الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على عبد الله الرسول الأمين, وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهديه, وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد, فيقول الله -تبارك وتعالى-: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[المائدة:7], {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[المائدة:8]: يُذَكِّر الله -تبارك وتعالى- نعمته لعباده المؤمننين, ويأمرهم بذكر هذه النعمة قال: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ: نعمة الله بالإيمان والإسلام والهداية إلى هذا الطريق صِراط الله -تبارك وتعالى- المستقيم, يقول الله -تبارك وتعالى- هذه الآية بعد أن ذكر ما شرعه لعباده -سبحانه وتعالى- من الظهارة بالماء عند الصلاة, ثم تخفيف هذا الأمر عند فقد الماء أوعدم القدرة على استعماله بالتيمم تيسيرًا منه -سبحانه وتعالى- لعباده المؤمنين, فيقول الله -تبارك وتعالى- لعباده: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بهذا التشريع الطيب الطاهر, فإنه عندما يأمركم بأن تتوضؤا, وتغسلوا وجوهكم, وأيديكم إلى المرافق, وتمسحوا برؤسكم وإرجلكم إلى الكعبين بهذه الطهارة المائية, وهي تتكرر خمس مرات في اليوم والليلة لكل صلاة, ويمكن أن يجمع بين الصلاتين بطهرِ واحد, لكنه يبقى ظاهر في هذه الخمس أوقات التي هي في آناء الليل وأطراف النهار, فهذا تطهير دائم, والنظافة الدائمة هذه تشريع ليتم لهذا المسلم طهارته الحسية مع الطهارة المعنوية بالصلاة لله -تبارك وتعالى- وشكره والتوجه إليه -سبحانه وتعالى-, والطلب منه وعبادته, فإنه الرب الإله العظيم الذي خلقنا ورزقنا ومنَّا علينا بكل النعم -سبحانه وتعالى-, فتتم طهارة الظاهر بالصلاة, وتتم طهارة الباطن بالخشوع لله -تبارك وتعالى- والإيمان به والاستقامة عليه, ثم إنَّ الله -تبارك وتعالى- يسَّر للمؤمن أنه اذا لم يجد الماء وكان مريضًا لا يستطيع استعماله فيشق ذلك عليه أن يتيمم إلى الصعيد الطيب؛ التراب الطيب فيتيمم بذلك, فهذه طاهرة عند فقد الماء, وهذا لتيسير الأمر على عباده لتيسير الله --تبارك وتعالى-, قال -جل وعلا-: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ}: في هذا الدين, أي ضيق ما, بل يريد الله -تبارك وتعالى- أن يكون أمر الشريعة لكم سهلًا سمحًا مُيَسَّرا من أي حرج, وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ: فيفرض عليكم الوضوء على هذا النحو, والاغتسال على هذا النحو من الجنابة, وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ: ليتم نعمته عليكم بما يأتي بالرُخَص عند ضيق الأمر, عند شدته, لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ: ربكم سبحانه وتعالى, ثم تتم لهذا, وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ: النعمة الشاملة بالسلام كله بهذه الشريعة المظهرة كلها, وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ: عهده مع الله -تبارك وتعالى-, هذا عهد الإسلام والإيمان, فإن كل من أسلم وكل من آمن قال آمنت بالله وقال: أشهد أن لا إله إلَّا الله, وأن محمدا رسول الله, فقد قام عقد وعهد وميثاق بينه وبين الله -تبارك وتعالى-, هذا العقد مقتضاه السمع والطاعة من العبد لله -تبارك وتعالى- أن يقول سمعت وأطعت فإذا كان السمع مقتضاه إيمان يقول آمنت بما أخبر الرب -تبارك وتعالى- بغيبه, وإذا كان أمر أو نهي يقول أطعت ربي -سبحانه وتعالى-, فهذا مقتضى أن تقول أسلمت