الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين. وعلى آلة وأصحابه، ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين. وبعد...
فيقول الله -تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }[النساء:174] هذه الآيات الثلاث من آخر سورة النساء، وقد ختم الله -تبارك وتعالى-هذه السورة بخاتمة عظيمة وهي أن وجه نداءه -سبحانه وتعالى-إلى الناس جميعًا بأن يؤمنوا بالله -تبارك وتعالى-بعد أن فصل الله -تبارك وتعالى-الأحكام العظيمة في هذه السورة بدأ الله -تبارك وتعالي- بيا أيها الناس {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}[النساء:1] نداء خطاب من الله -تبارك وتعالى-إلى الناس جميعًا أن يتقوا ربهم -سبحانه وتعالى-وذكَّر الله -عز وجل-الناس بأنه خلقهم من نفس واحدة هي آدم، وخلق منها زوجها هي حواء -عليها السلام-، وبث منهما رجالًا كثيرًا، فكل من في هذه الأرض جيلًا بعد جيل ينسبون إلى أبيهم آدم، أصل واحدة وأمهم حواء قال {.........وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}[النساء:1] ثم فصل الله -تبارك وتعالى- أحكامًا عظيمة كلها تتعلق بأن البشر هم من هذا الأصل الواحد الذي ذكرهم الله -تبارك وتعالى-به وهي أن يتقوا ربهم -سبحانه وتعالى-جاء من هذه الأحكام، أحكام أي ضعفت الناس بدأ الله -تبارك وتعالى-باليتامى ثم بالنساء ثم بعد ذلك جاءت المواريث، جاءت أحكام الزواج والمحرمات من النساء، جاءت أحكام الطلاق و ما الحكم إذا استبدل الرجل زوجًا مكان زوج؟ جاء أحكام إذا وقعت الفاحشة من المرأة وهذا قبل أن تنزل حدود، ما هو الواجب على المسلمين أن يفعلوا ذلك؟ قال{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا}[النساء:15] ثم ما حكم من يأتي الفاحشة من الرجال ؟ ثم بيان الله -تبارك وتعالى-لأنه تواب رحيم ، وأخبر جاءت تفصيل التوبة متى يقبل الله -تبارك وتعالى-توبة التائب وإنها قبل الموت وأما عند الغرغرة فلا تقبل {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}[النساء:18] ثم بعد ذلك فصل الله -تبارك وتعالى- من أحكام الزواج وأحكام الطلاق وأحكام الميراث وأحكام الحكم وإدارة البيت، فأخبر -سبحانه وتعالى-بأنه قد جعل الرجال قوامين على النساء قال{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ........}[النساء:34] ثم بعد ذلك بدأ الله -تبارك وتعالى-ببيان الإحسان إلى الناس بعد الإحسان إلى هؤلاء الذين هم في الأرحام وفي الأقارب والعدل بين الأولاد {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ }في المواريث ثم جاء بالعدل بالإحسان بين الناس قال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا}[النساء:36] فشرع -سبحانه وتعالى- وجه عباده إلى وجوب الإحسان إلى الناس، كل الناس الأولى فالأولى حتى يصبح من رافقك في طريق ولو ساعة يصبح له حق عليك، الصاحب بالجنب من صحبك ساعة من نهار أصبح له حق عليك فضلًا عن غيره ممن لم يصحبك، ثم بعد هذا البيان والإيضاح بين الله -تبارك وتعالى-انحراف اليهود وعن جادة الحق وسعيهم في إبطال هذا الدين، وكشف الله -تبارك وتعالى-هذا الأمر لعباده المؤمنين ووجه لهم الخطاب أن يؤمنوا بهذا النبي محمد الذي جاء مصدقا لما معهم قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا}[النساء:47] ثم أخبر الله -تبارك وتعالى- أن الشرك الذي وقعوا فيه لا يغفره الله، لا تغرنكم الأماني والأوهام في أنكم تقولون نحن أبناء الله ونحن أحباؤه وتقعون في الشرك، وتكفرون بالرسل وتظنون أن الله يغفر مثل هذه الذنوب {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا}[النساء:116] خطاب طويل كذلك مع أهل الكتاب، ثم بعد ذلك فصل الله -تبارك وتعالى- أحكام المنافقين وفعلهم مع أهل الإيمان وبين كثير من مواقفهم، مواقفهم أثناء الجهاد، ومواقفهم بعد ذلك، ثم بعض المتعجلين من أهل الحماسة الذين قد تحمسوا للقتال في أول يعني في مكة يوم أن كان القتال متعذرًا، ثم بعد ذلك لما فرض القتال في المدينة وأصبح القتال ممكنًا ففرضه الله -تبارك وتعالى- كما قال الله: { إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ } ثم توجيه الله -تبارك وتعالى-إلى وجوب القتال وأن هذا من حفظ الأرض ومن رفع الظلم قال: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ ........