الخميس 17 شوّال 1445 . 25 أبريل 2024

الحلقة (15) - سورة البقرة 25-27

تفسير الشيخ المسجل في تلفزيون دولة الكويت

الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين, وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهديه, وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد...

فيقول الله -تبارك وتعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[البقرة:27].

بعد أن دعا الله –تبارك وتعالى- الناس جميعًا إلى أن يعبدوه وحده -لا شريك له-, وعرّفهم بأنه ربهم –سبحانه وتعالى- الذي خلقهم, وخلق مَن قبلهم, خلق لهم السموات والأرض, أنزل لهم الماء الذي به حياتهم , وأخبرهم أنهم إن كانوا في ريب, وفي شك مما أنزل على عبده محمد –صلى الله عليه وسلم- أي من القرآن, فليأتوا بحديث مثله, يأتوا بسورة من مثل سوره, فإن لم يفعلوا, أخبرهم –سبحانه وتعالى- أنهم لن يفعلوا كذلك في مستقبل الزمان, فعليهم أن يقدروا بعد ذلك المسئولية, وليعلموا أن الله -تبارك وتعالى- يتهدد ويتوعد المخالفين بالنار, قال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ}, ووصف الله النار فقال: {الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}, ثم بيّن الله -تبارك وتعالى- مصير أهل الإيمان فقال: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} مِن كل رجس, ومِن كل دنس حسي أو معنوي, وهم -أي هؤلاء المؤمنون- في هذه الجنة خالدون.

بعد أن بيّن الله –تبارك وتعالى- مصير الخلق بإزاء هذا القرآن من آمن به, ومن كفر به, قال -جل وعلا- مبينًا أنه -سبحانه وتعالى- لا يستحي أن يضرب مثلاً ما: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا}, هذا بيان منه –سبحانه وتعالى- أنه لا يستحي أن يضرب مثلاً ما في هذا القرآن المنزل؛ إيضاحًا لعباده للحق بأي مخلوق من مخلوقاته, وإن كان من المخلوقات المحقّرة بعوضة فما فوقها, كما ضرب الله –تبارك وتعالى- مثلا بالذباب فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}[الحج:73] وضرب مثلاً بالعنكبوت: حشرة صغيرة قد يحتقرها الناس, فقال: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[العنكبوت:41] ,وقد كان من اعتراض الكفار على القرآن, وأنه لا يمكن أن يكون من عند الله, قالوا: "كلام الملوك يتنزه عن ذكر هذه المخلوقات الصغيرة الحقيرة كالذباب, والعنكبوت", فبيّن –سبحانه وتعالى- أنه نزّل كتابه هداية لخلقه, وأنه يرشدهم ويوضح لهم الطريق ويضرب لهم الأمثال, فإن المثل صورة حسية تقرب الأمر المعنوي. ذلك أن الأمور المعنوية عسيرة في الفهم عن الأمور التي تقع تحت الحس.

نبذة مع كلمات الآية كلمة كلمة, ثم نرى بعد ذلك المقصود العام من هذه الآية, يقول الله –عز وجل- ويؤكد: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا} الحياء أولاً بالنسبة للمخلوق هو صفة من صفات الكمال, وقد جعله النبي شعبة من شعب الإيمان, فقال: «الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا اله إلا الله, وأدناها إماطة الأذى عن الطريق, والحياء شعبة من الإيمان».

ما معنى الحياء بالنسبة للمخلوق؟ الحياء قيل مشتق من الحياة, وكأن الحي حي القلب, وحي الروح, يستحي من القبيح, فالحياء هو نوع من انقباض النفس وابتعادها عن فعل القبيح, هذا في المخلوق, وكأن انقباض النفس وابتعادها عن فعل القبيح, إنما هو من حياتها, وأما إذا ماتت النفس وماتت الهمة ومات الشعور وتبلد, فإن صاحب هذه النفس لا يستحي, ولذلك قيل في حكمة الشعر:

من يهن يسهل الهوان عليه                          ما لجرح بميت إيلام

فالمهين الذليل مهما تجمع عنده من القبيح وفعل القبيح, فإنه لا يستحي من ذلك, فميت القلب والشعور والبليد لا يستحي من القبيح, وأما الحي الذي امتلأت روحه وقلبه بالحياة والحيوية, فإنه ينقبض ويربأ بنفسه أن يفعل القبيح, وهذه صفة مدح في المخلوق, وقد ذكرنا أن النبي –صلى الله عليه وسلم- جعل الحياء شعبة من شعب الإيمان, وقد قال –صلى الله عليه وسلم-: «إن الحياء لا يأتي إلا بخير, أو الحياء خير كله» فهو صفة مدح.