لله, أسلمت: انقدت وأذعنت, صدَّقت خبر الله -تبارك وتعالى- وانقدت لأمره, {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}: هذا عهدكم مع الرب -جل وعل-, اذكروا هذا جيدًا, اذكروا أن المسلم الذي عاهد الله -تبارك وتعالى- بإسلامه وإيمانه قد قال سمعت وأطعت لأن هذا معنى الإسلام, معنى الإسلام: الإستسلام لله -تبارك وتعالى- بالسمع والطاعة, فاذكروا هذا تمامًا, واتخذوه هذا دينًا لكم, وطريقًا ملازم لكم طيلة الطريق أن تقول سمعت وأطعت, وَاتَّقُوا اللَّهَ: خافوه, خافوا الله -تبارك وتعالى- أجعلوا وقاية بينكم وبين عذابه -جل وعلا-, إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ: ذات الصدر: هو سره المكنون الذي لم يخرج منه, وسُمِّي ذات الصدر أي كأن السر صاحب هذا الصدر, وصاحبه الذي بقي مكنونا لم يخرج منه ولم يبوح به صاحبه إلى أحد من أهله, من أقاربه, من أصدقائه, ما خرج من الصدر, فالسر الذي لم يخرج من صدر صاحبه يعلمه الله -تبارك وتعالى-, وبالتالي يحاسب العبد على أدق الدقائق وأخفى الخفيات الله لا تخفي عليه خافية -سبحانه وتعالى- وهذه أخفى الأمور في حياة الإنسان هو سره الدفين الذي لم يبوح به لأحد الله مُطَّلع عليه -سبحانه وتعالى-.
ثم قال -جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ}: القوَّام: كثير القيام, أي إجعل كل قيامك لله, قيامك في أي شيء, في العبادة, في المعاملة, في العمل, في كل شيء إجعله لله -تبارك وتعالى- حتى المباحات, فليكن قيامك كله لله, تكون حياتك لله -تبارك وتعالى-, {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الأنعام:162], {لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}[الأنعام:163]: فاجعلوا حياتكم لله, قيامكم لله, تقوم للصلاة تصلي لله, تقوم للصيام تصوم لله, قيامك للحج قيام لله, تذهب إلى هذا المكان أيضا نيتك لله تفعل هذا لله, فيكون كل عملك وكل قيامك وكل شأنك لله -تبارك وتعالى- حتى ما أباحه الله -تبارك وتعالى- للك في الأمورالمباحة لله, تنفق على أهلك لله تفعل ما تفعل لله, تشهد لله, فيكون كل عملك وكل قيامك للرب -جل وعلاِ-, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ}: القسط: العدل, والشهادة: كل ما يُدلى به الإنسان شهادة حتى لو قلت اليوم حار أو اليوم بارد هذه شهادة تُدلي بها, فكل حكم يحكم به الإنسان وكل قول يقوله شهادة, فاشهد دائما بالقسط, شهادتك بالقسط أن تشهد لهذا على هذا تشهد وتُقِر أمام حاكم وقاضي, أو تشهد أي شهادة تدلي بها أي قول تدلي به ليكون عادلًا, لابد أن تقول بالعدل وبالقسط, {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا}: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ: لا يحملنكم, شَنَآنُ قَوْمٍ: بغضهم, عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا: أي إذا كنت تبغض ناسا فلا تشهد بالزور ولا تقول عليهم إلَّا الحق ولا تتقول عليهم, بل يجب مع عداوتهم لابد أن تكون شاهدًا بالحق, {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}: اعدل فهو أقرب للتقوى, من الحوادث التي تُذكَر في هذا أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- أحد الصحابة أظنه أنه عبدالله بن رواحة ليأتي له بنصيبه من خيبر, وكان النبي قد صالح يهود خيبر على أن يبقوا في الأرض, وأن يفلحوها وتكون نصف ثمرتهم للمسلمين والنصف الثمرة لهم الأرض أصبحت للسلمين, وذلك أن خيبر فُتِحَت عنوة, فلمَّا جاء عبد الله أرادوا أن يرشوه؛ ليأخذ نصيب النبي -صلى الله عليه وسلم- حصة النبي من الثمرة, فأرادوا أن يرشوه بمال حتى يشهد لهم أو يجعل نصيبهم أكبر من نصيب النبي -صلوات الله والسلام عليه-, فقال لهم: اعلموا معشر اليهود أنه ليس في الأرض أبغض إليَّ منكم وليس في الأرض كلها أحب إليَّ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووالله لا يحملني حبي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبغضي لكم على أن أظلمكم تمرة واحدة, مع إني ارى النبي أحب إليَّ من كل أحد, وأنتم أبغض إليَّ من كل أحد, ولكن في عقد فيه عهد, قال: لم يحملني حبي لرسول الله وبغضي لكم أن أظلمكم تمرة واحدة, فقال اليهود بعضهم على بعض على هذا قامت السماوات والأرض على العدل, لأي أمر الله -تبارك وتعالى- عباده أن يكونوا عادلين حتى مع أعداءهم, فالله يقول: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ: لا يحمنلكم شنئان قوم, عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى: العدل أقرب للتقوى, هذا هو الذي يوصلك إلى مخافة الله -تبارك وتعالى- وَاتَّقُوا اللَّهَ: خافوه -سبحانه وتعالى-, إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ: الخبرة هي العلم الدقيق والخفي, وهُنا قال خبير ما قال عليم؛ لأن الخبرة أخص من العلم, خبير بما تعملون أي عليم بأعمالكم الخفية التي يمكن أن تظنون أنها تخفى على الله هي لا تخفيى على الله -تبارك وتعالى-, إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.
ثم قال -جل وعلا-: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}[المائدة:9]: هذا طرف العقد المؤمنون المسلمون قام بينهم وبين الله ميثاق وعقد, مقتضى هذا العقد واجب على أهل الإيمان والإسلام أن يقولوا سمعنا وأطعنا, سمعنا كلامك يارب, أطعنا كلامك, فالسمع يقتضي الإيمان بما أنزل الله -تبارك وتعالى- الطاعة لله -تبارك وتعالى- سمعنا وأطعنا, ما مقتضى هذا العقد من الرب -تبارك وتعالى- ما الذي يؤتيه الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين بمقتضى العقد الذي بينه -سبحانه وتعالى- وبينهم, قال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}: هذا موعود الله -تبارك وتعالى- وعد الله الذين امنوا وعملوا الصالحات هذا هو السمع والطاعة, فالذين آمنوا هذا السمع, وعملوا الصالحات هذه الطاعة, سمعت وأطعت, فالذين آمنوا بالله -تبارك وتعالى- بمعنى صدَّقوا وأيقنوا بخبر الله -جل وعلا- آمنوا وعملوا الصالحات, وعمل الصالحات: هو العمل بمقتضى التصديق, فإنهم صدَّقوا بالله, عملوا الصالحات التي أمرهم الله -تبارك وتعالى- بها, لهم مغفرة لذنوبهم هذا أول شيء عند الله -تبارك وتعالى- أن يغفر الله -تبارك وتعالى- خطاياهم وذنوبهم, وأجر عظيم على عملهم الصالح وإيمانهم وهي الجنة أجر عظيم وهذا أعظم الأجر, ثم ثمة أجر آخر وهي حسنة الدنيا المُعَجَّلة كما قال الله -تبارك وتعالى- في إبراهيم خليل الرحمن قال: {........ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنِ الصَّالِحِينَ}[العنكبوت:27]: أي أجر إبراهيم على العبادة التي قام بها أخذ أجره في الدنيا مما وسَّع الله -تبارك وتعالى- عليه ومما أعطاه وبالنعم العظيمة التي أنعمها الله -تبارك وتعالى- عليه, وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنِ الصَّالِحِينَ: من عباد الله الصالحين, وهؤلاء لهم الأجر العظيم الوافي عنده -سبحانه وتعالى- وهو الجنة, {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}.
