السبت 19 شوّال 1445 . 27 أبريل 2024

الحلقة (126) - سورة النساء 78-84

الحمدِّ لله ربِّ العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله الرسول الأمين، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهديه, وعَمِلَ بِسُنَّتِهِ إلى يوم الدين.

 وبعد يقول الله –تبارك وتعالى- : {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا}[النساء:78], {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا}[النساء:78], {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}[النساء:79].

 هذه الآيات جاءت في معرض بيان الله -تبارك وتعالى- ورده على هذه الطائفة التي ذكرها الله, وأنهم في مكة كانوا يتحرقون ويتشوقون إلي قتال العدو, وأنَّ الله -تبارك وتعالى- أن يكفوا أيديهم عن الكفار, وأنْ يهتموا ويقوموا في هذا الوقت بالصلاة والزكاة, {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} اي في مكة {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}, {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ}, أي في المدينة بعد أنْ أصبح للمسلمين قوة يمكن أنْ يقاتلوا بها.

 قال-جلَّ وعَلا- : {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ}, أي في هذا الوقت  {لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} قال -جلَّ وعَلا- : {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا}[النساء:77], {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ}[النساء:78],  أي لم تخاف مِن القتال والموت مدركك مدركك في أي مكان تكون فيه, {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} وإنْ بنيتم بروجًا؛ أبنية عظيمة في السماء, طوابق مشيدة بالشيد والحجارة ومحصنة, فيأتيك الموت فإذا ظننت أنك ستهرب مِن أسباب الموت ولو بهذا البرج العالي الذي تكون فيه بعيدا عن العدو, وعن الوحش, وعن أسباب الموت كلها فسيأتيك الموت في مكانك وفي حصنك.

 ثم بين الله -تبارك وتعالى- كذلك مِن حال هؤلاء ضعاف الإيمان أنهم قال : {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} {إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} أي في القتال كنصر, تمكين, شيء مِن الخير, {يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}, نسبوها إلي الله -تبارك وتعالى-, والحال أنها نعم حقًا هي مِن عند الله -تبارك وتعالى- ,لكن قد تكون هذه الحادثة حسنة كذلك بأسباب انتصار للمسلمين على الكفار مِن الحيطة, والحذر, والتكفير في القتال, وبلاء بعض مَن أبلى في هذه المعركة فكان به النصر, فهذا كذلك نسبة الخير والفضل الذي أجراه -تبارك وتعالى على مِن أذي رسوله كذلك مِن الخير والفضل ونسبة الأمر إلى الله -تبارك وتعالى- ولكن هؤلاء لا يعنون بهذا يعنون يهذا غمط حق مَن كان جعله الله -تبارك وتعالى- مِن أسباب النصر, {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} إذا أصابتهم {سَيِّئَةٌ } أي كهزيمة في القتال {يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} أي أنهم يَتَّهِمُونَ النبي -صلوات الله وسلامه عليه- وأنَّ هذه الهزيمة لم تكن وقعت بعدم تدبيره أو مِن جهته -صلى الله عليه وسلم-.

 قال -جلَّ وعَلا- : {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}, { قُلْ } أي تقدير الخير والشر إنما كله مِن عند الله -تبارك وتعالى- فالله الذي يقدر الخير والشر والحسنة والسيئة كل أمر وكل تقدير له -سبحانه وتعالى- {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا}[النساء:78], {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ}, سؤال يراد به التوبيخ والتقريع مال هؤلاء القوم الذين هذا حالهم,{ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا}, عن الله -تبارك وتعالى- فإنَّ هذا الحديث؛ حديث القضاء والقَدَر قد فصله الله -تبارك وتعالى- وبينه -سبحانه وتعالى- وخلاصته أنَّ الخير والشر كل المقادير إنما تجرى بيد الله بيد الله -تبارك وتعالى- أنَّ ما يصيبك مِن حسنة أنت أيها العبد إنما هي مِن الله -تبارك وتعالي- وما أصابك مِن ضر فمِن نفسك فضل الله هذا فقال : {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} كل حسنة تصبك إنما هي مِن الله هو الذي قَدَّرَهَا -سبحانه وتعالى-, وهو الذي هيئ لها السبب الذي به وصلت, {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} أي سيئة تصيب العبد فمِن نفسه يُقدرها الله -تبارك وتعالى- بسبب نفسه أي بمعاصيه وذنوبه فقد يعاقبه الله -تبارك وتعالى- على  هذا, فالكفار بسبب ذنوبهم وهذا عقوبة معجلة لهم. وأما أهل الإيمان إذا أصابتهم سيئة فهي بقضاء الله -تبارك وتعالى- وقَدَرِهِ ولكن فيها حِكم عظيمة؛ فيها تكفير لسيئاتهم, رفع لدرجاتهم, تربية لهم وتعويد لهم على الصبر والتحمل.

كما قال -جل وعلا- : {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}[البقرة:155], {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}[البقرة:156], {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}[البقرة:157]ثم قال-جلَّ وعَلا- : {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا} {أَرْسَلْنَاكَ}, يا محمد للناس, {رَسُولًا}, الله الذي أرسلك {أَرْسَلْنَاكَ}, المتكلم الرب -سبحانه وتعالى- إذا هذا رسول الله لا يسير إلا بمقتضى أمر الله -تبارك وتعالى- وحكمته هو مُسدد هو موفق هو مؤيد -صلوات الله وسلامه عليه- {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} لا تحتاجوا مع الله -تبارك وتعالى- إلي شهيدٍ آخر فإذا شهد الله -تبارك وتعالى- هذه الشهادة بأنَّ هذا رسوله فكفي, تكفي شهادة الله -تبارك وتعالى- لا تحتاج إلى شهادة أحد مع شهادة الرَّب -تبارك وتعالى- {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}, هو الذي أرسلك هو الذي يُقدِّر عليك ما يقدر-سبحانه وتعالى- لحِكَم يريدها  الله -تبارك وتعالى- فالنصر والهزيمة كله مِن عند الله -تبارك وتعالى- ولا يُقدِّرُ لعباده ولأهل الإيمان إلا الخير هذا المعني سيشفع الله في الآيات بعضهم جعل هنا,  {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } أنَّ هذا شأن الكفار شأن الكفار أنَّ الآية واقعة نازلة في الكفار, {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} كما قال الكفار يطيرون باهل الإيمان فاذا وقع كما قال-تبارك وتعالى- : {فإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ}, يقولوا كما قال الله -تبارك وتعالى- في شأن قوم فرعون : {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ}[الأعراف:131].

