الخميس 20 جمادى الأولى 1446 . 21 نوفمبر 2024

الحلقة (149) - سورة المائدة 33-40

الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين, وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد, فيقول الله -تبارك وتعالى-: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[المائدة:33], {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }[المائدة:34], بعد أن قص الله -تبارك وتعالى- علينا من نبأ ابني آدم وأن أحدهما قتل أخاه عندما قدر على ذلك, وقتله ظلمًا وعدوانًا بغير كسب من القتيل بل بغير دفاع منه عن نفسه, {لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}[المائدة:28], ومع ذلك قال -جل وعلا-: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[المائدة:30], ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- قال: مِنْ أَجْلِ: أي من أجل أن الأخ يمكن أن يقتل أخاه ظلمًا وعدوانًا بغير حق,{كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}: أي أن الله كتب شريعة القصاص وأنزل هذه الشريعة على بني إسرائيل من أجل أن الأخ يمكن أن يقتل أخاه ظلمًا وعدوانًا, فكان القصاص الذي كتبه الله -تبارك وتعالى- ردعًا عن جريمة القتل العمد والعدوان, {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}: فإن العدوان على النفس كالعدوان على الناس جميعًا, هذا إن إنسان معتدي دفعه دافع إجرامه وعدوانه, فلو تحقق له كذلك أن يقتل الآخر بدافع هذا الهوى وهذا الإجرام لفعل, {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}: من أحيا نفس استبقى عن القتل وخاف الله -تبارك وتعالى- واتقى الله -جل وعلا- فهذا ما دام أنه عنده تقوى من الله -تبارك وتعالى- فلا يعتدي فكأنما أحيا الناس جميعًا, قال -جل وعلا-: وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ: هؤلاء هم الرسل التي أرسلها الله إلى بني إسرائيل, {ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}[المائدة:32]: أي في القتل, هذا بني إسرائيل طبيعتهم الاغتيال والقتل وكثرة الإفساد, بل إنهم عمدوا إلى أصلح الناس وأعدلهم وأتقاهم وهم الأنبياء والصالحون, فسعوا في قتلهم بل قتلوهم وآخر من سعوا في قتله عيسى بن مريم -عليه السلام-, ثم رفعه الله -تبارك وتعالى- بأيديهم بعد أن سعوا إلى أن يقتلوه بكل سبيل, وكذلك سعوا في قتل النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- وتآمروا عليه بكل سبيل تارة بإلقاء حجر من فوقه وهو جالس, وتارة بالسم بل إن السم الذي سمته به اليهودية هو الذي كان في النهاية السبب في موت النبي -صلوات الله والسلام عليه- قال: «ما زال أثر السم بي فهذا أوان قطع أبهري»,  وهو السم الذي سُمَّ به النبي في خيبر من اليهودية, والأبهر: هو شريان القلب الرئيسي, فهؤلاء سعوا في الأرض بالفساد في أصلح الناس وأعدلهم وأعلاهم, وفي غيرهم من أعدائهم يقتلون للهوى والعدوان, ثم قال -جل وعلا-: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ}: شرع الله -تبارك وتعالى- هذه العقوبات الزاجرة الرادعة لمن يسعون في الأرض بالفساد, وهذا كما قال أهل العلم ينطبق أول ما ينطبق على قُطَّاع الطرق الذين يخيفون الطرق ويسلبون المال, والذين يقتلون ويأخذون المال كذلك, أو يخيفون السبيل مجرد إخافة بهذا قبل أن يقتلوا وأن يسرقوا, فهؤلاء شرع الله -تبارك وتعالى- لهم هذه العقوبة الزاجرة, وكذلك من يسعوا في الأرض بالفساد سواء فساد في عقول الناس,  أو في دينهم, أو في أموالهم, فهؤلاء الذين يحاربون الله -تبارك وتعالى-, ويسعون في الأرض فسادًا قال -جل وعلا-: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ}, قال أهل العلم: إن تنوع هذه العقوبات بتنوع الجرائم, فمن خاف السبيل وقتل وأخذ المال؛ هذا يُقْتَل ويُصَلَّب, ومن أخذ المال فقط؛ فهذا يُصَلَّب وتُقَطَّع يده ورجله دون القتل ويُحسَم بعد ذلك, ومن أخاف السبيل فقط مجرد إخافة؛ فهذا يُنفى من الأرض, ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا: ذلك إن هذه العقوبة لهؤلاء خزي في الدنيا, وفضيحة لهم وعار لهم يخزون بها, وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ.

