الإثنين 21 شوّال 1445 . 29 أبريل 2024

الحلقة (148) - سورة المائدة 26-33

الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على عبد الله الرسول الأمين, وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد, فيقول الله -تبارك وتعالى-: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}[المائدة:26], {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}[المائدة:27], {لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}[المائدة:28], {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ}[المائدة:29], {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[المائدة:30], {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ}[المائدة:31]: فيما قص الله -تبارك وتعالى- علينا من نبأ موسى وقومه إذ ذكَّرهم بنعمة الله -تبارك وتعالى- عليهم, وأمرهم بأن يتهيئوا لدخول الأرض المقدسة؛ أرض فلسطين التي وعدهم الله -تبارك وتعالى- إياها, وأن يدخلوها مقاتلين لأهلها ليزيحوهم ويسكنوا مكانهم, ولكنهم كعوا وجبنوا وقالوا: {إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}[المائدة:24], فعند ذلك ضرب الله -تبارك وتعالى- عليهم التيه بعد أن اشتكى موسى لربه -تبارك وتعالى-, {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}[المائدة:25], قال -جل وعلا-: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ}: ضربهم الله -تبارك وتعالى- وجعلهم يتيهون في أرض سيناء أربعين سنة لا يعرفون جهة يخرجون منها من هذا التيه, وهذا من آيات الله -تبارك وتعالى- الكبرى العظمى, قال -جل وعلا-: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ: أي يا موسى, وقد ذكرنا في الحلقة الماضية أن موسى -عليه السلام- هو وهارون مات في التيه, ولم يدخل الأرض المقدسة, وأن موسى تمنى على الله -تبارك وتعالى-, ودعا الله أن يقربه عند موته ليدفن قريباً من الأرض المقدسة التي يتحصل أنه لا يعرف أين الأرض المقدسة كان في التيه مع قومه, وأنه عندما مات كان موته قريبًا من هذه الأرض, وأن نبينا محمد -صلوات الله والسلام عليه- أخبر عندما أسري به عند بيت المقدس أنه مر على موسى وهو قائم يصلي في قبره وقال: رأيت قبره هناك على الكثيب الأحمر على جانب الطريق أي قريبا من الطريق, لكن أخفى الله -تبارك وتعالى- قبره إلى اليوم لا يُعلَم المكان الذي مات فيه موسى, وقال النبي للمسلمين لو كنت ثم لأريتكموه, آية هذا من آيات الله -تبارك وتعالى-, فيما قص الله -تبارك وتعالى- علينا هذه القصة هي بيان لحقيقة بني إسرائيل وهذا موقفهم من الأنبياء وهذا جبنهم, وقلنا إن إظهار هذا الأمر هو أولًا من الأدلة على صدق النبي محمد -صلوات الله واسلام عليه-, فإن هذا الأمر تمالئوا على كتمانه اجتمعوا على أن يكتموه عن الناس بل عن عامتهم, فجاء الله -تبارك وتعالى- وأخرجه وبيَّن سبب وجودهم في هذا الوقت وهي أنه جبنهم, وعدم مسارعتهم إلى أمر الله -تبارك وتعالى-, وذكرنا أن هذا الأمر هو من مواطن التفضيل بين أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- بين أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-, وبين أصحاب موسى, وأن أصحاب محمد -صلوات الله والسلام عليه- كانوا أفضل أصحاب الأنبياء, وكانوا كما قال الله -عز وجل-: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}: فهم خير الأمم على الإطلاق شجاعة وإيمانا وصدقًا وقيامًا بأمر الله -تبارك وتعالى- واستقامة على الأمر وعدم الخداع والنفاق كما كان الشأن في بني إسرائيل.

