الخميس 20 جمادى الأولى 1446 . 21 نوفمبر 2024

الحلقة (143) - سورة المائدة 3

الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على عبد الله الرسول الأمين, وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد, فيقول الله -تبارك وتعالى-: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[المائدة:3], هذه آيات عظيمة من الآيات الفريدة في كتاب الله -تبارك وتعالى- التي بيَّن الله -تبارك وتعالى- فيها نعمته على هذه الأمة, وكان نزولها يوم عيد عظيم وهو يوم عرفة في يوم الحج الأكبر يوم حج النبي -صلوات الله والسلام عليه- في يوم جمعة, هذه الآية أولًا جاء فيها تفصيل ما حرمه الله -تبارك وتعالى- على أهل الإيمان من بهيمة الأنعام من محرمات الأطعمة, قال -جل وعلا-: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ, حُرِّمَتْ: الفعل هُنا مبني لِما لم يُسَمَّى فاعله, ولا شك أنه المُحَرِّم هو الله -تبارك وتعالى-؛ لأنه لا يحل ولا يحرم إلا الله, والبناء هُنا لِما لم يُسَمَّى فاعله؛ لوضوح الأمر, كأنه لا حاجة إلى ذكر المُحَرِّم وذلك لأن الذي يُحرِّم من بداهة الأمر عند المؤمنين إنما هو الرب الإله الذي لا إله إلَّا هو, فهو الذي له حق التحليل والتحريم, وهو الذي يحل لعباده ويحرم ما يشاء -سبحانه وتعالى-, إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ, حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ: الميتة كل ما يموت من بهيمة الأنعام التي أحل الله لنا أكلها, كل ما يموت حدفًا فيه بدون الزكاة الشرعية بأي وسيلة أخرى من الوسائل دون الزكاة الشرعية فهي ميتة, وَالدَّمُ: وقد جاء مُقيدًا بأنه المسفوح أي ما يُسفح سواء كان وقت الزكاة أو ما يؤخذ بالفصد, يفصد عرق من الذبيحة ثم يتلقى فيها الدم, كما كانت تفعل العرب, فإن العرب كانت تأكل الدم من البهيمة الحية مع إبقاء البهيمة حية, تفصد عرق, يأتوا للبعير فيقطعوا عرق من عروقه ثم يضع عندما يشخر الدم تحته إناء حتى إذا امتلأ هذا الإناء قفلوا هذا الفصد ولحموه ثم إذا جمد هذا الدم أكلوه, فهذا الدم المسفوح سواء كان بالبهيمة وهي حية أو ما يُهدَر عند الذبح, وقد جاء هذا التقييد في قول الله -تبارك وتعالى-: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ ........}[الأنعام:145], أمَّا غير ذلك من الدم فإنه ليس بحرام, كالدم الذي يبقي في العروق بعد الذبح وتصفية البهيمة من الدم قد يبقى في عروقها شيء من الدم, أو يبقى علي اللحم شيء من الدم, فهذا ليس نجسًا وليس حرامًا أكله, كذلك الكبد فإن الكبد فيه نسبة كبيرة من الدم تكون فيه, فهو مباح كذلك وقد جاء في الحديث: «أحلت لنا ميتتان ودمان أما الميتتان فالسمك والجراد وأما الدمان فالكبد والطحال», وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ: والخنزير الحيوان المعروف نُصَّ عليه بالذات؛ لأن الله -تبارك وتعالى- حرمه وكان بعض أهل الكتاب من النصارى أباحوه, وهنا نص الله عليه؛ لشدة نجساته ولخبثه فحرمه الله -تبارك وتعالى- فقال: وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ: أي ولا شك أنه يدخل فيه كل ما هو تابع لهذا اللحم كشحمه وكبده وبقية أعضاءه, فكلها لا شك أنها داخلة في لحم الخنزير وهذه قضية إجماعية.

وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ: الإهلال هو رفع الصوت, يَقال كل من رفع صوته أهَلَّ به, ومأخوذ من الهلال وذلك لأن العرب كانت تتراءى الهلال, فإذا رأوه رفعوا أصواتهم ابتهاجًا بشهر جديد, فَسُمِّي بعد ذلك للتغليب كل رفع صوت عند أمر ما إهلالًا, والمقصود هنا: وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِه: أي ما رُفِعَ الصوت عند ذبحه كما كانت العرب ترفع أصواتها وتذبح لغير الله, فعند بداية الذبح تقول بسم اللات, بسم العُزَّى, بسم الكعبة, فتذكر اسمًا غير اسم الله -تبارك وتعالى- علي الذبيحة, فكل ما ذُكِرَ عليه اسم غير اسم الله سواء كان هذا بالإهلال الذي هو رفع الصوت به كما هي العادة والتغليب, أو كان سِرًا كذلك أسر شخص في نفسه, وعلمنا عندما ذبح على غير اسم الله -تبارك وتعالى- فهذه نجسة وذلك أنها لم تُستَحل باسم الله -تبارك وتعالى-, فإن الله الذي هو يحلها باسمه -سبحانه وتعالى- أنت لا تذبحها ولا تتسلط على هذه البهيمة إلَّا إذا أباحها الله لك الذي خلقها -سبحانه وتعالى-, فالذي خلقها هو الذي أمر أن تذبح باسمه, فإذا ذبحت لغير اسمه يصبح تعدي, وتكون هنا نجسة وهي من جملة المحرمات, ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- بعض الميتات التي تموت بغير الزكاة الشرعية, فقال: وَالْمُنْخَنِقَةُ: ما تخنق فتموت سواء تخنق باليد أو بحبل أو تخنق نفسها أو تدخل رأسها في مكان ضيق فتختنق فتموت بأي صورة من صور الخنق, وَالْمَوْقُوذَةُ: الوقذ هو الضرب على الرأس؛ ضرب يقتل, كأن تضرب بعصا أو تضرب بمطرقة أو تؤخذ وتضرب رأسها بحجر أو بالأرض, فهذا كله وقيذ فهذا هو الوقذ, فالموقوذة المضروبة على رأسها ضربة تقتلها, وَالْمُتَرَدِّيَةُ: التردي هو السقوط من مكان عالِى, كأن تكون هذه البهيمة على مكان عالي كسطح أو جبل ثم تقع فتموت بوقعتها هذه, سواء كان هي تردت بنفسها أو دفعها أحد فألقاها, وَالنَّطِيحَةُ: المنطوحة وهي ما تنطح أختها فتقتلها, شاة تنطح شاة, أو ثور ينطح غيره, أو ينطح عنز, إذًا كل ما مات بالنطح من بهيمة لبهيمة فهذا أيضا كذلك من جملة الميتات, وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ: ما ذهب إليه السبع يفترسها, والسباع كل ذي ناب مثل الأسد, الفهد, الذئب, الثعلب, فإذا عاد على شيء فنهشه ووجدناه قد قتله فهذا لا شك أنه ميتة, قال -جل وعلا -: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ: إلَّا هُنا لا شك هنا ترجع إن شاء الله عل الصحيح إلى كل هذه المذكورات, أي إلَّا ما أدركتموه من هذه المذكورات فزكيتموه ومعنى زكيتموه: أي لحقتوه قبل موته فذبحتموه ومات بالزكاة الشرعية أي بالذبح وإخراج الدم من عروقه, ثم قال -جل وعلا-: وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ: يذبح على الأنصاب, الأنصاب: كل ما يُقام من علامات للشرك سواء كان صنم, أو وثن, أو حجر, أي شيء ينصب ليعبد من دون الله, يطاف به يُتَبَرَّك به يسأل من دون الله -تبارك وتعالى- يعبد الله -تبارك وتعالى- عنده عبادة لم يشرعها كل هذه أنصاب, فكل ما ذبح عند النُصب تقَرُّب إلى غير الله -تبارك وتعالى- وذبح على غير الله -تبارك وتعالى- فكذلك ما ذبح على النصب, ثم قال -جل وعلا-: وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ, تَسْتَقْسِمُوا: تطلبوا القسمة, بِالأَزْلامِ: مفردها زلم وهي جمع, والزلم: هو السهم الذي ليس له نصل, وكانت العرب تستقسم بهذه الأزلام عن طريق القمار, وفيه استقسام ثاني عن طريق معرفة البخت والحظ, مقامرة هو كأن يأتي عشرة مشتركون في بعير مثلاً وفي عشرة أسهم, سبعة منها لا تكسب خاسرة, وثلاث أسهم تكسب, السهم المُعَلَّىْ وسهمان بعدهما هما السفيح والمنيح, المُعَلَّىْ كان من يخرج له يأخذ نصف الذبيحة, والسهمان الأخريان يأخذ الربع والربع, فالذبيحة هذا البعير يأخذه بعد ذلك