الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على عبد الله الرسول الأمين, وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد, فيقول الله -تبارك وتعالى-: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[المائدة:13]: أخبر -سبحانه وتعالى- أنه أخذ ميثاق بني إسرائيل, ومعنى ميثاقه: عهده المؤكد بين الله -تبارك وتعالى- وبينهم, فهذه شروط الميثاق, قال لهم الله -تبارك وتعالى-: وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ: أي بالتأييد والنصر والتمكين وبالهداية والتوفيق معكم في هذه الدنيا بهذا, لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ: هذا الذي عليهم, وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ: أي وقويتموهم وكنتم معهم, وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا: بالعمل الصالح والإنفاق في سبيله, وذكره الله على صورة القرض؛ لأنه سيوفيه الله -تبارك وتعالى- لهم, لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ َلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ: هذا ما عند الله, هذا ما التزم الله به -تبارك وتعالى- نحوهم طرفا أي جزاء لهذا العقد, فإذا التزموا هذا الله -تبارك وتعالى- يعدهم بهذا, تكفير السيئات: إدخال هذه الجنات, ثم هددهم -تبارك وتعالى- فقال: فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ: بعد هذا البيان والإيضاح وأخذ هذا الميثاق فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ: أخبر -سبحانه وتعالى- أنهم نقضوا عهدهم مع الله -تبارك وتعالى-, قال -جل وعلا-: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ: نقضوا هذا الميثاق فإنهم بدل من تعزير الرسل وتوقيرهم والقيام معهم قاموا معهم بالقتل, قتلوا أنبياءهم, وسعوا في هذا بكل سبيل, وكان آخر ذلك عيسى بن مريم -عليه السلام- الذي سعوا في قتله بكل سبيل, حتى قتلوا شبهه وظنوه هو, وافتخروا بأنهم قتلوه وقالوا: إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله فهو رسول الله وقتلناه, فهؤلاء نقضوا الميثاق بقتلهم الأنبياء, بتركهم ما أمرهم الله -تبارك وتعالى- قال فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ: طردناهم من الرحمة, وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً: لا ينفذوا إليها هدى ولا نور, ولا تستجيب لموعظة ولا تتعظ, وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً: عقوبة لهم من الله -تبارك وتعالى-, يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ: هذا من نتيجة القلب القاسي يأتي إلى كلام الله -جل وعلا- ويحرفه, يضع كلمة محل كلمة, فيبدل المعنى بتبديل ألفاظ, أو يترك الألفاظ ويقول لا معناها كذا وكذا فيبدل المعنى يحرفه: أي المعاني ويترك الألفاظ, هذا إجرام كيف تتجرأ على كلام الرب -تبارك وتعالى-؟! هذا كلام الله الذي مرجعك إليه تعلمه ثم تتجرأ على كلامه على هذا النحو, من قسوة قلوبهم, يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ, ثم قال -جل وعلا-: وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ, نسوه: أهملوه, حظ: قسم مما ذكَّرهم الله -تبارك وتعالى- به من الشرائع ومن الأمور التي أمرهم الله -تبارك وتعالى- بها, أو أمور نهاهم الله -عز وجل- عنها فعلوها فنسوا هذا, سمَّاها الله حظ؛ لأن هذا نصيب, هذا الذي فرضه الله -تبارك وتعالى- عليك من الطاعة, هذا نصيب لك خير لك, هذه زلفى لك عند الله -تبارك وتعالى- إذا تركتها تركت حظك ونصيبك, تركت ما جعله الله -تبارك وتعالى- لك قربة إليه و زلفى عنده, وسبب لدخول