الخميس 20 جمادى الأولى 1446 . 21 نوفمبر 2024

الحلقة (144) - سورة المائدة 4-6

لحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين. وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد, فيقول الله -تبارك وتعالى-: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[المائدة:4]: بعد أن ذكر الله -تبارك وتعالى- ما حرمه من المحرمات من الأطعمة على عباده الممؤمنين فقال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ ........}[المائدة:3]: لما ذكر الله -تبارك وتعالى- هذه المحرمات هُنا ذكر -سبحانه وتعالى- ما أباحه الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين, وكان هذا بعد سؤال سألوه الصحابة للنبي: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ, أي هذا المحرمات جاءت مفصلة فأخبر -تبارك وتعالى- بأنه قد أحل الطيبات؛ كل الطيبات, والطيبات: هو ما طاب وما حسن من الطعام والشراب واللباس وهو ما أباحه الله -تبارك وتعالى- لهذه الأمة, وهو كل ما زادت منافعه على مضاره هذا طيب, وأما ما زادت فيه المضار وعرفت مضاره وغطت علي بعض المنافع له وكان فيه منافع قليلة فهو لا شك أنه من الخبيث, وكذلك ما تمحض فيه الخير فهو طيب, وما تمحض فيه الشر كان شر كله وضرر كله فهو خبيث, فكل ما يصدق عليه وصف الطيبة فقد أباحه الله -تبارك وتعالى-, ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- مما أباحه لعباده المؤمنين أن يصيدوا بالجوارح, إما الكواسب وإما ما لها ناب يجرح أو مخلب كالسباع والطيور الجارحة التي يصاد بها كالصقر والبازي ونحوهما, وكذلك يصاد بالفهد, ويصاد بكلاب الصيد, وبعضهم كان يصيد بالأسد, ما يصاد بهذه الجوارح, قال -جل وعلا-: مُكَلِّبِينَ: أي تصيدون بالكلاب, تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ: هذا الشرط الأول, فلابد أن يكون الجارح قد علمته ليصيد لك لا مجرد أنه جارح يصيد وتأكل من صيده, فلابد أن يكون قد علمته؛ ليصيد لك, فأخبر الله -تبارك وتعالى- أن تعليم هذه الجوارح تُعَلِّمُوُنها لتكسب لكم ولتصيد لكم, هذا من فضل الله -تبارك وتعالى- أن علمكم هذا العلم وتُعَلِّمُوه لهذه الجوارح؛ لتكسب لكم وتصيد لكم, تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ: أي الصيد, فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ: هذا الشرط الثاني, إذًا لابد أن يكون قد أمسك لصاحبه وليس مما أمسك بنفسه, ولذلك قال: النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي ابن حاتم الطائي وكان يصيد وسأل النبي عن الصيد فقال له: إذا أرسلت كلبك المُعَلَّم فصاد ولم يأكل فكل فإن أكل فلا تأكل فإنما صاد لنفسه, إذًا هذه ثلاث شروط أن يرسل الكلب المُعَلِّم الذي علَّمه وليس أي كلب يصاد به, ثم لأن هذا المُعَلَّم معناه أنه يصيد لصاحبه إنما ينطلق للصيد يريد أن يمسك لصاحبه فيكون كالآلة التي يصيد بها الإنسان, ثم لابد أن تذكر اسم الله -تبارك وتعالى- عندما ترسله, فإن أكل هذا المُعَلَّم فلا تأكل؛ لأنه إذا أكل من الصيد يكون هنا بدافع الجوع وأنه عندما انطلق للصيد إنما أراد أن يصيد لنفسه ولا يجوز لك أن تأكل من فضلة الكلب, فإن هذا من الطعام الخسيس أن كلب صاد لنفسه وأن تأكل من فضلته فهذا نزَّه الله -تبارك وتعالى- أهل الإيمان أن يأكلوا فضول الكلاب