الإثنين 21 شوّال 1445 . 29 أبريل 2024

الحلقة (147) - سورة المائدة 18-26

إنَّ الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, مَن يهديه الله فلا مُضِل له ومَن يضلله فلا هادي له, وأشهد ان لا إله إلَّا الله وحده لاشريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

أما بعد, فإن حير الكلام كلام الله تعالى, وخير الهدي هدي محمد –صلى الله عليه وسلم-, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.

 وبعد, فيقول الله -تبارك وتعالى-: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[المائدة:19]: هذا نداءٌ بعد نداء من الله -تبارك وتعالى- إلى أهل الكتاب أن يؤمنوا بهذا النبي الكريم محمد بن عبد الله -صلوات الله والسلام عليه-, يقول الله -تبارك وتعالى-: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا}: أي محمد -صلوات الله والسلام عليه-, يُبَيِّنُ لَكُمْ: الصراط والطريق إلى الله -تبارك وتعالى-, يُبَيِّن لكم ما كنتم تختلفون فيه, قد جاء هذا النبي بعينه -صلوات الله والسلام عليه- سواء كان من حقيقة عيسى -عليه السلام- أنه عبد الله ورسوله, وأنه ليس كما قالت اليهود فيه, ولا كما قالت النصارى فيه, وكذلك يُبَيِّن لليهود ما كانوا يختلفون فيه من شأن رسلهم وكتابهم ومن شأن تشريعهم, ويُبَيِّن لهم صراط الله والطريق إلى الله -تبارك وتعالى-, عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ: جاءكم هذا الرسول على فترة من الرسل, الفترة: هي وقت طويل لم يرسل الله -تبارك وتعالى- فيه رسول, فإنه ليس بعد عيسى ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- لم يرسل الله نبيًا ولا رسولًا, وبين عيسى وبين النبي ستمائة سنة, هذه فترةٌ طويلة لم تعهد في الأرض أن يخليها الله -تبارك وتعالى- من الرسالة, فإن الرسل قبل ذلك كانوا يأتون متعاقبين بل بعضهم يكونون متعاصرين كما قال -جل وعلا-: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ........}[المؤمنون:44]: هنا بين عيسى وبين محمد كانت فترة من الرسل, فجاء هذا النبي وكأنه جاء والأرض عطشى, وأهل الكتاب قد غيروا ما غيروا من الدين وبدلوا ما بدلوا, والكل في انتظار المخلِّص الذي يأتيهم بالخلاص, جاء النبي على فترة من الرسل, كانت هذه الفترة الكل عمى عن طريق الرب -تبارك وتعالى-, كما في الحديث: «إن الله -تبارك وتعالى- نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عجمهم وعربهم إلا بقايا من أهل الكتاب», فلم يكن قد بقى على الهدى الخالص من الإيمان بالرسالات, ومن القول الحق في عيسى إلا قليل جدًا من أهل الكتاب هم الذين بقوا على الحق وإلا فإن الجميع تحوَّل وتغير الدين وتبدل ودرست الشريعة, فجاء هذا النبي كالمطر الذي يأتي بعد الجدب -صلوات الله والسلام عليه-, أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ: أي احذروا أن تقولوا يوم القيامة ما جاءنا من بشيرٍ ولا نذير, فلا عذر لكم بعد أن جاء النبي -صلوات الله والسلام عليه- أَنْ تَقُولُوا أن أرسل الله -تبارك وتعالى- نبيه ورسوله محمد بعد هذه الفترة حتى لا يقول أهل الكتاب عندما يتوفاهم الله -تبارك وتعالى- ويأتون للحساب ويعتذرون عن بقاءهم على الضلالة التي كانوا عليها أنهم يقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير, بشير بالنكرة هنا لأن أي بشير ولا نذير قال -جل وعلا-: فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ: أي بشير الحق ونذير الحق وهو محمد -صلوات الله والسلام عليه- البشير النذير, البشارة: هي الإخبار بما يسر, والنذارة: الإخبار والتهديد بما يسوء, والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد جاء من الله -تبارك وتعالى- بشيرًا لمن أطاع الله -تبارك وتعالى- وسار في طريق الرسل هذا يبشره بالجنة, ونذير لمن تخلَّف عن أمر الله وأعرض عن أمر الله -تبارك وتعالى- بالنار فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ: أي حقيقي هنا أيضا للتنكير هنا