الخميس 20 جمادى الأولى 1446 . 21 نوفمبر 2024

الحلقة (129) - سورة النساء 95-102

 الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على عبده ورسول الأمين وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهديه وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- : {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء:95], {دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}[النساء:96], يُخْبِرُ -سبحانه وتعالى- عباده المؤمنين أنه {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ}, {الْقَاعِدُونَ} أي عن الجهاد في سبيل الله, {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ}, وأولوا الضرر هم الذين عزرهم الله -تبارك وتعالى- الأعمى والأعرج والمريض, فهؤلاء عزرهم الله -تبارك وتعالى- الخروج  كما قال-جلَّ وعَلا- : {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}, أي في التخلف عن القتال, وأما غير هؤلاء فإنهم مأمورون بالخروج إلى القتال, فأَخْبَر-سبحانه وتعالى- أنَّ القاعدين عن القتال وهذا القتال إذا كان فرض كفاية, أما إذا كان فرض عين وتوجب القتال فإنه لا يجوز للمؤمن التخلف عنه, {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ}, {وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ }, ينفق ماله في سبيل الله وسبيل الله هو طريقه, وهو الجهاد في إعلاء كلمته -سبحانه وتعالى- فجاهد بماله ونَفْسِهِ, قال -جلَّ وعَلا- : {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً}, يُخْبِرُ-سبحانه وتعالى- أنه فَضَّل المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة في الجنة منزلة عظيمة في الجنة, قال-جلَّ وعَلا- : {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}, أي مِن المقاتلين ومِن الذين يقاتلون ويجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم, {كُلًّا}, مِن هؤلاء, {وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}, أي هذه الطوائف الثلاثة القاعدون مع أنهم مِن غير أولى الضرر, أُوْلِي الضَّرَرِ}, الذين عزرهم الله -تبارك وتعالى-, وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ}, كُل هؤلاء جميعهم {وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}, الجنة.

ثم قال-جلَّ وعَلا- : مُؤكَدِّاً قال : {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}, {دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً........ }[النساء:96], هذه شهادة مِن الله -تبارك وتعالى- ورفع لمنزلة هؤلاء وإعلان فَضَّلَ هذه الطائفة المجاهدة, قال : {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}, منه -سبحانه وتعالى- {دَرَجَاتٍ} أي منازل عالية في الجنة, {وَمَغْفِرَةً}, لذنوبهم, {وَرَحْمَةً}, منه -جلَّ وعَلا- رحمات عظيمة في الدنيا والآخرة, قال -جلَّ وعَلا- : {........وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}[النساء:96], ختم هذه الآية بمغفرته ورحمته وهذا للجميع لأنه غفر للقاعدين, وكذلك مِن مغفرته ورحمته بهؤلاء المجاهدين أعطاهم هذه المنازل العظيمة ومَحَى -سبحانه وتعالى- سيئاتهم, فهذه الآية أولًا يستفاد منها في أنه إذا كان الجهاد فَرْض كفاية فقام به مَن قام به مِن أهل الإيمان فله هذه المنازل وهذا الفضل, ومَن قعد عنه فإنه كذلك مِن أهل الجنة لكن فاته هذا الثواب العظيم وهذا الفضل العظيم وكذلك أنَّ الله -تبارك وتعالى- قد عزر عن الجهاد أهل الأعزار وقد جاء تفصيل أهل الأعزار بأنهم الأعمى وذلك لأنه شأنه في القتال صَعْب يتعرض للعدو, والأعرج وكذلك المريض لكن إنْ خرج بعض هؤلاء للجهاد فإنهم يخرجون وقد خرج مِن النبي -صلوات الله والسلام عليه- كثيرٌ مِمَن عزرهم الله -تبارك وتعالى- رجاء ما عند الله -تبارك وتعالى- مِن الفضل والإحسان والدرجات .

ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- حُكْم مَن يعيش عند الكفار قال-جلَّ وعَلا- : {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[النساء:97], {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا}[النساء:98], {فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}[النساء:99], {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ}, {تَوَفَّاهُمُ}, تأخذ الملائكة أرواحهم, وسُمِّىَ قبض الروح وفاة لأنه كأنه أخذه وافيًا {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ}, أي عند الموت, {ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ}, حال كونهم ظالمين لأنفسهم وذلك بأنهم عاشوا مع الكفار ولم يقوموا بشيء مِن شِعار إسلام لم يظهروا إسلامهم, لم يصلوا, لم يصوموا, لم يظهروا دينهم ويعيشوا له, {ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ}, وسُمِّى هنا فعلهم هذا ظلم للنَّفْسِ لأنَّ المؤمن هو الذي يسعى في فكاك نَفْسه مِن النار بطاعته الله -تبارك وتعالى- بِبُعْده عن معصيته, أما إذا لم يسعَ ظَلَمَ نَفْسه لأن أورده نفسه النار عياذا بالله, {ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ}, بمعيشتهم على الكفار على حالهم, {قَالُوا}, أي الملائكة لهم: {فِيمَ كُنتُمْ}, أي في أي شأنٍ كنتم وعِشْتُم وقضيتم حياتكم, { قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ}, سؤال للتأنيب والتقريع قالوا: {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ}, أي قالوا لهم: هذا كنا مستضعفين أي أننا ضعفاء يستضعفنا الكفار ويزلونا ويقهرونا, كنا معهم تحت ذلهم وتحت قهرهم, {مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ}, {قَالُوا}, أي الملائكة لهم :{أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} أي قد كانت أرض الله -تبارك وتعالى- واسعة فلمَ لم تهاجروا مِن أرضكم التي كنتم فيها مع الكفار وقَهَرَكُم الكفار واستعبدوكم واستذلوكم ولم تظهروا دينكم ولم تعيشوا فيه, {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا},  سؤال يراد به كذلك التقريع والتأنيب, أي قد كانت أرض الله واسعة فلمَ لم تهاجروا.

 {فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}, أولئك بالإشارة إلى البعيد إبعادًا لهم, {مَأْوَاهُمْ}, المأوى هو المكان الذي يَأْوِي الإنسان إليه بمعنى أنه يلجأ إليه لراحته وهدوئه وسَكَنِهِ, سُمِّي مأوى والنار ليست مأوى عياذا بالله وإنما هي بئست المأوى لما كانت هي المستقر وهي النهاية وهي مكان الخلود الذي لا يفارقه صَاحَبَهُ, قيل مأوى {فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ}, أي مستقرهم ومآلهم في جهنم هذا السجن العظيم, {وَسَاءَتْ مَصِيرًا}, لا مصيرا أسوء مِن هذا المصير أنْ يكون نهاية المطاف آخر شـأن الإنسان أنْ يُسْجَن في هذا السجن العظيم, {وَسَاءَتْ مَصِيرًا}, لِمَن صار إلى ذلك, ثم استثنى الله –تبارك وتعالى- {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا}[النساء:98], {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ}, استثناء مِن هؤلاء الذين يعذبون يوم القيامة, {الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} يعيشون مع الكفار على هذا النحو لكنهم, {لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} للخروج والفكاك مِن أَسْرِ الكفار وتسلطهم عليهم {وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا}, لا يهتدون طريقًا يخرج به, يهاجروا في سبيل الله ويفتكوا وينفلتوا مما هم فيه.

قال-جلَّ وعَلا- : {فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}[النساء:99], يُخْبِرُ -سبحانه وتعالى- أنه عسى أنْ يعفوا عنهم وعسى مِن الله متحققة فإذا قال الله : {عَسَى}, لأشك أنَّ هذا أمر متحقق مِن الله -عز وجل, {........عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}[النساء:99], {عَفُوًّا} أي أنه يعفوا -سبحانه وتعالى- ويصفح عن صاحب الذنب, غَفُورًا}, يستر عيبه يغفره -سبحانه وتعالى- فهو العفو الغفور صيغة مبالغة مِن العافي والغافر -سبحانه وتعالى- .