والسباع, قال: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ}: هذا الشرط الثالث, وَاتَّقُوا اللَّهَ: خافوا الله -تبارك وتعالى- هُنا المسألة تحتاج تقوى, تقول ولا ما سميت هذا كلب مُعَلَّم ولا ليس ما هو مُعَلَّم هذه أكل منها أو لم يأكل منها, فربما يخالف في بعض هذه الشروط يتهاون فيها فيأكل مما حرمه الله -تبارك وتعالى-, قال: وَاتَّقُوا اللَّهَ: خافوا الله -تبارك وتعالى- في كل أعمالكم, إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ: هذا وعيد منه -سبحانه وتعالى-, سَرِيعُ الْحِسَابِ, وسرعة الحساب هُنا المعاقبة أي تذنب الذنب فيعاقبك عليه عقوبة سريعة قد تكون في نفس الوقت, قد يكون في الوقت مباشرة بعد خروجك عن أمر الله -تبارك وتعالى- وعن طاعة الله -تبارك وتعالى- فَيُعَجِّل الله -تبارك وتعالى- لك العقوبة, إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ, ثم أكدَّ الله -تبارك وتعالى- معنى إحلاله -سبحانه وتعالى- الطيبات لعباده, وأنَّ هذه منة منه -سبحانه وتعالى- قال: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ: اليوم الذي أنزل الله -تبارك وتعالى- فيه هذه الآيات وهي من كمال نعمته وتمام النعمة, أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ: كل الطيبات, وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ: والذين أوتوا الكتاب هم اليهود والنصارى, حِلٌّ لَكُمْ: يحل لكم أن تأكلوا من طعامهم والمقصود من طعامهم ذبائحهم وإلا طعامهم ما يأكلونه من الحبوب والثمار وغير ذلك, فإن هذا لا شك أنه مباح من كل أحد كتابي أو غير كتابي, وإنما هنا طعام الذين أوتوا الكتاب أي ينصرف هذا إلى ذبائحهم حِلٌّ لَكُمْ: أي يحل لكم أن تأكلوا مما ذبحه أهل الكتاب, ولاشك أن ذبائح أهل الكتاب حلال لنا بالشروط التي اشترطها الله -تبارك وتعالى- كذلك في حِل ذبيحة المسلم أن تكون ذبيحة ما تكون منخنقة, ما تكون موقوذة, فإن يكون ذبحها, وكذلك ألا يذكر عليها اسم غير اسم الله, فإن ذكر عليها اسم غير اسم الله -تبارك وتعالى- أصبحت هذه من المذبوح لغير لله, فلا يجوز أكله, فالمذبوح لغير الله -تبارك وتعالى- سواء أهل بهذا الذبح مشرك أو يهودي أو نصراني أو مسلم خالف أمر الله -تبارك وتعالى- وذبح لغير الله فإن هذا لا يحل مطلقاً, فإذًا ذبائحهم ما يذبحونه, أما ما يخنقونه ويقتلونه كذلك بغير الذبح فإنه حرام, بل لو أن المسلم قتل وخنق ذبيحة من بهيمة الأنعام فإنها لا تحل كذلك, وطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ: أي وقد كذلك يحل لكم أن تطعموهم من طعامكم وأن يأكلوا من طعامكم, ثم قال --جل وعلا-: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ: المحصنات هُنا العفيفات, كل مؤمنة عفيفة يجوز لكم أن تتزوجوا بها مفهوم هذا أنه إذا لم تكن عفيفة فلا يحل منها الزواج, وقد جاء هذا مصرحًا به أو منطوقًا في قول الله -تبارك وتعالى-: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}[النور:3]: وهُنا لا ينكحها: لا يتزوجها, وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ: العفيفات, وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ: العفيفات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم من اليهود والنصارى, فاليهودية والنصرانية العفيفة, ومعنى أنها عفيفة: محصنة لا ترضى بالزنا, ولا