وللتعظيم أي على أتم الوجوه, فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: الله -سبحانه وتعالى- على كل شيء قدير, ومن قدرته -جل وعلا- إرسال هذا النبي البشير والنذير للناس جميعا ليهدي إلى طريق الرب -تبارك وتعالى-, هذه الآية كما قلنا هي ختام من هذا الفاصل من الآيات التي دعا الله -تبارك وتعالى- فيها أهل الكتاب إلى الإيمان بهذا النبي بدا الله -تبارك وتعالى-: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ}[المائدة:15], {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[المائدة:61], ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- من كفر بالنصارى وضلالهم في حقيقة المسيح فقال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[المائدة:17], ثم أبطل الله -تبارك وتعالى- مقالتهم أنهم أبناء الله وأحباؤه, وأنه لن يعذبهم مهما فعلوا وقالت اليهود والنصارى أي كل منهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}[المائدة:18], ثم في ختام هذا قال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا}: أي محمد -صلوات الله وسلامه عليه-, { يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ}: أي جاء بعد فترة من الرسل فترة طويلة لم يرسل فيها رسول, {أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ }: قطع العذر والحجة, {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}, ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- حال بني إسرائيل مع موسى في نكولهم عن القتال في سبيل الله, ولبيان هذا الحال أولًا: شهادة من الله -تبارك وتعالى- لرسوله بالحق لأن هذا مما تواصل اليهود على كتمانه جاء هنا الله -تبارك وتعالى- يظهره ويبين كذلك حال اليهود مع رسلهم, وأنهم ليسوا أهل طوع وأهل استقامة, وأهل شجاعة للقيام بالحق, قال -جل وعلا-: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ}[المائدة:20]: إذ قال موسى -عليه السلام- بني إسرائيل لقومه أي بني إسرائيل, يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ: أي قام فيهم مذكِّرًا إياهم بنعمة الله عليهم, ثم ذكر من هذه النعمة قال: {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ}: جعل فيكم أنبياء, فإن الله -تبارك وتعالى- جعل فيهم نبوة عظيمة قبل موسى وبعد موسى -عليه السلام-, فقبل موسى كان فيهم إسرائيل نبي, اسحق نبي, هذا جدهم الأعلى, ثم إن بعد ذلك هذا إسرائيل هذا هو رأس وأبو بني إسرائيل جميعا أبوه كان نبي, ثم من نسله كان يوسف وكان من الأسباط أنبياء, ثم بعد ذلك بعث الله -تبارك وتعالى- نبيهم ورسولهم الأعظم موسى -عليه السلام-, ثم كان بعد ذلك كان داوود, وكان سليمان وكان أيوب, وكان يونس, أنبياء كثيرة جعل فيكم أنبياء, هنا ممكن أن يكون لمن مضوا ولمن يأتوا من باب الجعل هنا أن الله -تبارك وتعالى- قد أرسل وقدر وخلق -سبحانه وتعالى- وجعلكم ملوكًا هنا جعلهم ملوكًا مالكين لأنفسهم, وذلك بعد أن خرجوا من ذل المصريين إلى الأرض إلى سيناء أصبح أول شيء هذا أول الملك مالكين لأنفسهم, ثم جعلكم ملوكًا كذلك فيما قدره وقضاه -سبحانه وتعالى- أن يكون منهم ملوك, وقد كان منهم ملوك عظام كداوود وسليمان -عليهما السلام- وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ: من الهداية والاجتباء والاصطفاء وتوالي الأنبياء فيكم, وكل سياستكم أن تسايس لأنبياء كما قال -صلى الله عليه وسلم- كانت بنو إسرائيل يسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي فكان الله-تبارك وتعالى- جعل قادتهم أنبياء يوحى إليهم من السماء من عنده -سبحانه وتعالى- وهذا لم يؤته الله -تبارك وتعالى- قوم من الأقوام مثلهم, ولذلك فضَّلهم عن العالمين بهذا كما في قول الله: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}[البقرة:40]: لهذه المنن العظيمة وهذه النعم السابغة, وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ, ثم قال