السبت 19 شوّال 1445 . 27 أبريل 2024

الحلقة (131) - سورة النساء 105-113

الحمد لله ربِّ العالمين، وأُصَلِّي وأُسَلِّم على عبد الله الرسول الأمين، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

 وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- : {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا}[النساء:105], {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}[النساء:106], {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا}[النساء:107], {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا}[النساء:108], {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا}لنساء:109], يقول -سبحانه وتعالى- لرسوله -صلى الله عليه وسلم- : {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ}, يُعْلِنُ -سبحانه وتعالى- ويخبر ويؤكد أنه هو -سبحانه وتعالى- الذي أنزل هذا الكتاب على عبده ورسوله محمد, إنَّ الله مخبرا عن نفسه -سبحانه وتعالى- بنون العظمة فهو الرَّب الإله العظيم -سبحانه وتعالى, {أَنزَلْنَا}, إخبار منه أنه هو الذي أنزل هذا القرآن، وفي معنى أنزلنا أنَّ الله -تبارك وتعالى- فوق سبعة سماوات -سبحانه وتعالى-, {إِلَيْكَ}, يا محمد, {الْكِتَابَ} ,هو هذا القرآن، وسُمِّى بالكتاب لأنه مكتوب؛ كَتَبَهُ الله -تبارك وتعالى- في السماء وأنزله قرآن على الرسول، وكُتِب في هذه الأرض, {بِالْحَقِّ}, أي نزوله حق, وكذلك متضمن للحق فالقرآن متضمن للحق كله حق، {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا}, فقد حَوَى الحق وليس فيه شيء مِن الزُّورِ والباطل بل كله حق ونزوله مِن الله -تبارك وتعالى- على النبي حق فإنَّ الله -تبارك وتعالى- أراد به الرحمة لهذه الأمة وأنْ يُبيِّن الطريق إليه -سبحانه وتعالى- وليُخْرِج بهذا الكتاب الناس مِن الظلمات الي النور فنزوله بالحق .

كما قال -تبارك وتعالى- : {الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}[إبراهيم:1], {اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}, فالقرآن هذا نزوله حق فقد نزل بالحق -تبارك وتعالى- ثم بين مِن حِكَمِ هذا القرآن ومِن أهدافه قال: {بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}, جعل الله -تبارك وتعالى- رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًا ورسولًا وكذلك حاكمًا بين الأمة بعد أنْ أوجد الله -تبارك وتعالى- وهيَّأ له الأمة القائمة بالأمر وكان مقام النبي فيها كذلك مقام الحاكم يَحْكُمُ بينهم في خصوماتهم ما ينشأ بينهم مِن أي خلاف كان النبي هو المرجع في الحكم، والقضاء -صلوات الله والسلام عليه- قال : {بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}, {بِمَا أَرَاكَ الله}, أي في القرآن؛ بما أَعْلَمَكَ وأخبرك في القرآن مِن قواعد الحُكْم كيف يحكم وقد عَلَّمَهُ الله -تبارك وتعالى- أنزل الأحكام وعَلَّمَ النبي كيف يَحْكُم -صلوات الله والسلام عليه- وكيف يُطَبِّق هذه الأحكام هذا معنى, وكذلك {بِمَا أَرَاكَ الله}, بما وَفَّقَكَ الله -سبحانه وتعالى- إلى الحُكْمِ ومفهوم هذا ليس بالهَوَى وإنما تحكم بما أراك الله -تبارك وتعالى-.

 كما قال الله -تبارك وتعالى- : {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ }[ص:26], {بِمَا أَرَاكَ الله}, بما وَفَّقَكَ الله -تبارك وتعالى- والنبي -صلوات الله والسلام عليه-, {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى}[النجم:3],{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}[النجم:4], فهو معصوم  أنْ يحكم حُكمًا جائرًا، وأنْ يحكم بالهَوى -صلوات الله والسلام عليه-، ومعصوم كذلك أنْ يحكم بغير ما أنزل الله بل يحكم  بما أنزله الله عليه.