 قال-جلَّ وعَلا- : {إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ}, أي هذا الأمر يختلف هنا, الحقيقة أنَّ هذه الآيات ليست في الكفار فإنَّ الكفار إذا أصابتهم الحسنة {قَالُوا لَنَا هَذِهِ} نستحقها ونحن جديرون بها, {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} يقول الشؤم ما جاءنا هذا الشؤم  إلا بسببكم أنتم, أما هنا فإنَّ هؤلاء منافقون كانوا مع النبي -صلوات الله وسلامه عليه- أو ضعاف الإيمان, فإنْ{تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}, نسبوها إلى الرب الإله -سبحانه وتعالى- لا يقصدون بها إرجاع الفضل الله -تبارك وتعالى- وإنما لا يريدون أنْ يشكروا أهل النعمة ولا يثنوا على أهل الفضل ولا يعرف أنَّ الله -تبارك وتعالى- يجرى فضله على مَن يشاء من عباده فإنه يجب أنْ يُشْكر النبي -صلوات الله وسلامه عليه- لأنَّ الله أجرى على يديه ما أجرى مِن الفضل, مِن النصر, مِن التمكين, مِن الخير, كما قال النبي الأنصار «ألم آتكم ضلالًا فهداكم الله بي, وعالةً فأغناكم الله بي», فقالوا الله ورسوله أَمَنّ المِنَّة لله ولرسوله فمعرفة الفضل الذي أجراه الله -تبارك وتعالى- علي يد رسوله هذا مِن الخير وهذا من الدين ونسبة الفضل إلي الله -تبارك وتعالى- لأنَّ الرسول ما جاءه هذا الفضل مِن عند نفسه أو ما أجرى وإنما أجراه الله -تبارك وتعالى- عليه, فكان الواجب أنْ يشكروا النبي -صلوات الله وسلامه عليه- الذي تحقق ما تحقق لهم مِن التمكين, ومِن النصر, ومِن الخير, به بما أجرى الله -تبارك وتعالى- على يديه, لكن هم الفضل ينسبونه إلى الله غمزًا في النبي وإذا جاءتهم مصيبة نسبوها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-, {اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِك}, أي يا محمد سواء كانوا يقولونها بألفاظهم أو يقولونها كفاحا هكذا, أو  يقولونها  في مجتمعاتهم هؤلاء المنافقون كما قال: عبد الله بن أُبي يوم أُحد (والله لا أدرى على ما نقتل أنفسنا), يقولوا عصانا وأطاع هؤلاء الذين لا خبرة لهم بالقتال فيجعلون أنَّ الهزيمة التي وقعت في أُحد إنما هي بسبب مطاوعة النبي لِمَن أَلَحَّ عليه في الخروج مِن المدينة لقتال العدو خارجة لو أنَّ النبي أطاعنا وجلسنا في المدينة وحاربنا منها, لما تحققت هذه الهزيمة, فهذا مقصدهم, فهذا صحيح إنْ شاء الله, أي أنَّ هذه نازلة في المنافقين وليست نازلة في الكفار لأنَّ السياق كله في بيان حال هؤلاء المنافقين مِن القتال.

قال -جلَّ وعَلا- بعد ذلك : {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} اعلم أنَّ كل الحسنات مِن الله -تبارك وتعالى- وأنَّ أجراها الله -تبارك وتعالى- علي يده{ فَمِنَ اللَّهِ}  فيجب أنْ تشكر الله -تبارك وتعالى- ثم تشكر مَن أجرى الله -تبارك وتعالى- الحسنة على يديه, {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} اعلم أنَّ إذا أصابك الله مِن السيئة, {فَمِنْ نَفْسِكَ} أنت سببها أنت؛ الذي تسببت في هذا, نعم يعاقبك الله -تبارك وتعالى- بها يعاقبك عقوبة فإنْ كنت مِن أهل الإيمان فهي مِن نفسك وهي خير لك, هي بسبب ذنبك وهي خير لك لأنَّ بها كفاره لسيئة التي أساءتها رفع لدرجاتك, علو لمنزلتك وإنْ كان هذا أُصيب بهذه السيئة كافر هو مِن نفسه وتكون عقوبة معجلة لهم.

