السبت 22 جمادى الأولى 1446 . 23 نوفمبر 2024

الحلقة (135) - سورة النساء 132-137

 

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على عبد الله الرسول الأمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

 وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- : {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}[النساء:132], {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا}[النساء:133], {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}[النساء:134], جاءت هذه الآيات في تعقيب الله -تبارك وتعالى- على هذه الأحكام التي وَجَّه الله تبارك وتعالى إليها عباده أحكام النساء واليتامى؛ يتامى النساء, واليتامى كذلك مَن الولدان, وهذه الطوائف مُسْتَضْعَفَة في المجتمع, فالمرأة أسيرة في عقد الزواج, اليتيم مِن  الذكور ضعيف لا ظَهْرَ له وولي أمره متولى أمره وماله عنده, اليتيمة كذلك في حِجْر ولي هي مُسْتَضْعَفَة إنْ لم يقم الأولياء الذين هو الله -تبارك وتعالى- شئون هؤلاء الضعفاء بالحق الذي فرضه الله -تبارك وتعالى- وأوجبه عليهم في هذا الأمر إنْ لم يتقوا الله -تبارك وتعالى- ظلموا لأنَّ هذا الطرف الثاني طرف ضعيف فلا يوجد تكافؤ فيه طرفين حتى يطالب الطرف الثاني بحقه ويقف للآخر فَمِن أجل ذلك لابد هنا مِن تقوى الله -تبارك وتعالى- مراقبة الله -عزَّ وجلَّ-, لذلك جاء التعقيب هنا على الأحكام السابقة بتذكير عباد الله المؤمنين بأنَّ الله -تبارك وتعالى- هو مَلِك ومالك السموات والأرض قال -جلَّ وعَلا- : {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا}[النساء:131] فهذا أول شيء تذكير مِن الله -تبارك وتعالى- بأنَّ له ملك السموات والأرض وإنه وصى أهل الكتاب وصاية بتقوى الله خاف الله -تبارك وتعالى- ومخافتكم لله تجعلكم تؤدوا هذه الحقوق وتقوم بهذه الأحكام كما أمركم الله -تبارك وتعالى-, ثم تذكير مرة ثانية {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}[النساء:132], متكفل بكل شئون عباده -سبحانه وتعالى-.

 ثم قال -جلَّ وعَلا- : {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا}, هذا كذلك يُذَكِّرُ الله -تبارك وتعالى- عباده بأنه قادر على كل شيء وأنهم لو نَكَلُوا عن الطاعة ولم يقوموا بما أوجبه الله -تبارك وتعالى- عليهم فأنَّ إذهابهم والإتيان بآخرين غيرهم يسير على الله -تبارك وتعالى-, فالإنسان ليس هو واجب الوجوب بل هذا هو ممكن الوجود والله -تبارك وتعالى- أي مِن قدرته ومِن اليسير عليه أنْ يستبدل خَلْقًا بخلق وأقوامًا بأقوام فالأمر بيده -سبحانه وتعالى- هو يسير عليه, {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ}, أي بظلمكم وعدوانكم{يُذْهِبْكُمْ},  مِن وجه هذه الأرض, {وَيَأْتِ بِآخَرِينَ}, مِمَن ينفذون أمره ويقومون بما أوجبه-سبحانه وتعالى- عليهم, {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا}, اعلموا أنَّ الله قدير على مثل هذا وأنه لا يُعْجِزُهُ شيئا وأنَّ زوالكم على وجه الأرض واستخلافكم بآخرين مِمَن يطيعونه أمر يسير علي الله -تبارك وتعالى- ,ثم توجيه للرب -تبارك وتعالى-  تشتهيه ماذا تريد أيها الإنسان؟ تريد الدنيا ملك لله تريد الآخرة هي في ملك الله كذلك فليكن توجهك إلى الرب -سبحانه وتعالى- الذي يملك هذا وهذا.