لا شك أن الحياء جاء أيضاً صفة وُصف بها الرب الإله -سبحانه وتعالى- كما جاء في قول النبي –صلى الله عليه وسلم- «إن الله حيي كريم», وجاء أيضًا "أن الله -تبارك وتعالى- يستحي من عبده أن يرفع إليه إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا" أي خاليتين, فالله يستحي من عبده إذا رفع إليه وتمسكن عنده وطلب منه يستحي ألا يستجيب دعاءه, وأن يرجع بيدين خاليتين, لا يعطيه الرب -تبارك وتعالى- فالله حيي كريم, وجاء كذلك إن الله يستحي أن يعذب شيبة شابت في الإسلام: أي إن عبدًا شاب في الإسلام كبر سنه وشاب في الإسلام, فالله -تبارك وتعالى- يستحي أن يعذبه, هذا وصف صفة من صفة الكمال للرب -تبارك وتعالى- وهي لائقة بذاته, والله لا يستحي من الحق أي الأمور التي فيها حق لا يستحي منها, كما جاء في تأديب الله –تبارك وتعالى- للمؤمنين ألا يدخلوا بيت النبي في وقت يكرهه النبي, أو أن يجلسوا في بيته في وقت يحرج به كما قال –جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ }[الأحزاب:53].

الله لا يستحي من الحق من بيان الحق, فيأمركم بهذا, فالنبي كان يستحي أن يقول لضيوفه اخرجوا, وقد كانوا في غرفته وزوجته زينب –رضي الله تعالى عنها- وكان يوم عرسها موجودة في الغرفة, وظهرها إلى الناس ووجها إلى الحائط, والضيوف جلسوا وأطالوا الحديث, والنبي كان يخرج ويدخل, ويستحي أن يقول لهم اخرجوا, أو أحرجتموني, أو نحو هذا من حيائه –صلوات الله عليه وسلم – فالله بيّن أنه لا يستحي من الحق أي من بيان الحق.

فهنا بالنسبة {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا} أي أن يجعل في كلامه -سبحانه وتعالى- في الأمثال ذكر هذه المخلوقات الضعيفة بعوضة فما فوقها, ذبابة, عنكبوت, الحمار ضرب الله مثلا بالحمار وبالكلب فقال: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ}[الأعراف:176], وقال: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّه}[الجمعة:5], فذكر هذه المخلوقات التي ينظر إليها الناس باحتقار واستصغار؛ لأنها من المخلوقات الدنيا. الله لا يستحي من ذكرها  في ضرب المثل, وذلك لأنه يبين بذلك الحق للناس ويرشدهم إليه, ويجعلهم يدركون الأمور المعنوية, كما تدرك الأمور الحسية, وهذا من فضله وإحسانه –سبحانه وتعالى– بعباده وخلقه أن يبين لهم هذا البيان ولا يستحي –سبحانه وتعالى- من ذكر هذه المخلوقات ويضرب بها المثل {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}[البقرة:27] أي مثل.