جنته ونيل رضوانه ورفعة شأنك عنده, وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ: عقوبة كذلك عاقبهم الله بقسوة القلوب, ثم قال -جل وعلا-: وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ: أي أن الله -تبارك وتعالى- جعلهم أهل خيانة, وأن هذا أصبح مستمر يخون بمجرد ما يجد فرصة في أحد يخونه, {وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ}: أي أهل الاستقامة, وهؤلاء الذين بادروا بالإيمان برسل الله -تبارك وتعالى- قليل منهم من يؤمن فقط, قال -جل وعلا-: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}: أمر الله -تبارك وتعالى- نبيه ورسوله -صلوات الله عليه وسلم- بالعفو والصفح عنهم مع أن هذا هو ديدنهم وهذا ما عاقبهم الله -تبارك وتعالى- به وهذا من كمال هذا الدين ومن سماحته بأن أمر الله -تبارك وتعالى- رسوله ألَّا يستأصلهم من الأرض وإنما يعفو عنهم ويصفح, كلما وجد إلى العفو والصفح سبيل, إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ: والله -تبارك وتعالى- يحب عباده المحسنين, وجعل الله -تبارك وتعالى- هذا من الإحسان, هذا حال اليهود, بالطبع ذكَّر الله -تبارك وتعالى- بهذا العهد بينه وبين اليهود وما كان مالهم فيه حتى لم نتشبه بهم حتى لا نكون مثلهم.
ثم قال -جل وعلا-: كذلك {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}[المائدة:14]: أي أخذنا كذلك الميثاق والعهد من الذين قالوا إنا نصارى, والله ذكَّرهم بهذا, أي نحن أنصار لرسول الله ولعبد الله عيسى بن مريم -عليه السلام- فقالوا: إنا نصارى, إذًا وفُّوا بما قلتموه إنكم أنصار الله وأنصار رسوله عيسى, لكن قال الله: {أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ}, حَظًّا: نصيبًا, مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ: من الشرائع والأحكام العظيمة التي ذكَّرهم الله -تبارك وتعالى- بها, بل إنهم بدَّلوا الشريعة وتركوا هذا وأباحوا المحرمات, غيروا الدين, بدلوا القبلة, ونكايةً اليهود انتقلوا إلى الطرف الآخر, فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ, قال -جل وعلا-: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}: أي عاقبهم الله -تبارك وتعالى- بأن جعلهم متباغضين في الدين, لا يُعرَف أهل دين يبغض بعضهم بعضًا, ويُكَفِّر بعضهم بعضًا, ويقتل بعضهم بعضًا, كما بين النصارى, فإن النصارى أكثر أممم الأرض قتلت بعضها بعضًا وأفنت بعضها بعضًا, آخر هذا هو الحربين العالميتين كلها بين الأمم النصرانية, وظلت الحرب مشتعلة دائما بين الأمم النصرانية جيلًا بعد جيل, وبين طوائفهم والقتلة ومحاكم التفتيش, هذه كلها من اختراعهم ومن شأنهم, فقال -جل وعلا-: عقوبة لهم {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}: أي يستمر هذا فيهم إلى يوم القيامة, التباغض والتقاتل بين طوائفهم ونِحَلِهِم, ثم قال -جل وعلا-: {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}: بالطبع هذه عقوبة عاقبهم لله -تبارك وتعالى- بها لما نسوا حظا مما ذُكِّروا به, ولا شك أن الله -تبارك وتعالى- قد حذَّر هذه الأمة من مثل هذا المصير إذا هي سارت في نفس السبيل الذي سار فيه هؤلاء كما قال -تبارك وتعالى- وهذا في القرآن المكي: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ}[الأنعام:65], ولمَّا نزلت هذه الآية قال النبي لما قال: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ قال: أعوذ بوجهك, أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قال: أعوذ بوجهك, قال: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ, قال