ثم قال له الله -تبارك وتعالى- : {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا}, أي إيَّاك أنْ تكون {لِلْخَائِنِينَ} ,الخائن هو الذي يخون غيره, بمعنى أنه يتهمه ويظلمه خُفية، ويظهر خلاف ذلك, {خَصِيمًا},  أي مخاصمًا تخاصم عنهم لا تقف في صف مَن تَعْلَم خيانته، والخائن إياك أنْ تكون في صفه أو أنْ تدافع عنه, {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا}, {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}[النساء:106], أمره الله -تبارك وتعالى- أنْ يستغفره –سبحانه- ويطلب مغفرته إنْ كان قد صَدَرَ منه شيء مِن هذا قال: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}}[النساء:106], {غَفُورًا}, صيغة مبالغة, غفور فعول مِن أنه غافر فإنه كثير الغفران -سبحانه وتعالى- للذنوب رحيمٌ بعباده -سبحانه وتعالى-.

 ثم قال له الله -تبارك وتعالى- : {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا }[النساء:107], {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ}, {يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ}, بمعنى يخونون أنفسهم والإنسان يخون نفسه إذا أراد أنْ يخون غيره فإنما يخون نفسه لأنَّ إثم هذه الخيانة هو عائد إليه وظلمه للغير يعود على نفسه لأنه هو المتضرر في النهاية بذلك, {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا}, الخوَّان فاعل الخيانة، الأثيم فاعل الإثم لا يحبه الله -تبارك وتعالى- فإذا ابتعد عن كل خوان أثيم, {وَلا تُجَادِلْ}, عنه لا تدافع عنه بأي صورة مِن صور الدفاع تبرئه ونحو ذلك بل إنَّ الخائن بين خيانته ولا ينبغي أنْ يدافع عنه.

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ}لنساء:108], {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ}, أي يفعلون خيانتهم، وقُبْحَهُم خُفْيَة عن الناس والحال أنَّ الله -تبارك وتعالى- مُطَّلِعُ عليهم قال : {وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ}, لا يمكن لأحد أنْ يستخفى مِن الله -تبارك وتعالى-، أو أنْ يذهب إلى مكان أو يفعل ظلمه بمكان لا يراه الله -تبارك وتعالى- منه لكن هذا بيان ضعف عقول هؤلاء إنهم يعاملون الناس ويستخفون منهم حتى لا ينفضحوا أمامهم ولا يظنون ويعتقدون إنهم قد فضحوا أنفسهم أمام الله -تبارك وتعالى- والفضيحة عند الله أعظم وأشد مِن الفضيحة عند الناس, {وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ}, أي والحال أنَّ الله -تبارك وتعالى- معهم أينما  كانوا فأين يذهبون ويُخْفُونَ خيانتهم عن عين الله وعن سَمْعِ الله -تبارك وتعالى-، وعن بَصَرِهِ قال -جلَّ وعَلا- : {إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ},  {إِذْ يُبَيِّتُونَ}, أي يقولون في بياتهم في الليل, {مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ}, ما لا يرضاه الله -تبارك وتعالى- مِن القول, قال -جلَّ وعَلا- : {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا}, {كَانَ اللَّهُ}, بعمل هؤلاء محيط أي أنه عليم بكل جوانب فعلهم قد أحاط به علما -سبحانه وتعالى-.