كما قال -تبارك وتعالى-  عن كفاره : {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[السجدة:21], فهذا عذاب أدني هذا عذاب قريب وينظرهم العذاب الأكبر والعذاب القريب هذا له حكمة كذلك {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}, عن الكفر والمعاصي هذه حكمة الله -تبارك وتعالى- في إصابة مَن أصاب بالسيئة, {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا}, يا محمد, شهادة مِن الله -تبارك وتعالى-, {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}, لا يحتاج معه إلي شهيدا آخر, الله -تبارك وتعالى- هو الذي يشهد بأنه اختار محمدًا وهو الذي أرسله -صلوات الله والسلام عليه-, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا}[النساء:80] هنا قطع لتشكك هؤلاء المتشككين وطعنهم في قيادة النبي وأماره النبي -صلوات الله وسلامه عليه-, وأنَّ الرسول يأمر بأمر الله وطاعته طاعة لله, قال : {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}, في كل شيء؛ في الخروج للجهاد, في البقاء. في أنْ يفعل هذا, لا يفعل هذا, كل أمر يأمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- أحدًا مِن الناس هذا أمر الله -تبارك وتعالى-, {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا}[الأحزاب:36], {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}, جعل الله -تبارك وتعالى- طاعة الرسول هي طاعة الله ومَن تولى عن الطاعة {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا}[النساء:80], من تولى عن الطاعة أي تولى الله -تبارك وتعالى- عقوبته لست أنت أي يا محمد الذي تعاقبه وإنما أنت {مَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا}, أي تحفظ أعمالهم تحصي هذه الأعمال وتكتبها وتتعقبهم وبالتالي تحاسبهم على هذا, هذا الأمر إلى الله -تبارك وتعالى-, فحِفْظ هذه الأعمال وتدوينها وكتابتها والحساب عليها هذا الأمر إلي الرب الإله الذي وَكَّل بكل أحد أنْ يحصى عليه أقواله وأعماله وحساب الجميع إلى الله -تبارك وتعالى-{إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ}[الغاشية:25]{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}[الغاشية: 26], الحساب الجميع إلى الله -تبارك وتعالى- وليس إلى النبي فكان هذا بيان لم يشتغل بالتحقيق معكم وماذا قلتم في مجتمعاتكم هذه وكيف أطعمتم في الرسول والإحسان قال: {وَمَنْ تَوَلَّى}  أي عن طاعتك التي هي طاعة الله -عز وجل-, {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} وما زال السياق في بيان حال هؤلاء المنافقين.

 قال-جلَّ وعَلا- : {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}[النساء:81], {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ}, أي طاعتنا طاعة يا رسول الله يريد في كل أمر فيظهرون أمام النبي أنهم مطيعون مستجيبون لأمر الله وأمر رسوله {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ}, أي طاعتنا طاعة حقيقية قال -جلَّ وعَلا- هذا أمام النبي, {فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ} {بَرَزُوا} خرجوا, {مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} بيتوا؛ مِن البيات في الليل فعزموا في ليلتهم على أنْ ينقضوا هذا الأمر الذي أعلنوه في النهار أمام النبي -صلوات الله والسلام عليه- بيت العصيان {بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ}, مجموعة منهم {غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} غير الذي تقول لهم مِن أمرهم بكذا وكذا, قال –جلَّ وعَلا- : {وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ}, الله -سبحانه وتعالى- يُسجل, الذي {يُبَيِّتُونَ}, أي  الذي عزموا عليه,  هذا البيات في الليل, في السر, في الظلام, هذا الذي عزموا عليه ودبروا أمرهم عليه الله كتبه -سبحانه وتعالى- فإنَّ الله -تبارك وتعالى- قد وَكَّلَ ملائكته بحفظه, {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}[الطارق:4],{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق:18], {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[المجادلة:7], فالله معهم مُطَّلِع ثم كتب هذا,  قد كتب هذا, يكتب هذا ملائكته يدونون هذا, ويسجلونه.

 قال -جلَّ وعَلا- : {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ}, لا تعاقبهم, لا تحاسبهم حسابهم على الله -تبارك وتعالى-, {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} سَلِّم أمرك كله لله, التوكل هو أنْ يُسَلِّم العبد أمره لله -تبارك وتعالى- أمر الله نبيه أنْ يكون توكله على الله -سبحانه وتعالى-, {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}, {كَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}, الوكيل هو الذي يتولى الأمور -سبحانه وتعالى-, فالله متولي أمور عباده -سبحانه وتعالى- فكفي به, أي لا يحتاج إلي وكيل مع الله -تبارك وتعالى- ليقوم بالأمر بل الله -تبارك وتعالى- كفى به أنْ توكله سيكفيك مِن كل ما أهمك -صلوات الله والسلام عليه-.