 ثم قال -جل وعلا-: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ}: إلا الذين تابوا عن هذه الجرائم من قبل أن تقدروا عليهم تقدروا عليهم بمعنى أن يقبض عليهم, وأن يقدمون لهذه العقوبة بفعلتهم قال -جل وعلا-: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ: وهذا يدل على أنهم لا يُلاحقون بعد ذلك بجريمتهم التي فعلوها إذا كانوا تركوا قطع السبيل وعادوا إلى الصلاة والتقوى وآمن الناس منهم على أموالهم وعلى دمائهم, فهؤلاء صحيح من أقوال أهل العلم أنهم لا يُطالبون بالجريمة السابقة, وهذا لعله من الله -تبارك وتعالى- فتح باب  التوبة لهم وتركهم لهذه الجريمة وإلا لو كانت هذه الجرائم لا تسقط بالتوبة وبالتقادم وبالترك وطُلِبوا ببعض جرائمهم التي فعلوها في السابق قبل التوبة لكان هذا قفلًا لباب ترك هذه الجرائم لهم, وترك هذه الجرائم منهم وتركهم للفساد, فإنه يُقال أنا مقتول مقتول فإن تبت وقُبِضَ علي وآمنت سيطالبونني بجرائمي السابقة, وبالتالي يستمر في حاله الذي هو فيه, {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: هذه إشارة من الله -تبارك وتعالى- أنه يغفر الذنب إذًا فاعلموا أن الله غفور رحيم يتجاوز, -سبحانه وتعال- عن سيئاتهم إذًا هنا يسقط الحد والحكم عليهم أن تركوا ما هو فيه من هذا الفساد قبل القدرة عليهم, أما إذا قُبِض عليهم وقُدِرَ عليهم وهم ما زالوا زالوا قائمين في جرائمهم فإن توبتهم بعد القبض عليهم لا تسقط الحكم عنهم, بل يجب تنفيذ الحكم فيهم.

 ثم وجَّه الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك نداءه إلى عباده المؤمنين بآية جامعة أن يبذلوا جهدهم ووسعهم لينالوا الوسيلة عند ربهم وإلههم وخالقهم -سبحانه وتعالى- قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[المائدة:35]: آية عظيمة, نداء عظيم من الرب -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين يقول لهم: يا أيها الذين آمنوا وفي هذا حث لهم على الفعل, اتَّقُوا اللَّهَ: خافوه, هذه وصية الله -تبارك وتعالى- وهذا ملاك كل خير وغاية كل بر وكل عبادة, و كلها تقوى الله -تبارك وتعالى- ومن وصل التقوى وصل الخير كله؛ لأن من قامت بقلبه مخافة الرب -تبارك وتعالى- التي تدفعه إلى فعل الطاعات والانتهاء عن المحرمات هذا قد بلغ حقيقة الدين وغاية الفلاح, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}: الوسيلة: هي المنزلة, يقال في اللغة المنزلة عند الملك الوسيلة, والوسيلة: المنزلة والرضوان عند الله -تبارك وتعالى- يبتغوا هذا عنده بالتقرب إليه -سبحانه وتعالى-, فإن الله -تبارك وتعالى- كتب الولاية لمن أدى الفرائض كما في حديث أبي هريرة في الصحيح: «من عاد لي وليا فقد آذنته بالمحاربة ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ وما تقرب إلي عبدى بشيء أحب إلي من ما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولإن سألني لأعطينه ولئن استعاذ لأعيذنه» فهذا الطريق إلى ولاية الرب -تبارك وتعالى-, فالله -سبحانه وتعالى- يأمرنا بأن نسعى إليه, وأن نطلب المنزلة والدرجة الرفيعة عنده -سبحانه وتعالى-, فإنه هو الذي يحب ويقرب من أطاعه -سبحانه وتعالى- بأداء الفرائض والاجتناب عن النواهي مما يدل على أن الوسيلة هي القربى من الله -تبارك وتعالى- والزلفى عنده, قول الله -تبارك وتعالى- عن الملائكة الذين يعبدهم المشركون قال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}[الإسراء:57]: أولئك الملائكة الذين يعبدهم المشركون, أؤلئك الذين يجدعون أي يدعونهم من دون الله, يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ: أي أنهم يسارعون في مرضاة الرب -تبارك وتعالى- ليبلغوا المنزلة عند الرب -جل