ثم المقابل في هذا الذين هم أهل العصيان قال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}[المائدة:10]: هذا ما قام بينهم عقد بينهم وبين الله هؤلاء ليس عندهم عقد وميثاق مع الله -تبارك وتعالى- وإنما كفروا, رَدُّوا آيات الله -تبارك وتعالى-, ستروا هذه الآيات, علموا الحق وجحدوه, ومعنى كفروه بمعنى غطوه؛ لأن الكفر: هو الستر والتغطية, فعلموا آيات الله -تبارك وتعالى- وعلموا نداء الرب ناداهم الله -تبارك وتعالى- للإيمان به فأغفلوا هذا وكتموه وجحدوه, وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا: التكذيب: رد الخبر الصادق, جاءهم الخبر وعلموا أنه صدق وكذبوه, وقالوا هذا كذب وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا: آيات الله -تبارك وتعالى- آياته المُنزلة على رسله, وهذه آخر الآيات التي أنزلها على رسله القرآن الكريم, هذه آياته -سبحانه وتعالى-, وسُمِّيَت آيات؛ لأنها دلائل واضحات على أنها مِن الله -تبارك وتعالى- من الرب الإله العظيم -سبحانه وتعالى-, وكذلك من آيات الله -تبارك وتعالى- آياته في الخلق, فكل خلق الله -تبارك وتعالى- آية, كل جزء من خلق الله آية على قدرة الرب وعظمته وجلاله وأنه رب الجميع ورب كل شيء -سبحانه وتعالى-, وكذلك آياته في التصريف في تصريف الله -تبارك وتعالى-, فإن إهلاك الظالمين وإنجاء المؤمنين آية من آيات الله -تبارك وتعالى-, فهؤلاء كذبوا كل هذه الآيات التي سواء كانت آيات مسموعة, أو آيات منظورة كهذه الآيات في الخلق, آياته كذلك معجزاته التي يجريها على أيدي رسله كذلك كذبوا بهذا, {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}: والإشارة لهم بالبعيد تحقيرًا لهم, أَصْحَابُ الْجَحِيمِ: الصحبة: هي الملازمة الطويلة, والجحيم: النار عياذًا بالله, وهم أصحابها بمعنى أنهم الملازمون لها, التي لا تنفك عنهم, ولا ينفكون عنها عياذًا بالله, فهي صحبة دائمة, أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ: يوم القيامة يلازمون هذا المكان فلا يبرحونه, {........وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ}[الحجر:48] عياذًا بالله.
ثم قال -تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[المائدة:11]: هذا تذكير بنعمة من النعم الخاصة التي أنعم الله -تبارك وتعالى- بها علي عباده المؤمنين مع النبي -صلوات الله والسلام عليه-, يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: خطاب ونداء من الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين, يسميهم باسم الإيمان تذكيرا لهم بهذا الوصف العظيم ليمتثلوا, اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ: اذكروها واستحضروها لتكون حاضرة في الذهن أي استعيدوا هذا المرة تلو المرة وقدروها كل هذا من معاني الذكر, اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ, ثم ذكر هذه النعمة بالخصوص وإلَّا نعمة الله تعم, ومفرد أُضيف إلى معرفة فيعم, كما -قال تبارك وتعالى-: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا}: قال نعمة الله, النعمة مفرد, لا تُحْصُوهَا: لا يمكن عدها, {........إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}[إبراهيم:34], يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ: وهذا من نعم الله, إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ: كانوا في الحديبية وجاءت مجموعة أرادت أن تقتطع جماعة من المسلمين فنبه الله -تبارك وتعالى- رسوله وكف الله -تبارك وتعالى- أيدي هذه المجموعة عن المؤمنين وهذا من نعم الله -تبارك وتعالى-, فمن نعم الله -عز وجل- أن يكُفَّ ايدي الكفار عن المؤمننين, وكذلك أن ينصر أهل الإيمان على هؤلاء الكفار, إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ: والكف: المنع, ثم قال -جل وعلا-: وَاتَّقُوا اللَّهَ: خافوا الله -تبارك وتعالى-, وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ: أي لا على غيره, فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ: أي يتوكل المؤمنون على الله وحده -سبحانه وتعالى-, قدَّم هُنا المعمول على الله ما قال فليتوكل المؤمنون على الله, وإنما قال: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ؛ ليجعل التوكل فقط على الله وحده -سبحانه وتعالى-, التوكل: تفويض الأمر وتسليمه لله -تبارك وتعالى-, والتسليم له -جل وعلا-, والتسليم لله -تبارك وتعالى- إنما يكون بعد بذل السبب, فكل أمر من الأمور يقوم الإنسان بما أوجب الله -تبارك وتعالى- عليه فيه ثم يُسَلِّم النتائج لله -تبارك وتعالى-, كالجهاد, يبذل السبب, ثم يجعل النتائج من النصر والتمكين لله -تبارك وتعالى- كما الرزق كما أي أمر من الأمور يسعى ويكون متوكلًا على الله -تبارك وتعالى- أي يسعى في طلب الرزق وهو متوكل على الله, يسعى في أي طلب, ثم يُسَلِّم الأمر لله -تبارك وتعالى- يعلم أن الله هو الذي بيده الأمر كله -جل وعلا-, يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ: هذا أمر بالتقوى, أمر بعد أمر, وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ, ثم بعد ذلك بعد أن ذكَّر الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين بهذه النعم التي أنعمها عليهم من تشريعه الحكيم -سبحانه وتعالى-, من كف أيدي الكفار عنهم -سبحانه وتعالى-, من تذكيرهم بالعهد والميثاق الذي واثقوا الله -تبارك وتعالى-, من تذكيرهم بموعود الله -تبارك وتعالى- لهم إن التزموا بعهده وموعوده, هُنا بَيَّن الله -تبارك وتعالى- ذكر مثال مما سبق؛ مثال سيء لبني إسرائيل حتى يتجنب أهل الإيمان من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يحتذوا بهذا المثال, فيتعظوا به, ويعلموا سوء العاقبة التي عُقِب بها اليهود لمَّا نقضوا عهد الله -تبارك وتعالى- وميثاقه, قال -جل وعلا-: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}: ميثاقهم أي عهدهم المؤكد, وهو أن أنزل لهم هذه شريعة التوراة وأمرهم بالإيمان به, والعمل بمقتضى هذه الشريعة, وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ: ولقد للتأكيد, أَخَذَ اللَّهُ: نفسه -سبحانه وتعالى-, مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ, وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا: النقيب هو المختار ليكون موكل عن مجموعة اثنى عشر نقيبا عنهم قاموا ليلتزموا عهد الله -تبارك وتعالى- وميثاقه ويكونوا هم نقباء ونائبين عمن ورائهم, {وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}[المائدة:12]: انظر هذا الميثاق الذي أخذه الله وجعله ميثاق بينه -سبحانه وتعالى- وبينهم, قال الله -تبارك وتعالى- لهم: إِنِّي مَعَكُمْ: هذا ما التزم به الرب -سبحانه وتعالى- نحو بني إسرائيل الذين أخذ عليهم الميثاق, قال الله: إِنِّي مَعَكُمْ: أي بالتأييد والنصر والتمكين أكون معكم, ما الواجب عليهم؟ قال: لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ: إقامة الصلاة التي فرضها الله -عز وجل- عليهم, وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ: الزكاة هي إخراج جزء من المال في الوجوه التي أمر الله -تبارك وتعالى- بإخراجها, وسُمِّيت زكاة؛ لطهرتها للنفس وطهرتها للمال, وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي: من الرسل الذين أرسلهم, وَعَزَّرْتُمُوهُمْ: قَوَّيتموهم, قمتم معهم وقرتموهم احترمنموهم, وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا: هذا أمرٌ عظيم أي كل ما تنفقونه من خير هذا اعتبروه قرض أقرضتم الله, والله هو الغني -سبحانه وتعالى-, وقد وعد أنه من أقرضه ومن أعطى في سبيله كافأه الحسنة بعشر أمثالها إلى أضعاف مضاعفة, فما تعطيه في أي وجه من وجوه الخير لله -تبارك وتعالى- إنما إعلم أنه كالقرض على الله -تبارك وتعالى-, الله التزم به التزام من يأخذ قرض ليوفيه ولله المثل الأعلى, العبد المؤمن الصادق إذا أقرضته أوفاك, كيف بالرب الإله العظيم -سبحانه وتعالى-!, وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا: موعود الله -تبارك وتعال- لهم, قال: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ: أسترها وأغطيها ولا أحاسبكم عليها, ثم وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ: لَأُدْخِلَنَّكُمْ: بالتاكيد, جَنَّاتٍ: بساتين, تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَار: من تحت قصورها وأشجارها, فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ: فمن كفر بعد هذا الميثاق بعد أن أنزل الله -تبارك وتعالى- عليكم الميثاق وأخذ منكم هذا العهد ووضح لكم الأمر وعرفتم الصفقة والبيعة بينكم وبين الله على هذا النحو الذي يكفر بعد ذلك بمعنى أنه يجحد هذا ويتبع طريقًا آخر فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ: سواء السبيل: وسطه, والإنسان إذا ضل السبيل السوي أو وسط الطريق خرج منه وضل, ومعنى أنه ضل إلى خسار وإلى دمار, فهذا السبيل هو السبيل للنجاة الموصل لله -تبارك وتعالى- إلى جنته وإلى هذا الموعود, إلى تكفير السيئات, إلى إدخال الجنة, ومن خرج عن هذا ضل سواء السبيل إلى النار, هذا الكلام من الله -تبارك وتعالى- تذكير لعباده المؤمنين انظروا اليهود الذين أخذت معهم العهد والميثاق ماذا كان شانهم؟.
قال -جل وعلا-: فبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ: لمَّا نقضوا ميثاق الرب -تبارك وتعالى- ولم يقوموا بما أوجبه الله وبما عاهدوا الله -تبارك وتعالى- عليه وأخذوا على أنفسهم قال -جل وعلا-: لَعَنَّاهُمْ: طردناهم من الرحمة, اللعن: هو الطرد من الرحمة, وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً: هذه عقوبة, والقلب القاسي لا يستفيد بموعظة لا يتسحيب لأمر, وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً: جعل هُنا عقوبة لهم شديدة من الله -تبارك وتعالى-, فعاد لا يستفيدون ولا يرجعون إلى الدين, يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ: هذا من قسوة القلب, يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ: كلام الله, عَنْ مَوَاضِعِهِ: تحريف لفظي وتحريف معنوي, أما التحريف اللفظي فهذه أسفار التوراة كم حرفوا فيها من ألفاظها ورفعوا الصحيح, ووضعوا الخاطئ, والتحريف المعنوي كذلك وتأويل كلام الله تأويلًا بعيدًا, وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ: نسوه أهملوه, حَظًّا: اسم كبير مما ذكرهم الله -تبارك وتعالى- به نسوه تركوه, وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ: أي أنهم خونة ظلَّوا على هذه الخيانة وأنَّ هذه أصبحت مستمرة فيهم, وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ: قوم يخونون, قال -جل وعلا-: إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[المائدة:13].
سنعود إلى هذه الآية إن شاء الله في الحلقة الآتية؛ لبيان بعض ما فيها من الأحكام, أستغفر الله لي ولكم, -وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد-.