلموا أنفسهم بتحاكمهم إلى حكم الطاغوت, {جَاءُوكَ},أي يا محمد -صلوات الله عليه وسلم- {فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ},أولًا مِن هذا الذنب العظيم الذي وقع منهم,  {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ}, طلب النبي لهم مِن الله -تبارك وتعالى- المغفرة, {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}, وهذا مِن رحمة الله -عز وجل- وإحسانه أنْ وجَّهَ هؤلاء الذين ارتكبوا هذه الجريمة الكبرى الكفر بأنْ يعودوا إلى الله -تبارك وتعالى- يستغفروا الله ويستغفر لهم الرسول, يدعوا لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فيشفع لهم عند الله -تبارك وتعالى- بأنْ يمحو الله -تبارك وتعالى- ذنبهم قال إنْ فعلوا هذا وجدوا الله -جلَّ وعَلا- {تَوَّابًا رَحِيمًا}, وقوله {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}, أي لتحقق هذا الأمر وأنَّ هذا الأمر وهو قبول المغفرة واقع بهم فإنهم سيجدون الرب -تبارك وتعالى- أنه تواب الله مِن صفته أنه تواب كثير قبول توبته عبادة -سبحانه وتعالى- رحيم بعباده ومِن هذا أنْ يغفر لهم يتوب عنهم مِن هذا الإثم ويغفر لهم مِن هذا الإثم العظيم الكبير بالرجوع مِن الله -تبارك وتعالى- واستغفاره.

 ثم قال-جل وعلا-: {فَلا وَرَبِّكَ} هذا قسم من الله -تبارك وتعالى- يقسم الله بنفسه -جلَّ وعَلا- {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[النساء:65].

نأتي إلى معاني هذه الآية في الحلقة الآتية أقول قولي هذا, وأستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب, -وصلى الله وسلم- على عبده ورسوله.