}[النساء:75-76] وبين الله -تبارك وتعالى-أحكام القتال، ثم جاءت أحكام خاصة وجاءت في هذه السورة وهي هؤلاء المنافقون الذين يكونون عند الكفار يعيشون معهم ولا يهاجرون، وفسر الله أمورهم بأصنافهم تفصيلًا ومضت السورة على هذا النحو بدءًا بهذا النداء العام، ثم كذلك ختم الله -تبارك وتعالى- هذه السورة التي اشتملت على هذه الأحكام العظيمة والنور المبين بنداء إلى الناس عامة ولأهل الكتاب خاصة، فكان النداء إلى الناس عامة قول الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ ........}[النساء:170] هذا محمد بن عبد الله هذا قد جاءكم بالحق من ربكم وهم يرون هذا الحق فإنه هذا النور، هذه الأحكام النيرة الواضحة لا يستطيعها البشر بأنفسهم دون هداية الله، أنى للبشر أن يؤلفوا كلامًا ليس بالنسبة للصياغة، إنما بالنسبة لمعنى هذا الكلام، هذا نور من الله هذا تشريع لا يعلمه على هذا العلم ولا يفصله هذا التفصيل ويبينه هذا البيان وينزله موافق للحق والعدل والإحسان إلا الله -سبحانه وتعالى- لا يمكن أن يهتدي البشر بعقولهم دون هداية الله إلى هذا العدل وهذا الإحسان وإقامة الحق على هذا النحو، يستحيل هذا فاذن هذا خطاب الله -تبارك وتعالى-وهذا نور منزل من الله {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ ........}[النساء:170] تهديد من الله {........ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}[النساء:170] ثم خاطب الله أهل الكتاب من النصارى أن ينتهوا عن الغلو الذي غلوا به في عيسى، غلوا به حتى جعلوه ابن لله تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا فقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ}هذه حقيقة رسول الله وكل من شهد وعلم حقيقة عيسى يعلم أن حاله ليس حال إله خالق رازق مبرأ عن العيب والنقص، بل شأنه شأن المخلوق المربوط، يأكل ويشرب ويخاف ويصلي لله -تبارك وتعالى-ويهرب من عدوه، ويستجير بإلهه ومولاه أن يبعد عنه هذا شر هؤلاء الأشرار الذين أذوه ويتخفى ويتوسل إلى تلاميذه أن يقفوا معه وأن يشدوا أزره وألا يخلوه، ما يمكن أن يكون من ينظر إلى تاريخه وسيرته لا يمكن أن يشهد له بأنه إله كيف يكون إله وهذا حاله ؟ من الضعف ومن الاستكانة ومن البشرية كما قال -تبارك وتعالى- {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}[المائدة:75] فالله يقول لهم: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ }خلق بالكلمة ألقاها إلى مريم، أرسل بها عبده ورسوله جبريل، وجاء جبريل تمثل إلى مريم بشر دخل عليها في محرابها، وقالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيًّا، كيف تدخل إلى هنا إلى هذا المكان؟ وهي معتكفة في هذا المكان الذي اتخذته للعبادة {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا }[مريم:19-21] فهذا أمر قد قضاه الله -تبارك وتعالى-بالكلمة لأن الله تكلم به وقال الله -تبارك وتعالى-:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[آل عمران:59] فالله يقول هذا شأن عيسى كلمة الله -تبارك وتعالى-ألقاها إلى مريم عن طريق جبريل وروح منه، عيسى روح من الله -تبارك وتعالى-جاء ينفخ الروح في هذه القلوب الميتة فيحييها بالإيمان والإسلام كما الشأن فيما سمى الله -تبارك وتعالى-فسمى جبريل روح الله -تبارك وتعالى-أرسلنا إليها روحنا وذلك أنه ينزل بالروح ما فيه حياة القلوب قال -جل وعلا-: {........ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}[النساء:171] وكيلًا متوكل لكل شئون عباده -سبحانه وتعالى- فلا يشرك الله -تبارك وتعالى-في شئون عباده أحد.