 أمر آخر من أخبار بني إسرائيل وهو إسرافهم في القتل, فمع جبنهم ومع خوفهم من العدو على هذا النحو إلا أنهم أكثر الناس إفسادا بتقتيل غيرهم ويقتلونهم بكل سبيل, وأكثر قتلهم لغيرهم غيلة وفساد في الأرض, أو تحريض من الناس والشعوب بعضها على بعض ليُبيِّن الله -تبارك وتعالى- هذا الأمر فيهم بيَّن فظاعة وشناعة قتل النفس التي حرم الله -تبارك وتعالى-, وأن من طبيعة الإنسان أن يظلم, وأن الله -تبارك وتعالى- من أجل أن الإنسان ممكن يظلم ويقتل أخاه دون جريرة, فإن الله -تبارك وتعالى- قد وضع لهذا التشريع قوى وهو القصاص, وأن مَن قَتَلَ قُتِلَ حتى يرتدع الإنسان ويكف يده عن دم أخيه, ثم انظر بعد ذلك بني إسرائيل ماذا فعلوا وقد كتب الله -تبارك وتعالى- عليهم, وأنزل عليهم فيما كتب: {........أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا........}[المائدة:32], بدأ يُبَيِّن الله -تبارك وتعالى- هذا الأمر بالقصة التي يذكرها هنا عن ولدي آدم قال -عز وجل-: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ}: أي اتلوا على أهل الكتاب, وعلى هذه الأمة, والنبأ: هو الخبر العظيم, ابْنَيْ آدَمَ: لصلبه, بِالْحَقِّ: أي حال كونك تتلوه بالحق لأنه من الله -تبارك وتعالى- صدقاً وخبرًا من الله -تبارك وتعالى-, إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ: القربان: مال يقدمه العبد لطهره لنفسه وماله, وإثبات أنه مؤمن بالآخرة يحب الرب -تبارك وتعالى- وينفذ أمره, قيل أن أحد هذين الابنين واحد كان زارعًا فلاحًا, والأخر كان راعيًا, فالراعي قدم من خير غنمه قربان لله -تبارك وتعالى-, وجاء هذا الفلاح فقدم من شر حصاده, بحث عن الخبيث من الزرع وقربه, كان الله -تبارك وتعالى- إذا قرب العبد قربانا وقبله الله -تبارك وتعالى- تنزل نار تحرق هذا القربان فهذا دليل على أن الله -تبارك وتعالى- قبل قربان هذا, وأما إذا لم تنزل النار لأخذ القربان فهذا دليل على أن الله -تبارك وتعالى- رفض هذا القربان ولا يريده, فكل منهما قرب قربانًا قال -جل وعلا-: فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ: تقبل الله -تبارك وتعالى- وقربان واحد من الاثنين ولم يتقبله من الآخر, وقال أهل العلم بالتفسير إن الذي تقبل الله -تبارك وتعالى- قربانه هو صاحب الغنم قرب قربانه فتقبله الله -تبارك وتعالى-, وصاحب الزرع لم يتقبل تالله -تبارك وتعالى- قربانه, قَالَ: أي هذا الذي لم يتقبل قربانه لأخيه لَأَقْتُلَنَّكَ حسدًا عدوانًا, لاقتلنك: باللام الموطَّئة للقسم, أقسم أنه لابد أن يقتله وأكد هذا, قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ: أي قال له أخوه إنما يتقبل الله من المتقين الذين يخافون الله -تبارك وتعالى-, وأن هذا الأمر إلى الله -تبارك وتعالى- فهو الذي يتقبل ما يشاء -سبحانه وتعالى-, فلو اتقيت الله -تبارك وتعالى- وقربت خير ما عندكم لتقبل الله منك, فالمتقي الذي يخاف الله -تبارك وتعالى- هو الذي يقبل الله -تبارك وتعالى- عمله, ثم قال له: {لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}, البسط: هو التوجه والقتل, وأصل بسط بمعنى ضد القبض, قبض يده: منعها, وبسطها: أطلقها, أي إذا أطلقت يدك إلي بالقتل لقتلني لن أُطلِق يدي لأقتلك, وذلك أنه إن أطلق يده أصبح هنا دفاع عن النفس, لكنه أثر أن يسلم الأمر لله -تبارك