تستسيغه ولا تأخذه دين ولا تمارسه ولا تفعله, بل هي عفيفة متعففة لا تقبل إلا بالزواج, فهذه كذلك يحل لكم أن تتزوجوا بهن قال -جل وعلا-: بشرط إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ: مهورهن, إذا أتيت هذه النساء التي أباحها الله -تبارك وتعالى- المهر, مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ: محصنين هُنا حال أي تتزوجوا العفيفات من المؤمنات, والعفيفات من الذين أوتوا الكتاب حال كونكم محصنين, أي تريدون الإحصاء وتريدون العفة, لا تتزوج للمسافحة ولا أن تتخذ خدنا, غير مسافحين, المسافح هو الزاني الذي يزني مع كل امرأة تطاوعه أيً كانت, وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ: المتخذ الخدن هي الخليلة أي التي تقتصر في زناها على صاحبها أو صديقها فقط أي تتزوج للإحصان وللإعفاف, إن هذه الزوجة تغار عليها وهي زوجتك وتريد أن تُعِفَّها وأن تستعفَّ بها عن الحرام, وأنك لا تريد فقط مجرد المسافحة, مجرد أن تتزوج لأن هذه تتزوج من فاجرة زانية تزني بها كما تزني بغيرها, أو يكون هنا إعطاء المهر كذلك لأنك تريد أن تأخذ صديقة وليست زوجة, خدن وخليلة, قال -جل وعلا-: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ: وعيد من الله -تبارك وتعالى- بأنه تشريع من الرب -تبارك وتعالى- وأحيانا يكون بين الحلال والحرام أي يمكن النية هي التي تفرق بين الحلال والحرام, لأنه ممكن الإنسان يريد الحرام لكن يضعه في قالب وفي شكل الحلال شكلًا لا موضوعًا, يريد أن يزني فيأتي بشهود زور ويدفع مهر للزانية ويوافقه على هذا الزنا بهذه المرأة قد يكون ديوث من أوليائها, ومقصده هو الاستمتاع والزنا, وليس مقصده أن يتخذ زوجة له, فلما كان الأمر على هذا النحو وأن النيات هي التي أيضا قد تحدد وتفصل بين الحل والحرمة, فإن الله ذَكَّر بأنه مَن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله, وأنَّ تنفيذ هذه الأحكام والسير في الحلال ليبتغي الحلال هذا من الإيمان بالله -تبارك وتعالى- والإيمان بتشريعه, وأما من كفر بذلك وخرج عن هذا مستهينًا به مستهتراً مُسْتَحِلاً قال -جل وعلا-: فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ: فالمُستَحِل والمستهتر بأحكام الله -تبارك وتعالى- لا يحبها ولا يريدها ويستهزئ بها فهذا كافر بالإيمان وهذا كل من كفر بالإيمان فقد حبط عمله, الحبط هو الهلاك, وأصل الحبط داء يصيب الإبل في أجوافها فتنتفخ ثم تموت, فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ: هلك عمله, شُبِّه هُنا بالحبط؛ لأن قد يكون له عمل كثير من أعمال الدين ولكن ظاهر وفي داخلها فساد النية وفساد الإعتقاد موجود في داخلها فهذا لا فائدة فيها بل داءه فيه فيقتله ولا يفيده هذا العمل الظاهري, وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ: وهذا الذي قد حبط بالإيمان حبط عمله لا يستفيد بعمله حتى الصالح وإن كان في الظاهر أنه عمل صالح ظاهر, وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ: الخسران في الآخرة خسران للأهل, والمال, وخسران للنفس, فيخسر أهله وماله وأصدقائه وكل شيء كل أحد يخسره ويخسر نفسه كذلك, يخسر نفسه بأن يوردها النار, أدخلها النار التي لا تحيا فيها ولا تموت بل تُعَذَّب عذابا أبديًا عياذًا بالله, وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ.