الثلاثة الذين يكسبون, والسبعة يخسرون رهانهم, فهُنا استقسموا بالأزلام: طلبوا القسمة عن طريق هذه الأزلام, فهذا الذي البعير أو الشاة أو البقرة أي حيوان من الأنعام يُشْتَرَىْ ويصنع فيه هذا الصنيع, وتطلب القسمة فيه بالأزلام فهذا لا يجوز أكله؛ لأنه قُمِرَ عليه؛ لأنه دخل في القرعة والقمار فأصبح خبيث أصبح كسب خبيث لا يجوز أكله, وكذلك يكون الوجه الثاني من التفسير وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ: كانت العرب لها استقسام بالأزلام وهي أنها تريد أن تعرف الحظ والبخت المستقبلي عن طريق الأزلام وهذه ثلاثة أزلام أو ثلاثة سهام سهم مكتوب عليه افعل, وسهم لا تفعل, وسهم ليس عليه شيء ما مكتوب عليه أي كتابة, ثم يضعونها في كيس خريطة ويخلطون هذه الأسهم, ثم تكون هذه غالبًا عند كاهن و عند صنم من أصنامهم, ثم يأتي واحد الذي يريد أن يُقْدِم على عمل مستقبلي كزواج أو تجارة أو سفر أو نحو ذلك من أي عمل يريد أن يعمله فيقول لهم الأول أن أعرف حظي وبختي وأعرف قسمتي ونصيبي ثم يأتي عند الإله فيدفع لسادنه شيئا نذر أو شيء للكاهن, ثم يقول له اضرب لي السهام أريد أن أتزوج فاضرب السهام هذه, فإذا خرج افعل يقول له الألهة ترضى عنك فتزوج, وإذا خرج السهم لا تفعل يقول له الألهة غير راضية وحظك الآن سيء لا تفعل, وإذا خرج السهم الذي ليس عليه كتابة فإنه يرجع يعيد القرعة مرة ثانية, فهذا استقسام بالأزلام, وهذا نوع من الشرك؛ لأنه الظن أن هذه تعرف الغيب ولا يعرف الغيب إلا الله -تبارك وتعالى- وفيه كذلك ذهاب إلى هؤلاء الكهنة وكذلك الظن بأن هذه الآلهة والأصنام التي يصنع عندها هذا الاستقسام إنها على عِلم بشيء من الغيب, وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ, قال -جل وعلا-: ذَلِكُمْ فِسْقٌ: ذلكم ذلك إشارة إلى كل هذه الأمور فسق, أي فعل شئ من هذا الذي حرمه الله -تبارك وتعالى- فسق, والفسق: هو الخروج عن الطاعة, فسق بمعنى خرج عن الطاعة, ومنه سميت الفارة فويسقة سمَّها النبي الفويسقة؛ وذلك لأنها تخرج من جحرها لتعيث الفساد, ذَلِكُمْ فِسْقٌ, ثم قال -جل وعلا-: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ: اليوم هو الذي نزلت فيه الآية على النبي -صلوات الله والسلام عليه-, وقد نزلت في يوم الجمعة في يوم عرفة وفي عام العاشر من هجرة النبي -صلوات الله والسلام عليه-, وكانت الجزيرة كلها قد دخلت في الإسلام, وأذعن الجميع للدين, وأصبح سيف الإسلام على رقاب كل أعداءه من اليهود الذين كانوا بالذل والخسار, وقد أُجْلوا عامَّتهم عن الجزيرة العربية ولم يبقى إلَّا يهود خيبر أي هم في مكث مؤقت فلاحون الأرض يفلحونها أُجراء على نصف ما يخرج منها, وبعض النصارى الذين كانوا في نجران ونصارى قِلة في تغلب والباقي كله قد دانت الجزيرة بكاملها للإسلام, وأصبحت آمنة مطمئنة وتحقق فيها موعود الله -تبارك وتعالى- وقول النبي -صلوات الله وسلامه عليه-: «يوشك أن تخرج الظعينة من بصرى الشام إلى صنعاء اليمن لا تخاف إلا الله» الأمن حل كل مكان, قال -جل وعلا-: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ: الكفار يئسوا من هذا الدين أن يستأصلوه وأن ينهوه بل أصبح هذا الدين فوق كل دين في الجزيرة, بل أصبح مهيئًا لأن يهدد بعد ذلك وينتشر في كل مكان في العالم, فإن النبي قد خرج في السنة التاسعة بنفسه -صلى الله عليه وسلم- وبثلاثين ألف من أصحابه ليقاتل هرقل عظيم الروم, وأرسل قبل ذلك إلى كسرى عظيم فارس يقول له: أسلم تسلم وإلا لم تسلم فإنما عليك إثم الأكَّالين, فيهدده بأنه لابد أن يسلم وأن خيل المسلمين ستاتيه حتمًا, فالكفار يئسوا من الإسلام, الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُم: يأسهم هو انقطاع رجاءهم وأملهم في القضاء على هذا الدين, بل اشتدهذا الدين وقوية شوكته واشتد ساعده واستعصى على الكفار أن يغلبوه وأن يهزموه.

الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ: لا تخشوا الكفار, وَاخْشَوْنِ: اخشوا الله -تبارك وتعالى- الذي مكَّنكم هذا التمكين في هذه السنوات القليلة, عشر سنوات فقط كان الإسلام الذي كان في مكة قبل ذلك ليس له إلَّا مائتين إلى ثلاثمائة شخص فقط من أتباع النبي هاجر, وليس ثم ممن آمن به إلا نحو ثلاثمائة شخص فقط, فإذا به في مدى عشر سنوات يدخل الإسلام كل بيت في الجزيرة العربية ويدين كل الجزيرة العربية يدخل فيها من عمان, إلى اليمن, إلى البحرين, إلى هجر, إلى تخوم الشام, وتخوم العراق, كلها دخلت في الإسلام, دخلت هذه القبائل وأذعنت لهذا الدين, فأمرٌ عظيمٌ جدًا, قال -جل وعلا-: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ: لا تخشوا الكفار واخشوا الله -تبارك وتعالى- فإن الله أحق بالخشية هو الرب الإله الذي كل شيء بيده -سبحانه وتعالى-, الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ: هذا اليوم الذي ناسب نزول هذه الآية قال -جل وعلا-: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ: قد كملت الشرائع ووضح الطريق ووضح الصراط, تحددت معالم هذا الدين بكاملها الصراط إلى الله -تبارك وتعالى- كل أنواع الكفر والضلال كل الكفار والضالين نزلت الحجة القاهرة التي قتل الله -تبارك وتعالى- بها كل دين وكل عقيدة مناوئة للإسلام وإلى يوم القيامة كذلك, فكمل الدين اعتقادًا وتشريعًا وعملًا أصبح كاملًا الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي: النعمة السابغة بإنزال القرآن, إرسال الرسول, إتمام الدين, نصركم على الكفار, كل هذا تم, أتم الله -تبارك وتعالى- نعمته على عباده المؤمنين أتم النعمة, فقد نصرهم على أعدائهم, جعل الجميع الآن يرهبهم تحت قهرهم, أتم لهم شريعتهم السمحة السهلة, ما جعل فيها -سبحانه وتعالى- من حرج ما على أهل الإيمان, أنزل هذا القرآن الذي لا يمحوه الماء ليبقى نور وهداية لأهل الإيمان وإلى أخر الدنيا, فالنعمة السابغة التامة أتممها الله -تبارك وتعالى- على أهل الإسلام, وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا: كذلك هو رضي هذا الإسلام دينًا لعباده المؤمنين, أنه يرضاه ويكافئ عليه ويحبه لهم -سبحانه وتعالى- ,ويحب من عباده المؤمنين كذلك أن يسلموا له وأن يذعنوا له, وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا: فهذا اختياره وهذا عطائه وهذه منته -سبحانه وتعالى-, ثم رجع الأمر إلى هذه المحرمات التي حرمها الله قال -جل وعلا-: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ: ذكرالله –تبارك وتعالى- هذه المحرمات ثم هنا ذكر كذلك مسامحته -سبحانه وتعالى- في حال الضرورة وأن من ألجأته الضرورة إلى شيء من هذه المحرمات؛ محرمات الأطعمة فإنه يأكلها بشرط ألَّا يكون متجانف لإثم, يريد الإثم بهذا وأنه اضطرته إلى ذلك المخمصة, المخصمة: الجوع الشديد المُفضي إلى الهلاك, قال: فَمَنِ اضْطُرَّ: أي ألجأته اللجئ الشديد, فِي مَخْمَصَةٍ: جوع شديد, غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ: الجنف الذي هو الميل أي لا يريد أن يميل إلى الإثم فيشتهي هذا الأمر ويأكله, يشتهي ما حرم الله -تبارك وتعالى- أو يزداد عن حد الضرورة, فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ: إذا علم الله -تبارك وتعالى- منه أنه لجأ ليأكل شيء من الميتة أو من الدم أو من لحم الخنزير أو من المذبوح لغير الله -تبارك وتعالى- ولكنه اضطر إلى أكله اضطرارًا ألجأته ضرورة الجوع الذي لا حيلة له في دفعه إلا بأن يأكل شيء من هذا حتى يبقى على هُشاشة الحياة, ولا يريد أن يتوسع في هذا ولا هو محب لأن يميل إلى الإثم, فإن الله -تبارك وتعالى- غفور كثير المغفرة, رحيم بعباده -جل وعلا-.

