الأربعاء 01 ذو القعدة 1445 . 8 مايو 2024

الحلقة (14) - سورة البقرة 22-25

تفسير الشيخ المسجل في تلفزيون دولة الكويت

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبدالله ورسوله الأمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين، وبعد؛ فيقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:21] {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة:22] {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة:23] {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}[البقرة:24]

مضى في الحلقة الماضية أنّ الله -تبارك وتعالى-  نادى عباده في أول أمرٍ، في كتاب الله -تبارك وتعالى- بقوله {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:21]

وهذه هي خلاصة، وإجمال الدعوة التي بُعث بها نبينا محمد -صلوات الله وسلامه عليه- بل وهى دعوة الرسل جميعًا {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } ؛ ثم أخبر -سبحانه وتعالى- أنّ الرب الإله الذى يدعوهم إلى عبادته هو الذي خلقهم، وخلق الذين من قبلهم، وهو الذي جعل لهم الأرض فراشًا قال تعالى { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا}  في صفته، في ذاته، في حقه، وأنتم تعلمون أنّ الله هو فاعل ذلك وحده -سبحانه وتعالى- ، وأنّه لا شريك له في ربوبيته، فكذلك لا تشركه في ألوهيته -سبحانه وتعالى-  ثم قال  -جل وعلا-  { وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِه}ِ  هذه بيان، وتحذير من الرب -تبارك وتعالى- ودعوة إلى  كل من يشك في أنّ الله -تبارك وتعالى- قد اختار عبده ورسوله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بهذه الدعوة ، فليعارض القرآن الذي نزل عليه بقرآن مثله؛ قال -جل وعلا- وإن كنتم- أي  أيها الناس في ريب الريب هو الشك مما نزلنا على عبدنا، يعني من الذى نزلناه على عبدنا، وقال نزلنا، وذلك أنّ القرآن كان يتنزل  منجمًا إمّا سورة كاملة أحيانا، وإمّا  آيات متفرقات، أو بعض آية أحيانا ممّا نزلنا على عبدنا، وعلى عبدنا أي محمد -صلوات الله وسلامه عليه-  وصفه الله  -تبارك وتعالى-  بأنّه عبد، وهذا من المقامات الشريفة مقامات إنزال الكتاب، وهذا تعظيما للنبي -صلوات الله وسلامه عليه- ، وتشريفًا فإنّ مسمى العبد هو أعظم وأرفع  الأسماء التي يمكن أن يتسمى بها إنسان فالله -تبارك وتعالى-  شرّف محمدًا -صلى الله وسلم- على سائر خلقه، وذلك بأنّه عبده فجعله عبدًا له عبد على الحقيقة، ووصفه الله -تبارك وتعالى-  بأنّه عبد في  أشرف المقامات كذلك ليبين عظمة  هذا المسمى كما قال -جل وعلا- {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا}[الكهف:1] في إنزال الكتاب، وكذلك سماه بالعبد في الدعوة فقال: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا}[الجن:19] وفى الإسراء وهو من المقامات الشريفة  قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا }  محمد -صلوات الله وسلامه عليه- الذي حقق العبودية لله -تبارك وتعالى-كأمثل ما يمكن تحقيقها من إنسان فهو إنسان كامل، العبد الكامل لله -سبحانه وتعالى- ونسب الله -تبارك وتعالى-  النبي إلى نفسه بأنّه عبده، وإلى الرب تبارك وتعالى تشريفًا وتعظيمًا له قال { مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } أي محمد -صلوات الله وسلامه عليه-  { فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ }  من مثل هذا المنزل على النبي -صلوات الله وسلامه