ثم قال -تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[المائدة:6]: هذه الآية آية الوضوء والتَّيمم آية عظيمة يقول الله -جل وعلا-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: خطاب ونداء لعباده المؤمنين أفعلوا والتزموا يا من أمنتم بالله -تبارك وتعالى-, يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ: أي عند قيامكم إلى الصلاة, والقيام هنا إرادة أن يصلوا أي توجهتم وأردتم أن تذهبوا للصلاة, فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ: أمر من الله -تبارك وتعالى- بهذا الوضوح بغسل الوجه, والوجه الذي هو في المواجهة ما يواجه به الإنسان جزء من الجسم الذي يواجه به الناس وهو معروف حدوده من منبت الشعر إلى أسفل الذقن, ومن شحمة الأذن اليمنى إلى شحمة الأذن اليسرى, هذا هو الوجه اغسلوا هذا الوجه بالماء, وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ: المرفق هو المفصل الذي يفصل بين الذراع وبين العضد, وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ: المسح بالرأس, والباء هنا صحيح لإلصاق امسح برأسك, وكان صفة مسح النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يضع يديه -صلى الله عليه وسلم- على مقدمة رأسه, ثم يمررها إلى قفاه, ثم يعيدها إلى المكان الذي بدأ منه -صلى الله عليه وسلم- هذه صفة مسح النبي, وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ: يشمل الرأس كلها وليس بعض الرأس كما فهمه بعض أهل العلم, بل المسح الذي مسحه النبي أنه كان يبلل يديه ثم يضع يديه على ناصيته -صلى الله عليه وسلم- على الجبهة ثم يمررها إلى قفاه ثم يعيدها إلى المكان الذي بدأ منه -صلى الله عليه وسلم- وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ: وأرجلكم هُنا جاءت بقراءة النصب, وهي معطوفة على المغسولات, و ذلك أن فرض الرجلين هو الغسل كما بينه النبي -صلوات الله والسلام عليه-, في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- يقول: «كنا في سفر فأرهقتنا صلاة العصر فجعلنا نتوضأ ثم أسرعنا في غسل الأرجل فصرنا نمسح على أرجلنا فجاءنا منادي النبي -صلى الله عليه وسلم- ويل للأعقاب من النار ويل للأعقاب من النار» تحذير, فهذا الحديث فيه دليل على وجوب غسل الأعقاب, والعقب الذي هو مؤخرة الرجل ما دون الكعبين, كذلك فعل النبي -صلوات الله والسلام عليه- أنه في كل وضوءه كان إذا كانت قدمه عارية من الخُفِّين كان يغسل رجليه -صلوات الله والسلام عليه- ولم يثبت قط أنه مسح على رجليه العاريتين من الخفين -صلوات الله والسلام عليه-, وعلى القراءة الثانية وأرجلكم وهي قراءة سمعية كذلك وامسحوا وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ: إنما هي للمجاورة وليست للعطف عل المسح وأن الرجل تمسح, إلا أن يفسر هذا بأن المسح إذا كانت الرجل مستترة في الخفين, فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد مسح على الخفين -صلوات الله والسلام عليه- وجاء الحديث كذلك بجواز المسح على الجوربين والنعلين كما ثبت من قوله -صلوات الله والسلام عليه-, فقراءة الجر تكون للمسح إذا كانت الرجلين مستترتين بخف أو جوربين أو لأنها لمجاورة الجر بالمجاورة, وهذا أسلوب من أساليب العرب, وأما مجئ هنا وامسحوا بِرُءُوسِكُمْ في بين المغسولات وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ: رجع تاني إلى المغسولات, فجاء المسح بين المغسولات, قال أهل العلم إن الحكمة من هذا هو الترتيب, وذلك أن النبي كان هذا ترتيبه في أعضاء الوضوء -صلوات الله والسلام عليه- يبدأ بعد غسل يديه إلى الرسغين يغسل وجهه بما في ذلك من المضمضة والاستنشاق, ويغسل يديه إلى المرفقين اليمنى أولًا, ثم اليسرى, ويمسح برأسه -صلى الله عليه وسلم- ثم يغسل الرجلين إلى الكعبين اليمنى أولًا, ثم اليسرى ثانيًا, وكان أحيانًا -صلوات الله والسلام عليه- يتوضأ مرة مرة لكل عضو, وتارة مرتين مرتين, وتارة ثلاثا ثلاثا -صلوات الله والسلام عليه- شهد أن أهل العلم قالوا بأن ما الحكمة في مجئ وامسحوا بِرُءُوسِكُمْ هذا مسح بين المغسولات بين الوجه واليدين, ثم الرجلين بعدها, أن الحكمة من هذا هو الترتيب, أنَّ النبي رتب الوضوء وكان يتوضأ على هذا النحو, ولما جاء الترتيب هنا في الآية  جاء على هذا النحو فيكون هذا مقتضاه أي رتبوا أعضاء الوضوء بهذا الترتيب.