ثم رغب الله -تبارك وتعالى- أهل الإيمان في الهجرة فقال : {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}[النساء:100], هذه الآية فيها ترغيب في الهجرة إلى الله -تبارك وتعالى-  بكل سبيل مِن صيغ العموم كلا يهاجر في سبيل الله يترك وطنه خارجا لله -تبارك وتعالى- لا مقصدا له إلا الله -جلَّ وعَلا- يقول الله -عزَّ وجلَّ- : {اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً}, يجد في الأرض التي يخرج إليها, {مُرَاغَمًا كَثِيرًا}, قيل مراغما لأهل الكفر أي أنه إرغام لأهل الكفر, الإرغام آتي مِن الرُّغَام والرُّغَام هو التراب ورِغِمَ أنفه بمعنى دُسَّ في التراب وهذا لذلتة فمراغمة للكفار الذين خرج مِن وسطهم فإذا خرج المؤمنون مِن وسط الكفار وسلموا لدينهم أرغمت أنوف الكفار الذين خرجوا منهم وكذلك يكون هذا إرغام لأنوف الكفار أينما كانوا أَحَلُّوا هؤلاء يخرجون ويبذلون في سبيل النصرة في دينهم والتمسك به يفارقون الأهل, يفارقون الأوطان, فيكون هذا بالنسبة لأهل الكفار ذُل لهم وقَهْر لهم أنْ يروا أهل الإيمان مِن الصبر ومِن التضحية, {مُرَاغَمًا كَثِيرًا}, للكفار, {وَسَعَةً}.

كذلك وعد مِن الله -تبارك وتعالى- أنَّ يجد هذا المهاجر الذي ترك أرضه ووطنه وماله ومعيشته أنْ يجد سَعَة أنْ يعوضه الله -تبارك وتعالى- أن يجد سعة أنْ يعوضه الله -تبارك وتعالى- سَعَة في العيش وسَعَة هذه واحدة إذا هذا في الدنيا هذه ثمرة مُعَجَّلَة للمهاجر في سبيل الله وعدا مِن الله -تبارك وتعالى- له ثم في الآخرة قال : {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ}, أي في أي مرحلة مِن مراحل الطريق, {فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى الله}, مَن يخرج مِن بيته مجرد ما يخرج مِن بيته, { مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ}, {يُدْرِكْهُ}, يلحقه الموت في أي مكان ولوبعد خطوة واحدة خطاها في سبيل الله, {فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى الله}, {وَقَعَ} ثبت أجره على الله إنه الله -تبارك وتعالى- التزم به وثبت عليه -سبحانه وتعالى- هذا الأجر وأنه لابد أنْ يُوْفِيه أجره كله أجر الهجرة والهجرة عمل عظيم جدًا  فيكون أجر الهجرة كله الله -سبحانه وتعالى- الله يعطيه إياها بالرغم مِن أنه قد أدركه الموت بعد خطوة خطاها في سبيل الله,  {ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى الله}, وهذه الصيغة وقع أجره على الله تأكيد أنَّ أجره كامل وثابت عند الله -تبارك وتعالى-, {وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}, أي إنَّ الله -تبارك وتعالى- مِن صفته أنه غفور كثير المغفرة رحيم ومِن هذا أنه أنال هؤلاء هذا الثواب العظيم والأجر على العمل لم يعملوه بعد وإنما كان في نيتهم أنْ يعملوه هذا مِن رحمته -سبحانه وتعالى- بعباده وحُسْن عطائه لهم وكذلك يغفر لهم ما سَلَفَ مِن ذنوبهم في بقائهم في دار الكفر ما يكون قد وقع منهم مِن الذنوب كذلك يغفره الله -تبارك وتعالى- ويستره.

 ثم جاء لهؤلاء المؤمنين كذلك نوع مِن الرخصة والتسهيل فقال-جلَّ وعَلا - : {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا}[النساء:101], {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ}, أي سِرْتُم فيها وسافرت فيها, وسُمِّي السفر ضرب في الأرض؛ لأنَّ المسافر كأنه يضرب الأرض بقدميه, {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ}, سِرْتُم فيها خارجين في سبيل الله مسافرين, مهاجرين, مجاهدين.