 ثم قال -جلَّ وعَلا- : {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}, {هَاأَنْتُمْ}, خطاب مِن الله -تبارك وتعالى- لرسوله وللمؤمنين, {هَؤُلاءِ}, يا هؤلاء, {جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}, جادلتم عن هؤلاء الذين خانوا  أنفسهم وبيتوا مالا يرضى الله -تبارك وتعالى-، مِن القول واتهموا الأبرياء بذنبهم, {جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}, ماذا يفيد هؤلاء الذين أَوْهَمُوا غيرهم بأنهم بُرآء مِن الذنب الذي ارتكبوه ودفع غيرهم إلي أنهم يحاولوا الدفاع عنهم وتبرئتهم هذا إنهم برَّئْتُمَوهُم وبارئتموهم، وجادلتم عنهم في الحياة الدنيا حتى تُذْهِبُوا التهمة التي ارتكبوها عنهم ماذا يفيدهم هذا والله -تبارك وتعالى- قد أحاط علما بجريمتهم وسيحاسبهم على هذا يوم القيامة, أي ما الذي استفاد إنهم تمتعوا بإثمهم وجريمتهم في الدنيا وقت ما واتهموا غيرهم بهذا الذي فعلوه, ثم عاقبة ذلك أنْ تنالهم العقوبة الأخروية الثابتة واللازمة التي يظلون تحت إثمها وتحت وقعها، {فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}, مَن يقف ويدافع عنهم أمام الله -تبارك وتعالى-، والحال أنَّ الله عليمٌ بهم وأنَّ الله يُخْرِجُ مِن أنفسهم شاهدًا عليهم تشهد عليهم أيديهم، وتشهد عليهم أرجلهم, وتشهد عليهم الأرض التي ارتكبوا عليها جريمتهم فيسقطوا في أيديهم، ويظهر كذبهم ولا يستطيع أحد أنْ يدافع عنهم وقد فضحهم الله -تبارك وتعالى-, {فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا}, لذلك اليوم, {وَكِيلًا}, يتوكل بأمورهم ويقوموا نيابةً عنهم لا أحد سيقفون وحده أمام الله -تبارك وتعالى-, ويحاسب وحده ولا يستطيع أنْ يخفي شيئًا مما فعله في هذه الدنيا أمام الله -تبارك وتعالى- ولن يكون له ناصر مِن أهله ولا مِن أحد مِن العالمين ينصره مِن الله -تبارك وتعالى-.

 ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا}[النساء:110] ,هذه دعوة مِن الله -تبارك وتعالى- إلى هؤلاء الذين خانوا أنفسهم أنْ يبادروا إلي التوبة والاستغفارـ وفي الوقت سَعَة قبل الموت, أي مازال في الوقت سَعَة قبل الموت, أي مازال في الوقت سعة أنَّ الإنسان مهما عمل مِن المعصية لكنه إذا رجع عن معصيته وتاب إلى الله -تبارك وتعالى- تاب الله -تبارك وتعالى- عليه, {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا}, سوء كل معصية وسميت بالسوء لأنها سيئة في نفسها ثم إنها تسوء صاحبها يوم القيامة, تسوء عقوبتها عندما يرى العقوبة عليها يُسَاءُ عند ذلك, {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا}, أي ذنبًا كبيرًا, {أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ}, بأي ذنب ويظلم نَفْسَهُ ولا شك أنَّ كل معصيه هي ظُلْم للنَّفْسِ لأنَّ الإنسان المُوَكَّل بنَفْسِهِ ينبغي أنْ يسعى في نفعها, في فكاكها مِن النار, في إدخالها الجنة, فإذا عمل معصية جريمة هذا على هذه النَّفْس عطلها عند دخول الجنة, أوردها النار, عَرَّضَهَا للعقوبة فيكون ظالم لنَفْسِهِ بارتكابه للمعصية, {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا}, وهنا جاءت هذه المعادلة في صيغة الشرط أنَّ مَن يفعل هذا ثم يستغفر الله يجد الله في جواب الشرط أنَّ هذا بالفعل  كأنه لابد أنْ يكون مادام تحقق فِعْل الشرط يتحقق جواب الشرط, أي مَن استغفر الله -تبارك وتعالى- بعد إثمه ومعصيته وظلمه لنَفْسِهِ وتوجه إلى الله -تبارك وتعالى- واستغفره وَجَدَ الله {غَفُورًا رَحِيمًا}, ولم يجد الله -تبارك وتعالى- غير ذلك يجد الله -عز وجل- مقيلًا لعثرته, غافرًا لذنبه, رحيمًا به, قابلًا لتوبته وهذا مِن رحمته وإحسانه -سبحانه وتعالى- .