النبي: هذا هو أهون العقوبة, هذا أهون التهديد بالعقوبة لترك جزء من الشريعة, فمن ترك جزء من الشريعة يعاقب, فالله يحذرنا ويقول انظروا هؤلاء النصارى أخذتم ميثاقهم, وهذا كان موقفهم مع هذا الميثاق, ثم كانت العقوبة من الله -تبارك وتعالى-: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}[المائدة:14]: في هذا اليوم, ومعنى يُنَبِّئُهُمُ: يحصل بعد هذا الإنباء والإخبار العقوبة, فيثيب المحسنين ويعاقب المسيئين والمجرمين, بعد هذا نادى الله -تبارك وتعالى- أهل الكتاب أن يدخلوا في هذا الدين الذي به هدايتهم ووحدتهم ونجاتهم قال -جل وعلا-: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ}[المائدة:15], {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[المائدة:16], يَا أَهْلَ الْكِتَابِ: نداء من الله -سبحانه وتعالى- وخطاب إلى أهل الكتاب من اليهود والنصارى, ويناديهم ويسميهم بأهل الكتاب؛ تكريما لهم, أنهم منسوبون إلى كتاب مُنزَل من الرب, التوراة, والإنجيل, يَا أَهْلَ الْكِتَابِ: وأيضًا فيه إلزام, أنت يا من تؤمن تقول أنا أسير بشريعة التوراة أو أسير بشريعة الإنجيل, إذًا طبق وافعل والتزم بمقتضى أمر هذا الكتاب, يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا: محمد -صلوات الله عليه وسلم- تأكيد, يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ: آية, ما كانوا يخفونه من الكتاب حتى عن عامتهم ولا يعلمه إلا خواصهم وعلماءُهم, جاء هذا النبي الأمي -صلوات الله والسلام عليه- يخبرهم بالدقائق بالخفايا التي عندهم وهو لم يتعلم ولم يقرأ على أحد, لا قرأ على حبر من أحبار اليهود, ولا راهب من رهبان النصارى, ولا عالم من علماءهم, وإنما رجل أمي نشأ أميًّا ولم يلتقِ بأحد من هؤلاء, ثم يعرف هذه الخفايا وهذه الأمور المستورة التي لا يعلمها إلا خواصهم إذًا مِن أين؟ هذا من الله, فهذا دليل لكم على أن هذا رسول الله حقًا وصدقًا, قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِير}: ويعفو عن كثير لا يظهره؛ لأن فيه أمور كثيرة, فضائح فيه لعنات فيه أمور فيه فضائح كثيرة لهم, وَيَعْفُوا عَنْ كَثِير: أي أنه لا يظهر هذا للملأ ولا يعلنه, قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ: هذا الكتاب, وهذا النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-, قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ: محمد النور -صلوات الله والسلام عليه- كما قال -جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}[الأحزاب:45], {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا}[الأحزاب:46]: فهو السراج المنير أضوأ من الشمس -صلوات الله والسلام عليه-, أضاء الدنيا ما لم تضيئه الشمس -صلوات الله والسلام عليه-, هو أعظم دال على الله -تبارك وتعالى- ومبيِّن له مما أوحى الله -تبارك وتعالى- له من الهدى والنور -صلوات الله والسلام عليه- نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ: هذا القرآن, الكتاب المبين: البيِّن الواضح الذي لا خفاء فيه, وكذلك المُبِيْن المُبَيِّن لكل الأمور كتاب الله -تبارك وتعالى-, قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ: يفسر النور كذلك بأنه هذا القرآن, ويكون له وصف بعد وصف, فيكون هو نور وهو كتاب مبين, وهو النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعه هذا الكتاب المبين من الله -تبارك وتعالى-, يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ: هذا النور والكتاب المبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام هداية