 

 قال-جلَّ وعَلا- : {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا}[النساء:82], سؤال يراد به التوبيخ, التأنيب, هؤلاء الذين يصنعون هذا الصنيع مع النبي -صلوات الله وعليه وسلم-, {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}  التدبر بمعنى التَّفَكُر والنظر, وأصله مِن النظر في دُبُرِ الأمور, كأن مَن يتفكر في الأمر وينظر ينظر ما يؤول إليه الأمر فسمى هذا َتدَبُر مِن النظر في عواقب الأمر ودبره وآخره, {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}, الذي نَزَلَ بهذا التفصيل والبيان والإيضاح, فهنا قد خلطوا الأمور؛ خلطوا أمورهم خلطًا عظيمًا جدا نسبوا إلى النبي الشر لن يطيعوه هنا يخافون مِن أنْ يقاتلوا ويتأخرون عن القتال, وهذا القرآن قد فَصَّلَ هذه الأمور تفصيلًا عظيمًا, {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ}, أي هذا القرآن,. {لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا}, أما القرآن فليس فيه اختلاف أصلًا لا يوجد فيه أي اختلاف فقد فصل الله فيه الأمر أمر النبي ووجوب طاعته أمر القضاء, أمر القَدَر, أمر حكمه -سبحانه وتعالى- في ما يصيب به أهل الإيمان مِن الهزيمة أحيانا ومِن النصر وأنْ العاقبة للمتقين كل هذا قد فصله الله -تبارك وتعالى- تفصيلًا عظيمًا, أفلا يتدبر هؤلاء هذا القرآن, {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}, أي يدعوهم إلى الآخرة وأنَّ الذي يُسْتَشْهَد في سبيل الله ليس هو الخاسر وإنما الخاسر هو مَن فَرَّ عن المعركة كل هذه الأمور التي فهموها على غير صورتها الصحيحة هذه قد فصلها الله -تبارك وتعالى- تفصيلا,{ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا}[النساء:82], هذا كان لغير الله والقرآن ليس فيه لا خلاف لا قليل ولا كثير بل هو كتاب مُحْكَم كما قال-جلَّ وعَلا- : {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}[هود:1], فكل أمر فيه فصل تفصيلا, ووُضِح وبُيِّن بيان عظيمًا فكيف تختلط على هؤلاء  هذه الأمور بهذا الشكل ومِن جملة ذلك أنهم يقولون أمام النبي شيء ثم يهربون في يبيتون شيء بغير هذا قد فصله الله وبين أنه يعلم كل شيء كيف يتأتى هذا كيف واحد يروح يدبر في الخفاء ما يعلم أنَّ الله -تبارك وتعالى- مطلع عليه ومحاسبه عليه كيف هذا يتأتى مِن مؤمن المؤمن الذي يفعل هذا ما عرفه القرآن ولا تدبره, وهذا قد فُصِّل تفصيلا كاملا وأنَّ الله -تبارك وتعالى- مطلع على شئون عباده صغيرها وكبيرها وأنه لا يخفى على الله شيء -سبحانه وتعالى-, {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}, فيتعظون ويتذكرون ويستقيمون على أمر الله -تبارك وتعالى-, {وَلَوْ كَانَ} هذا القرآن {مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا}.

 ثم حال مِن حالات هؤلاء ضعاف الإيمان هؤلاء, قال-جلَّ وعَلا- : {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا} تعجب, {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ}, {الأَمْنِ} ما يتحقق به الأمن؛ كالنصر على العدو, إنْ كان العدو يريد أنْ يهاجمهم والآن أبدًا يتبين أنها إشاعة ما يريدوا مهاجمتهم فحصل الأمن, أو الخوف يوجد عدو يستعد لحرب أهل ا لإسلام, أو أنَّ أهل الإسلام السرية التي ذهبت في هذا المكان  كسرت, أو نالها شر, فبمجرد ما يقع في أسماع هؤلاء خَبَر مِن الأخبار وقبل التثبت فيه والعلم به ومعرفة  هذا الخبر ما منشؤه لما أُشيع على هذا النحو هل هو مِن كافر هل هو من مؤمن ينطلقون فيذيعوه وينشروه في كل مكان وقد يكون هذا الخبر الذي سمعوه ليس مِن ثقة ليس خبر صحيح خبر أراد الكفار نشره, كأن يخبر الكفار أنا نحن جئنا لحربكم ويكون قصدهم في هذا هو إيجاد بَلبلة وإيجاد خوف عند أهل الإيمان, ويكون الأمر غير صحيح أو يُخبرون بأنَّ هذا الجيش انتصر ولم ينتصر كُسر ولم يُكْسر فيكون هناك يَحْصُل بلبله,  تحصل هزيمه للنفوس أحسن مِن الانكسار فإنه لو جاء خبر بأنَّ المسلمون انتصروا ثم تبين أنهم لم ينتصروا لحصل  في هذا كسر للنفوس فالله يقول وإذا جاء لهؤلاء المتعجلون : { أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ} خبر يفيد الأمن, { أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ}, إذا به أذاعوا هذا الخبر والشوق.