ذكرنا أن المثل إنما هو صورة حسية تصور لإدراك صورة معنوية, الصورة المعنوية بعيدة في الفهم فتقرب بإعطائها المثل الحسي القريب, بعوضة معروف البعوضة: هذه الحشرة المستقذرة, وحتى هذه البعوضة من حيث الخلق فهي معجزة من الخلق, فإن الناس لو اجتمعوا على خلق بعوضة فإنهم لا يستطيعون, فهي خلق من خلق الله –تبارك وتعالى- وأن يضرب الله بها المثل  لتوضيح أمر ما, فلا بأس بذلك كما جاء في كلام النبي ضرب المثل بالبعوضة في قوله «لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء» فبيّن أن الدنيا لو أنها  كانت تساوي هذا الأمر الحقير المستصغر فإن الله –تبارك وتعالى- يحرم  الكافر منها بكفره, فإن الكافر يستحق الحرمان حتى من أدنى الخير, ولكن لأن الدنيا مهينة عند الله –تبارك وتعالى-؛ فإن الكافر يتمتع فيها ويرزق فيها كذلك, بوجوده مع أهل الإيمان, وإلا فإن خلق هذه النعم هي لأهل الإيمان فقط كما قال –تبارك وتعالى-: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[الأعراف:32], خلقها الله –تبارك وتعالى- لهم لكن يشركهم الكفار على وجه الغصب, وأخذ ما لا يحل لهم, فإن الله لا يحل للكافر أن يتقلب في نعمه ويكفر به –سبحانه وتعالى– كما قال –جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}[البقرة:168].

{إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا }[البقرة:27] ثم قال –جل وعلا-: { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ}[البقرة:26] أما أهل الإيمان المصدقون بأن هذا كلام الله ونازل من عنده, فيعلمون أنه الحق من ربهم؛ لأن هذه الأمثال تكشف الحقائق وتوضحها, وهي بمقتضى الحكمة, وأنها من تلطف العزيز الحميد –سبحانه وتعالى- الرحيم بعباده الذي يبين لهم الطريق, ويوضح لهم المحجة بكل سبيل, فيعلمون أن هذا القرآن المنزل من الله -تبارك وتعالى- هو الحق من ربهم الحق الثابت. الحق الثابت وضده الباطل, من ربهم خالقهم و بارئهم وسيدهم –سبحانه وتعالى- {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا}[البقرة:27], وأما الذين كفروا هؤلاء إذا سمعوا هذه الأمثال تضرب في القرآن, فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا؟ لجهلهم فيجهلون معاني كلام الله -تبارك وتعالى- كما قال -جل وعلا-: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}[العنكبوت:43] أهل العلم, وهؤلاء مطموس على بصائرهم, طمس الله على قلوبهم, وعلى سمعهم, وكذلك على أبصارهم غشاوة, فيسمعون ولا يفقهون, فعند ذلك ما يدركون حكمة ضرب هذا المثل أو المعنى الذي ضرب له هذا المثل, أو ماذا أراد الله بهذا مثلا؟ يقولون هذا على وجه السخرية والاستهزاء, ما هذه الأمثال التي يضربها الله بهذه الحشرات؟ وبهذه الحيوانات الدنيا؟ فيقولون هذا على وجه السخرية والاستهزاء, فيزدادون كفرًا على كفرهم, قال –جل وعلا-: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} أن حكمة الله –تبارك وتعالى– في ضرب هذا المثل, أنه يضل به كثيرا, فتنة لهؤلاء العميان أنهم يؤفكون, ويكون نزول القرآن سببا في زيادة كفرهم وضلالهم, كما قال –تبارك وتعالى-: {قُلْ هُوَ} على القرآن {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى}[فصلت:44], وذلك لاستهزائهم به, وأيضًا لما نزل قول الله-تبارك وتعالى- عن شجرة الزقوم: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ}[الصافات:66] المؤمن يخاف يعلم أن هذا حق, وأن هذا كلام الرب –تبارك وتعالى–, وأن شجرة الزقوم حق, وأنها شجرة تخرج في أصل الجحيم, تنبت من النار كما أخبر الله -تبارك وتعالى-, وتتغذى بالنار, وأن ثمارها نار كذلك, وأن الكفار آكلون منها حقاً كما أخبر الله -تبارك وتعالى-: {فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ}[الصافات:67], لكن الكافر ماذا قال؟ الكافر قال: "هذا دليل الكذب, فإن الشجر يحرق بالنار. فكيف ينبت في النار؟!" وقاس أمر الآخرة على أمر هذه الحياة, فقال: "الحياة نحن في حياتنا الآن نرى أن النار تأكل الأشجار, فكيف تنبت الأشجار فيها؟" فقال أن هذا دليل كذب محمد, فهذا ضل بهذا الإخبار الذي أخبر الله -تبارك وتعالى- به كما قال -جل وعلا-: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا}[الإسراء:60] فتنة للناس اختبارا لهم وابتلاء في أن المؤمن يصدق كلام الله -تبارك وتعالى- والكافر يرد هذا الكلام, فيزداد كفرا على كفره, كما قال الله -تبارك وتعالى- كذلك في شأن اليهود: { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا}[المائدة:64] كثير من اليهود سيزدادون بنزول القرآن طغيانًا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ}[التوبة:125] فالقرآن هدى لمن هداه الله -تبارك وتعالى-, وكذلك هو فتنة وضلال وعمى على هؤلاء الكفار, على من عمي, يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل قال -جل وعلا-: { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ}[البقرة:26] أي أن الله -تبارك وتعالى- لا يضل بالقرآن المهتدي المؤمن, ولكن الفاسق. الفاسق أصل الفسق في لغة العرب: هو الخروج عن الشيء. كما قالوا : فسقت النواة خرجت من غلافها, والعرب تسمي الفأر الفويسقة, وذلك لأنها تخرج من جحرها للإفساد, فالفسق في لغة الشرع هو الخروج عن طاعة الله, كل خروج عن طاعة الله -تبارك وتعالى- فسق, وهو درجات, فسق معصية, وفسق كفر, فالخروج عن طاعة الله بالكفر بالتكذيب وبالاستهزاء, هذا كفر هذا فسق يخرج عن الملة وعن الصلاة بالكلية, وأية معصية هي فسق, أية معصية كذلك وإن كانت صغيرة هي نوع من الفسق, كما قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «سباب المسلم فسوق» وقال -جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ}[الحجرات:11], فسمى كل هذه المعاصي من الفسوق, هي خروج عن طاعة الله, ولكنه خروج لا يخرج نهائيا من الملة, ولكنه خروج دون خروج, فيوجد فسق دون فسق, هناك فسق مخرج من الدين بالكلية كفر, ويوجد فسق دون هذا.

