الإثنين 21 شوّال 1445 . 29 أبريل 2024

الحلقة (137) - سورة النساء 147-152

الحمد لله ربِّ العالمين, وأصلي وأسلم على عبد الله والرسول الأمين. وعلى آله وأصحابه, ومَن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- : {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا}[النساء:147] جاءت هذه الآيات بعد الوعيد الذي توعد الله -تبارك وتعالى- به المنافقين وتحذيره -سبحانه وتعالى- عباده المؤمنين مِن أنْ يُوالُوا الكفار, وذلك أنَّ مُوالاة الكفار هي طريق النفاق وهي عمل المنافقين, حيث يقول -تبارك وتعالى- : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا}[النساء:144], أي يؤاخذكم به ويعذبكم به, فإنَّ موالاة الكفار كُفْرٌ بالله -تبارك وتعالى-, فَمَن أَحَبَّ أعداء الله -جلَّ وعَلا- ووالاهم فقد عادى الله -تبارك وتعالى- فإنَّ الله يُبْغِضُ أعداءه ولا يواليهم, فَمَن ذهب ليوالي أعداء الله -تبارك وتعالى- ومَن يبغضهم الله فلا شك أنه قد وضع نفسه ليكون عدوًا لله -تبارك وتعالى-, فلذلك هَدَّدَ الله -تبارك وتعالى- أهل الإيمان وقال لهم بصيغة سؤالا الإنكار : {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا}[النساء:144],فتوالوا أعدائي, {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا}[النساء:145], المنافقون أشر مِن الكفار المستعلنين, وذلك لشرور كثيرة, أولًا لأنهم جمعوا بين الكفر في قلوبهم والكذب فيما يقولونه بألسنتهم وما يُظْهِرُوه بأعمالهم الكاذبة, إنْ صَلُّوا مع المسلمين, وجاهدوا مع المسلمين, وقاتلوا مع المسلمين, في كل هؤلاء فهم كاذبون, ثم إنهم بنفاقهم يَطَّلِعُوا على عورات المسلمين يتزوجوا منهم, والحال أنهم كفار قلوبهم وموالاتهم ووجههم إنما هي للكفار, فجمعوا بين الكفر وبين مفاسد عظيمة وأضرار عظيمة على أهل الإيمان, فلذلك كانت عقوبتهم أشد يوم القيامة, {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا}[النساء:145], ينصرهم دون الله, قال -جلَّ وعَلا- : {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا}, تابوا عن النفاق والكفر هذا وأصلحوا ما أفسدوه, ساروا في الصلاح كل الذي أفسدوه بعد ذلك قبل هذا أصلحوه, {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ}, بدينه وبكتابه, أصبحت موالاتهم لله -تبارك وتعالى- ولرسوله, {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ}, جعلوا دينهم لله كله خالص لله -عزَّ وجلَّ- لا يعملون عمل إلا يريدون به إلا وجه الله لا يريدون به هذه الدنيا, {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ}, في كل المواقف حكمهم مع المؤمنين هنا, فرحمات الله التي تتنزل على المؤمنين في الدنيا تشملهم لأنهم أصبحوا مع المؤمنين, وكذلك هم في الآخرة مع المؤمنين مصيرًا ومآلًا, {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}, وعدًا منه -سبحانه وتعالى- لأهل الإيمان, فقال : { وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ } ما قال يؤتيهم وإنما ذكر هنا سبب العطاء وسبب المِنَّة وأنه الإيمان, {أَجْرًا عَظِيمًا}, الجنَّة أجرٌ عظيم أعدَّه الله لأهل الإيمان.