لهم: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}[المائدة:21]: كان هذا قول وهذا التذكير من موسى -عليه السلام- بعد أن خرجوا من أرض مصر وأصبحوا في برية سيناء, وتهيئوا لدخول الأرض المقدسة أرض الشام أرض فلسطين فدعاهم موسى -عليه السلام- أن يقاتلوا القوم الكفرين الذين فيها ويجلوهم ويورثهم الله -تبارك وتعالى- هذه الأرض, يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ: المطهرة, أرض قدسها الله -تبارك وتعالى- وطهرها وبارك فيها -سبحانه وتعالى-, الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ: كتبها الله -تبارك وتعالى- لكم في مقاديره فيما قدر -سبحانه وتعالى- فجعل من مقاديره أن يسكنكم هذه الأرض, وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ: كفارًا وجبناء تخافوا أن تقاتلوا, {وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ}[المائدة:21]: تنقلبوا خاسرين إذا تركتم هذا الدين وتركتم هذه الرسالة تذهب إلى الخسارة خسارة الدنيا والآخرة خسارة في الدنيا بهزيمتكم وخسارة الآخرة بورودكم العذاب ونار جهنم, فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ, قالوا: أي هؤلاء قوم موسى, {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ}[المائدة:22]: هكذا بخطاب بعيد عن الأدب وعن الأخلاق لا يقولون يا نبي الله ولا يا رسول الله, وإنما يقولون يا موسى منادينه باسمه هكذا المجرد, ثم يقولون جبنًا وخوفًا إن فيها: أي في هذه الأرض المقدسة أرض فلسطين قومًا جبارين, وقد ذكر أن كان فيهم العمالقة قوم كبار الأجسام وفيهم قوة وشدة, إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ, الجبر: هو القوة هو القهر والتسلط إذا كان الناس أهل قوة وأهل تسلط وأهل بطش بأعدائهم, وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا, وَإِنَّا لَنْ: وهذه تنفي الفعل في المستقبل أي قطع, كأنهم يقطعون أمل النبي في الطاعة, لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا: إلا إذا خرج منها هؤلاء, فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا: من هذه الأرض وندخلها بلا قتال وبلا مشقة, فَإِنَّا دَاخِلُونَ, قال -جل وعلا-: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}[المائدة:23]: بعض أهل علم التفسير يقولون قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ: رجلان هؤلاء من قوم موسى ممن أرسلهم ليستطلعوا خبر هذه الأرض وما فيها, فالذين يخافون من الله, قال رجلان من قوم موسى من الذين يخافون الله غير البقية التي أرسلها, فقد أرسل اثني عشر رجلا يتجسسوا ويتحسسوا له أخبار القوم, فجاء فبعضهم قال بالطبع العشرة هؤلاء أجمعوا على أنهم لن يستطيعوا أن يدخلوا لقوة وبأس وشدة أهل الأرض, ورجلان من قوم موسى قالوا هذه المقالة: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ: أي فاعزموا وادخلوا على القوم وأنتم مع الله -تبارك وتعالى- وإذا دخلتموه عليهم دب الرعب في قلوبهم وفزتم ونجحتم وهزمتموهم, وفي القول الآخر: قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا: أي رجلان من العمالقة من أهل الأرض من الكفار لكن فيصير من الذين يخافونهم قوم موسى أي رجلان من العمالقة قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ: أي يخافون منهم, أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا: بالإيمان والإسلام أي دعوا وعرفوا الحق فأسلموا, ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ: أي كأنهم قالوا لهم إن قومنا وإن كانوا فارعي الطول وأهل قوة إلا أنهم خواء هواء, وإذا دخلتم عليهم الباب ورأوا أن هناك من يحاربهم فروا من أمامكم ولم يبقى أحد, فكان هؤلاء الرجلان الذين أسلما وآمنا ودخلا في الدين هم بدأوا بأن يشجعوا ويحثوا قوم موسى أن يدخلوا الأرض على قومهم, وأنهم إذا دخلوا هزموهم؛ لأنهم قوم في ظاهرهم القوة وفي باطنهم الخوف والرعب, ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ: أي بحول الله