 قابل حبر من أحبار اليهود عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- فقال له: يا عمر آية في كتابكم لو نزلت علينا معشر اليهود لجعلنا يوم نزولها عيدًا, قال له: هذه الآية لو نزلت على اليهود كنا احتفلنا بيوم نزولها وجعلناها عيد نحتفل به كل عام, فقال له: أي أية أيها الحبر, قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا, فقال له: إني لأعلم أي يوم نزلت وفي أي مكان نزلت, قال له: اعرف الزمان والمكان الذي نزلت فيه هذه الآية, لقد نزلت على النبي -صلوات الله والسلام عليه- يوم الجمعة يوم عرفة في عرفة والنبي كان يخطب في عرفة, وقال له وكلا اليومين عندنا عيد, قال له: هذا اليوم الذي نزلت فيه الحمد لله عيد, فيوم الجمعة عيد كل أسبوع عندنا, وكذلك اليوم الذي نزلت فيه هو يوم عرفة عيد المسلمين, فهذا من أيام الحج الكبرى وهو أعظيم يوم طلعت فيه الشمس, والمسلمون يحتفلون أيما احتفال في هذا اليوم بما مَنَّا الله -تبارك وتعالى- عليهم, الواقفون بالوقوف فيه والدعاء لله -تبارك وتعالى- وبما أفاض الله وأكرمهم -سبحانه وتعالى- من الوقوف بعرفة وأداء الحج والعمرة, ومَن هم خارج عرفة شُرِع لهم أن يصوموا في هذا اليوم وأن يحتفلوا في هذا اليوم ويقول له: لا نحتاج إلى اقتراحكم ونحن بحمد الله -تبارك وتعالى- هذه الآية قد ناسبت ونزلت في أشرف يوم أيامنا وأحسن أيامنا وهو يوم عيدِ عندنا.

ثم قال -تبارك وتعالى-: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[المائدة:4]: ذكر الله -تبارك وتعالى- المحرمات وهنا شرع -سبحانه وتعالى- في ذكر المباحات بعد أن سأله إذاً عرفنا المحرمات فما يسألونك الصحابة مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ: ما الذي أحله الله -تبارك وتعالى- لهم؟ فقال -جل وعلا-: قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ: وهُنا كلمة الطيبات جنس واسم يجمع كل طيب, والطيب من الطعام ومن الشراب ومن اللباس ومن كل هذه المباحات هو كل ما زادت منافعه على مضاره, كأن كانت فيه مضاره قليلة لكن منافعه كثيرة فهو من الطيبات, أو كان خالصًا في الطيبة وليس به ضرر ما فهو من الطيبات, قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ: كل الطيبات, مفهوم هذا أن الخبيث وهو ما زادت مضاره على منافعه قد حرمه الله -تبارك وتعالى-, وقد جاء في وصف النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- أنه جاء بالشريعة التي تحل الطيبات كلها وتحرم كل الخبائث كما جاء في قول الله -تبارك وتعالى-: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ........}[الأعراف:157], ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- أيضًا نوع من أنواع الذي أباحه الله -تبارك وتعالى- وجعله معطوف على هذه الطيبات قال: وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ, الجوارح: إما الجوارح التي هي ذوات الأنياب والمخالب التي تصيد بهذا كالأسد, والفهد وكلاب الصيد, وكذلك الصقر والبازي, ونحو ذلك من الطيور التي تستخدم للصيد, وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ: أي تصيدون بكلاب الصيد, تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله: هذا أول شرط من إباحة الصيد عن طريق هذه الجوارح, أول شيء لابد أن تعلمها مما علمك الله -تبارك وتعالى- كيف تَصِيْدُ لك لِتَصِيدَ لك, {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}, ولأن هذه الآيات فيها مجموعة من الأحكام وقد أدركنا الوقت, فإن شاء الله نعود إلى هذه الآية في الحلقة الآتية, أقول قولى هذا, وأستغفر الله لى ولكم من كل ذنب, -وصلى وسلم على عبده ورسوله محمد-.