 ثم قال جلَّ وعَلا - : {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ .........}[النساء:147], أي ليس لله -سبحانه وتعالى- حاجة في أنْ يُعَذِّبَ  عباده وخَلْقَهُ, ما لله حاجة في أنْ يعذبكم لا يريد أنْ يَتَشَفَّى بذلك ولا أنْ ينتفع بذلك, بل الله -تبارك وتعالى-  فوق أنْ ينفعه أحد أو يضره أحدٌ -سبحانه وتعالى-, وإنما أمركم لما يصلحكم, والرَّب -تبارك وتعالى- شاكرٌ عليم , مَن قام بالإيمان به وأدى ما فرضه الله -تبارك وتعالى- عليه فإنَّ الله شاكر أي إنَّ الله -تبارك وتعالى- يكتب له عمل هذا يزيده منه يعطيه أضعاف ما فَعَل يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة وهو عليم بعباده -سبحانه وتعالى-, {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ........}[النساء:147], لا يريد الله -تبارك وتعالى- إلا أنْ يؤمنوا به والإيمان بالله -تبارك وتعالى- أي تصديق بحق وعمل بمقتضى هذا التصديق, فالله حق والجنة حق والنار حق, فالإيمان بالله -تبارك وتعالى- تصديق بحق وشكر لله -عزَّ وجلّ- على النعمة فإنَّ الله -تبارك وتعالى- هو الخَلَّاق العليم الموجد الرب الإله الرحمن الرحيم الذي أوجدك ورباك ورزقك وكل خيرٍ منه -سبحانه وتعالى- فاشكر نعمة الله طلب الله لا يطلب الله -تبارك وتعالى- مِن عباده إلا أنْ يشكروا بنعمته -سبحانه وتعالى- يعترفوا بها بقلوبهم ويصرفوها, حيث كَتب لهم الله وحيث شرَعَ لهم الله -تبارك وتعالى-, {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا}[النساء:147], لِمَن آمن وشكر واعترف بهذه النعمة يزيده الله -تبارك وتعالى-, {لئن شكرتم لأزيدنكم}, فالله شاكرٌ -سبحانه وتعالى- مِن أسماءه -سبحانه وتعالى- الشكور كثير الشكر أي يقابل الإحسان بإحسان -سبحانه وتعال- العبد المحسن يقابله بإحسان عظيم جدًا, {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ}[الرحمن:60], قال الله -تبارك وتعالى- ذلك بعد أنْ ذَكَرَ وقَصَّ في سورة الرحمن ما أعده لخواص أولياءه, {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}[الرحمن:46], وذَكَرَ الله -تبارك وتعالى- ما في هاتين الجنتين, ثم قال -سبحانه وتعالى- : {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ}[الرحمن:60], أي هل نجازي المحسن إلا بإحسان, فالله شاكر -سبحانه وتعالى- عليم بِمَن يستحق أنْ يُجْزِلَ له العطاء -سبحانه وتعالى-, هذه الآية كانت ختام لهذا الفاصل في بيان أنَّ المؤمن يجب أنْ يؤمن, ينخرط في سلك الإيمان ولا يخرج عن هذا الإيمان بشئ ومَن خرج عنه بشئ فقد كفر, ثم واقع هؤلاء المنافقين المتذبذبين ثم هذا الحسم في هذه القضية هو أنَّ المؤمن يجب أنْ يكون في صف أهل الإيمان موالي لأهل الإيمان ويبتعد عن صف الكفار .

فاصل جديد قال -تبارك وتعالى- : {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا}[النساء:148], {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا }[النساء: 149], {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ}, الجهر ضد الإسرار الإعلان بالسوء {مِنَ الْقَوْلِ}, كالسب والشتم وغير ذلك مما هو داخل في السوء, كلمة السوء ما يسوء هو سوء في نفسه ويسوء صاحبه, {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ}, قال -جلَّ وعَلا- : {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ}, أي إلا مَن ظلم يجوز له أنْ يجهر بالسوء, فيدعو على ظالمه, فيشتكيه يرفع مظلمته إلى الحاكم ويشتكي, ويقول فعل بي كذا وفعل بي كذا, ويقول ظلمني, وكذلك يشتكي إلى الناس  لِمَن يستطيع أنْ يعاونه في دفع هذا الظلم, {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ}, أو يجهر بالسوء لِمَن ظلمه ردًا لإساءته بإساءة, لكن لا يفتري عليه لا يكذب عليه لا يزيد عليه لا يسب أباه ولا أمه فإنَّ هذا مِن أكبر الكبائر كما في الحديث : «إنَّ مِن أكبر الكبائر أنْ يلعن الرجل والديه, قالوا كيف يلعن الرجل والديه يا رسول الله؟ قال يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه», فهؤلاء كل منهم قد ارتكب كبيرة المتسبب والساب .

