الحمد لله ربِّ العالمين, وأُصَلِّي وأُسَلِّم على عبد الله ورسوله الأمين, وعلى آله وأصحابه, ومَن اهتدى بهديه وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله تبارك وتعالى- : {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا }[النساء:-140138].
هذا الفاصل الجديد مِن هذه السورة, سورة النساء هو الذي بدأه الله -تبارك وتعالى- بنداء المؤمنين أنْ يؤمنوا به -سبحانه وتعالى- وبرسوله, قال -جلَّ وعَلا- : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا}[النساء:136], فالإيمان قضيةٌ واحدة ومَن كفر بشيء منه فقد كفر بالإيمان كله, وضل ضلالاً بعيداً الكفر الضلال في الإيمان أبعد الضلال غير الضلال في مسائل الأعمال, ثم بَيَّنَ الله -تبارك وتعالى- حال المنافقين والذين تَظْهَر لهم حقائق الدين أحياناً فيؤمنوا ثم ينتكسون ويأتيهم مرض قلوبهم في الشك, فيكفرون ثم قد يدخلون مرةً ثانية في الإيمان ثم يرجعون قال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا ...}[النساء:137], مَن كان حاله فإنَّ الله -تبارك وتعالى- يعاقبه عقوبة شديدة بأنْ يَطْمِس على قلبه -جلَّ وعَلا- قال -جلَّ وعَلا- : {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} أي في الآخرة, {وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا}, أي في الدنيا فهؤلاء يَطْمِس الله -تبارك وتعالى- أبصارهم لأنه قد اتضحت لهم الحقائق, ولكنهم يكفرون ومعنى يكفرون بعد وضوح الأمر يكذبون, فالكفر تكذيب وجحود وعَمَى وانصراف عن هذا الإيمان بعد معرفته, فهذا الذي تكرر منه هذا الأمر على هذا النحو ثم ازداد كفرًا طَمَسَ الله -تبارك وتعالى- بصيرته وأضله هذا حال المنافقين, ثم قال الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك : {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}[النساء:138], البشارة هي الإخبار بما يَسُر, وإذا جاءت في الإخبار بما يسوء يكون استهزاء يكون في باب الاستهزاء, فهنا يستهزأ الله -تبارك وتعالى- بهم ويقول لرسوله {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ}, لكن هذا ليس خبراً بما لا يسر {بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}, والحكمة في أنه جاء هنا أي الإخبار بالعذاب الأليم على وجه البشارة استهزاءا لهم, وذلك أنهم كان حال المنافقين هو الاستهزاء بالمنافقين فإنهم يظهرون لأهل الإيمان أنهم مِن الإيمان, وحقيقتهم أنهم مع أهل الكفران استهزاءً بالمؤمنين ومماكرةً لهم, فلذلك يبشروا استهزاءً بهم كذلك أي بالعذاب ويأتي الإخْبَار بالعذاب في صورة البُشرى, {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}[النساء:138], ثم جاء وصف هؤلاء المنافقين في أخص أعمالهم, وهي أنَّ موالاتهم للكفار هؤلاء هم إخوانهم قال : {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ........}[النساء:139], هذا هو مُؤَدَّى نفاقهم بل هذا سر نفاقهم, بل سبب نفاقهم أنَّ مولاتهم لأهل الكفر هو عداوتهم لأهل الإيمان, {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ} أحباب لهم وأنصار لهم, {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}, يتركون ولاية المؤمنين ويوالون هؤلاء, قال -جلَّ وعَلا- منكرًا عليهم : {........ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}[النساء:139], {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ}, عند الكفار,{الْعِزَّةَ}, التمكين والعلو المكانة, وذلك أنهم مِن قصر نظرهم كانوا يظنون أنَّ الغَلَبَة إنما هي لأهل الكفر, وذلك لِما كانوا يرونه مِن كثرة الكفار وقلة المؤمنين وأنَّ المؤمنين ضعاف جداً, فلذلك كانت قلوبهم الحقيقية وموالاتهم الحقيقة لأهل الكفر, وأما دخولهم في الإيمان إنما هو كما يقال يمسكون العصا مِن الوسط يكونون مع أهل الإيمان حتى يأمنوهم وحقيقة دينهم مع الكفار, ويعتقدون في قرارة قلوبهم أنَّ الكفر هو الذي له الغَلَبَة في نهاية المطاف, قال -جلَّ وعَلا- : { أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ} أي الغَلَبَة, { فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}, {الْعِزَّةَ}, العزة بمعنى الغَلَب والنصر, هذا كله بيد الله -تبارك وتعالى- فإنَّ الله مالك هذا المُلْك وهو الذي بيده مقاليد خَلْقه كلهم -سبحانه وتعالى- وهو العزيز الذي لا يغلبه غالب فإذا كان هؤلاء يريدون العزة حقيقة فالعزة مع أهل الإيمان لأنَّ أهل الإيمان هم مع الله -تبارك وتعالى- ثم قال -سبحانه وتعالى- بأنه قد نهى في السابق أهل الإيمان أنْ يجلسوا مجلسًا مع الكفار يخوضون فيه في آيات الله -تبارك وتعالى- ولا ينكرون عليهم, قال -جلَّ وعَلا- : {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}[النساء:140] .
{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا } نَزَلَ هذا في سورة الأنعام, وهي سورة مكية قبل هذه السورة, وهي قبل سورة النساء وسورة النساء هذه مَدَنيَّة نزل قول الله -تبارك وتعالى- : {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[الأنعام:68], قول الله -تبارك وتعالى- في سورة الأنعام : {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا}, أي مِن هؤلاء الكفار فلا تقعد معهم, {حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}, لا يجوز للمؤمن وهو لا يستطيع الإنكار على الكفار, وكان بعضهم يجلس في مجالس الكفار ولا يستطيع الإنكار هم قد يسبون الله ويسبون رسوله ويستهزئون بالدين ويستهزئون بالقرآن ويستهزئون بالنبي والمؤمن لن يكن يستطيع أنْ يَردَّ إساءتهم كان كثير منهم يخفي إيمانه فالله -تبارك وتعالى- نهى المؤمنين في هذا الوقت أنْ يجلسوا في هذا المجلس الذي يخاض فيه بآيات الله ولا ينكرون بل إذا كان الأمر كذلك يجب أنْ يخرجوا مِن هذا المكان, قال : {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}, { وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى}, بعد أنْ ذَكَّرَكَ الله -تبارك وتعالى- وبعد أنْ تذكر {مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}, فهنا هؤلاء المنافقين في المدينة بعد أنْ عَزَّ أهل الإسلام وكانت لهم مكانتهم, كان هؤلاء المنافقين يجلسون كذلك مع اليهود ويجلسون مع أعداء الدين الكفار واليهود يطعنون في النبي ويطعنون في الإسلام وهؤلاء المنافقين والمنافق قلبًا واعتقادًا موالي لهؤلاء وقد يكون بعض ضَعَفة الإيمان يجلس مع هؤلاء مِن اليهود ويستمع لهم ولا ينكر عليهم, فيَسْوَد قلبه لذلك ويخرج مِن الإسلام بكثرة تِرْدَاد هذه الشبه والشكوك وما يسمعه مِن هؤلاء الكفار .