قال جلَّ وعَلا- : {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ}, لا جناح عليكم؛ لا إثم ولا حَرَج عليكم {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ}, القصر هو جعل الرباعية ثنائية التي هي الصلاة الظُّهر والعصر والعشاء, وأما الصبح والمغرب فإنهما لا تقصران فالصبح ركعتان في السفر و في الحضر والمغرب ثلاثة ركعات لأنها وِتْر النهار كذلك سفرًا وحَضَرًا, أما الصلاة الرباعية وهي الظُّهر والعصر والعشاء فإنها تكون أربعًا في الحضر ولكن يُقْصَر منها في الحضر فتكون ركعتان, {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ}, ما قال أنْ تقصروا الصلاة حتى يَعُمَّ هذا وانما القصر مِن الصلاة .

قال-جلَّ وعَلا- : {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}, أي هذا شرط موجود, {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}, وذلك بأنه يكون في طول الصلاة فرصة للكافر المتربص بالمؤمنين أنْ يهجم عليه وقت الصلاة لذلك شرعت هذه الصلاة الخفيفة التي هي ركعتان فيها يكون ثمة نوع مِن الحَذَر والرجوع مرة ثانية حاله الرهبة والاستعداد فلا يتمكن الأعداء يخيف أهل الإسلام ويهجموا عليهم أثناء هذه الصلاة التي تكون طويلة, {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا}, لما قال هذا قال الله -عزَّ وجلَّ- : {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} ومِن عداوتهم الشديده أنهم قد يستغلون وينتظرون أي فرصة تغفلون فيها فيعاجلوكم بالقتل والهجوم وهذا الشرط هو أنْ يكون القصر مشروط بالخوف منسوخ بفعل النبي -صلوات الله والسلام عليه- وبتشريعه لأمته أنْ تَقْصُر الصلاة في السفر إذا ضربت في الأرض سواء كان هناك خوف أو لم يكن هناك خوف فإنه بعد فتح مكة وبعد استقرار الأمر ظل النبي  يقصر في السفر -صلوات الله السلام عليه- فقيل له يا رسول الله لما نقصر في السفر وقد أَمِنَّا ؟ أي أصبحنا الآن في أمن ما نخاف العرب كلها مادخلت في الإسلام فقال -صلى الله عليه وسلم- صدقة تصدقه الله بها عليكم فاقبلوا صدقته»  قال: إنَّ الله -تبارك وتعالى- قد تصدق بهذا الأمر عليكم كان قد شرع لكم أنْ تقصروا وقت الخوف ثم جعل هذا القصر إلى يوم القيامة رخصة لكم في كل ضَرْبٍ في الأرض سواء كان هناك خوف أو لم يكن هناك خوف فهذه صدقة باقية إلى يوم القيامة ورخصة قائمة وهي أنْ يَقْصًر المؤمن مِن الصلاة الرباعية تصير ثنائية إذا سافر أي سفر يُسمَّى سفر, ولأهل العلم تفصيل لهذا ما هو مقدار السفر الذي تقصر فيه الصلاة؟ هل يقصر في كل سَفَر؟ أم في سفر الطاعة فقط ؟ فبعض أهل العلم يقولون لايقصر إلا في سفر الطاعة كان يكون لأهل التجارة للزراعة لأي شيء مباح أو أي شيء الجهاد في سبيل الله هذا سفر طاعة سفر مباح أو سفر طاعة أما إذا كان سفر تضحية مسافر ليسرق مسافر ليزني مسافر ليقتل يفعل إثم فإنه لا يحل له أنْ يأخذ بهذه الرخصة إنما رخص الله المؤمن الذي يسافر في مباح أو في طاعة له, أمَّا أنْ يسافر في معصية لله  ويعطيه الله -تبارك وتعالى- هذه الرخصة فلا بعض أهل العلم يرى أنه ما أنه يجب عليه أنْ يتم ما يأخذ به الرخصة أقوال لأهل العلم فيه تفصيلات في هذا  محل هذا في كُتُبِ الفِقْه والشاهد أنَّ كل ما يطلق عليه لفظ السفر في العُرف وأنه مسافر فلا شك له أنْ يأخذ بهذه الرخصة التي رَخَصَّ الله لعباده أنْ يقصر مِن الصلاة, أيضًا مِن هذه الأحكام هل تصلى النافلة النهارية مع القصر والصحيح لا تصلى النوافل النهارية لا تصلى مع القصر التي هي الراتبة كركعتين قبل الظهر وركعتين بعده, ركعتين قبل العصر, ركعتين بعد المغرب, ركعتين بعد العشاء هذه الرواتب لا تُصَلَّى على الصحيح بل كما قال عبدالله بن عمر لما قيل له تَنَفَّل في السفر فقال له : (لو تنفلت لأتممت) إذا كان الله -تبارك وتعالى- قد قصر لنا مِن الصلاة التي هي الفريضة فكيف نصلى النافلة أما النافلة الليلية فهذه لم يكن النبي يتركها -صلوات الله والسلام عليه- أي قيام الليل, وتر أما لليل ما كان النبي يتركها لا سفرًا ولا حضرًا -صلوات الله والسلام عليه- وكذلك ركعتين الفجر ركعتين الفجر لم يتركها النبي في سَفَرِ ولا في حَضَر فهذا مستثنى مِما يترك في السفر ركعتين الفجر وكذلك وتر الليل وهذا ما ترك النبي لا سفرًا ولا حضرًا -صلوات الله والسلام عليه- .