وقوته, وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ: توكلوا على ابذلوا السبب اتركوا النتائج لله -تبارك وتعالى- توكلوا على الله أي لا علي غيره فتوكلوا إن كنتم مؤمنين, ولكن القوم الجبناء أصروا على موقفهم {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا} إنا بالتأكيد, لن ندخلها أبدا: قد قفلوا باب الدخول وحتموا الأمر وأنهم لن يفعلوا ما أمرهم الله -تبارك وتعالى- به ما داموا فيها, أي ما دام فيها العمالقة ما دام فيها هؤلاء الجبارون, {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}[المائدة:24]: فاذهب أنت يا موسى وربك فقاتلا, وفي هذا من سوء الأدب وسوء الأخلاق فمع أنهم جبنوا وخافوا إلا أنهم كذلك تكلموا عن الرب وكأنه ليس هو ربهم ولا إلههم ولا ملكهم -سبحانه وتعالى- فقالوا: اذهب أنت وربك, ما قالوا وربنا أو والله لا وربك أنت يا موسى كأنه ليس هو ربهم -سبحانه وتعالى- فقاتلا فكأن هذا أيضا إيكال الأمر لأن يقاتل الله -تبارك وتعالى- عنهم وهم قاعدون غاية إساءة الأدب مع الرب الإله -سبحانه وتعالى-, ثم إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ: إصرار منهم على القعود عن القتال هذا مع موعود الله -تبارك وتعالى- لهم بأنهم منتصرون وأنهم قد كُتِبَت لهم هذه الأرض, وأنها في قضاء الله وقدره وأنها لهم, فمع كل هذا التأكيد وأن الله معهم وتأكيد رسولهم إلا أنهم قابلوا كل هذا بهذا العناد وهذا الجبن وهذا الإصرار وهذا الموطن من المواطن التي قال أهل العلم بأن أهل الإسلام من أمة محمد -صلوات الله والسلام عليه- لا شك أنهم خير من بني إسرائيل وهم خير أمة أخرجت للناس كما أخبر الله -تبارك وتعالى-: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ: على الإطلاق, وأن قول الله -تبارك وتعالى- في بني إسرائيل: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}[البقرة:47]: إنما هم العالمون في زمانهم فقط وأما تفضيلهم على كل العالمين وكل أمم الهداية فإنهم أمة هداية نعم لكنها لم تكن بمستوى أمة الهداية العظمى وهي أمة محمد -صلوات والسلام عليه- وهذا موطن من المواطن الذي يتبين فيه معدن هؤلاء ومعدن هؤلاء, موسى -عليه السلام- النبي أعظم أنبياء بني إسرائيل ومعه جميع بني إسرائيل الذين خرجوا من أرض مصر وعدوهم أمامهم والنصر ذُكِّروا به ووُعِدوا به وهم عدد هائل جدًا قال بأنهم سبعمائة وخمسين ألف في هذا الوقت, ويناديهم رسولهم بأن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لهم ويحاربوا أهلها وينتصروا, ولكنهم خافو وكانت هذه مقالتهم: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}[المائدة:24], وهذا نبينا محمد -صلوات الله والسلام عليه- ويخرج في ثلاثمائة وبضع عشر رجلا من قومه من أهل الإسلام من هذه الأمة الخاتمة, الأمة المنصورة, يخرجون سريعا وهم لا يتوقعون حرباً, وإنما يتوقعون أن ينالوا غنية باردة ويأتوا بها, ثم يفاجئوا بأنهم إما عدوهم وأنه خرج لملاقاتهم بحده وحديده, خرجت قريش بحدها وحديدها وهم ألف يعظمونهم ثلاث مرات وقال النبي: -صلوات الله والسلام عليه- لأصحابه عندما وجد أنه أمام قريش قال أشيروا علي أيها الناس هل تقاتلونهم أم لا؟ فقال: كل الصحابة الذين كانوا مع النبي كانوا على قلب رجل واحد ولم يتخلف منهم أحد ولم يقل له أحد لا والله يا رسول الله ننتظر لن نخرج نريد قتال وإخواننا خلفنا, لو أننا نريد القتال لخرج ضعف هذا العدد انتظر بنا يا رسول الله وليكن لقاءنا معهم لقاءا آخر فاتت من الغنيمة فلنرجع الآن ما قال أحد مثل هذه المقالة, ولكن قالوا أبو بكر: قال وحرض على القتال, وعمر قال وحرض على القتال, وقام سعد بن معاز -رضي الله تعالى- عنه وكان سيد الأوس وكان الأنصار أكثر الموجودين, فإن المهاجرين كانوا قلة بالنسبة للأنصار كانوا بضع وثمانين رجلا فقال له: كأنك تعنينا يا رسول الله قال أجل, قال: أنتم الناس فإنا قد آمنا بك وصدقناك وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا, والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تخَلَّف