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}[النساء:111], {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا}, سُمِّى الإثم هنا كسب لأنَّ الكسب يكون للخير والشر, {فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ}, أي لا يمكن أنْ يُحَمَّلَ هذا الإثم غيره لو حاول هذا أنْ يرميه على غيره فهذا لا يفيد؛ لأنَّ الله -تبارك وتعالى- عليم به فلا تُحَمَّل كل نَفْسٍ إلا ما كسبت أو ما كسبه الإنسان لابد أنْ يُحَمَّلَهُ, {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}, لا يُحَمَّل أَحَد ذنب أَحَدٍ آخر, {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ}, يكون جَرِيِرَة هذا الإثم على نَفْسِ الفاعل, {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} كان الله عليمًا بكسب كل أَحد فيُحَمِّلُهُ ما كَسَبَ, {حَكِيمًا}, يضع كل أمر في نصابه ومِن حكمته -سبحانه وتعالى- أنه لا يُحَمِّلُ آثمًا إثم آخر.

 ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}[النساء:112], {مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً}, هو فَعَلَ خطيئة, والخطيئة الذنب العظيم, {أَوْ إِثْمًا}, أقل مِن هذه الخطيئة ذنب الصغير, {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا}, ثم حَوَّلَ إثمه هذا إلى رجل بريء هنا ارتكب ذنبًا مضاعفًا, قال -جلَّ وعَلا- : {فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا}, {بُهْتَانًا}, الكذب, {وَإِثْمًا مُبِينًا}, زائدًا على ذلك الإثم الأول فأصبح هو الجريمة التي فعلها هي عليه وإلقاؤه هذه الجريمة على غيره لا يفيده؛ لأنَّ الله عليمٌ به ثم كذبه وقوله: بأنَّ فلان هو الذي فعل هذه الجريمة, هذه جريمةٌ أخرى عليه وذلك أنه قد كَذِبَ وافترى, وفي هذا مِن الآثام ذنوب مُرَكَّبه فإنَّ رمى البريء اتهام له, ما يترتب على اتهامه بأنْ يتهمه الناس بعد ذلك وأنْ يذموه ما يترتب عليه بأنَّ العقوبة التي يمكن أنْ يعاقب عليها, قد تكون هذه العقوبة قتل أو رجم, قد تكون هذه العقوبة جَلْد, حرمان فهذا يكون كل ما رُتِّبَ على اتهام هذه البريئة مِن الأضرار والشرور كلها تركب هذا الفاعل الأول الذي قد رمى هذا البريء, {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}, هذا تبشيع ووعيد شديد مِن الله -تبارك وتعالى- وبيان أنَّ مَن رَمَى بآثامه على الآخرين قد ارتكب مجموعة كبيرة مِن الآثام تلحقه عياذا بالله, وننظر كيف أنَّ الله -تبارك وتعالى- بيَّن لكل ذِي عقل ولُب أنَّ الأًوْلَى والأَحْرَى بمن وقع في خطيئة أنْ ينسبها إلى نَفْسِهِ وأنْ يبادر إلى الخلاص والخروج منها عند الله -تبارك وتعالى- وأنَّ الله -تبارك وتعالى- يقبل التوبة والمغفرة مدام في هذه الدنيا, وأنَّ سلوكه هو الطريق الآخر أنْ يَتَنصَّل هو ويرمى الآخرين وأنْ يسعى إلى أنْ يَجِدَ مَن يشايعه ومَن ينصره في الدفاع عنه, كل هذا ساقط وباطل ولا يفيده وإنما الذي يفيده أنْ يتحمل هذا الإثم بنفسه الذي ارتكبه وأنْ يعود إلى الله -تبارك وتعالى- وأنْ يتوب وأنْ يستغفر منه -سبحانه وتعالى-, وأن َّالعبرة إنما هي بالحكم عند الله وبما يترتب على هذا الحكم, إما مِن البراءة مِن الإثم والمغفرة, وإما مِن البقاء والعقوبة عليه في النار عياذًا بالله.