وتعالى- ولا يشارك في الدفاع عن النفس, فإنه قد يدافع عن نفسه فيقتل أخاه, {لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}: أخاف الله -تبارك وتعالى- رب العالمين أن أُطلِق يدي فأقتلك, {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ}: تبوء بإثمي: بمعنى أنه يغفر الله -تبارك وتعالى- خطاياي بأني استسلمت لهذا الأمر الذي فيه ضرر علي ليغفر الله -تبارك وتعالى- خطيئتي كأنها تذهب الشهادة بهذه الخطيئة, وإثمك أنت لأنك معتدي وظالم, وتقتل بلا سبب, فتأخذ إثمي ويكون هذا كفارة لي, وكذلك إثمك تبوء به, ومعنى تبوء: به تستحقه وتحمله فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ, وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ: وذلك أن تكون في النار؛ هذا جزاء الظالمين أهل الظلم, ننظر الآن هذا أمر أخ وأخيه شقيقان ليس في الدنيا غيرهما إخوة, فهم ابني آدم لصلبه, وشخص يريد العدوان على أخيه ابن أمه وأبيه شقيقه, والذي ليس له شقيق غيره, والأرض كلها خالية وواسعة أمامهم, ويستطيع كل منهم أن يكون في مكان, وأن يعيش كما يشاء, وهذا الذي يتوجه لقتل أخيه بغير جريرة, لم يجني أخوه نحوه جريرة ما, وإنما هذا الأمر بينه وبين ربه -سبحانه وتعالى- أي قرب قربانا لله -تبارك وتعالى- فحسده أن تقبل الله -تبارك وتعالى- قربانه, ثم هذا الأخ المُعتَدَىْ عليه والمجني عليه لا يقاوم, بل يدع حتى المقاومة والدفاع عن نفسه فيكون في مقاومته قتل أخيه, ثم بعد كل هذا تأتي نفس هذا الظالم تطوع له قتل أخيه قال -جل وعلا- فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ: أي الظالمة قتل أخيه, ومعنى طَوَّعَتْ له: أي أنها هوَّنت عليه, وجعلته طائعًا, أي كأن نفسه جعلته طائعًا في يدها أن يفعل هذا الفعل, أي نفسه ألزمته وأحنته وجعلت القتل بالنسبة إليه أمر سهل يسير , فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ, قال -جل وعلا-: فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ: لما قتله أصبح خاسراً, وذلك أنه قد لزمته هذه الجريمة الكبرى, فأصبح من الخاسرين, وبالطبع هذا الخسران هو خسران الدنيا والآخرة عياذا بالله.

 قال -جل وعلا-: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ}: أي أنه احتار في جثة أخيه بعد أن قتله ماذا يصنع بها, ولم يكن قد تم موت قبل هذا ولا دفن قبل هذا, فما عرف كيف يصنع بجثة أخيه فالله يقول: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ: أي واحد الآخر, ثم جاءت الغربان على عادتها فنبشت في الأرض, ووضعت الغرب الذي مات وقُتِل وطوته في الأرض, فرأي هذا فتعلَّم من هذا الطير كيف يدفنون موتاهم, {فقَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي}: أي عجزت وأنا إنسان ولي عقل وتفكير أن أهتدي إلى مثل ما اهتدى إليه الغراب فأواري سوأة أخي, أي جسده بعد إذا بقي على الأرض وأنتن, قال -جل وعلا-: فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِين: ندم بعد ذلك على عقله القاصر وعلى فهمه القاصر, وأن غراب قد فقه وعلم من أمر الدفن ما لم يعلمه, نحن الآن أمام قصة واقعة يخبر بها الرب -تبارك وتعالى- ويقصها علينا, وفيها هذه العظات العظيمة والعبر العظيمة, خلاصتها أن الأخ ممكن أن يقتل أخاه شقيقه من صلبه ظلمًا وعدوانًا دون أي جريرة من المجني عليه نحو الجاني.