ثم قال-جلَّ وعَلا- : {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ}, هذا خطاب لنبي الله -تبارك وتعالى-, {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ}, في المؤمنين في الصحابة وأقمت لهم الصلاة هذه حال الخوف الله -تبارك وتعالى- يبين كيفية الصلاة حال الخوف, {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ}, أمر الله -تبارك وتعالى- رسوله أنْ يُقَسِّم المؤمنين, يُقَسِّم الجيش الذي معه إلى قسمين قِسْم يصلى أول الصلاة مع النبي -صلوات الله واسلام عليه- {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ}, النبي إمامهم -صلوات الله والسلام عليه-, {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ}, أي حال الصلاة, لابد أنْ يكون قد حمَل  سلاحه معه كذلك الصلاة,{فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ}, أي إذا ركع النبي يركعوا جميعًا وإذا رفع يرفعوا جميعًا ثم إذا سجد يسجد الصف الأول هذا اذا كان العدو بالقبلة فيكونوا ناظرين يكون الصف الخلفي ناظر إلى العدو مراقب له والصف الذي خلف النبي يسجد معه, {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ}, قائمون, هذه الصورة الأولى فهما ركعتين في السفر وفي الركعة الثانية يثبت النبي قائمًا -صلوات الله والسلام عليه- فإذا ركع كذلك إذا ركع في الركعة الثانية يركع جميعا وإذا سجد يسجد الصف الخلفي وأما الصف الأمامي الذي سجد في الركعة الأولى فيبقى قائمًا ثم بعد ذلك إذا جلسوا جلس النبي للتشهد يجلسوا جميعًا ثم إذا سَلَّمَ النبي يسلموا جميعًا هذه صورة, الصورة الثانية قول الله : {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ}[النساء:102], هذا إذا كان العدو إلى غير جهة القبلة فيصلون إلى هنا فينقسم الجيش إلي قسمين قِسم يكون خلف النبي يصلى والقسم الثاني يكون بوجه العدو في الجهة أي الجهة الأخرى قائمين عنده هؤلاء ما يدخلوا الصلاة فالقسم الأول الذي يصلون مع النبي يصلون ركعة واحدة كاملة ورى النبي ثم يثبت النبي قائمًا إلي الركعة الثانية وهم يكملون لأنفسهم ركعة ثم يسلمون ويخرجون فإذا خرجوا وقفوا في مكان إخوانهم الآخرين ويأتوا الآخرون فيصفوا خَلْفَ النبي ويكون  في هذه الحالة قائم -صلوات الله وسلامه عليه- ثم يصلى بهم النبي راكعة يصلى النبي  هذه ركعتين هذه الركعة الثانية ويبقى جالس للتشهد ثم الصف الآخر الذى خلف النبي يقوم فيكمل بنفسه ركعة كهيئة المسبوق ثم اذا تموا الركعة جلسوا في التشهد والنبي يكون في تشهده فيسلم به -صلوات الله والسلام عليه- فيصبح للنبي ركعتان ولكل مِن الجيش كذلك ركعتان ركعة صلاها خلف النبي وركعة أخرى صلاها كصلاة المسبوق وحده لكن متابع للنبي ثم إذا سلم  النبي سلم الجميع .