 هؤلاء الفاسقون إنما هم فسق كفر, وما يضل به إلا الفاسقين الخارجين عن طاعة الله -تبارك وتعالى- بالكلية وخرجوا عن أمره المكذبين بوحيه, ثم بين الله هؤلاء الفاسقين فقال: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[البقرة:27]، فوصفهم الله -تبارك وتعالى- بثلاث صفات ذميمة كبيرة هذه من معاني فسقهم قال: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ }[البقرة:27]  النقض هو الفك, والشيء المحكم فكه ونزع عقدته هذا نقض, ينقضون عهد الله, العهد هو الميثاق المؤكد, وكل ميثاق بين طرفين هذا عهد, عهد الله هذا مفرد مضاف إلى معرفة فيعم, أي عهود الله -تبارك وتعالى- ما العهود التي عهد الله -تبارك وتعالى- بها خلقه؟

عهود كثيرة, وأولها الإيمان به -سبحانه وتعالى-, شكره, خوفه, فإن الله -تبارك وتعالى- أولًا أخذ الميثاق على عباده أن يعبدوه لا يشركوا به شيئًا, وعرفهم بنفسه عندما خلقهم في عالم الذر في عالم الروح قال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}[الأعراف:172] فاعتراف المخلوقات الخلق بني آدم بأن الله هو ربهم -سبحانه وتعالى-, ثم ركز الله -تبارك وتعالى- هذا العهد في فطرة الإنسان, فكل إنسان مفطور على أن يعلم أن له خالقًا بارئًا هو الذي خلقه وأوجده, والضرورة تلجئه إلى هذا, ضرورة العقل تلجئه, والفطرة التي في قلبه تناديه, فكل مولود يولد على الفطرة, ولكن يأتيه الانحراف من التعليم المنحرف, "كل مولود يولد على الفطرة, وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه", فعهد الله -تبارك وتعالى- أن نؤمن به, أن نسير في طريقه -سبحانه وتعالى-, هؤلاء ينقضون عهد الله -تبارك وتعالى- فيأتيهم سواء كان عهد الفطرة ,ثم العهد كذلك الذي هو على ألسنة الرسل يناديهم الله -تبارك وتعالى- على ألسنة رسله أن آمنوا بالله -تبارك وتعالى- هو ربكم هو خالقكم, فينقضون هذا, ويكذبون بربهم بخالقهم يردون على رسوله, لا يصدقون أمره, فينقضون عهد الله -تبارك وتعالى- من بعد ميثاقه من بعد أن واثقوا الله -تبارك وتعالى- على ذلك, إما واثقوه وهم في العالم الأول, وإما واثقوه كذلك إذا كانوا من أهل الإيمان دخلوا الإيمان, ثم بعد ذلك نقضوا هذا وردوا إلى الكفر كما هو حال المنافق, فإنهم قد يدخلون في الدين ويؤمنون به, ثم بعد ذلك ينقضون هذا ويرجعون إلى الكفر ولو بقلوبهم مع إظهار أنهم من أهل الدين.

{الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ}[البقرة:27], من بعد ميثاقه, الميثاق هو العهد المؤكد, ومنه التوثيق بمعنى أنهم وثّقوه, بمعنى أنهم عقدوه وربطوه {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ}[البقرة:27], هؤلاء الذين يفعلون هذا يقطعون -القطع معروف ضد الوصل- ما أمر الله به أن يوصل, وقد أمر الله -تبارك وتعالى- بأشياء كثيرة أن توصل, فأولاً صلة العبد به, صلة الأرحام, البر بالوالدين. كل هذه الصلات أمر الله -تبارك وتعالى- أن توصل, أن يكون العبد واصلًا لها, فهؤلاء يقطعون ذلك, فهم من أهل الشر, ومن أهل الظلم, ويفسدون في الأرض, أيضاً من صفة هؤلاء الذين يضلهم الله -تبارك وتعالى- ولا يشرح صدروهم لكلامه, أنهم من أهل الفساد في الأرض. الفساد ضد الصلاح, وكل أمر يسير حسب فطرة الله -تبارك وتعالى- وحسب خلقه وأمره فهذا صلاح, وكل أمر يخرج عن الفطرة التي فطر الله -تبارك وتعالى- الناس عليها, وعن أمر الله -تبارك وتعالى- فهو فساد, فالله لا ينهى إلا عن الفساد, ولا يأمر إلا بالخير والصلاح, كما قال -جل وعلا-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النحل:90] فكل ما أمر الله -تبارك وتعالى- إنما هو من الخير, وكل ما نهى الله  -تبارك وتعالى- عنه أنه من الفساد, وهؤلاء يسيرون في الفساد, الشرك, الكفر بإظهار الإيمان, وإبطان الكفر, فهؤلاء مفسدون في الأرض بهذا, وأعظم الشرك الإفساد قال -جل وعلا-: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[الزمر:63] أولئك الإشارة إليهم بالبعيد هم الخاسرون, الخسارة فقدك لشيء من المنافع, أو حصول شيء من الضرر, كل هذه خسارة, وكل خسارة هي دون الخسارة الكبرى, الخسارة الكبرى هي أن يخسر الإنسان نفسه, وأعظم خسارة للنفس أن يوجد الإنسان في النار, فإن من وجد في نار الآخرة فقد خسر نفسه. خسر نفسه بأنه أبقاها في العذاب الأبدي الذي لا ينقطع, فعذاب الله -تبارك وتعالى- لا ينقطع أبدا, فلا هو يستطيع أن يرحم نفسه, ولا أن ينقذها بأية صورة من صور الإنقاذ, كما قال -جل وعلا-: {إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}[الزمر:15] فأخبر -سبحانه وتعالى- أن هؤلاء الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه, ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل, ويفسدون في الأرض هم الخاسرون الخسران الذي ليس له بعده خسران, ومن خسارتهم في الدنيا أنهم لا يعرفون مقاصد الله -تبارك وتعالى- وغاياته في الكلام, ويستهزئون بالقرآن المنزل على هذا النحو, وينظرون إلى المثل الذي يضربه الله -تبارك وتعالى- نظرة احتقار وازدراء, أو نظرة جهل به, وهذا عقوبة لهم من الله -تبارك وتعالى- أن يصمهم, أن يعمي أبصارهم عن كتابه.

 نقف عند هذا, أقول قولي هذا, وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.