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}[النساء:134], {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا}, وليس له أمل ولا هِمة ولا غاية إلا أنْ يحيا في هذه الدنيا ويتمتع بها هذه عظة أنَّ الدنيا لله هي مِلْك -تبارك وتعالى- فلا مناص لك أنْ تتوجه لله -تبارك وتعالى- {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ}, توجيه مِن الرَّب -تبارك وتعالى- لقصير النظر الذي لا ينظر إلى الدنيا فقط اعلم أنَّ الله هو مالك هذه الدنيا فهو الرَّب الإله ولا تعطى مِن الدنيا إلا ما يقسمه لك فانظر أبعد مِن الدنيا انظر ما هو أبعد من الدنيا, مِن الجنة, مَن الخلود, فليكن أمَلك كذلك ليس في الدنيا وحدها بل الأمل في الآخرة, فإنَّ الله -تبارك وتعالى- يملك الآخرة فاطلب الاثنين؛ أطلبهم مِن الرب -تبارك وتعالى- ,فاعمل الاثنين واعمل لكل دار بما تستحقه هذه الدار, فالدنيا مسافتها قليلة ومتاعها قليل وبقاؤك فيها أيام معدودات, والآخرة بقاؤك فيها لا انقطاع له بقاء سرمدي, ثم هذا البقاء إما تكون في جَنَّة قد جمع فيها كل أسباب الحبور والسرور والراحة والنعيم, ولا مُنغِّص فيها فهي نوع مِن المنغصات, وإما تستقر في النار التي جمع الله-تبارك وتعالى- فيها كل أسباب الهم والغم أي الهموم والغموم والأحزان التي لا تنقطع بل هي دائمة ومتزايدة على أهلها عياذا بالله ولا انقطاع لها, فانظر هذا الله -تبارك وتعالى- هو الرب الإله المَلِك الدنيا له والآخرة له, {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا} , أي فليعلم, {فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ}, {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}, وكان الله سميع بكل أقوال وأصوات عباده-سبحانه وتعالى- لا يشغله سمع عن سمع ولا تختلط عليه الأصوات بمختلف اللغات مع تفنن الحاجات ما يشغل الرب -تبارك وتعالى- ولو انشغل هذا عن هذا, وكذلك بصير بعباده -سبحانه وتعالى- مبصر لكل عمل عبادة لا يغيب عن بصره شيء, {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ}[الرعد:10], داخلا في سربه في النهار كلا تحت سمع الله وبصره -سبحانه وتعالى- آيةٌ عظيمة توجه كل أنظار العباد إلى الرَّب -سبحانه وتعالى- وإلى ما عنده وتجعل الذي يطلب الدنيا دون نظره إلى الرَّب -سبحانه وتعالى- أعمى قصير النظر يسعى للدنيا دون أنْ ينظر إلى أنها هي مُلْك الله والله هو الذي يعطيها هذا أعمى أعمى البصر بل هذه الدنيا التي تكبح فيها وتجعل كل همك لها, هي كذلك مُلْك لله -تبارك وتعالى- ولم تعط منها ما قسمه الله -تبارك وتعالى- لك, وتأتى هذه الآيات في ختام هذه الأحكام لبيان قم آية العبد في الأحكام التي أوجبها الله -تبارك وتعالى- عليك وخاصة في هذا المجال في مجال الإحسان إلى هؤلاء الضعفاء إلى الزوجة, إلى اليتيم إلى اليتيمة أنْ تودي كل هذا بمراعاة الحقوق التي أوجبها الله -تبارك وتعالى- لأنَّ الله سيحاسبك على هذا ولا يكون همك للدنيا, لماذا  يظلم الدنيا لماذا يظلم الناس؟ لأنه له رغبة في الدنيا, الدنيا مُلك الله وسيحاسبك عليها والله هو الذى يأمرك وهو الذي ينهاك وهو الذي يتعبدك بما تعبدك به مِن هذه الأحكام فراقب الرَّب -تبارك وتعالى- قم بأحكامه كما أمرك الله -تبارك وتعالى-, فإنَّ الله يفرض لك بعد ذلك مِن الرزق ويعطيك مِن الرزق الحلال الطيب وكذلك يأجرك في النهاية بالثواب العظيم في الآخرة , {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ........} [النساء:134], فليتوجه إلي الله -تبارك وتعالى- لأنَّ هذه هي الدنيا مُلْك لله -تبارك وتعالى- وليست مُلْك لغيره, {........ فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}[النساء:134].