 قال -جلَّ وعَلا- : {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ}[النساء:102], هذا صوره ثانية مما ذكرناها {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ}, الجميع وأسلحتهم الكل لابد أنْ يصلى مَن يصلى يصلى بسلاحه مَن كان واقف بإيذاء العدو يقف بسلاحه, قال-جلَّ وعَلا- : {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ}, علل الله -تبارك وتعالى- وبين الحكمة في أنْ يفرض الله -تبارك وتعالى- المسلمين الصلاة بهذه الصورة أنَّ هذا مِن الحذر مِن الكفار وذلك أنَّ الكفار هؤلاء يتمنون فرصة صغيرة ولو فرصة الصلاة حتى يهجموا على المسلمين دُفعة واحدة فيستأصلوهم, {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ}, ولو هذه الفترة القليلة فترة الصلاة, {وَأَمْتِعَتِكُمْ}, كذلك فيهجم على هذا المتاع يهجم عليكم {فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً}, أي ينقضون عليكم انقضاضا واحدًا فيستأصلونكم .

 ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا}[النساء:102], أي خفف الله -تبارك وتعالى- ورخص للمؤمنين بحالتين حالة المطر ويصلوا في الوحل ويصبح مِن الصعب عليهم أنْ يقوم الشخص وهو يحمل سيفه ورمحه ودرعه ويسجد في يتعطل بالمطر ويقوم به بل إذا كان في هذه الحالة يضع سلاحه في حال المطر أو في حال المرض كذلك مريض ودرعه عليه ومتاعه وسلاحه يقوم به ويصلى فيه فإذا كان مريض يضع سلاحه {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ........}[النساء:102], حال الصلاة, {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ}, لكن مع هذا يجب أخذ الحَذَر فمجرد ما  أنس أو علم أنَّ هناك هجوم يكون قد تناول سلاحه, {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا}, ختم الله -تبارك وتعالى- هذه الآية بوعيد الكفار الذين حتى لا يتركون فرصة للمؤمن ليعبد ربه ينيب إلى الله -تبارك وتعالى- يحاربونه في هذا لا يقولون لا والله يجب أنْ نكف عنه لأنه في عبادته ربه نحترم عباده على الأقل لربه وإله خالق الكون -سبحانه وتعالى- رب العالمين فهم هذه ممكن أنْ يقتل مؤمن وهو في حال سجوده وفي حال ركوعه مجرم فلذلك الله يقول: اعد لهم عذابًا مهينًا يهينهم إهانة الحسية كل ما في النار عياذا بالله مِن إهانة حِسية وإهانة معنوية للتقليع بالكلام والتأنيب فأعده الله لهم لأنهم على هذه الصورة مَن عداه الله تبارك وتعالى وعداه رسوله وأهل الإسلام هذه الآية هي التي شرعت أي شرع الله -تبارك وتعالى- فيها صفة صلاة الخوف هذه الآية فيها ثلاث صور مِن صور صلاة الخوف وقد صلى النبي صلاة الخوف بصور كثيرة والآية أخرى في الصورة الرابعة مِن صلاة الخوف وهي  حال المستعف وهي هذه الصلاة التي ليس لها ركوع ولا سجود وإنما قال -تبارك وتعالى-: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}[البقرة:238], {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا}, أي صلى وأنت راجل ماشي, {أَوْ رُكْبَانًا}, أو أنت راكب هذه صور متعددة لصلاة الخوف لعلنا إنْ شاء الله في الحلقة الآتية نفصل بعض هذا.

 نقف عند هذا وقد أدركنا الوقت -وصلى الله وسلم على عبده محمد- والحمد لله ربِّ العالمين .