 قال-جلَّ وعَلا- : {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ}[النساء:83], لو ردوا هذا الذي سمعوه قبل أن يذيعوه وينشروه إلي الرسول قالوا سمعنا كذا وجاءنا كذا أو فلان قال كذا وكذا والكفار جاءوا هنا فيردوه إلى الرسول ومعهم -صلوات الله والسلام عليه- وهو الحاكم القائم فيهم, وهو أمير الجيوش وهو الذي ينفذنها, هو أمير الحرب, وهو المتولي لسلطة الحكم, أما قيامه بأمر الرسالة فهو رسول إلى الله تبارك وتعالى ينزل عليه الوحي ويبلغه للناس هو معلم لهم. هو الحاكم فيهم بأمر الله -تبارك وتعالى-, فالله أقامه حاكماً في خصوماتهم هو القائم  بسياسه وتدبير أمورهم ,حربا مع هؤلاء سلما مع هؤلاء, عهدًا مع هؤلاء فهذا النبي يقوم بالسلطة التي تسمى السلطة الزمنية في وقته فهو الحاكم صلوات الله وسلامه عليك فيجب رد هذا الأمر الذي سمعوه مِن هنا وهناك إلى الرسول {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ}, أي بعد النبي -صلوات الله والسلام عليه- ,{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ} أي بعد النبي -صلوات الله والسلام عليه- أو الأمراء الذين أمرهم النبي عليهم, {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم}, عند ذلك يعلمه, {الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم}, أصل الاستنباط هو يسمى إخراج الماء مِن باطن الأرض ومنهم النَّبَط هذا الشعب في العراق يستخرج الماء من باطن الارض للزراعة, {يَسْتَنْبِطُونَهُ}, أي يستخرجونه, ويستخرجونه أي يستخرجون الأمر قد يكون الأمر يعرفون الأمر هذا وهذا الخبر ما باطنه؟ ما حقيقته؟ مَن الذي أشاعه؟ لِمَ أشاعه؟ فيفقهون حقيقة هذه الأخبار وحقيقة هذه الأمور ويعرفون مراميها ومغازيها, {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم}, فهذا نَعْي, عتاب وكفى من الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء المتعجلين الذين يشيعون الأخبار أي أخبار مِن الأمن أو الخوف دون تثبت ودون تحقق ودون الرجوع قبل نشرها وبَثِّهَا إلى النبي الموجود معهم -صلوات الله عليه وسلم-, {وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ}, {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83].

 قال-جلَّ وعَلا- : {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا}[النساء:83], {لَوْلا فَضْلُ اللَّهِ} -تبارك وتعالى- {عَلَيْكُمْ}, - تثبيت الرحمة والعناية بكم ببيان هذا الأمر ففضل الله -عزَّ وجلّ-  على أهل الإيمان ورحمته عظيمة جدًا, {لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ}, لكنتم اتبعتم الشيطان في كل أموركم, {إِلَّا قَلِيلًا}, أي مِن الأمور التي تتبعوا فيها الشيطان أو إلا قليلًا منكم؛  إلا قليل مِن أهل أهل الإيمان الذين يتبعون الشيطان وكانت الغالبية يتبعون الشيطان أو {إِلَّا قَلِيلًا}, أي اتبعتم الشيطان في كل الأمور إلا قليلا مِن أموره التي لا تتبعون فيها الشيطان.