وعلا-, فيتسابقون في أن يحصلوا المنزلة عند الرب, {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}: فالله -تبارك وتعالى- يستنهض همم أهل الإيمان وأن يبذلوا ما يوصلهم إلى الوسيلة وإلى المنزلة والدرجة العالية عند الرب -تبارك وتعالى-, الحظوة عنده والرضا منه -سبحانه وتعالى-, وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ: هذا المعنى الثاني أي السبب الذي يوصلكم إلى مرضاة الله -تبارك وتعالى- والأسباب الموصلة إلى مرضاة الرب هي تقواه ومخافته, الإيمان به, العمل الصالح ,كل قربة تتقرب بها تقربك إلى الله -تبارك وتعالى-, الصلاة أعظم هذه القُرَب بعد الإيمان بالله -تبارك وتعالى-, والزكاة والصوم والحج, وكل أنواع البر هذه قُرَب تقرب العبد من ربه -جل وعلا-, {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِه}: الجهاد: هو بذل الجهد لإعلاء كلمة الله وهو الجهاد المقصود في الدين, أصل الجهاد من الجهد بذل كل جهد لإعلاء كلمة الله -تبارك وتعالى-, ويكون بالقول, ويكون بالمال, ويكون بالبدن, وبالسيف, كل هذا من معاني الجهاد, أمرنا أن نجاهد الكفار بألسنتنا وأيدينا, وكذلك بأموالنا, بذل المال في سبيل إعلاء كلمة الله, وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِه: بكل أنواع الجهاد, لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ: أي إذا بذلتم هذه الأسباب لعلكم تفلحون, أصل الفلاح: هو حصول الأمنية الكبرى والفوز الأعظم للإنسان, وهو كل ما يرجوه الإنسان ويتمناه, وأن ينجو من كل ما يخاف, وهذا الفلاح يكون على أتم صورة وهي الجنة والنجاة من النار, فمن نجا من النار وأُدخل الجنة فقد فاز وأفلح؛ لأن هذا هو الفلاح التام وكل خير دون ذلك فناقص قليل, فمثلاً حصول ً كل النعم في هذه الدنيا والبعد عن كل شرورها هذا ليس فلاحًا تامًا, هذا شيء من النجاح لكنه ليس فلاحًا تامًا, بل الفلاح على أكمل صورة هو الفوز بجنة الله -تبارك وتعالى-, وبالخلود العظيم وبالنعمة العظيمة والنجاة من النار كما قال -جل وعلا-: {........ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}[آل عمران:185]: فلا عيش إلا عيش الآخرة, ولا متاع في الحقيقة إلا متاع الآخرة, فالله يقول: اتخذوا الوسيلة إلى الله -تبارك وتعالى- واسعوا في بلوغ المنزلة عند الله -تبارك وتعالى- وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون بذلك.

 ثم بين الرب -تبارك وتعالى- صور المقابلة أي هذه صورة الفلاح وهذا طريقها, وأن غير ذلك هو الخسار والدمار قال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[المائدة:36], {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ}[المائدة:37]: أي هذا حال أهل الإيمان الذين يدعوهم الله -تبارك وتعالى- إلى بذل الوسيلة ليحصلوا المنزلة عنده, والمنزلة عند الملك الرب الإله -سبحانه وتعالى- ملك السماوات والأرض خالق كل شيء من بيده كل شيء, فمن نال الحظوة ومن نال المنزلة عند هذا الملك أفلح كل الفلاح, وغيره كافر وخاسر بكل معاني الخسارة قال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا: جحدوا آيات الرب -تبارك وتعالى-, وأنكروا هذه الآيات وساروا في الكفر, لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ: هذا يوم القيامة أي لو أن أحدهم يأتي يوم القيامة وجاء بالأرض كلها ذهب ومثلها كذلك ذهب وأراد أن يقدمه ليفتدي به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم, تعليق مستحيل على مستحيل, فمستحيل أن يكون لأحد ملئ الأرض ذهبًا لكن لو كان لكل كافر ملئ الأرض ذهبًا وقيل له تقدمه لتفتدي نفسك من عذاب يوم القيامة يقدمه ولكنه حتى لو وجد له هذا وقدمه فإنه لا يقبل منه, هذا تعليق مستحيل على