منا أحد, ولو ذهبت بنا إلى برك الغماد لقاتلنا معك من دونه قم يا رسول الله لما أمرك الله فوالله إنا نحن الأنصار لصبر في القتال سبق عند اللقاء, نحن أهل صبر في القتال صدق عند اللقاء قالوا: قم فلعل الله -تبارك وتعالى- أن يقر عينيك بنا ويقوم المقداد بن الأسود -رضي الله تعالى- عنه ويقول له: يا رسول الله قم فوالله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون, بل اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون, يقول نقاتل مع الله -تبارك وتعالى-, ومع رسوله -صلى الله عليه وسلم- فالأمر مختلف تماما, لذلك هذه الأمة من المواطن التي إذا قامت المقابلة بين بني إسرائيل في هذا موقفهم من القتال وبين اباع محمد هذه الأمة في موقفها من القتال يتبين افتراق المعدنين وافتراق الموقفين, وهذا من مواطن تفضيل هذه الأمة تفضيلا على كل الأمم, {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ........}[آل عمران:110], نعود فنقول أن بني إسرائيل قالوا لموسى: إنا لن ندخلها أبدا, وهذا للتأبيد مطلقا, مَا دَامُوا فِيهَا: ما دام هؤلاء القوم الجبارون فيها فإنا لن ندخلها, فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ عند ذلك قال موسى متوجه إلى الله -تبارك وتعالى- ويآسًا من طاعة قومه له, قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي: أي يا رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي لتنفيذا أمرك أن نخرج للقتال بأمرك لكن لا يوجد غيري وأخي, وأخوه هو النبي هارون -عليه السلام-, {فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}[المائدة:25]: أي بيننا وبين القوم الفاسقين الذين خرجوا عن طاعة الله -تبارك وتعالى-, وهذا دعاء منه أن يجعل الله -تبارك وتعالى- له فرق بينه وبين هؤلاء عند ذلك حكم الله -تبارك وتعالى- عليهم حكمًا لم يحكمه على أحد من الأمم قبلهم {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}[المائدة:26] قال فإنا هذه الأرض المقدسة التي كتبها الله -تبارك وتعالى- لهم سيحرمهم الله -تبارك وتعالى- من دخولها أربعين سنة, يتيهون في الأرض أي لا يعرفون أي مكان فيها, وكانت هذه آية من آيات الله -تبارك وتعالى- مكثوا في برية سيناء أربعين سنة لا يعرفون جهة يتوجهون إليها, بل يتوجهون إلى حيث يريدون, ثم يجدون أنفسهم في الصباح في المكان الذي كانوا فيه, وهكذا يدورون ويدورون ويحوسون في مكانهم لا يعرفون مخرج علمًا أن هذا طريق معروف وشاهده معروفة وهو طريق تجارة يمر الناس فيه بتجارتهم من هنا إلى هناك, ومع ذلك كان الناس يمرون في تجارتهم لا يستطيعون أن يصلوا إلى أحد ولا يستطيع أحد أن يصل إليهم, وبقوا على هذا النحو في هذا التيه الذي ضربه الله -تبارك وتعالى- عليهم وهم هذه الجموع الغفيرة الكبيرة يقرب من مليون شخص, ولكنهم لا يهتدون سبيلًا بحكم الله -تبارك وتعالى- القادر على كل شيء {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}[المائدة:26]: لا تتأسف على القوم الفاسقين, وفي التيه مات موسى -عليه السلام- ومات هارون بعده, ولم يشاهد الأرض المقدسة, وعند الموت قال رب قربني من الأرض المقدسة رمية حصا حتى يموت قريبًا فمات قريبا منها, ولم يدخلها لا هو ولا هارون النبي, وإنما دخلها من بعدهم وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث إسرائه قال: مررت وإذا موسى قائم يصلي في قبره هناك عند الكثيب الأحمر بجانب الطريق لو كنت ثم لأريتكموه, فالنبي هو الذي رأى قبره -صلوات الله والسلام عليه- ومنذ ذلك اليوم لم يهتد أحد إلى مكان قبره -عليه السلام- وهكذا حكم الله -تبارك وتعالى- على بني إسرائيل بالبقاء في هذا التيه حتى ينشأ منهم جيل جديد يصلح لأن يقاتل في سبيل الله.

نقف هنا عند هذا, وقد نعود في الحلقة الآتية إلى بعض ما يستخلص من هذه القصة, أقول قولي هذا, وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب, فاستغفروه, والحمد لله رب العالمين.