{إِلَّا مَنْ ظُلِمَ}, فهذا يدعو له أنْ يجهر بقول السوء لِمَن ظلمه, إمَّا مباشرة رد الإساءة بإساءة وإما لحاكم وإما لِمَن يستطيع أنْ ينصره, {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا}, جاء ختام هذه الآية فيه تذكير بأنَّ الرَّب سميع لكل ما يقوله خلقه -سبحانه وتعالى- عليم بأحوالهم, وفي هذا ترغيب وترهيب, ترغيب للمظلوم أنَّ يا أيها المظلوم دعاؤك عند السميع -سبحانه وتعالى- لا تَخَف وإنْ كنت مظلوم وجَهَرْتَ لله -تبارك وتعالى- أو دعوت الله -جلَّ وعَلا- فإنَّ الله يسمعك -سبحانه وتعالى- ويستجيب, قد جاء في الحديث : «ثلاثة لا ترد دعوتهم منهم المظلوم», وأنَّ الله يقول لدعوة المظلوم : (لأنصرنك ولو بعد حين), كذلك فيه ترهيب لِمَن يجهر بالسوء مِن القول ظلمًا وعدوانًا وكذلك للظالم, فالله سميع عليم لكل أعمال خَلْقِهِ سبحانه وتعالى وأقوالهم .

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا}[النساء:149], {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا}, أي خير؛ كلمة حسنة, صدقة, صلاة, صيام, زكاة, حج, أي خير تبدوه وتظهروه, {أَوْ تُخْفُوهُ}, أي عمل مِن أعمال الخير تخفونها صدقة خفية, موعظة في السر بينك وبين مَن تعظه, خدمت أحد مِن الناس أعنته ولا يَطَّلِع على هذه المعونة إلا الله, ثم هذا الذي أعنته أي عمل مِن أعمال الخير  أخفيته, {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا},  {أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ}, أساء إليك, إنسان فكنت قادر على أنْ تقابل سيئته بسيئة ترد عليه إنْ كانت الإساءة قول تعاقبه عقوبة مكافئة لعدوانه, ولكنك لم تفعل هذا وإنما عفوت عنه, عفوت عن سوئه, الله -تبارك وتعالى- قال : {......... فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا}[النساء:149], أنت قد فعلت فعلًا يحبه الله -تبارك وتعالى- ومِن صفة الله تبارك وتعالى أنه عفو كثير العفو قدير مع قدرته -سبحانه وتعالى- لكن الله -تبارك وتعالى- يُسَب ويُشْتَم ومع ذلك يعفو عن مَن فَعَلَ ذلك بأسباب التوبة قد يمهله -سبحانه وتعالى- يمكن هذا الفاعل لا يعاقبه فهو عفو كثير العفو سبحانه وتعالى- كم مِن الكفار المعاندين الذين سبوه نسبوا له الولد وقاتلوا أولياءه وفعلوا وفعلوا إلا أنهم تاب الله -تبارك وتعالى- عليهم ورجعوا هذا فعفى الله -تبارك وتعالى- عنهم مع قدرته -جلَّ وعَلا- على عقوبتهم فكأن هذا توجيه للعبد أنْ يعفو وأنْ يتصف بهذا الخُلُق الذي يحبه الله -تبارك وتعالى- والذي هو مِن صفة الرَّب -تبارك وتعالى- فالله -تبارك وتعالى- رحمن ويحب مِن عباده أهل الرحمة, وعفو ويحب أهل العفو -سبحانه وتعالى-, وكريم ويحب أهل الكَرَم -جلَّ وعَلا-, وحليم ويحب مِن عباده الحليم -سبحانه وتعالى-, وهو صبور ويحب مِن عباده أهل الصبر -سبحانه وتعالى-, فهذا حض على هذا الأمر ببيان أنَّ الله هكذا ولا أحد أصبر على أذى مِن الله -تبارك وتعالى- أي انظر يا مَن تُشْتَم أو تُسَب كلك أسوة هذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا جاءه أذى مِن بعض  الجهلة كان يقول رحم الله موسى قد أوذي بأكثر مِن هذا فصبر, فيتمثل بموسى -عليه السلام- الذي أوذي مِن بني إسرائيل بأذى عظيم وصَبَرَ على هذا الأذى تأسي بأهل الصبر, والله -تبارك وتعالى- هنا يدعونا إلى أنْ نعفو ونصفح ويُخْبِرُ -سبحانه وتعالى- أنه مع قدرته على عباده -سبحانه وتعالى- وأنه قادر أنْ ينزل العقوبة في التو والحال على كل مَن أساء إلى الرَّب -تبارك وتعالى-, شتم الرب أو يشتمني بني آدم وليس له ذلك يقول أنَّ لي ولد وأنا الواحد الأحد الذي لم أولد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد, فَمَن يقول لله ولد أو يفتري على الله لا شك أنه بقدرة الله -تبارك وتعالى- أنْ يُعاجِل له العقوبة وأنْ ينزلها عليه في الحال ولكن الله حليم -سبحانه وتعالى- لا يعجل له العقوبة وقد يتوب عليه قد يأتي الوقت الذي يتوب هذا, فيتوب الله -تبارك وتعال- عليه {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا}, مع عفوه فهو قدير -سبحانه وتعالى-  مع قدرته فإنه يعفو -جلَّ وعَلا- .