عليه- السورة هي هذه القطعة من القرآن المبدوءة ببسم الله الرحمن الرحيم، والتي لها خاتمة ونهاية، وسور القرآن إما سور طوال كالبقرة، وسور قصار كالمعوذتين، وقل هو الله أحد؛ قيل إنّها سميت سورة من سورة البناء، وسورة البناء  كل قطعة فيه فكأنها، يعني هي جزء من هذا البناء؛ بناء القرآن فهذه السورة التي هي قطعة من القرآن الله –تبارك وتعالى- تحداهم هنا بأن يأتوا بسورة من مثل سور القرآن، وهذا تنزل معهم أثر تنزل كان قبل هذا الله -تبارك وتعالى- يعني مما أنزل على عبده الأول أن تحداهم بقرآن كالقرآن كما قال - تبارك وتعالى- {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لا يُؤْمِنُونَ}[الطور:33] {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}[الطور:34] بحديث مثل القرآن ثمّ تنزل الله-تبارك وتعالى-معهم إلى عشر سور{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} عشر سور مثل القرآن ثم تنزل معهم إلى سورة واحدة مثل القرآن { قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ } سورة مثل القرآن ثم هذا يعني المرحلة الرابعة تنزل الله -تبارك وتعالى- معهم إلى أن يأتوا بسورة من مثل القرآن أي مما يماثل مثله أو يشابه ما يشابهه آخر شيء حتى { وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ } من ما يماثل، مما يشابه، أو يماثل ما يماثله{ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وادعو شهدائكم، يعني الذين يشهدونكم أيًا كانوا هؤلاء الشهداء الفصحاء، البلغاء، الجن كل من تستطيعون، يعني  أن تدعوهم ليساعدوكم في هذا الأمر، ويظاهروكم عليه فادعوهم  { وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ } غير الله -تبارك وتعالى- ممن تتصورون أن يعينوكم في هذا الأمر{ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} في أنّ النبي كاذب، وأنّ هذا القرآن تقوله، وأنّه ليس من عند الله، وأنّه ليس عبدالله المرسل من عنده إن كنتم صادقين في زعمكم هذا فإذا عارضوا آياته فإنّ النبي جاء بكلام من جنس كلامكم العربي بلغتكم التي تتكلمون بها  بأساليبكم في البيان بحروف المعجم التي تتكلمون بها لم يأت بشيء ثم هو الأمر ممّا تحسنون فإنّ البيان صنعتكم، ومهنتكم، وشغلكم، واهتمامكم فهاتوا كلامًا مفترًى تعارضون به كلام الرب -تبارك وتعالى- ثمّ بين الله تبارك وتعالى- ما يترتب على التكذيب بالرسالة التي أرسل بها رسوله محمدًا –صلى الله عليه وسلم- قال: -جل وعلا-  {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا } فإن لم تفعلوا ما يأمركم الله –تبارك وتعالى- به بالتحدي أو فإن لم تفعلوا في الماضي حاولتم أن تعارضوا القرآن مثله، وفشلتم، ولن تفعلوا فيما يستقبل من الزمان كذلك ( لن) التي تنفي حدوث الفعل كله في زمن المستقبل (فلم) تنفي حدوث الفعل في الماضي لم تفعلوا ماضيًا تقلب فعل المضارع إلى الماضي، ولن تفعلوا في مستقبل الأيام فاتقوا النار؛ اتقو النار اي اجعلوا وقاية بينكم ، وبين النار، ثمّ وصف الله -تبارك وتعالى-  هذه النار التي هي النار هنا المعهودة، نار الله- تبارك وتعالى-  قال { الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة} التي تتقد بأجساد الناس والحجارة مطلق الحجارة أي حجارة وليست حجارة الوقود فقط كما قال بعض علماء التفسير إنها الكبريت فإنّ الكبريت يشتعل بل  الحجر إذا حمي عليه فإنّه ينصهر، ويصبح هو نفسه وقود {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}  أُعدت