 قال -جل وعلا-: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}[المائدة:32]: والمشار إليه هو فعل أحد ابني ادم بأخيه, من أجل أن الأخ يقتل أخاه ظلمًا وعدوانًا دون جريرة منه ويعتدي هذا العدوان كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا: الكتابة هنا الفرض أي فرضه الله -تبارك وتعالى- وأوجب على بني إسرائيل القصاص في القتل, وذلك أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ: أي بغير قصاص؛ قتل عدوان, أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ: أي ما قتلها لأنها مفسدة في الأرض وإنما قتلها ظلمًا وعدوانًا, فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا: فعل أحد ابني آدم, فإن قتله كأنه قتل الناس جميعًا, لم يكن في الأرض غير أخيه وقتله, ثم إنه أول من سن القتل كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «ما من نفس تُقْتَل ظلمًا إلَّا كان على ابني آدم الأول كِفل منها لأنه أول من سن القتل», فهو أول من قتل ظلمًا وعدوانًا أحد ابني آدم, فكان كذلك كل نفس تُقتَل في الأرض ظلمًا وعدوانًا, فيكون على ابن آدم هذا ذنب مساوي لذنب القاتل الثاني كفل منها, فالرب -سبحانه وتعالى- يقول: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا: مَن أحيا كذلك هذه النفس فلم تُقتَل أو كانت ستقتل فأحياها ومنع عنها القتل: فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا: أي كافأه الله -تبارك وتعالى- كأنه أحيا الناس جميعا, فالنفس البشرية مُكَرَّمة عند الله -تبارك وتعالى- ومُعَظَّمة عنده, ولذلك العدوان عليها هو أكبر ذنب بعد الشرك بالله -تبارك وتعالي-, بعد الشرك بالله جعل الله -تبارك وتعالى- قتل النفس أعظم الذنوب قال -جل وعلا-:  وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ: أي بني إسرائيل, رُسُلُنَا: الذين أرسلهم الله -تبارك وتعالى- منهم, بِالْبَيِّنَاتِ: بالدلائل الواضحات من الله -تبارك وتعالى- قال -جل وعلا-: {ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}: كثيرًا من اليهود بعد ذلك في الأرض لمسرفون في القتل, انظر هؤلاء الذين جبنوا عن القتال المشروع في سبيل الله إلَّا إنهم يسرفون بالقتل ظلمًا وعدوانًا وغيلة وإفسادا في الأرض, فهم أكثر الناس سفكًا للدماء في الأرض, {ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}: متجاوزون الحد في القتل, يقتلون أعدائهم بلا حد, وهذا الذي ذكره الله -تبارك وتعالى- لليهود ما زال دأبهم منذ ذلك الوقت إلى اليوم, عملهم الإفساد في الأرض والقتل, هم قتلة الأنبياء, وهم يسعون دائما وراء الهداة والمصلحين, ثم قتلة غيرهم, وأكثر ما يقتلون غيرهم, لا يقتلونهم مواجهة في الحروب وإنما غيلة, وهم أكثر من اخترع آلات القتل غيلة, فهم أساتذة في صنع السموم, والقتل عن طريق الاغتيال والدس, والتأليب بين الناس بعضهم ببعض, فهم أكثر الناس سعيًا في الأرض في الفساد بالقتل مع ما أبانه الله -تبارك وتعالى-, فهذه قصة ولدي آدم وهي مذكورة في التوراة بمُسَمَّىْ هابيل وقابيل, وقد قالوا بأن السبب الذي ذكروه في التوراة, بأن سبب الخلاف بين الشقيقين إنما هو الخلاف بسبب الزواج, قالوا بأن قابيل كانت الأخت التي ولدت معه أي وُلِد لآدم ولد وبنت وولد وبنت في البطن الأولي, وفي البطن الثانية, وكانت البنت التي هي توأم قابيل كانت جميلة, وتوأم هابيل كانت دميمة, وأمر الله -تبارك وتعالى- آدم أن يُزَوِج الولد من هذه البطن والبنت من هذه البطن وإن ذلك أصر على أن يأخذ التي كانت ولدت معه لأنها كانت جميلة, ولم يريد أن يأخذ الأخرى, على كل حال قد يكون هذا ذكروه لكن ربما يكون هذا من تلفيقاتهم وكذبهم, وما قصه الله -تبارك وتعالى- في القرآن هو الحق؛ لأن هذا القرآن هو المهيمن على غيره, فأصل القصة عندهم قتل قابيل لهابيل, والقتل إنما كان عدوانًا, حتى لو كان كالرواية التي هي عند بني إسرائيل فهو عدوان, فإن هذا منفذ لأمر الله -تبارك وتعالى- وهذا يريد أن يعتري على تشريع الله وأمره, فقد قتل ظلمًا وعدوانًا, فأقول مع وجود هذه القصة عندهم, ومع وجود ما شرعه الله -تبارك وتعالى- من القصاص, عندهم في التوراة كما قال -تبارك وتعالى-: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[المائدة:44], {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[المائدة:45], مع أن الله كتب عندهم في التوراة القصاص وهو موجود ليومنا هذا في التوراة, وأن القتل جريمة كبرى إلا أنهم كما قال الله -تبارك وتعالى-: {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}: متجاوزون لكل الحدود في القتل, فالعجب أن لا يكف هؤلاء أيديهم عن قتل الناس ظلمًا وعدوانًا, وقد أنزل لله -تبارك وتعالى- عليهم هذا, بل هذا محمد بن عبد الله -صلوات الله والسلام عليه- قد سعوا بقتله بكل سبيل دون جناية ودون جريمة, وألَّبُوا عليه الجميع, فغزوة الخندق لم تكن إلا بتأليبهم وتحريضهم على النبي -صلوات الله والسلام عليه- عِلمًا أن النبي لمَّا نزل المدينة أكرمهم, وعقد معهم المعاهدات ووادعهم -صلوات الله والسلام عليه-, وكان يدعوهم بكل رفق وبكل لين إلى الإسلام, ونزل القرآن بدعوتهم إلى المسارعة وإلى الإيمان بهذا النبي المُخَلِض -صلوات الله والسلام عليه-, وعلموا بيقين أنه رسول الله -صلوات الله والسلام عليه- ولكنهم جحدوا ولم يؤمنوا, ثم خانوا وغدروا وفعلوا الأفاعيل بعد ذلك, ثم سلَّط الله -تبارك وتعالى- رسوله عليهم بسبب عنادهم وكفرهم, الشاهد أنهم أهل غدر, وأهل كيد, وعلموا ما أنزله الله -تبارك وتعالى- من تحريم الدماء, ولكنهم أكثروا الناس سفكا لهذه الدماء, {ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}.