ثم قال -تبارك وتعالى- لرسوله -صلى الله عليه وسلم- : {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ........}[النساء:113], {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ}, بأنْ بَصَّرَكَ وسَدَّدَكَ يا محمد, {لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ}, مِن هؤلاء الذين أتوا إلى النبي -صلوات الله والسلام عليه-, وكان سبب نزول هذه الآيات أنَّ جماعة سرقوا متاع مِن بيت أحد الأنصار ثم لما كُشِفَت جريمتهم ذهبوا وألقوا بهذا المتاع عند آخرين, بعد أنْ عَرِفَ الذين سُرِقَ منهم المتاع أنَّ السارقين هم بنو فلان فجاءوا هم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقالوا يا رسول الله إنّ هؤلاء تهمونا بغير ثَبْتٍ ولا بَيِّنَة ومتاعهم وُجِدَ عند رجل آخر فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال لهؤلاء الذين اتهموهم الذين سرقوا منهم المتاع: لمَ تتهمون أُناس بالسرقة بغير ثَبْتٍ ولا بَيِّنَة أي بدون أنْ يكون عندكم إثبات ولا بَيِّنَة  لهذا الأمر فَشَقَّ عليهم هذا عليهم جدًا وهم كانوا قد علموا أنَّ هؤلاء الذين سرقوهم ولم يكونوا قد رفعوا هذا الأمر أولًا إلى النبي -صلوات الله والسلام عليه-, فأنزل الله -تبارك وتعالى- هذه الآيات لبيان حقيقة هؤلاء الذين سرقوا وأنهم لما اكْتُشِفَ أمرهم ألقوا بسرقتهم عند آخرين ليتهموهم, وأنهم أَلَّبُوا وجَيَّشُوا غيرهم ليأتي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ويدافع عنهم ويُخْبِر بأنَّ الآخرين الذين هم أصحاب المتاع اتهموهم بغير ثَبت ولا بَيِّنَ فجعلوا أنفسهم هم المتهمين علمًا بأنهم هم السارقين الفاعلين فلما أرادوا أنْ يُلَبِّسُوا الأمر على هذا النحو ويدخلوا النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الأمر ويقولوا: يا رسول الله هؤلاء اتهمونا بغير أمر ولا بَيِّنَة والنبي -صلى الله عليه وسلم- لام هؤلاء الذين اتهموهم قال كيف تتهمون قوما بغير ثَبْتٍ ولا بينة؟ فأراد الله -تبارك وتعالى- أنْ يُبيِّن حقيقة الأمر ويوضح لرسوله -صلوات الله والسلام عليه-.

 فقال -جلَّ وعَلا- لرسوله : {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ}, {أَنْ يُضِلُّوكَ}, بأنْ يُبيِّنوا له غير الحق ويشهدوا أمامه بالزور والباطل فيصدقهم  النبي -صلوات الله والسلام عليه- وهم جماعة, ويكون تصديق النبي لهم تصديق لِكَذَبَة ليسوا صادقين قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} أي أنَّ النبي هو يحكم بالظاهر -صلوات الله والسلام عليه- ولا يعرف الغيب فما غاب عن النبي لا يعلمه -صلوات الله والسلام عليه- كما قال -صلى الله عليه وسلم- «إنكم تتخاصمون إليّ فلعل بعضكم أنْ يكون أَلحنَ بِحُجَّتِهِ مِن بعض فأقضى له على نحو ما أسمع, فمَن قضيت له بحق أخيه فإنما هي قطعة مِن النار فليأخذها أو ليذرها», فهنا النبي -صلوات الله والسلام- عليه يُخْبِرُ بأنَّ الصحابة قال لهم: إنكم معشر المسلمين تتخاصمون إليّ وإنما أنا بشر لا أعلم الغيب فلعل بعضكم أنْ يكون ألحن بحجته مِن بعض, أي لعل بعض الخصمين أنْ يكون أكثر لباقة وفصاحة وُحسن صياغة لباطله فيأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذا الذي أتى بهذه الحُجَّة الظاهرة التي تكون معه فأقضي له؛ أقضي لهذا  البليغ قد يكون مفترى, قد يكون كذاب, قد يكون يَدَّعِى ما ليس له, قال: فاقضى له على نحو ما أسمع, فمن قضيت له بحق أخيه حسب ما أُدْليَ إليّ فإنما هي قطعة مِن النار فليأخذها أو ليدعها له, واذا أخذ حق أخيه وهو يعلم أنه أتي بشهود زور وناس مبطلين ونحو ذلك, أو حلف بيمين صَبْر يُقْسِم بها أنَّ هذا ماله والنبي حَكَمَ له بالشهود أو باليمين أو حجته التي أتى بها وقد تكون هذه الحجة مغشوشة مدخوله, فقال -صلى الله عليه وسلم- : فإنما اقضى له أو فإنما أقطع له قطعة مِن النار, أي أنها لا تحل له فليأخذها أو ليذرها, وهنا قال الله -تبارك وتعالى-: يقول الله -عز وجل- لرسوله {وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} أي زخرفتهم للقول واتهامهم لغيرهم وشهادتهم بالزور, {وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ}, وذلك لأنَّ النبي -صلوات الله والسلام عليه- إنما يحكم بما ظَهَرَ له -صلوات الله والسلام عليه- والنبي لا يحكم بالباطل ولا يشهد مع أحد مُبْطِل ويعلم أنه مُبْطِل ويحكم له أو يدافع عنه -صلوات الله والسلام عليه- وهو مُبَرَّء مِن هذا ومعصوم مِن هذا -صلوات الله والسلام عليه-.