خاصة, توفيق منه -سبحانه وتعالى-, فيعرفه وكذلك يوفقه ويلزمه, يَهْدِي بِهِ اللَّهُ: الهداية بشقيها, هداية العلم, وهداية التوفيق, يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ: كل من اتبع رضوان الله -تبارك وتعالى-, واتباع رضوان الله: الإيمان به وتصديقه, وتصديق هذا النبي والسير في خطاه -صلوات الله والسلام عليه- يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ, هنا قال: اتبع رضوانه؛ لأن اتخاذ هذا السبيل إلى الله هو الطريق إلى رضوان الله, هذه صيغة مبالغة من الرضا, والله -تبارك وتعالى- رضاء رضاء, لاحد لرضاه -سبحانه وتعالى- ما يمكن معرفة رضا نفسه سبحانه الله وبحمده عدد خلقه, ورضاء نفسه, وزنة عرشه ومداد كلماته هذه أمور كلها لا حد لها ليس لها حدود, رضوان الله: رضوان واسع جدا مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ: طرق السلامة, السبل: الطرق, فالطرق التي تسلم وهي السلامة من كل آفة وسلام آمن وطمأنينة هذا طريقها, هذا هو النبي الذي معه هذا القرآن يهدي إلى سبل السلام, الطريق أو الطرق الموصلة إلى الله -تبارك وتعالى- طرق السلم, والجنة هي دار السلام آخر شيء والله يدعو إلى دار السلام لأنه لا شر فيها بأي وجه من الوجوه ما فيها حر, ما فيها تباغض, بل ما فيها لغو, {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً}[الغاشية:11], فهذا النبي داعٍ وهادٍ إلى هذا الطريق, وكتاب الله, وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ: فيأخذهم إلى سبل السلام ويدخلهم في الصراط المستقيم الموصل إلى الطريق, ومستقيم: معتدل لا عوج فيه ما فيه لف ولا دوران وإنما هو طريق معتدل أوله هنا وآخره في الجنة إلى الله -تبارك وتعالى-, دعوة عظيمة جدًّا من الله -تبارك وتعالى- أن يدعو أهل الكتاب يقول لهم تعالوا هلموا هذا طريق السلامة وطريق السلم, طريق الهداية والنور, وهذا قد جاءكم؛ لأن النبي مرسل لهم النبي مرسل كذلك لليهود ومرسل للنصارى, بل أول من يجب أن يؤمن به هؤلاء قبل المشركين, وقبل المجوس, قبل مشركي العرب, مشركي العرب أبعد درجات في موقفهم عن الإسلام, بل كان ينبغي أن يكون أول الناس دخولًا في الإسلام أهل الكتاب؛ لأن عندهم علم بأن هذا النبي سيأتي وعندهم علم بالرسالات, عندهم علوم كثيرة مما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- أصل الدين واحد, فإذًا هؤلاء بموقفهم ينبغي أن يكونوا هم أول الناس إيمانا بالنبي وإتباعا له -صلوات الله والسلام عليه- قبل المشركين أمة جاهلة لا تعرف رسالات ولا تؤمن بيوم آخر ولا بحساب ولا تعرف الله, كان الله -سبحانه وتعالى- وإنما علم الله -تبارك وتعالى- عندهم علم ناقص مُشَوه, فهم عندهم مع الرب -تبارك وتعالى- لا يستطيع أن يعيدهم مرة ثانية فموفقهم بعيد, وكيف بالمجوس وكيف بمن بعدهم, فهنا أقرب الناس لكن للأسف صاروا هم بعد ذلك بكفرهم وعنادهم وحسدهم أبعد الناس, أن الله يدعوهم -سبحانه وتعالى-: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ: جاءكم أنتم, رَسُولُنَا: رسول الله -عز وجل-, {يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ}: محمد -صلوات الله والسلام عليه-, وَكِتَابٌ مُبِينٌ, {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: بالطبع لابد أن بعد ذلك أن يُبيِّن موقفهم, أين هم أهل الكتاب الآن الذين يدعون هذه الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- فقال لهم الآن الذي أنتم فيه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[المائدة:17]: هذا بيان للمعتقد الذي عليه أهل الكتاب ويظنون أنهم بهذا المعتقد أحباب الله