هُيئت، ووُجدت بوصفها، وحالها التي يصفها الله -تبارك وتعالى- للكافرين لتكون مآلًا لهم هذا وعيد من -الرب تبارك وتعالى- على التكذيب وعيد للمكذبين؛ الدعوة وضحت وهي أن تعبدوا الله لاشريك له -سبحانه وتعالى- الذي ليس له ند، وهو خالقكم ، وخالق كل هذا الكون الذي حولكم، وهذا رسوله قد أرسله بهذه الدعوة وان لم تفعلوا إن كنتم تُكذبون هذا النبي فأتوا بقرآن مثل هذا القرآن ، ولن تفعلوا في المستقبل إخبار من الله -تبارك وتعالى- تيئيس لهم بأن يأتوا بهذا؛ ثمّ هو دليل إضافي للنبي -صلوات الله وسلامه عليه- وذلك  أنّ عجزهم بعد ذلك في مستقبل الزمان، وإلى يومنا هذا هو دليل يضاف إلى هذه الأدلة لأنّ هذا إخبار من الله -تبارك وتعالى- أنّه لن يأتي جيل حتى بعد جيلهم يستطيع أن يعارض القرآن بمثله فاتقوا النار، فإن لم تفعلوا، ولن تفعلوا فاتقوا النار، نار الله -تبارك وتعالى- التي وقودها الناس والحجارة أُعدت للكافرين وصف النار هنا بهذه وقد وصفها الله تبارك وتعالي هذه النارفي آيات كثيرة وأخبر النبي بأنّ المقارنة بين نارنا هذه وبين نار الآخرة  أنّ نار الدنيا هي جزء من سبعين جزء من نار الآخرة قال نبينا: «ناركم هذه جزءُ من سبعين جزء من نار الآخرة فقالوا يا رسول الله وإن كانت لكافية فقال ولكن فضلت عليها»،يعني نار الآخرة على نار الدنيا «بتسع وستين جزء»

هذا بالنسبة للمكذبين أما بالنسبة للذين يؤمنون بكلام الله -تبارك وتعالي-  فقال  {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:25] وبشر البشارة هي الإخبار بما يسر الذين آمنوا هذا هو قسيم الكفار، الكفار قسم و هذا  القسم الآخر ؛ آمنوا بمعنى أنهم صدّقوا خبر الله -تبارك وتعالى- هذا المنزل وعملوا بمقتضى هذا التصديق يعني أُمروا بالخوف من الله -تبارك وتعالى- فخافوا وأُمروا بتصديق أخباره عن الغيب فآمنوا بالغيب، أُمروا بالعمل، والإذعان فقالوا سمعنا وأطعنا هذا معنى الإيمان، وذلك أنّ حقيقة الإيمان هي شهادة باللسان، وإقرار بالجنان، وعمل بالجوارح،{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}  عملوا الصالحات، الصالحات جمع صالحة، والصالحة كل ما أمر الله -تبارك وتعالي- به فهو صالح لأنّ الله لايأمر بالفساد ولايحب الفساد -سبحانه وتعالى{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90] كل ما أمر الله -تبارك وتعالى- به ممن هو حق له، أو حق لمخلوق، أو حد من الحدود كله من الصالحات، فالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، هذه منارات الإسلام، والعبادات العظمى لله –تبارك وتعالى- هذه أعمال صالحة؛ ثمّ بر الوالدين، صدق الحديث، أداء  الأمانة ، العدل، الإحسان كل هذا من معنى الصالحات {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَار} هنا أمر الله -تبارك وتعالى- رسوله أن يبشر هؤلآء الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأنّ لهم عند الله –تبارك وتعالى- يوم القيامة جنات؛ الجنات جمع جنة، والجنة البستان، وسمي جنة لأنه يجن من يدخله من تشابك أغصانه؛ فإنه إذا تشابكت الأغصان ودخل الداخل في هذا البستان فإنه يستتر عن العيون، وهذا من كمال البستان أن تتشابك أغصانه فيصبح جنةً بستانًا عظيمًا هذه الجنة وصفها الله -تبارك وتعالى- أولًا وصف سعتها بما يناسب عقلنا فقال: جنة عرضها كعرض السموات والأرض أو كعرض السماء والأرض وقال {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] وأنها درجات كما قال النبي: « إن أصحاب الجنة يتراؤن