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}[النساء:135], {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}, نداء وخطاب مِن الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين يأمرهم وينهاهم يسميهم بمسمى الإيمان الذي هو أشرف وأعلى الأسماء أنْ يكون مؤمن, وكذلك أشرف الأسماء لما يترتب عليه الإيمان مِن الفلاح والنجح في الدنيا والآخرة, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}, تهييج وحض للامتثال عندما يناديهم الله بهذا الاسم الحبيب الكريم وكذلك إلزام أي يا مؤمن افعل يا مَن آمنت عليك بكذا, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ}, كونوا دائما في كل شئونكم قوامين جمع قوَّام والقوَّام هو كثير القيام صيغة مبالغة مِن القائم بالقسط قسط العدل أي كونوا في كل شئونكم, {قَوَّامِينَ}, بالعدل في أي شأن مِن الشئون في أموالكم وأفعالكم وأحكامكم ومعاملاتكم سواء كان هذا في البيوت أو في خارج هذا البيت كن يا أيها المؤمن قوَّامًا بالقسط قولًا وعملَا {شُهَدَاءَ لِلَّهِ}, تشهد لله شهادك تؤديها  لله -سبحانه وتعالى-  مراقب ربك -سبحانه وتعالى- فإذا استشهدت علي أي شهادة تُدْلِى بها فيجب أنْ تشهد لله في الصغير والكبير, {وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ}, ولو كانت هذه الشهادة على نفسك كنت مُقصِّر الحق عليك في هذا الأمر فعلت ما فعلت فإنْ شهدت فاشهد بالحق والعدل وأقم شهادتك لله ولو على نفسك, {أَوِ الْوَالِدَيْنِ}, أي أنْ تشهد على الوالدين, {وَالأَقْرَبِينَ}, أنْ تشهد كذلك على الأقربين أي لا يَحْمِلُكَ حُبُّ نفسك وحظ نفسك بأنْ تشهد بالباطل لتفوز وتنال حق غيرك, أو تشهد بالزور مِن أجل والديك, أو تشهد بغير الحق لأجل الأقربين, ثم قال-جلَّ وعَلا- : {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا}, {{إِنْ يَكُنْ}, مَن تشهد عليه أو تريد أنْ تشهد له غني أو فقير, {فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا}, الله أولى بكل أحد, فيجب أنْ تقوم الشهادة لله الحق ولا تقول لا هذا رجل فقير هذا أي لا أشهد عليه بالحق وإنما أشهد له بهذا شهدت بهذه الشهادة حتي ينال حق غيرة لأنه فقير وأنَّ الطرف الثاني إنما هو غني فهذا أولى, يجب أنْ تقيم الشهادة بالعدل سواء كان المشهود له غنيًا سيزداد غِنى بهذه الشهادة أو فقيرًا سيؤخذ منه الحق هذا الله أولى بهم الله -سبحانه وتعالى- أولى بعباده, أنت يجب أنْ تشهد بالحق ولا يمنعك غِنَى الغني مِن أنْ تشهد له إذا كان هو صاحب الحق اشهد له لأنَّ هذا هو الحق, وإنَّ كان الذي ستشهد له فقير وأنت لا تريد أنْ تشهد بالحق حتى لا يُلزَم بهذا الحق أنت مُبطِل أشهد بالحق ولو كان فقير فهذا الذي عليك, أما الغِنَى والفقر فهذا شأن الله -تبارك وتعالى- هو الذي يوسع على مَن يشاء ويضيق على مَن يشاء, أما الواجب عليك عند الشهادة أنْ تؤدى الشهادة على وجهها الشهادة الصحية, {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا}, لا تقل لا أشهد لهذا الغَني بالحق الذي له لأنه غَنِي لا أزيده غِنى هذا مدام أنه حق له فاشهد له, الله يقول: { فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى}, الهَوَى هو الميل عن الحق, وسمى هَوَى مِن الهُوِيّ أي كأن هذا الميل على الحق يُسْقِط صاحبه,{وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}, وما تهواه النَّفْس لأنَّ النَّفْس دائمًا ما تشتهيه وما تحبه يجعل الإنسان يَهْوِى عياذا بالله فسُمَّى اتِّبَاع ما تشهيه الأنفس هَوَي, لهذا هوى مِن هذا, { فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى}, شهوات النفوس, {أَنْ تَعْدِلُوا}, أي يمنعكم هذا الهَوَى شهوات النفوس وحظوظ النفس,{أَنْ تَعْدِلُوا}, أنْ تقوموا بالعدل.