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}, {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ}, هذا بيان إفضال الله -تبارك وتعالى- على رسوله -صلى الله عليه وسلم-, {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}, القرآن, {وَالْحِكْمَةَ}, السُّنة عِلم آخر مع الكتاب لتفصيل الكتاب ولبيانه أنزله الله -تبارك وتعالى- على النبي فأنزل إليه الكتاب وأنزل إليه كذلك عِلم الكتاب وبيان الكتاب وتفصيل الكتاب وهي سنته -صلوات الله والسلام عليه- {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ}, كل الأمور, {مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا}, أي كما تفضل الله -تبارك وتعالى- بهذه الأفضال فإنه كذلك تفضل عليك بأنه لم يجعلك تُضَلُّ في الأحكام أو يغشك غاش بل يفضح الله -تبارك وتعالى- هؤلاء الغشاشين الذين يمكن أنْ يُلَبِّسُوا ويُعْطُوا حُجَّة باطلة ويحكم لهم النبي بظاهر الأمر حَسَب هذه الحُجَّة الباطلة فهذه قد عَصَم الله -تبارك وتعالى- منها نبيه -صلى الله عليه وسلم- وهذا مِن إفضال الله وإنعامه على رسوله -صلوات الله وسلامه عليه-, {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا}, إكرام الله وإنعامه -سبحانه وتعالى- عليك أيها النبي عظيم فاعظم إنعام أنعم الله -تبارك وتعالى- على ولد آدم وإنعامه على عبده ورسوله محمد -صلوات الله وسلامه عليه-, الذي جعله الله له خاتمة للرسل جميعا الإنسان الكامل الذي يُؤْتسَى به ويُحْتَزَى به مَن أخذ الله -تبارك وتعالى- الميثاق على كل الأنبياء أنْ يؤمنوا به إذا بُعِثَ وهم أحياء الذي كَمَّلَهُ -تبارك وتعالى- بالخُلُقِ الكامل والصفات الكاملة –صلوات الله والسلام عليه- والذي أنزل عليه هذا الدين والشريعة المستقيمة وهداه إلي الصراط المستقيم وهَدَى به هذه الجموع الغفيرة الهائلة الذين هم شطر أهل الجَنة أكثر أهل الجَنة مِمَن يدخلها مِن تابعي هذا النبي الكريم- صلى الله عليه وسلم -ففضل الله علي رسوله لا يُحصى, {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا}, هذا تذكيرٌ مِن الله -سبحانه وتعالى- بأنواع الأفضال التي تفضل بها على عبده ورسوله محمد ومنه هنا: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ }[النساء:113], بما أَدْلُوا لك في هذه القضية بغير الحق, قال -جل وعلا-: {وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ}, كذابين لا يضلون بهذا الأمر إلا أنفسهم وذلك أنَّ النبي لو حَكَمَ في ما يحكم به مِن ظاهر الأمر وهو لا يعلم الغيب فإنما يحكم بالحق والعدل -صلوات الله والسلام عليه- وتكون المضرة على مَن أَدْلَى بِحُجَّةٍ باطلة, {........وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا}[النساء:113], ثم قال -تبارك وتعالى- : {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء:114].

وهذا موضعه إن شاء الله في الحلقة الآتية, واستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب, وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.