الغرف فوقهم كما تتراؤن النجم البعيد الغابر في الأفق من بعد مابين الدرجتين»  من بعد مابين درجة، ودرجة أخرى يرون من فوقهم كما نرى نحن نجمًا بعيدًا جدًا غابرًا في الأفق، فكذلك كما قال النبي: «الجنة مئة درجة» وقال:  « إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة، ووسطها ، وسقفها» وسقف الفردوس عرش الرحمن -سبحانه وتعالى- فهي بستان عظيم هيأه الله، وأوجده ليس معدومًا، وسيوجد بل هو موجود قائم مهيأ أنّ لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، الأنهار تجري من تحت هذه الجنات، يعني من تحت أشجارها، وكذلك من تحت قصورها قصور الجنة والأنهار تجري من تحتها، والله -تبارك وتعالى- أخبر أنّها أنهار، وأخبر في آية أخرى أنّها أنهار مختلفة الأشكال كما قال –تبارك وتعالى-  {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15] يعني أنّه لا يستوي هؤلاء، وهؤلاء؛ ثم قال الله -تبارك وتعالى- في وصف هذه الجنة بعد ذلك { كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} ، يعني أن أهلها أهل الجنة يتحفون إتحاف، ويكرمون إكرامًا عظيمًا جدًا، فكلما رُزقوا منها من ثمرة، أي ثمرة يُرزقون من الجنة، يعني رزق ليأكله، ويتمتع به، قالوا هذا الذي رزقنا من قبل، يعني هذه الفاكهة هي التي رزقناها من قبل في قول الله -تبارك وتعالى- من قبل لعلماء التفسير قوله، قول هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا، وقول هذا الذي رزقنا من قبل في الجنة؛ فإذا كان معنى في الدنيا يكون أنّهم يُؤتون بهذا الرزق يشبه ماخلقه الله -تبارك وتعالى-  لعباده في الأرض رمان يشبه الرمان، نخيل، وثمار، والفواكه تشبه مثيلتها مما كان في الدنيا ولكن كما قال ابن عباس ترجمان القرآن ليس في الجنة ممّا ذكر لكم إلا الأسماء المسمى ،لكن الحقائق مختلفة فقول الله -تبارك وتعالى- في الجنة فيها فاكهة ونخل ورمان، ففيها فاكهة، فيها نخل، فيها رمان، لكن هل رمان الجنة، جنة الآخرة كرمان بساتين الدنيا ما نرزقه هنا؛ فعلى القول الأول طبعا لاشك أنّ الحقائق مختلفة، لكن على القول الأول من أقوال أهل العلم يكون الشكل، يرون أنه نفس الشكل لكن في الطعوم مختلفة؛ أمّا على القول الثاني فإنّهم يقولون هذا الذى رزقنا من قبل، يعني في الجنة، فإنّه تأتيهم الثمرة اليوم كالثمرة التي أكلوا منها بالأمس قبل هذا، لكن تختلف الطعوم فلا تتشابه ثمرة مع ثمرة كل ثمرة يصبح لها طعم آخر مختلف من تجدد الطعوم وهذا بخلاف ثمار الدنيا، فإنك إذا أكلت حبة رمان هذه السنة، وأكلت حبة رمان من نفس فصيلة هذا الرمان بعد سنة، بعد عشر سنوات هو الرمان، وكذلك الرطب، وكذلك سائر الفواكه؛ فإنّ البرتقال هو البرتقال إذا كان نفس الصنف نفس هذه بعد سنين يكون هو هو، وفى الشجرة الواحدة الطعم واحد، لكن ثمار الجنة تصبح كل ثمرة إذا رُزقها العبد المؤمن تأتيه الثمرة الثانية بطعم آخر غير الطعم الذي أكله، وهذا لتجدد ملذاتهم، وكذلك تتجدد المفاجآت لهم ، وبالتالي تتجدد متعتهم دائمًا فلايسيرون على شيء رتيب يملونه، بل دائمًا تتجدد الملذة بتجدد الأوصاف على هذا النحو{ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِها} جيء لهم بهذه الثمار متشابهة، فعلى القول الأول متشابه مع ما كانوا قد رُزقوه في الدنيا، وعلى القول الثاني متشابه مع ما أكلوه قبل ذلك ولكن جاءهم بطعم جديد؛ فهذا الإتحاف، والتنوع المستمر طيلة وجودهم، ولا انقطاع لوجودهم {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} لهم