 ثم قال-جلَّ وعَلا- : {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا}, مِن شاهد الزور والليل هو المراوغة واللف والدوران وعدم قول الحق بصراحة ووضوح, {أَوْ تُعْرِضُوا}, عن قول الحق تُطلب للشهادة تُطلب لكذا فتعرض عن هذا الأمر وتسكت وتعلم الحق كذا وكذا ولكن تعرض عن أنْ تشهد به قال-جلَّ وعَلا - : { فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}, هذا وعيد من الله -تبارك وتعالى- بأنه متشدد بالزور حتى إذا كان فيه شيء مِن اللف والدوران والَّلي أو الإعراض فالله -تبارك وتعالى- { كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}, والخبرة تقال للعلم الخفي الدقيق أي بخفاياكم وأموركم الخفية ومِن هذا خبيرا بذلك اعلموا أنَّ الله -تبارك وتعالى- عليم علم بأموركم الخفية وهذهُ الخبرة وبالتالي يحاسبكم على ذلك, هذه آية عظيمة جامعة,{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ }, وآية المائدة, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ}[المائدة:12].

ثم قال-جلَّ وعَلا- : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا}[النساء:136], يأتي هنا بعد ذلك هذه الآيات تبدأ فاصل جديد مِن هذه السورة العظيمة سورة النساء فاصل في التوحيد هنا في الإيمان والتوحيد يقول -تبارك وتعالى- : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}, خِطاب مِن الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين يأمرهم وينهاهم -جلَّ وعَلا- يقول لهم : {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ}, يأمرهم الله -تبارك وتعالى- هذا أهل الإيمان الذين آمنوا بالله وبنييه محمد -صلوات الله والسلام عليه- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}, كأنَّ عَلَم ووصف لهذه الأمة, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}, تأكيد على هذا,  أي ليكن إيمانكم هذا تفصيله {آمِنُوا بِاللَّهِ}, الإيمان بالله يكون بكل ما أخبر عن نَفْسِهِ -سبحانه وتعالى-, بكل أسمائه, بكل صفاته, بكل أفعاله -سبحانه وتعالى-, وهذا مِن مقتضاه إيمان بربوبيته؛ بأنه الرَّب, الإله, الخالق, الرازق, المحي, المميت -سبحانه وتعالى- ,وكذلك الإيمان بأنَّه الإله وحده الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-, { وَرَسُولِهِ}, محمد -صلوات الله والسلام عليه- آمنوا بهذا الرسول والإيمان هذا شهادة بأنه رسول الله حقًا وصدقًا وأنه مُبَلِّغ عن ربه -تبارك وتعالى-, وأنه لا يتقول عليه, وإنه هو الصادق الأمين -صلوات الله والسلام عليه-, وكذلك مِن مقتضى الإيمان طاعة هذا النبي لأنه يأمر بأمر الله -تبارك وتعالى- ومحبته فوق كل أحد -صلواته الله والسلام عليه- وتقديم طاعته مع طاعة الله -تبارك وتعالى- {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}, كل هذا مِن معاني الإيمان برسوله, {وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ}, القرآن أي آمنوا بهذا الكتاب الذي نزله الله -تبارك وتعالى- على رسوله, وقال { نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ}, ونزَّل تفيد التكرير وذلك أنَّ القرآن نَزَلَ مُنَجَمًا أنزله الله -تبارك وتعالى- مفرقًا مُنَجَمًا في كل سِنِي حياة النبي الرسالية منذ أنْ نَبَّأَهُ الله -تبارك وتعالى- باقرأ إلى أنْ نزلت آخر آية مِن هذا القرآن قبل وفاة النبي بأيام قليلة وهي قول الله -تبارك وتعالى- : {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}[البقرة:281], فهذا الكتاب الذي نَزَّلَ على رسوله أي آمنوا به ثم قال-جلَّ وعَلا- : {وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ}, جِنس الكتب التي أنزلها الله, الكتاب الكتب التي أنزلها الله مِن قبل التوراة والإنجيل والزبور وما ذَكر الله -تبارك وتعالى- عن صحف أنزلها لموسى آمنوا بها أي صدقوا وآمنوا بأنَّ الله أنزل هذه الكتب كما أخبر.