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا}[النساء:150], {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا }[النساء:151], هذا الفاصل مع هؤلاء المراوغين مِن أهل الكتاب مِن النصارى واليهود, وكذلك مع أهل الرَّوَغَان مِن أهل النفاق, {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ ......... }[النساء:150], مَن قال أُومِن ببعض الرسل وأكفر ببعض, هذا كافرٌ بالله -تبارك وتعالى- بل هو كافر أولًا بالرسول الذي يَزعُم الإيمان به, لأنَّ هذا الرسول الذي هو يزعم الإيمان به كموسى -عليه السلام- هو قد أَخْبَرَ عن الرسل السابقين وأَخْبَرَ عن الرسل اللاحقين, وموسى نَفْسه مؤمن بهؤلاء الرسل الذين يأتون, مؤمن بعيسى, مؤمن بمحمد -صلوات الله والسلام عليه- مُبشِّرٌ بمحمد -صلوات الله وسلامه عليه- ,فَمَن كَفَرَ بمحمد وادعى الإيمان بموسى كَفَرَ بموسى كذلك هو كافر بموسى ثم هو كافر بالله -تبارك وتعالى- لأنَّ الله هو الذي أرسل هؤلاء الرسل جميعًا -صلوات الله والسلام عليهم أجمعين-, فهو كافرٌ بالجميع .