النجاة من النار, والتعليق على مستحيل مستحيل كذلك فمستحيلين, وقد جاء في الحديث: «أن الله -تبارك وتعال- يأتي الكافر فيقول له أرأيت لو كان لك مثل الأرض ذهبًا أكنت تفتدي به فيقول: أي والله يا رب كنت أفتدي بها فيُقال: كذبت قد أردت منك ما هو أهون من ذلك ألا تشرك بي شيئًا فأبيت ألا أن تشرك بي شيئا», فهذا حال الكفار -عياذا بالله- حالهم من الخزي والعار والدمار, وتحتم دخولهم إلى النار, أنه لو كان لهم ما في الأرض جميعًا من خير ومثله معه كذلك وقدموه لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: لن يتقبل الله -تبارك وتعالى- منهم هذا ولهم عذاب أليم, علمًا أن الإيمان في الدنيا كان في متناول يدهم فلو قالا آمنا بالله -تبارك وتعالى- ولم يجحدوا آياته ولم يكفروا وبذلوا أدنى ما يمكن أنه يبذلوه العمل الصالح مما أوجبه الله -تبارك وتعالى- لكانت لهم الفوز والنجاة قال -جل وعلا-: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ}: يريدون بكل حيلة وبكل سبيل أن يخرجوا من النار, قال -جل وعلا-: وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا: قد أخبر -سبحانه وتعالى- إن إرادتهم هذه تأتي بالإستغاثة الشديدة, {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ}[الزخرف:77]: مستمرون ألف سنة, يقولون يا مالك ألف سنة وهو يوم كامل, وفي آخر هذا اليوم الذي طوله ألف سنة يقول لهم إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ, {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}[الزخرف:78], يحاول منهم الشخص أن يفتدي بغيره, {يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ}[المعارج:11], {وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ}[المعارج:12], {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ}[المعارج:13], {وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ}[المعارج:14]: يحاول أن يخرج من النار من الغم صعودًا في جبالها لكنه تأتيه المقامع, {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ}[الحج:21], {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا}: أي من شدة الغم والكرب يقفز ويحاول بكل سبيل أن يخرج من النار فتأتيه المقامع على رأسه من الملك يقمعه على رأسه فيسقط ويهوي إلى قاعها -عياذا بالله-, {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}[الحج:22], {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا}: إنها سور عظيم مُغَطَّى عليهم -عياذا بالله-, مُقَفَلةٌ أبوابه, {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ}[الهمزة:8], {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ}[الهمزة:9]: مغلقة, أو في القراءة الثانية: فِي عُمُدٍ مُمَدَّدَةٍ: أي الأبواب قد ربطت في عُمُدٍ مُمَدَّدَةٍ في الأرض بحيث أنه يستحيل فتحها, فإنهم إذا دخلوها أغلقت عليهم إغلاقًا لا فتح بعده -عياذا بالله-, ثم هي بئر عميق في الأرض عياذًا بالله, {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ}, خوَّف الله -تبارك وتعالى- عباده بما يخبرهم من هذا العذاب الشديد والنكال العظيم لأهل الكفر أي هذا حال أهل الكفر, فأنتم يا أيها المؤمنون سارعوا إلى مرضاة الرب -تبارك وتعالى- وحصول المنزلة عنده, أي المجال مفتوح أمامكم لتنالوا الوسيلة والدرجة والمنزلة الرفيعة عند إلهكم وموالكم وربكم -سبحانه وتعالى- قد فتح لكم الطريق إلى ذلك فسارعوا إلى هذا, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[المائدة:35], {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[المائدة:36], {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ}[المائدة: 3].