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا}[النساء:136], {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ}, كل مسائل الإيمان راجعة للإيمان بالله -تبارك وتعالى- فالملائكة هم ملائكة الله, فهم الإيمان بهم راجع إلي الإيمان بالله -تبارك وتعالى- ,لأنهم ملائكته ولأنه هو الذي أخبرنا بهم-سبحانه وتعالى- فإنَّ الملائكة لا نراهم وإنما هو الذي أخبرنا بهم -سبحانه وتعالى- عن خَلْقِهِم وعن أسماء بعضهم وعما يقومون به وعن صفاتهم كما قال-تبارك وتعالى- : {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا}, فهذه مهماتهم, {أُولِي أَجْنِحَةٍ}, هذه صفة الخَلَق, {مَثْنَى}, مَلَك له جناحان, {وَثُلاثَ}, مَلَك له ثلاث أجنحة, {وَرُبَاعَ}, مَلَك له أربعة أجنحة, {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ}, هذا النبي يقول : «رأيت جبريل -عليه السلام- وله ستمائة جناح قد سَدَّ الأفق كلما نظرت وجدته أمامي», ورآه على سورته هذا في الآخرة, وقد أخبر الله -تبارك وتعالى- عن عمل الملائكة فقال مثلًا عن جبريل : {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ}[الشعراء:193],{عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ}[الشعراء:194], وأخبر النبي عن ميكائيل أنه مُوكَّل بالمطر, وأخبر الله -تبارك وتعالى- عن مَلَك الموت قال : {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ}[السجدة:11].

 وأخبر عن ملائكة تأخذ الروح : {........ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ}[الأنعام:61], وأخبر عن ملائكة للجنة وملائكة للنار وأخبر عن ملائكة النار ووصفهم فقال : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[التحريم:6], فنؤمن بالملائكة الذين وَصَفَهُم الله -تبارك وتعالى- كما وصفهم الله -عزَّ وجلّ-,  نؤمن بما أخبرنا الله -تبارك وتعالى- وأخبرنا رسوله فأيضًا قلنا الإيمان بالملائكة راجع للإيمان بالله, {وَكُتُبِهِ}, هي راجعة كذلك للإيمان بالله كتب التي أنزلها وبيَّن الله صفاتها كما قال-جلَّ وعَلا- : {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ}[المائدة:44], فأخبر بأنَّ التوراة فيها هدى وفيها نور فنؤمن بهذه الكتب كما أخبر بها الله -تبارك وتعالى-, {وَرُسُلِهِ}, الرسل الذين أخبر الله -عزَّ وجلَّ- عنهم؛ نوح أول رسول لأهل الأرض, إبراهيم, موسى, عيسى, قبل ذلك هود وصالح كل الرسل الذين أخبر الله -تبارك وتعالى- عنهم نؤمن بهم, {وَرُسُلِهِ}, أيضًا الإيمان بالرسل راجع إلى الإيمان بالله لأنهم رسل الله هو الذي أرسلهم, فالإيمان بالرسل راجع كذلك إلى الإيمان بالله -تبارك وتعالى-, {وَالْيَوْمِ الآخِرِ}, يوم القيامة وسُمى باليوم الآخر لأنَّه نهاية المطاف حيث يضع كلٌّ عصا التِّسْيَار كما يقال, فيوضع أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار هذا آخر يوم يختم به هذه الحياة كما هي الدار اختبار وتختم المراحل هذه ختام المراحل؛ مِن الولادة للموت مرحلة, مِن الموت إلى البعث مرحلة, مرحلة البرزخ ثم مرحلة القيام لهذا اليوم الآخر الذي يكون في نهايته يوضع كلا في مستقره, نسأل الله -عزَّ وجلَّ- أنْ يجعل الجنة مستقرنا ومستقر إخواننا مِن أهل الإسلام وأهل الإيمان جميعًا, هنا يقول الله-تبارك وتعالى-: {وَالْيَوْمِ الآخِرِ}, مَن يكفر بهذه الأركان, {فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا}, ليس كل مَن يكفر بها فقد ضل بل مَن كفر بشيء واحد منها أو بجزء مما هو داخل في الإيمان بركن مِن الأركان {فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا}, وذلك أنَّ الإيمان هو قضية واحدة كل معاني الإيمان هي قضية واحدة مَن كفر بجزء منها كفر بالكل, فَمَن كَفَرَ بالبعث والنشور ولو كان يؤمن بالله وبرسالته فهو كافر بالكل, ومَن كفر برسول واحد فهو كافر بالرسل كلهم وبالتالي كافر بالله لأنَّ الله هو الذي أخبر بها فَمَن قال مثلًا موسى ليس رسولا هذا كفر بالله -سبحانه وتعالى- ولذلك اليهود لماذا كفار بالله -تبارك وتعالى-؟ لكفرهم بمحمد مَن كفر بمحمد كفر بالله -جلَّ وعَلا- لأنَّ الذي أرسل محمد هو الله -تبارك وتعالى- وكذلك هو كافر بموسى لأن موسى هو مُخْبِر وقد أخبر بمحمد -صلوات الله وعليه وسلم- وكذلك مَن كفر مِن النصارى بمحمد فهو كافر بالله وكافر بالإيمان فالإيمان قضية واحدة مَن كفر بشيء مِن هذا الإيمان فهو كافر بالكل قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا}[النساء:136], ليس ضلالا قريب ما بعده عن الحق قريب لا, هذا بُعْدُهُ بعيد جدًا عن الحق بعيد عن الحق بمسافة بعيدة جدًا وذلك أنَّ الإيمان هو الصراط وهو النور ضده الظُّلمة والكفر, فكل مَن كَفَر بشيء فهذا بعيد فيه ضلاله عياذا بالله, يوجد ضلال يكون في الأعمال, ضلَّ عن عَمَل مِن الأعمال التي أمر الله –تبارك وتعالى- بها ما عَرف الحق فيها فهذا قد يكون جهله بها وضلاله قريب, أمَّا الذي يكفر بالإيمان؛ بما أخبر الله -تبارك وتعالى- به هذا ضلاله بعيد, {فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا}.