ثم قال -جل وعلا-: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ }أي ما يأنف ويستعظم أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ثم قال -جل وعلا-: {......... وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا}[النساء:172] قال -جل وعلا-: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ }يعطيهم أجورهم وافية {......... وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا}[النساء:173] ثم قال -جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا}[النساء:174] قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ في هذه السورة تمثل هذا البرهان في هذه الأحكام الطيبة الطاهرة التي لا يستطيع بشر أن يهتدوا إليها بمفردهم، لابد أن تكون هذا تنزيل من الله -تبارك وتعالى-ثم جاءهم برهان أيضا بهذه الصياغة صياغة هذا القرآن معجزة لا يمكن لبشر أن يصوغوا كلامًا كهذا القرآن ثم هذا البرهان هذا النبي بالآيات والأدلة المعجزة بما ثبته الله ونصره وصدقه بالآيات الكونية القدرية فلن يقل كلمة إلا وصدقها الله -تبارك وتعالى-ما قال سيحصل كذا ولم يحصل بل كل يصدقه الله -تبارك وتعالى-فيما يقول حتى يبين أنه رسوله حقًا وصدقًا قد جاءكم برهان من ربكم وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا نور عظيم في هذه السورة نور لأنه يهدي الطريق في هذه الأحكام الطاهرة الطيبة.
ثم قال -جل وعلا-: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}[النساء:175] فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ قسمة هنا وذكر الله -تبارك وتعالى- أهل الإيمان فقط واضرب صفحًا في هذه، يعني عن أهل الكفر قال فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ اعتصموا بالله والاعتصام التمسك واعتصامهم بالله واعتصام بكتابه وكلامه اعتصامهم برسوله، فهذا رسوله من اعتصم وتمسك بالرسول وسار خلفه فهذا اعتصم بالله اعتصام بدينه الذين أنزله، فالاعتصام بدين الله والتمسك بدين الله -تبارك وتعالى-هو اعتصام بالله -عز وجل-واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل هذا وعد من الله -تبارك وتعالى-بأن الله سيدخله برحمة منه وفضل رحمة الجنة وفضل زيادة في الجنة الذين أحسنوا الحسنى وزيادة هذا في الآخرة، ويهديهم إلى صراطًا مستقيمًا في الدنيا وقدم لله -تبارك وتعالى- الآخرة علمًا أنها متأخرة في الزمان عن الدنيا لأن هذا هو الأعظم هو الأعظم فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ثم يهديهم إلى صراط مستقيم في الدنيا، ويهديهم هنا ليس هداية إرشاد فقط بل إرشاد وتوفيق يوفقهم الله -تبارك وتعالى-إلى أن يلزموا صراطهم المستقيم ويتخذوا صراطهم وطريقهم إلى الله -تبارك وتعالى-ويهديهم إليه صراطًا مستقيمًا هذا الإخبار إخبار عظيم من الله -تبارك وتعالى-بأن هؤلاء الذين آمنوا بالله واعتصموا به، فهذه جائزتهم عند الله -تبارك وتعالى-هداية في الدنيا وهذا الثواب العظيم في جنة الله -تبارك وتعالى-ورضوانه، أما دائمًا تفيد تقسيم أما كذا وأما كذا، هنا ما ذكر الله -تبارك وتعالى- أهل القسم الأخر معروف هؤلاء هم أهل فضل الله -تبارك وتعالى-وتوفيقه إذن الآخرون الذين كفروا واستنكفوا قد بينهم الله -تبارك وتعالى-وإنما ذكر أهل الإيمان هذا تأكيد لفضل الله -تبارك وتعالى-ورحمته بهم -سبحانه وتعالى- وأهمل الباقون لأن مصيرهم معروف وهو أنهم في الخيبة والخسارة، ثم ختمت السورة بأية من الآيات آيات المواريث تكمل الآيتين السابقتين فيها، وجاءت بالاستفتاء قال الله -تبارك وتعالى-:{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ}يستفتونك؛ يستفتيك المؤمنون يطلبون الفتية والفتية هي حكم الله -تبارك وتعالى-وأمره في أمر ما والذي يستفتي النبي -صلوات الله وسلامه عليه-، النبي لا يحكم من عند نفسه وإنما يحكم بحكم الله، ولذلك قال قل لهم الله يفتيكم ليس الحكم من عندي وإنما الحكم عند الله وذلك أن الحكم الشرعي الديني كله لله، كما أن لله الحكم الكوني القدري