قال جلَّ وعَلا- : {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} في القران التي هي آية الأنعام, { أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ }, أي لا تقعد مع الكفار إلا إذا خاضوا في حديث غير الدين وغير الخوض في آيات الله كأن يخوضون في شئ مِن الدنيا وفيه نفع للمؤمن يجلس معهم نعم {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ}, إنكم أي إنْ جلستم مجالس هؤلاء الكفار في مجلس الكفار وهم يخوضون في آيات الله وسكتم على ذلك ولم تنكروا ما يقولوه, تكونون مثلهم كفار مثلهم, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}, لا ينفع المنافق أنْ يكون مُظْهِر للإسلام حتى يُصَلِّي مع النبي, يخرج يجاهد معه مادام أنَّ قلبه كافر بالله -تبارك وتعالى- فهذا ظاهره لا ينفعه والله سيجمع أهل النفاق والكفار في جهنم جميعًا, وبدأ الله بالمنافقين قبل الكفار في النار وذلك أنهم أشر هم كفار أي يساووا الكفار في الكفر وزادوهم في الكذب والتضليل والخيانة لأهل الإسلام والاستهزاء بهم فهم أَشَرُ منهم .
{ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}, ثم وضح الله -تبارك وتعالى- كذلك هذا السبيل إلى النفاق وهو الجلوس مع أعداء الله -تبارك وتعالى-, ثم بيَّن الله -تبارك وتعال- أحوال المنافقين وطريقهم قال : {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}[النساء:141], {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ}, هؤلاء المنافقون المتوعدون الذي يتوعدهم الله المنافقين, قال -جلَّ وعلا- : {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ}, التربص هو الانتظار والترقب رجاءً يتحقق ما في نفوسهم مِن زوال الدين, ومِن هزيمة أهل الإسلام, أو يترقب النتائج, يتربصون بمعنى يترقبون نتيجة الصراع بين المؤمنين والكفار لِمَن سيحسم الأمر ولِمَن سيكون الأمر حتى يكون بعد ذلك مع الطَرَف الغالب .
{الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ}, أي يا معشر المؤمنين, {فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ}, فتح؛ نصر منه -سبحانه وتعالى- على الكفار, {قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ}, عند ذلك يُظْهِرُون أنفسهم لأهل الإيمان وأنهم كانوا مع أهل الإيمان وأنهم منهم قالوا ألم نكن معكم؟ سؤال يراد به التقرير أي نعم حتى يقال نعم كنتم معنا وأنتم جاهدتم معنا ونصرنا واحد, {وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ}, ما قال فتح؛ نصيب مِن الغلبة على أهل الإيمان بتقدير الله -تبارك وتعالى- قالوا: أي هؤلاء المنافقون قالوا للكفار: {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}, {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ}, أي أيها الكفار كنا معكم مستحوذين عليكم, بمعنى أننا ندافع عنكم ونصونكم ونحن معكم ضد أهل الإسلام, {وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}, نمنعكم أي أنَّ المؤمنين يغلبوكم فقد كانوا يوصلون أخبارهم لهم ويطلعونهم على عورات المؤمنين ويحمونهم مَن بَطْشِ أهل الإيمان .
قال -جلّ وعَلا- : { فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } تداخل الأمور علي هذا النحو, لعب المنافقين كما يقال على الحبال يظهرون موالاتهم لأهل الإيمان تارة ويظهرون موالاتهم لأهل الكفر تارة أخرى حسب نتائج الصراع بين المسلمين والكفار, قال -جلَّ وعَلا- : { فاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}, حُكْم الفصل الذي يعطي كل أحد حقه وذلك أنَّ هذا أيضًا يتعلق بأعمال القلوب والله مُطَّلِع علي كل ذلك -سبحانه وتعالى-, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}, أي