 ثم قال الله -تبارك وتعالى- لرسوله -صلى  الله عليه وسلم- : {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا}[النساء:84], كأنَّ السياق عندما ذكر الله تبارك وتعالى ِمن حال هؤلاء المنافقين طوائف كثيرة, ماذا بقي! ماذا بقي إذن! فطوائف كانت تتحرق للقتال في مكة, ثم لما كتب القتال خافوه, طوائف أخرى يقولون طاعة للنبي وإذا ذهبوا وخرجوا مِن عند النبي بيتوا أي المعصية, طوائف أخرى متعجلون يشيعون الأمر هنا وهنا, ومثل هؤلاء لا يعتمد عليهم في القتال بل هذا يشيعون الفتنة والفرقة بين المسلمين, هنا بعد ذلك وجَّه خطابه إلى النبي أنه القتال واجبٌ عليه وفرضٌ عليه ولو لم يحد أحدًا يجب أنْ يكون بهذا الأمر.

 قال-جلَّ وعلا- : {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}, كلفك الله -تبارك وتعالى- بالقتال هذا أمر مِن الله لك, {لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} لا تكلف إلا نفسك في أنك مأمور تَخْرُج ولو للقتال وحدك, {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ}, أنت الذي عليك ليس بالقصر والقوة والقهر تخرج المؤمنين وإنما بالتحريض, حرضهم على القتال أي حثهم عليه وادعوهم إليه ورغبهم فيه, وهذا كله بمعنى التحريض, التحريض على الأمر هو الحث عليه والدفع إليه والبعض فيه, {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ}, هذا الذي تملكه هذا الذي كلفك الله -تبارك وتعالى- أنك مُكلف عند بالخروج للقتال لو لم تجد إلا أنْ تخرج وعليك بالنسبة للمؤمنين أنْ تحرضهم وبالطبع -الحمد لله-  أهل الإيمان كانوا مع النبي -صلوات الله والسلام عليه- ولم يكن أصحاب النبي كأصحاب موسى, فإنَّ أصحاب موسى قعدوا لما قال لهم : {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ}[المائدة:21], {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ}[المائدة:22], {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}[المائدة:23], {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}[المائدة:24], {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}[المائدة:25], فقط إنْ أمرتني أن اخرج وحدى للقتال خرجت {ِإلَّا نَفْسِي وَأَخِي}  الذي هو هارون, {فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}[المائدة:25], قال -جلَّ وعَلا- : {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ},لم يكن مناسبا أنْ يذهب موسى ليقاتل هو وهارون فقط ومعه الله -تبارك وتعالى- وينتصروا على الاعداء ثم يقول لبني اسرائيل تعالوا تفضلوا ادخلوا هذه الأرض وتملكوها بغير قتال قال -جلَّ وعَلا- : {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}[المائدة:26], نبينا -صلوات الله والسلام عليه- عندما ندب الناس للقتال وفي الشده قام أول معركة مِن المعارك وهذه موقعة بدر لما قال لهم أشيروا عليّ ما خرج النبي لقتال قريش وجاءت قريش بحدها وحديدها ألف شخص والمسلمون ثلاثمائة وبضع عشر رجلًا خرجوا لغير قتال, خرجوا لقتال أبي سفيان على عير أبي سفيان كان فيها مائه رجلا فقط فقال النبي: أشيروا عليّ أيها الناس فقام المقدام  فقال يا رسول الله والله لا نقول لك كما قالت بني اسرائيل ولموسى : {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}, بل اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون وقال سعد بن معاذ : (والله لو خضت هذا البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجل), الشاهد أنَّ الله -تبارك وتعالى- قال لرسوله : {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا}[النساء:84].

سنعيش إنْ شاء الله مع هذه الآيات في حلقة آتية إنْ شاء الله, واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب, وصلى الله على عبده ورسوله محمد.