فلا حكم لأحد مع الله خلقًا وتصريفًا كن فيكون كل لله -تبارك وتعالى-ما أحد يستطيع أن يفعل شيئاً، وأن يترك شيئًا وأن يحرك ساكنًا أو يسكن متحركًا دون أمر الله الكوني القدري، ما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن، ثم الأمر الشرعي الديني لله كذلك؛ أي افعل ولا تفعل هذا حلال هذا حرام هذا حد من الحدود لا تعدوه هذا كله لله -تبارك وتعالى-، الرسول إنما هو حاكم بأمر الله -تبارك وتعالى-لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي كما أمره الله -تبارك وتعالى-إنا أنزلنا إليك الكتب بالحق حتى في الحكم والقضاء لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمًا، يستفتى النبي في أي أمر ما من الشئون لا يحكم النبي من عند نفسه ولا باجتهاده هو، بل يأتيه حكم الله -تبارك وتعالى-هذا أيضا تعليم يعلمنا الله -تبارك وتعالى-أنه في كل الشئون الحاكم هو الله فإذا استفتي من بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- من أمرائه خلفائه من العلماء هذه الأمة، فيجب أن يعلموا أن الذي يفتي هو الله فليبحث وليجتهد المجتهد عن حكم الله -سبحانه وتعالى- ماذا يريد الله ماذا لو أن أنزل الله -تبارك وتعالى-في هذا الشأن قرآنًا وأنزل وحيًا فما يكون حكمه فيجتهد هذا ولذلك عُرف الاجتهاد بأنه بذل الجهد للوصول إلى ظن بحكم شرعي، وقيل ظن لأن الأحكام التي ليس فيها نص عن الله -تبارك وتعالى-عن رسوله وإنما هو اجتهاد، من يجتهد لا يستطيع أن يجزم ويقول إن هذا حكم الله وإنما يظن أن هذا حكم الله أن الله لو أنزل وحيًا لكان حكمه على هذا النحو فمن أصاب فله أجران أجر للتوفيق الذي وفق إليه وأجر لاجتهاده، ومن أخطأ فله أجر واحد .
{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} الكلالة هي من مات وليس له أصل وارث ولا فرع وارث، أصل اللي هو الأب ومن فوق الأب يعني كذلك من الجد وليس له فرع وارث ليس له ابن لا من الصلب ولا ابن من النسب ابن الابن، فهذا هو الكلالة إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وولد هنا يشمل الذكر والأنثى وله أخت سواء أكانت هذه الأخت شقيقة أو أخت لأب إما أخت لأم فلا الأخت لأم هذه لها يعني فرض، وقد ذكر في آية الكلالة الأولى وله أخت شقيقة من أم وأب أو لأب فلها نصف ما ترك كان ليس له إلا أخت فتأخذ نصف التركة، قال -جل وعلا-: وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ هو أي الأخ يرث أخته المتوفاة إن لم يكن لها ولد يعني ولد صلب أو ابن ابن، وهذا الأخ سواء كان شقيقا أو أخ لأب أما الأخ لأم فله يعني وضع آخر، فإن كانت اثنتين أي مات ميت عن أختين فلهما الثلثان لهما ثلثي التركة مما ترك وإن كانوا إخوة رجالًا ونساءً إخوة رجال ونساء، أي للميت فهؤلاء قال -جل وعلا- فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يرث الذكر منهم مثل حظ الأنثيين، فالبنات يرثون بالتعصيب مع الإخوة قال -جل وعلا-: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا أي يبين الله -تبارك وتعالى-لكم هذه الأحكام هذا البيان الواضح المفصل، أن تضلوا أي حتى لا تضلوا في يعني هذا الشأن وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ الله -سبحانه وتعالى- عليم بكل شيء، فهذه ميراث على هذا النحو بتفصيلاته على هذا النحو، هذا من علم الله -تبارك وتعالى-الذي أنزله إليك .
وبهذا إن شاء الله نكون قد وصلنا إلى ختام هذه السورة العظيمة سورة النساء التي اشتملت على هذه الأحكام العظيمة النيرة التي هي رحمة ونور من الله -تبارك وتعالى-{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا}[النساء:174] نور واضح بيِّن {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}[النساء:175] أسأل الله -تبارك وتعالى-بأسمائه الحسنى وصفاته العليا ان نكون من هؤلاء الذين آمنوا بما انزله الله -تبارك وتعالى-واهتدوا بهذا النور الذي أنزله -جل وعلا- على عباده والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على عبده ورسوله الأمين