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ}, هذا حقيقة أمرهم, {وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ}, الله ورسله أي الإيمان بهم شئ واحد, فكل رسول أرسله الله -تبارك وتعالى- هذا رسوله إنْ كفرت به كفرت بالله -تبارك وتعالى-, {وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ}, أي بعض الرسل,{وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} {وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} سبيلا بين هذا يؤمن بما يشاء مِن الرسل, ويكفر ِبمَن يشاء ويتخذه سبيل كما يشاء, والحال أنَّ سبيل الله -تبارك وتعالى- سبيل واحد كل الرسل وكل أهل الإيمان إنما يسيرون في طريق واحد أمةٌ واحدة ربها واحد, وكل هؤلاء الرسل دالون على الله -تبارك وتعالى- ومنخرطون في هذا السبيل. قال -جلَّ وعَلا- : { أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا}, هذا هو الكفار الحق أي أنَّ إيمانه ببعض ما آمن به مِن مسائل الإيمان ومِن الرسل كُفْر, فهذا الكافر على الحقيقة أي الذي كأنه لا يستحق أنَّ يسمى كافرًا إلا هذا, فهذا الذي آمن بالبعض وكفر بالبعض قال -جلَّ وعَلا- : {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا}, {وَأَعْتَدْنَا} أعددنا والإعداد هو التهيئة والتحضير والإيجاد للكافرين, {عَذَابًا مُهِينًا}, ذَكَرَ العذاب المهين هنا ليناسب الجُرْم, وذلك أن جرم هؤلاء فيه نوع من الاستهزاء بالله -تبارك وتعالى- والاستهزاء برسالاته والتفريق بين الله -تبارك وتعالى- ورسله, فلما كان في هذا كان ناسب وعيدهم بالعذاب أنْ يكون {عَذَابًا مُهِينًا}, الإهانة الإذلال, الإهانة أنْ يذلوا ويخزوا ويُنَكَّلُ بهم تنكيل ليس للإيلام فقط بل كذلك للسخرية بهم والاستهزاء بهم, وإهانتهم وقد جاء وصف أنواع مِن هذه الإهانة بأنه إهانة حسية كالدَّز إلى النار والدع, {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا}[الطور:13], والسحب على الوجوه, {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ}[القمر:48], وتقييد الأيدي والأرجل, صَبُّ الحميم على رأسه ضَرْبُهُ بالمقامع هذا كله إخزاء له وإهانة مع التقريع والتوبيخ أيضًا بالمعنى فمعنويا أو نفسيًا وحسيًا وبدنيًا, لما ذَكَرَ الله هذا ذَكَرَ المقابل له فقال : {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}[النساء:152], {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ}, جميعًا كل ما جاءه عن الله وعن رسوله آمن به, {وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} لم يُفرِّقُوا بين أحد مِن الرسل ما قالوا نؤمن بهذا الرسول ونترك هذا الرسول, {أُوْلَئِكَ}, إشارة مِن الله -تبارك وتعالى- لهم بالبعيد إشادة بهم ورفعا لمنزلتهم, {سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ}, سوف يؤتيهم أي الرَّب -سبحانه وتعالى- أجورهم على الإيمان والطاعة والاستجابة لأمر الله -عزَّ وجلّ-, {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}, لذنوبهم -سبحانه وتعالى-, فيسامحهم في الذنوب التي ارتكبوها, ويوفي لهم أجورهم -سبحانه وتعالى- على الأعمال الصالحة التي عملوها, إذًا عملهم الصالح يوفونه, وكذلك ما عملوه مِن أعمال سيئة يغفرها الله -تبارك وتعالى- ويمحوها عنهم ثم بَيَّنَ الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك عناد أهل الكتاب في مجابهة النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-, قال -جلَّ وعَلا- : {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا}[النساء:153], {يَسْأَلُكَ}, للنبي محمد -صلوات الله وسلامه عليه-, {أَهْلُ الْكِتَابِ} مِن اليهود والنصارى, {أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ}, قالوا لن نؤمن لك إلا إذا أنزلت علينا كتاب مِن السماء هذا مِن جملة مقترحاتهم, فمرة يقولون : {إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ}, ومرة يقولون: لن نؤمن لك حتى تنزل علينا كتابًا من السماء كتاب مكتوب مِن السماء كما نَزَلَ لموسى كتاب الألواح مكتوب ونازلة مِن السماء, قال -جلَّ وعَلا- : {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ}, أي هذا الذي سألوه لك هو بالنسبة لما سأله أسلافهم السابقين أقل مِن هذا, {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ}, ليس كتاب مِن عند الله لا, فقد طلبوا أنْ يروا الله بذاته -سبحانه وتعالى- أنْ يروا الله جَهْرَة بدون أي حاجز أو حائل أي يرونه بأعينهم هكذا عيانًا بيانًا, {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً}, لموسى, قال -جلَّ وعَلا- : {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ}, أي لمَّا عاندوا العناد, وسألوا هذه الآيات لنبيهم موسى على وجه الإعنات أخذهم الله -تبارك وتعالى- بالصاعقة, الصاعقة نزلت عليهم مِن السماء فصعقتهم ثم إنَّ الله أحياهم بعد ذلك, {بِظُلْمِهِمْ}, بسبب ظلمهم, وهذا مِن الظلم وهو العناد ما اكتفوا بالآيات التي أنزلها الله وأجراها على يد موسى آيات عظيمة منذ أنْ بدأ موسى رسالته ودعوته إلى فرعون كان معه عصاته التي يلقيها والتي تصير حَيَّة, ويده السمراء يخرجها فتصبح بيضاء, وما أجراه الله على يديه مِن ضَرْبِ الفراعنة بصنوف الآيات, {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ}[الأعراف:133], ثم ما ضَرَبَ به موسى البحر فانشق البحر الله يقول : {فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ}, أي مِن الماء, {كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ}, كالجبل العالي, وساروا في طريق يابس في وسط البحر في نفس الوقت, كل هذه الآيات رأوها ومع ذلك قالوا : {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً}, هذا عناد؛ هؤلاء ناس معاندون ليس القضية قضية فقد دليل أو بحث عن دليل ليؤمنوا, وإنما هي مُعاندة للرسل فيقول الله -تبارك وتعالى- أسلافهم  أكثر كفرًا منهم.