وأنصاره وأوليائه في الجنة, فيصفعهم الله –تبارك وتعالى- ويُبَيِّن ما هم عليه وأنه الكفر قال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}: هذا حكم الله -تبارك وتعالى- فيهم, فالذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم وهذه مقالة النصارى ويظنون أنهم بهذه المقالة أن هذا الحق وأن هذا هو الذي بُعِثَ به الرسل وأن هذا هو الدين, وأن هذا هو المعتقد, وأن هذا هو النجاة, وأن هذا هو وسائل دخول الجنة, فالله يقول أن هذا كفر, لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ, فرد الله -تبارك وتعالى- مقالتهم هذه بأمر عجيب يقطعها قال: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ}: من الذي يستطيع أن يمنع إرادة الرب -تبارك وتعالى- لو أراد أن يهلك المسيح بن مريم, المسيح هذا ممكن الوجود ليس واجد الوجود هذا مخلوق لم يكن شيئا, ولو أراد الله -تبارك وتعالى- أن يهلكه وأمه ومن في الأرض جميعا, من يملك أن يوقف إرادة الرب -تبارك وتعالى-؟ هذا خلق من خلق الله -تبارك وتعالى- تصرف الله -تبارك وتعالى- فيه كيف شاء, فالله هو الرب الإله الواحد الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-, قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا: أي أن يمنع إرادة الرب -تبارك وتعالى- أو يصرفها أو يحولها, إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ: لو توجهت إرادة الرب -تبارك وتعالى- لهذا هل يستطيع أحد أن يمنع إرادة الرب -جل وعلا-؟, وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا, {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا}: لله لا لغيره -سبحانه وتعالى-, فهو الذي أبرزها من العدم إلى الوجود -سبحانه وتعالى-, مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا: ما بين السماوات والأرض من مخلوقات, نجوم, كواكب, مجرات, كل هذا ملك لله -تبارك وتعالى-, يخْلُقُ مَا يَشَاءُ, الخلق: الإبراز من العدم أو التقدير كل هذا لله -تبارك وتعالى-, وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: الله قدير على كل شيء -سبحانه وتعالى-, ومن قدرته أنه خلق المسيح على هذا النحو خلقه من أم بلا أب, فهذا خلقه و بالنسبة للبشر كل أنواع الخلق اثنين في اثنين فأربعة كلها خلقها الله -تبارك وتعالى-, فآدم مخلوق من غير ذكر وأنثى, خلقه الله -تبارك وتعالى- من طين هذه الأرض وهم يقرون بهذا أي أهل الكتاب يقرون بهذا, حواء خلقها الله -تبارك وتعالى- من ذكر دون أنثى, ما يُعْجِز الله -تبارك وتعالى- شيء, أخذ الله -تبارك وتعالى- ضلع من أضلاع آدم فسوى له هذه الزوجة, قام من نومه فوجدها بجواره, وخلقها الله -تبارك وتعالى- نظير له من شبهه, حتى يأنس إليها و يسكن إليها, ما خلق الله زوجة له من حيوان آخر أو معدن آخر أو من شيء آخر ما يأتنس بها ولا يسكن إليها كما تكون شيء من جسمه من لحمه ودمه, ثم خلق الله -تبارك وتعالى- كل البشر, خلقنا من اجتماع الذكر والأنثى, ثم خلق الله -تبارك وتعالى- عيسى القسم الرابع من امرأة بلا ذكر يخلق الله -تبارك وتعالى- ما يشاء -سبحانه وتعالى- يخْلُقُ مَا يَشَاءُ: كيف يشاء -سبحانه وتعالى-, وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: لا يُعْجِز الله -تبارك وتعالى- شيء بل هو قادر على كل شيء -سبحانه وتعالى-.