الله ولي الذين آمنوا ولن يجعل للكافرين عليهم سبيلا أي باستئصالهم وغلبتهم النهائية بل إذا كان ثمة غلبة للكفار في بعض الأحيان فإنها تكون عامل وقتي هذا فترة, ولكن الغلبة دائماً ستظل لأهل الإسلام, ولا تزال طائفةٌ مِن أُمة النبي على الحق ظاهرين لا يضرهم مَن خَذَلَهُم ولا مَن خالفهم حتى يقاتل آخرهم الدَّجال, {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا},ثم قال جلَّ وعَلا- : {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا}[النساء:142], {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ} أي هذا حقيقة فعلهم, يظنون أنَّ ما يخدعون به أهل الإيمان ينطلي على الله -تبارك وتعالى- وخداعهم لأهل الإيمان أو محاولة خداعهم لأهل الإيمان, هي أمر في الحقيقة هي مراوغة للرَّب -جلَّ وعَلا- وذلك أنَّ أهل الإيمان هم أولياء الله, هم أنصاره, هم أحبابه, هم أولياؤه, فَمَن اذا هم وحاول خداعهم هو يخادع الله, ومَن أراد أنْ ينتصر عليهم كأنه أراد أنْ يغالب الرَّب -جلَّ وعَلا- فالله يُبيِّن حقيقة فعل هؤلاء, {يُخَادِعُونَ اللَّهَ}, ليس معنى أنهم في اعتقادهم أنهم يخدعون الرب -تبارك وتعالى- ويخادعونه لا, إنما معناه أنهم بخداعهم لأهل الإيمان في حقيقة الأمر هو هم يخادعون الله -تبارك وتعالى-, وهذا تصوير الله الأمر على هذا النحو قِلّة عقول هؤلاء وضعفهم وسخافة عقولهم وانحطاط فهمهم, وفكرهم,فالله لا يخدع -سبحانه وتعالى- الله مالك المُلْك لا يغلبه أحد ولا يخدعه أحد -سبحانه وتعالى- {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ} قال -جلَّ وعَلا- : {وَهُوَ خَادِعُهُمْ}, الله -تبارك وتعالى- خادعهم أي أنه -سبحانه وتعالى- الخداع هو أنْ يري أحد الآخر خلاف ما ينويه له وما يبيته له, كَمَن أراد أنْ يضر إنسان فيظهر له المحبة والمودة وهو يُدبِّرُ له في الخفاء, فالله -تبارك وتعالى- خادع هؤلاء بمعنى أنه يريهم أنهم في أمن وفي أمان.
وقد يمدهم بالمال ويمهلهم فلا يعاقبهم على إجرامهم وعلى فعلهم بالمؤمنين, فيظنون أنَّ الأمر في صالحهم وأنَّ الله -تبارك وتعالى- معهم وأنه غافل عما يعملون, والحال أنَّ الله -تبارك وتعالى- يُمد لهم ليزدادوا إثم ولتكون عقوبتهم عقوبة ماحقة, {وَهُوَ خَادِعُهُمْ}, في الدنيا والآخرة فأما خداعه في الدنيا فإنه حتما يكشف بعض أسرارهم, وتكون الدائرة عليهم ثم في الآخرة يظنون إذا مَدَّ الله -تبارك وتعالى- لهم حتى الموت أنهم مع أهل الإيمان كما كانوا معهم في الدنيا سيكونوا معهم في الآخرة, ثم إنهم في الآخرة يجدون الأمر يختلف, وذلك أنهم يسيرون فترة مع أهل الإيمان, ثم بعد ذلك يُضْربُ بينهم في أرض المحشر بسور له باب, {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ ........}[الحديد:13], عندما يُعْطِي الله -تبارك وتعالى- كل مؤمن نوره معه والكفار لا يعطون نور, فيقول المنافقون للكفار : {انْظُرُونَا} انتظرونا, { نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا}, فيرجعوا يرجع المنافقون كلهم أي ينسلخوا مِن صف المؤمنين ويرجعوا للخلف حتى يأتوا بهذا النور, فإذا ذهب آخرهم وأصبح المنافقون كلهم خلف المؤمنين, {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ}, مباشرة, يكون هناك سور وله باب, {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ}, وهو جهة المؤمنين, {وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ}, {يُنَادُونَهُمْ}, أي المنافقون ينادون أهل الإيمان مِن خَلْفِ السور, {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ}, أي ألم نكن معكم في الدنيا وكنا معكم الآن في الطريق أي إلى الجنة.
{قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ}, التربص هنا انتظار أنْ يهزم المسلمون فينسلخوا منهم ا ننتصر الكفار فيكونوا معهم وإنْ ينتصر المسلمون فيلتحقوا بهم, {........ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}[الحديد:14], الشيطان, {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[الحديد:15], فالرَّب خادعهم -سبحانه وتعالى-, {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى ........}[النساء:142], هذا حالهم في الدنيا, {إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى}, لأنهم يكرهونها لا يؤمنون بها, لا يحبونها, يصلون مداراة فقط لأهل الإيمان وحتى لا يوصموا بالكفر,{يُرَاءُونَ النَّاسَ}, أي يظهرون أنفسهم للناس ليروهم نحن هنا نحن نصلي حتى يشهدوا لهم بالإسلام ولا يحكم عليهم بالكفر لتركهم للصلاة, {يُرَاءُونَ النَّاسَ}, قال -جلَّ وعَلا- : {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا}, أي إذا قاموا في الصلاة لا يذكرون الله -تبارك وتعالى- إلا ذكرًا قليلًا وذلك أنه فقط هو يصلي صلاة كذب وصلاة نفاق وليست صلاة إيمان. .
{مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ .........}[النساء:143], قال -جلَّ وعلا- : {........ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا}[النساء:143] المذبذب هو الذي يكون حائر بين الجهتين, فتارة مع هؤلاء وتارة مع هؤلاء, {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ} بين الإيمان والكفر بين أهل الإيمان والكفار, {لا إِلَى هَؤُلاءِ}, ليس هو منتمي ومُنْضَم ومُلتحق بهؤلاء المؤمنين, {وَلا إِلَى هَؤُلاءِ}, الكفار رجل كذاب ليس بصريح وإنما قلبه هنا وعمله مع الكفار وظاهره مع أهل الإيمان, {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ .........}[النساء:143], قال جلَّ وعَلا- : {........ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا}[النساء:143], هذا أعظم ضلال, أو مِن أعظم الضلال أنَّ هذا الشخص الذي على هذا النحو والحال أنَّ فيه وعيد وفيه تهديد, وأنَّ الإيمان طريق لا يمكن أنْ تنجو إلا بأنْ تدخل هذا الطريق بكليتك, تسلم لله وجهك وتسلم قلبك وتسلم جوارحك وتسير فيه وتوالي عليه وتعادي عليه هذا النجح فيه, أما أنْ تكون مُعَلَّق هنا ومُعَلَّق هنا, فلا أنت أفلحت مع هؤلاء, ولا أنت كذلك نجحت مع هؤلاء الكفار على الأقل كُن مع هؤلاء الكفار فتكون وجهتك واحدة, فأنت صريح وسيرك معهم فهم في أتم الضلال وذلك لترددهم بين هؤلاء وبين هؤلاء, {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ ........}[النساء:143], قال -جلَّ وعَلا- : {........ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا}[النساء:143], أي مَن أضله الله هذه عقوبة لهم مِن الله -تبارك وتعالى-, مَن أضله الله على هذا النحو لا يمكن أنْ تجد له طريق إلى الهُدى, لأنَّ الله هو الذي أضله فإذا كان الله الذي أضله الله رب السموات والأرض خالق الخَلْقِ الذي بيده مقادير كل شيء الغالب الذي لا يغلبه أحد, إذا كان الله هو الذي أضله فلا يستطيع أحد أنْ ينقذه مِن هذا الضلال, {فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا}, أي إلى هُدَى.