لأهل الجنة فيها، في الجنة أزواج يعني زوجات جمع زوج، والزوج يطلق على الذكر، والأنثى، فالرجل زوج والمرأة زوج {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} أزواجُ مطهرة مطهرة من كل الأدران، والأقذار الحسية، والمعنوية؛ فإن أدران، وأقذار الدنيا تنتفي في الجنة، الجنة ليس فيها قذر، ولا درن بأي صورة من الصور؛ فأهل الجنة لايبولون، ولايتغوطون ، ولايمتخطون لايخرج من أنوفهم مخاط، ولايبصقون كذلك لابصاق لهم رشحهم المسك، يعني عرقهم يخرج من أجسادهم لكنه رائحة المسك ليس كرائحة عرق الدنيا، لايفنى شبابهم، ولا تبلى ثيابهم؛ فمن حيث الأدران الجنة ليس فيها قذر بأي صورة من الصور قط، لا في أجسام أهلها، ولا في هوائها، ولا تربتها، ولافي رزقها، لاتوجد ثمرة غير ناضجة أو ثمرة يصيبها تلف، لايوجد في الجنة قذر، ودرن بأي صورة من الصور، وليس فيها مايعكر الصفو، فالزوجات مطهرات من كل الأدناس الحسية، امرأة لا تحيض، ولا تبول، ولا تتمخض، ولا تتغوط, كل الأدران والقذارة التي كانت في الدنيا الحسية منتفية، ثمّ كذلك كل الأدران المعنوية، يعني لا حسد، ولا تباغض لا حسد في الجنة بين أحد ، ولايشوش عليه بأدنى تشويش {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} [الغاشية:11] ما فيها أي لغو من اللغو؛ فزوجات راضيات أبدًا لايتسخطن، ولايصبن بحسد، ولا بغيرة، ولا بنشوذ فكل ما هو من شأن الدنيا قد برأ الله -تبارك وتعالى- وطهر أهله في الجنة {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ }؛ ثمّ وهم فيها خالدون، وهم هؤلاء المؤمنين الذين عملوا الصالحات فيها في هذه الجنة خالدون، ومعنى خالدون الخلود هو البقاء بقاءً سرمديًا أبديًا لا انقطاع له وبهذا وضع الله -تبارك وتعالي- الناس أمام المسؤلية التي كلفهم بها، فخاطبهم أولًا بأنّهم مأمورون أن يعبدوا الرب، الإله، الذي خلقهم، وخلق آبائهم، وخلق من قبلهم، وأنّه هو الذي وضع لهم هذه الأرض، وصنع لهم هذه السماء التي أظلتهم، وأنزل المطر الذي به حياتهم، وأنه لاينبغي لهم أن يجعلوا له ندًا -سبحانه وتعالى- لايعتقدون باعتقاد، ولا يعطون غير الله - تبارك وتعالى- حقًا من حقوقه –سبحانه وتعالى- وأنً هذا رسوله محمد -صلوات الله عليه وسلم- وقد أنزل عليه هذه الآية القاهرة التي لا يمكن دفعها، وهي هذا القرآن المصوغ بهذه الصيغة العربية، وأنهم إن شكوا في القرآن شكوا في  أنّ النبي صادق فليأتوا بحديث مثل هذا القرآن؛ ثمّ إنهم بعد ذلك إن لم يفعلوا، فليعلموا مايترتب على التكذيب، إن هذا الكلام ليس تهويشًا، وليس مجرد دعوة لا مسؤلية وراءها، بل هذا أمر إلهي خلق الناس من أجله فمن كفر، وجحد قال: ولن تفعلوا فاتقوا النار قال: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}، كما قال -جل وعلا- { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} ؛ ثم الجهة الأخرى الذين آمنوا بذلك قال: وبشر الذين آمنوا بأنّ لهم {  وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} سورة بليغة جدًا من سور الإتحاف { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ }  أجمل ما في الجنة أن يرزقهم الله -تبارك وتعالى- هذه الزوجات المطهرات من كل الأدناس الحسية، والمعنوية، ثم وهم فيها خالدون باقوون بقاء لا انقطاع له بهذا تكون السورة قد وضعت الناس أمام الدعوة، وأمام مسئولياتهم، وحددت بعد ذلك المصير الذي سيصير الناس إليه. نقف عند هذا وصلى الله وسلم على رسوله محمد، والحمد لله رب العالين .