ثم قال -جل وعلا-: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ: هذه مقالتهم الشنيعة ما هذا الكفر والعناد والبعد عن الله -تبارك وتعالى-, ونسيان ما نسوا من الشرائع التي أنزلها الله -تبارك وتعالى- عليهم, وكل هذا التبديل ومع ذلك يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه, وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى: أنا كل منهم قال, اليهود قالت نحن أبناء الله وأحباؤه, والنصارى قالت نحن أبناء الله وأحباؤه بنية التكريم أي كرمنا الله -تبارك وتعالى- بنوة نسب واحد يحبنا الله -تبارك وتعالى-, قال -جل وعلا-: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ: إذا كنتم كما تدَّعون أنكم أحباب الله يحبكم وأنتم أبناءه أي أبناء تكريم يكرمكم كتكريم الأب لأبناءه تعالى الله -تبارك وتعالى- عن مقالتهم, قال: فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ: لماذا كنتم بهذه المنزلة عند الرب -تبارك وتعالى- إذا أذنبتم ذنب فيعذبكم بهذا الذنب قد وقع عليكم من العذاب والآلام أمور عظيمة جدًا, فهذا تاريخ بني إسرائيل حافل بالعقوبات الشديدة من الرب -تبارك وتعالى- على الذنب, هؤلاء عبدوا العجل فأمر الله بقتلهم, كل من عبد العجل, الذين اعتدوا في السبت قال الله: {........فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}[البقرة:65], الذين دخلوا بيت المقدس على أستاهم يقولون حبة في شعرة حبة في شعيرة, ويقولون حنطة بدلًا أن يقولوا حطة ضربهم الله -تبارك وتعالى- قال: {فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}[البقرة:59]: وهذا تاريخهم الطويل تسليط الله -تبارك وتعالى- عليهم الأعداء ليهينوهم ويذلوهم أمر عظيم جدًا, {{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا}[الإسراء:4], {{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا}[الإسراء:5], {{ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا}[الإسراء:6], {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}, ثم قال -تبارك وتعالى-: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا}[الإسراء:5], {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا........}[الإسراء:8]: إن عدتم إلى الإفساد عدنا إلى العقوبة, فيعاقبهم الله -تبارك وتعالى-, وهؤلاء هم النصارى سُلِّط عليهم بسبب ذنوبهم أمور عظيمة, من المقاتل العظيمة التي كانت بينهم, من الحروب التي أفنتهم بسبب معاصيهم وبسبب ذنوبهم, قال لهم: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ: ما يعذبهم الله -تبارك وتعالى- هكذا ابتداعًا وإنما يعذبهم بذنوبهم, إذا ارتبكتم ذنب عاقبكم الله -تبارك وتعالى-, لو كنتم حقا أبناء الله وأحباؤه وأنه لا يصيبكم عقوبة عند الله فمهما فعلتم فإن الله لا يعاقبكم لأنكم أبناء الله وأحباؤه ما كان وقع عليكم ما وقع, قال -جل وعلا-: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}[المائدة:18]: إعلموا هذا؛ أنكم من ملك الله -تبارك وتعالى- ولستم أبناء الله ولا أحباؤه كما تدَّعون, وإنما التكريم والمحبة عنده بالطاعة, بل إنكم خلق من خلق الله -تبارك وتعالى- بشر كبقية البشر, للمحسن له الإحسان وللمسيء له الإساءة, ويقع عليه ما يقع على سائر الناس, فالله -تبارك وتعالى- يعامل خلقه -سبحانه وتعالى- معاملة أنهم خلقه وليسوا أبناءه وليسوا أحباؤه فليس لله -تبارك وتعالى- أُبُوَّة على أحد, ولا يحب -سبحانه وتعالى- إلا أهل طاعته, وأما أهل معصيته فمهما كانوا فإنه يعاقبهم -سبحانه وتعالى-؛ وذلك أن الجميع خلقه وملكه, {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}: المرجع إليه لا إلى سواه -سبحانه وتعالى- ليحاسب كل إنسان على فعله وعمله.
نقف عند هذا, أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب, -وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد-.