ثم قال -جلَّ وعَلا- :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ........}[النساء:144], هذا خطاب مُوجَّه لأهل الإيمان ليحسموا موقفهم وليعرفوا أنه لا تهاون في هذا الأمر, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ........}[النساء:144], تحذير مِن الله -تبارك وتعالى- ونَهْي جازم إياكم أنْ تتخذوا الكافرين أولياء أنصار وأحباب, {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}, ولاية المؤمن يجب أنْ تكون للمؤمن, الكافر ليس له إلا العداوة الكافر ليس له عند أهل الإيمان إلا البغضاء والعداوة, {لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {........ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا}[النساء:144], سؤال للعتاب وللتوبيخ وللتحذير, أي هل تريد أنْ تجعل لله عليك سلطان؟ بمعنى أمر ظاهر قاهر يؤاخذك به ذنب واضح نُهيت عنه فإنْ فعلته يبقى أنت الآن قد جعلت لله عليك سلطان يؤاخذك به, لأنَّ هذا ذنب لا شُبْهَة فيه حَذَّرَ منه الرب -تبارك وتعالى- فاتخاذ المؤمن للكافر ولي له الله يبغضه ولا يرضاه ولا يحبه, وقد نَهَى عنه كل النهي, قال : {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}[آل عمران:28], فالأمر جاء في هذا التحذير وجاء النهي عن مطلق الجلوس مع الكفار حينما يخوضون في آيات الله, حتى وإنْ لم تخض معهم ولكن كنت ساكتًا لم تنكر عليهم مجرد الجلوس معهم, الله -تبارك وتعالى- قال: {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ}, فالأمر قد أوضحه الله -تبارك وتعالى- وأنه لا وِلَاية بين المؤمن والكفار, فالله هنا يَنْهَى عنه, ثم يبين أنَّ المؤمن إذا فعل ذلك فقد جعل على نفسه حُجَّة قاهرة يؤاخذه الله -تبارك وتعالى- بها ويعذبه بها قال : {........ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا}[النساء:144], {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ........}[النساء:145], تأكيد منه -سبحانه وتعالى- أنَّ المنافق أعظم مِن الكافر جُرمًا وأَشَر منه, ولذلك عقوبته أَشَر مِن عقوبة الكافر, {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ........}[النساء:145], النار طبقات كل طبقة تحت الأخرى تزداد عنها عذابا وحرارة -عياذا بالله-, والدَّرْك الأسفل مِن النار؛ قاع النار, وهذا جعله الله -تبارك وتعالى- لأهل النار, ففوقهم طبقات, طبقات مِن الكفار هم في أسفلهم -عياذا بالله-, {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا}[النساء:145], لن التي تنفي الفعل في المستقبل مطلقاً, {لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا}, لن تجد لهم مَن ينصرهم , مَن يقوم معهم لينصرهم هذا لن يكون فإنه لا أحد يستطيع أنْ يدفع بأس الله -تبارك وتعالى- وعقوبته عن أحد إذا كان الله يريد به بأسًا وبه عقوبة مَن الذي يستطيع أنْ يقف أمام الرب ويدفع عقوبة الرب -سبحانه وتعالى-؟ {وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا}, ينصرهم .
قال جلَّ وعَلا- : {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء:146], {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا}, عن النفاق, {وَأَصْلَحُوا}, في أعمالهم فاستقاموا على أمر الله -تبارك وتعالى-, {وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ}, تمسكوا بالله -تبارك وتعالى- بحبله, برسوله, بدينه, كل هذا اعتصام بالله, اعتصام برسول الله, اعتصام بكتاب الله -تبارك وتعالى-, اعتصام بدين الله -تبارك وتعالى-, تمسكوا بذلك, { وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ}, عملهم كله دينهم كله إنما أخلصوه لله لا يريدون إلا وجه الله, قال -جلَّ وعَلا- : { فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} في الدنيا والآخرة مع المؤمنين حُكْمهم مع المؤمنين, وفي الآخرة مع المؤمنين كذلك في الجنة, {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}, بُشْرَى مِن الله -تبارك وتعالى- بأنه سوف يؤتي المؤمنين أجرًا عظيما يعني على عملهم الصالح .
نقف هنا ونستغفر الله تبارك وتعالى مِن كل ذنب والحمد لله ربِّ العالمين.