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا}[النساء:137], هذا الذي يَتَبدَّى له الحق ثم بعد ذلك يأتي نَفْسهُ الشريرة فتُسوِّل له الكفر, والكفر رَدُّ الحق مع العلم به علم الحق استنار له وأتضح له ثم لمرض قلبه يقوم يذهب للكفر بسبب أو بآخر الشك الذي يأتيه مرض الشك, بشهوة فيؤسِر الحياة الدنيا عن الآخرة فيجحد ويرفض الإيمان أي صورة مِن الصور, أي صارف يصرفه عن الحق  {الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا}, ثم قد يرجع إليه الحق في}من, {ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا}, قال -جلَّ وعَلا- : {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا}, تعمق بعد ذلك الكفر في نَفْسِهِ وازداد فيه قال-جلَّ وعَلا- : {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ},  أي في الآخرة, {وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا}, في الدنيا فهذا الذي ازداد كفر واستمر على ذلك يهدده الله -تبارك وتعالى- لم يكن ليغفر له في الآخرة لأنه مات على الكفر عياذا بالله, ولا يهديه سبيل في الدنيا, أي يرزقه السداد وأنْ يرزق سبيل مرة ثانية إلى الإيمان لأنه متذبذب شكاك أتى إلى الإيمان فعرفه وآمن وسار فيه خطوات ثم رجع مرة ثانية إلى الإيمان ولكنه رجع إلى الكفر ثم ازداد كفرا وأظلمت نَفْسه بعد ذلك هنا عاقبة الله-تبارك وتعالى- هنا يعاقبه بأنْ يطمس على بصيرته فلا يُوفَّق إلى سبيل الخير ويبقى على هذا الحال عياذا  إلى أنْ يموت, قال -جلَّ وعَلا- : {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُم}, وقوله : {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ}, هذا أبلغ في النفي مِن فلن يغفر الله لهم, فلن يغفر الله لهم رَدّ على الفِعل, أما هذا {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ}, كأن هذا أمر بعيد عن الله -تبارك وتعالى- أنْ يفعل هذا الفعل لهذا العبد الذي صار وعاند بهذه الطريقة, {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا}, ثم قال -جلَّ وعلَا- : {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}[النساء:138] .

هؤلاء هم المنافقون وسنسير مع هذا الفاصل مِن السورة في بيان صفة المنافقين وكيفية معاملة الرَّب لهم مِن أجل النفاق وهذا إنْ شاء الله موعده في حلقة آتية إنْ شاء الله استغفر الله لي ولكم -وصلى الله على عبده ورسوله محمد-.