 ثم قال -جل وعلا-: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا: الجُنب هو الذي قد فعل جنابة حدث أكبر يعطيه هذا الوصف؛ وصف الجنب, والجنب يقال للذكر والأنثى والمفرد والمثنى والجمع, رجل جُنب, وامرأة جُنب, ورجلان جُنب, ونساء جُنب, ورجال جُنب, وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا: والجنابة إنما تأتي إما باحتلام مع رؤية الماء, وإما بجماع, وإما بحيض, هذه هي موجبات أو مسببات الجنابة, فمن كان قد وقع له شيء من ذلك الاحتلام ويكون للرجل والمرأة, وقد جاء في الحديث: «يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق أتته امرأة من الأنصار هل على المرأة من غسل إذا احتملت؟ قال: نعم إذا رأت الماء» فالاحتلام يكون للرجل والمرأة, والجماع معروف, وقد جاء بأن الجماع إنما يوجب الغسل ولو دون إنزال كما في الحديث الصحيح: «إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل» ثم الحيض, وأما الاستحاضة فإنها لا توجب الغسل, وإنما تحببه بصبح الغسل مستحب, فهذه الأمور التي توجب الغسل, وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا: والتطهر هنا الاغتسال: هو تعميم البدن كله بالماء, لابد من تعميم البدن من مفرق الرأس إلى أظافر القدمين, لابد من تعميم البدن كله بالماء, فَاطَّهَّرُوا, {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}: هذا حكم التيمم وهو لفاقد الماء أو لعادم القدرة على استعماله, فقول الله: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى: هذا المريض هو يكون عنده الماء ولكن لا يقدر على استعماله لمرضه, أَوْ عَلَى سَفَرٍ: وغالبًا ما يكون المسافر ليس عنده ماء لا يحمل ماءًا كثيرًا ليغتسل أي وليس معكم ماء لتغتسلوا, أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ: فهذا لبيان السبب فجاء من الغائط, والغائط هو المكان المنخفض, وهذه كناية عن الإنسان الذي يذهب إلى المكان المنخفض لقضاء الحاجة, فجاء منها أي قضى حاجته ورجع, أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ: لامستم هُنا فيها مفاعلة, والمقصود بلامستم النساء: هو الجماع على الصحيح, وأما من فسره من أهل العلم فسره ما كان من ذلك بشهوة, فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً: أي إذا وقع هذا للشخص لامس النساء هذا حصلت له جنابة, أو جاء من الغائط وكان حاله أنه مريض أو على سفر ليس عنده ماء قال -جل وعلا-: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً: وقوله فلم تجدوا ماء يفيد أنه لابد من البحث قبل الحكم, فإن لا يقال لمن لم يبحث عن الشيء ولم يجتهد في تحريه أنه لم يجد, فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً: أي تحريتم على وجود الماء حولكم ولم تجدوه فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا: تميمموا: اقصدوا, الصعيد: هو ما يصعد ويعلو وجه الأرض شرط أن يكون طيبًا؛ لأن ما يعلو وجه الأرض ممكن تكون بقعة نجسة, ممكن تكون بقعة طيبة طاهرة أي ترابها ورملها أو حصبائها نظيفة الغبار, الذي عليها والصعيد الذي عليها نظيف طاهر طيب قال: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا: اقصدوا بقعة نظيفة طيبة طاهرة من الأرض وليست بنجسة, فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ: فامسحوا بوجوهكم وأيدكم من هذا الصعيد, وقد بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- صفة ذلك وهو أن يضرب المتيمم الأرض بيديه, ثم يمسح الواحدة على الأخرى ويمسح بها وجهه, ثم يمسح اليدين الواحدة على الأخرى, كما في حديث عمار بن ياسر -رضي الله تعالى عنه-: «أنه كان في سفر ثم أجنب ولا ماء قال فتمرغت في الصعيد كما تتمرغ الدابة », ومعنى تمرغ في الصعيد ظن أن التيمم الذي يكون للوجه والكفين إنما هو لمن صار عنده حدث أصغر فقط كالبول والغائط وليس الجنابة, ظن أن الجنابة تحتاج إلى تعميم البدن بالصعيد الطيب قياسًا على تعميم البدن بالماء, قال فتمرغت في الصعيد كما تتمرغ الدابة ثم لما أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- قال أنا أجنبت في سفرتي هذا وتمرغت في الصعيد فقال له النبي: إنما كان يكفيك هكذا أن تضرب الأرض بيديك ضربة واحدة ثم تمسح بها وجهك ومسح -صلى الله عليه وسلم- إحدى يديه على الأخرى فهذه هي الصحيح صفة التيمم, كما جاء في الصحيحين صحيح بخاري ومسلم, فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ, أُستفيد من قول الله -تبارك وتعالى-: مِنْهُ: أنها للتبعيض, وأنه لا بد أن يعلق باليد شيء من الصعيد الطيب, فلا يكفي أن يأتي الإنسان إلى حجرة ملساء ليس عليها أي شيء مما يعلق باليد, غبار يعلق باليد وضرب على يديه كرخامة أو حجر صفوان ملساء, ثم يضر بها ويمسح بها وجهه, بل لابد أن تكون فيها صعيد وفيها شيء مما يعلق ويخرج مع اليد, فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ, قال -جل وعلا-: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ: بيَّن الله الحكمة في هذا التسهيل, وهو أنه ما في ماء, ما مع عدم قدرة على الماء تيمم, والتيمم سهل, وهو موجود في كل مكان, الأرض تربة وطهور في كل مكان يكون الإنسان فيه هو فوق الأرض هذا غالبًا لا يبقى إلا الشذوذ الشذوذ, وهو أن يكون في شيء غير الأرض, وليس عنده طهور, كأن يكون مثلًا في طائرة وبعيد عن الأرض وليس عنده ماء مثلًا لو افترضنا هذا, أو يكون في سجن ومسجون عليه ولا يخرج منه وأرضه ليس فيها تراب, فهي حالات قليلة جدًا, سَهَّل الله هذا الأمر, ولم يلزم على المؤمنين أن يحملوا طهورهم معهم في كل مكان يكونون فيه, وكان يمكن لله -تبارك وتعالى- أن يقول لا صلاة بغير وضوء وكل من كان في مكان لابد أن يحترزلهذا, إذا ذهبت إلى أي مكان فاحمل ماءك على ظهرك لتتطهر به عندما يأتي وقت التطهر, يكون فيه مشقة, قال -جل وعلا-: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ: أي حرج, ولذلك جاء أن هذا ما اختص الله -تبارك وتعالى- هذه الأمة وحدها قال النبي: «فُضِّلت على الأنبياء بست من هذه الست قال وجُعِلت الأرض مسجدا, وتربتها طهورا»: جعل الله تربة الأرض في أي مكان طهور يتطهر به المؤمن, ويستحل به للصلاة ويستحل به ما يستحل مع الصلاة وهذا أمرٌ عظيم, ولكن يريد ليطهركم أي يريد الله -تبارك وتعالى- أن تكونوا طاهرين طهارة حسية وطهارة معنوية, وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ: هذا من تمام نعمته -سبحانه وتعالى- أنه سَهَّل هذا التسهيل لعباده المؤمنين وأباح لهم التيمم على هذا النحو الذي فيه تسهيل عظيم جدًا, لأن لو لم يكن هذا لوجب على كل مؤمن أن يحمل طهوره أينما سار في هذا الأرض نعمة الله -تبارك وتعالى- وفضله وإحسانه.

نكتفي بهذا, وأُصلي وأُسلم على عبد الله ورسوله محمد, والحمد لله رب العالمين.