 قال -جلَّ وعَلا- كذلك : { ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ}, {اتَّخَذُوا الْعِجْلَ}, والمفعول به محذوف لقباحته اتخذوا العِجْلَ إلهًا, عِجْل جعلوه إلها الذي صنعه لهم السَّامِرِيّ مِن الذهب الذي سلبوه مِن المصريين, وجه سبكه وأَخَذَ أَثَر مِن أَثَرِ جبريل ووضعه فيه ففتنوا, بأنْ أصبح هذا التمثال الذهبي العجل الذهبي هذا حَيّ قال -جلَّ وعَلا- : {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ}[طه:88], نَسِىَ موسى أنَّ إلهه عندنا وذهب يبحث عن الرب في الجَبَل, وهو هنا موجود هذا هؤلاء مجرمون لا عقل لهم ولا فَهْم لهم, وقد عبدوا هذا العِجْل واتخذوه إله لهم مِن دون الله.

 الله يقول : {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ}[الأعراف:148], يقول هؤلاء أي عَبَدَة العِجْل السابقين هؤلاء وهؤلاء على منوال أؤلئك, أي لا تبتئس كأن الله يُعزِّي رسوله -صلوات الله والسلام عليه- عن جحود وكفر وعناد اليهود الذين يقولون له لن نؤمن لك حتى تنزل لنا كتاب مكتوب مِن السماء مثل التوراة, قال -جلَّ وعَلا- : { ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ }, عَفَاِ الله -تبارك وتعالى- عن هذا العناد والكفر بعد أنْ فَرَضَ الله -تبارك وتعالى- عليهم أنْ يتوبوا إليه بهذه الصورة التوبة التي فرضها عليهم لكن عفا الله -تبارك وتعالى- عنهم جعل لهم باب للعفو ما أخذهم مؤاخذه يدخلهم بها النار, ولا جعل لهم طريق يخرجوا مِن هذه الجريمة الكبرى التي سقطوا فيها, قال -جلَّ وعَلا- : { وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا}, حُجَّة قاهرة عليهم, حُجَّة بيانية وكذلك حُجَّتِهِ الحسية المادية التي أعطاها الله -تبارك وتعالى- إياها هذه هي.

 كذلك مِن جملة جرائمهم قال -جلَّ وعَلا- : {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}[النساء:154] سلسلة مِن الجرائم ومعاندة الرسل, {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ}, الطور؛ الجبل لميثاقهم لما أتتهم الأحكام التوراة وقال لهم موسى هذه عهد الرب إليكم قوموا به قالوا لا لا نقوم به فعند ذلك أُمِرَ جبريل أنْ  يقتلع جبلًا مِن الجبال, ويضعه على رؤوسهم وقيل لهم اقرُّوا بما في هذا العهد والميثاق وإلا أنزل الله الجبل على رؤوسكم, فيقتلكم قال -جلَّ وعَلا- : {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ ........}[الأعراف:171] {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ}, أي ما آتاكم الله, {بِقُوَّةٍ}, بعزم وتصميم وجد فيه, {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}, فالله يقول : {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ }وكذلك : { وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ }جريمة إثر جريمة, { وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} .

سأتوقف هنا إنْ شاء الله ونعود إلى هذه الآية في الحلقة الآتية إنْ شاء, الله أقول قولي الله واستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب وصلى الله علي عبده ورسوله محمد .