بعد أن بين الله -تبارك وتعالى- هنا حكم الفساد في الأرض وقتل النفس أتى إلى جريمة ثانية من الجرائم يبيِّن عقوبتها وهي السرقة, فقال -جل وعلا-: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[المائدة:38]: هنا نص الله -تبارك وتعالى- على الرجل والمرأة حتى يُبيِّن أن هذا الحكم للجميع سواء سرق رجل أو سرقت امرأة, وبدأ بالذكور؛ قيل لأن هنا انتشار هذا في الرجال أكثر منه في النساء, والسارق: هو الذي يأخذ مال غيره خُفية من حرز بهذه الضوابط, أن يأخذ مال الغير هذا ما يكون مال له شبة ملك فيه, ثم أن يكون خُفية فلا يكون علانية؛ لأن العلانية هذه نهب والنهبة تختلف عن السرقة, ثم يكون من حرز أي يكون مال محروز وليس مالًا متروكًا مثلاً في صحراء أو غير محروز, ثم لابد أن يكون مال محترم ما يكون شيء قليل, وقد بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- إن أدنى المال الذي يقطع فيه ربع دينار, أربع دراهم ونحوها ربع دينار ذهبي في ذلك الوقت, والدينار في ذلك الوقت كان يساوي ما يساوي أربعين دينار من الدنانير الورقية الآن, فلا قطع في أقل من ربع دينار هذا معنى السرقة بهذه الضوابط, مال محترم, مال الغير, يأخذه خفية, ويأخذه من حرز لا يأخذه مثلا في الطريق كاللقط, فإذا تحقق هذا سارق وسارقة ثم تمكن منه كذلك قبل التوبة, وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا: وقطع اليد؛ قد قطع النبي -صلى الله عليه وسلم- من من الرسغ, جَزَاءً بِمَا كَسَبَا: هذه عقوبة مقابلة للذنب, بِمَا كَسَبَا: أي السارق والسارقة, نَكَالًا مِنَ اللَّهِ: النكال: العقوبة الشديدة أي أن هذه عقوبة شديدة تنكيل هذا بقطع اليد على هذا النحو من الله, الله -تبارك وتعالى- هو الذي كتب هذا وهو الذي فرض هذا -سبحانه وتعالى-, وَاللَّهُ عَزِيزٌ: غالب لا يغلبه أحد -سبحانه وتعالى-, حَكِيمٌ: يضع الأمور في نصابها, فإن هذا يدل على أن هذه العقوبة من العزيز -سبحانه وتعالى-, من الحكيم الذي يضع كل أمر في نصابه, فهي مقابلة تماما للذنب, ولا شك أن هذه العقوبة في هذه الصورة فيها كف للمعتدين عن أموال الناس, وذلك إن السرقة من أشر الأعمال تفسد المجتمعات, وهي من أعظم الفساد في الأرض وأضرارها عظيمة جدًا, ليس على المال الذي سُرِق فقط بل إشاعة هذا, فإن من سرق مرة ولم يجد العقوبة الراجعة الرادعة تمادى في سرقته, وهذا يخيف كل صاحب مال يخفي ماله وتقوم الحراسة وراء السرقة أضرار عظيمة جدًا, وهذه عقوبة رادعة تكف المعتدين عن أموال الناس وبها يحصل الأمان لأموال الناس وتقل الأموال المصروفة على حراسة الناس لأموالهم, ويشيع الأمن والاستقرار فتنمو وتزدهر أحوال الناس, في كل المجتمعات يأمن الناس فيها وتزدهر وتنمو, وكل مجتمع تشيع فيه السرقة يصاب بالفقر والبلاء والجوع, قال -جل وعلا-: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[المائدة:39]: أي ممن نُفِّذ فيه هذا الحد تاب بعد ذلك وأصلح فيما بقي وتاب عن السرقة, وتوجه إلى الله -تبارك وتعالى- ولم يعد إلى هذا الأمر مرة ثانية وصلح دينه فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ: إن الله يتوب عليه بجريمة السرقة, وهذا يدل على أن مَن نُفِّذ فيه الحد تائبا لله -تبارك وتعالى-, تاب الله -تبارك وتعالى- عليه, أما إذا نُفِّذ فيه الحد وبقي على إصراره وجريمته فإنه يكون الحد الزاجر لغيره, ولكن لا يتوب الله -تبارك وتعالى- عليه إلا بحصول التوبة في قلبه قال -جل وعلا-: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[المائدة:40]: يُعَقِّب الله -تبارك وتعالى- على حكمه هذا بأنه هو الرب الإله -سبحانه وتعالى- لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ: فالكل ملكه -سبحانه وتعالى-, يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ: أي مثل هذه العقوبة الدنيوية, وكذلك العقوبة الأخروية, وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ: لمن تاب ورجع عن هذا فالحدود كفارات, وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: -سبحانه وتعالى- قادر على أن يثيب هذا ويعاقب هذا, فالكل ي عبيده وتحت أمره وقهره -سبحانه وتعالى-, فالله على كل شيء قدير لا يعجزه شيء -سبحانه وتعالى-.

نكتفي اليوم عند هذا, -وصلى الله وسلم على عبده وسوله محمد-, والحمد لله رب العالمين.