 ثم أنزل الله -تبارك وتعالى- حكمه في المفسدين في الأرض بهذا القتل, قطع الطريق والاغتيال والإفساد في الأرض وهو صناعة اليهود قال -جل وعلا-: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[المائدة:33]: إنما هُنا للحصر, أي حصر جزاء الذين يحاربون الله ورسوله بهذا الإفساد في الأرض, وقتل الغيلة والتأمر, وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا: أي فساد لنشر هذه الجريمة والسعي فيها, أَنْ يُقَتَّلُوا: تقتيل بأن يُقَتَّلُوا المرة بعد المرة يُقَتَّلُوا مباشرةً, إذا حصل هذا لابد أن يُقَتَّلُوا, أَوْ يُصَلَّبُوا: إما التصليب بدون قتل, وإما التصليب مع القتل, أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ: يقطع اليد اليمني والرجل اليسرى من خلاف, وهذا نكاية في العقوبة مع الحسم, وبدون حسم, مع حسم الجرح حتى يبرأ ويبقى على هذا النحو, وبدون حسم الجرح حتى يموت, أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ: يُبْعَد عن الأرض التي هم فيها, قال أهل العلم: إن هذه أربعة عقوبات وهي للجريمة بحسب درجاتها, فمن أخاف السبيل نفي, مَن أخاف السبيل وسلب المال قُطِّعَّت أيديه وأرجله من خلاف وحُسِم, من أخاف السبيل وقَتَلَ قُتِلْ وصُلِّبْ, من أخاف السبيل وقتل وأخذ المال قُطِعَت يده من خلاف ولم يحسم وتُرِك حتى يموت, فتكون العقوبة مناسبة للجريمة التي ارتكبها, أربع عقوبات: وهو النفي في الأرض, قطع اليد والرجل مع حسم الجرح والمحافظة بعد ذلك على حياته, قطع اليد والأرجل مع الترك حتى يموت القاتل, وتصليبه ليكون هذا عبرة, يُصَلَّب يوم, يومين, ثلاثة, حتى يُنشَر هذا, وحتى يكون بعد ذلك عبرة للآخرين, {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ}, قال -جل وعلا-:  ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا: أي هذه العقوبة الشديدة خزي لهم في الدنيا, يَخزَى في الدنيا بإيقاع العقوبة هذه فيه, وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ: أي أن هذا كذلك لن يعفيهم من عذاب الآخرة إذا لم يموتوا تائبين, فيكون لهم كذلك في الآخرة عذاب عظيم, هذا يجمع الله -تبارك وتعالى- عليهم العذابين مع عدم التوبة, أما أن كان فيه توبة ورجوع إلى الله -تبارك وتعالى- فإن الحدود هي كفارات, أما من قُتِل منهم كافرًا فَيُقْتَل كافرًا أي من قُتِلَ بكفره, قُتِلَ بإفساده, كان قاطع سبيل وكان كافر, فهذا عياذًا بالله ينال العذابين.

نقف عند هذا إن شاء الله, وأُصلي وأُسلم على عبدالله ورسوله محمد, الحمدلله رب العالمين.