الخميس 20 جمادى الأولى 1446 . 21 نوفمبر 2024

الحلقة (150) - سورة المائدة 41-45

الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين, وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد, فيقول الله -تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[المائدة:41]: يُهَوِّن الله -تبارك وتعالى- على رسوله -صلى الله عليه وسلم- شأن هؤلاء المنافقين الكاذبين الذين يقولون بألسنتهم أنهم مؤمنون, والحال أنهم كفار, ثم أنهم مسارعون في الكفر قال -جل وعلا-: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ: نداء من الله -تبارك وتعالى- إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-, وقد كان النبي يحزن ويبتئس أشد البؤس مِن كُفر مَن يكفر, مِن إعراض مَن يُعرِض إشفاقا عليهم -صلوات الله والسلام عليه-, وخوفًا عليهم من النار؛ لأنه يعلم الحق قد رأى رأي عين -صلوات الله والسلام عليه-, رأى الجنة, رأى النار, رأى العقوبة الشديدة, ولذلك كان يثقل عليه ويشق عليه كفر من يكفر, فهَوَّن الله -تبارك وتعالى- عليه قال: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ: ومعنى يسارعون فيه أي كل يسابق الآخر ليكون فيه كفرًا عنادًا خروجًا من هذا مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ: أي أن هؤلاء لا خير فيهم فان هؤلاء قالوا آمنا قالوا عن أنفسهم أنهم مؤمنون, والحال أنهم كفار, فإظهارهم للكفر ومسارعتهم فيه ليست لا يحزن عليها ولا يبتأس من أجل هؤلاء, فإن هؤلاء كفار أصلا, وإنما قالوا ما قالوه من كونهم مؤمنين كذبًا وزورًا, {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ}: هؤلاء هم المنافقون, وأما أهل الإيمان الحقيقي الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم, فإن هؤلاء لا يرتد أحد منهم عن دينه سخطةً فيه, فإن الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب وعلم الإنسان الحق ودخل الإيمان فيه دخولا حقيقيًا, فإن هذا بعيد أن يرتد بعد إيمانه كافرًا, اللهم ثبتنا على الإيمان حتى نلقاك يا أرحم الراحمين, أما هؤلاء الذين قالوا قولًا بألسنتهم ولم تخالط بشاشة الإيمان قلوبهم فهؤلاء إذا سارعوا في الكفر وخرجوا إليه فهم أصلا في الكفر, وإنما ظهر هذا المخفي على أعضائهم, {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ}, ثم طائفة غير المنافقين وهم اليهود {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ}: اي لا يحزنك كذلك مسارعة اليهود في الكفر, فإن هؤلاء الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ: هذا حالهم أنهم لا يسمعون ولا يأنسون إلا بالكذب الذي يزخرفه لهم علماءهم وشيطانيهم وطغاتهم, سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ: أي أنهم كذلك يسمعون لقوم آخرين من أحبارهم وشياطينهم لم يأتوك ما جاءك هؤلاء الكبراء وإنما مكثوا عندهم يضللون هؤلاء العامة لتبقى لهم رئاستهم في دينهم, فيصدوا عن النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-, وقد علموا أنه رسول الله حقًا وصدقًا, ولكن خافوا على منزلتهم في قومهم وفي دينهم فلذلك صدوا عامتهم عن هذا الدين, {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ}: فهذا من قسوة قلوبهم استئناسهم بالكذب أنهم يحرفون كلام الله وكلام الرسول يحرفونه من بعد أن وضع الكلام في مواضعه الصحيحة, ويعلمون هدف القائل من قوله وحقيقة هذا القول لكنهم يحرفونه إما تحريف ألفاظه تبديلها وتغييرها, وإما تحريف معانيه أن يقول اللفظ ولكن يقول لا يراد هذا المعنى وإنما يراد معنى آخر, فيصرفون معناه إلى معاني أخري لم يريدها المتكلم بهذا الكلام, وهذا الكلام الذي يحرفونه هو كلام الرب الإله -سبحانه وتعالى-, {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا}: أي اليهود يقول بعضهم لبعض, أحيانا كانوا يريدون التحاكم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في شأن من شئونهم, فإن أعطاهم حكم يوافق هواهم قبلوه, وإن أعطاهم حكم آخر رفضوه, كانت عليهم أحكام شديدة في التوراة ومن ضمن هذه الأحكام التي كانوا يريدون التفصي منها وقد غيروها وبدلوها في تاريخهم حكم الرجم, فإن كل زان عندهم قد كتب الله -تبارك وتعالى- عليه الرجم, زنا يهودي ويهودية فقال بعضهم لبعض: اذهبوا إلى محمد فإن حكم لكم بما يوافق الحكم الذي بدلوه خذوه, وإن حكم لكم بحكم التوراة الأصلي وهو الرجم لا تقبلوه, والحكم الذي بدلوه هو أنهم يفضحون من وقع من هذه الجريمة يُفضَح ويُلَّف به في الأسواق ويُسَوَّد وجهه, فقط فضيحة, ولا يعاقب هذه العقوبة بالرجم, يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ: إن أوتيتم هذا الحكم الذي هو التسويد والفضيحة للزاني فخذوه, وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا: أن ينفذ فيكم حكمًا آخر غير هذا الحكم, قال -جل وعلا-: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا: هؤلاء مفتونون, كيف تريد أن تخرج من عقوبة الرب -تبارك وتعالى- بأن أنت تشرع لنفسك تشريعًا لم يرضه, ثم تريد من الرب أن تكون هذه هي الكفارة عنده, الرب -تبارك وتعالى- قد شرع تشريعًا أنزله في كتبه أنزله في التوراة شريعته للزنا وهو الرجم وهذا هو الذي يُطَهِّر الله -تبارك وتعالى- به الذنب, فأنت تبدل هذا الحكم, وتأتي بحكم آخر من عندك وتظن أن هذا نافع عند الله -تبارك وتعالى-, وأنه يمكن أن يكفر الله -تبارك وتعالى- به السيئات, ما هو قيمة أن تقيم حكم أنت من عندك على هذا النحو, ثم تقدمه وتقربه على أنه حكم يرضى به الله -تبارك وتعالى-, تريد أن تفرض على الله -تبارك وتعالى- الحكم الذي تريد وتظن أنه هذا نافع عند الله -تبارك وتعالى- قال -جل وعلا-: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ: هذا المأفون الكاذب على نفسه قال -جل وعلا-: فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا: أي أن هؤلاء قد أعماهم الله -تبارك وتعالى- وأصمهم عن الحق وجعلهم يتصرفون هذا التصرف الذي ينم عن كل الحمق وكل الجهد وكل الضلال, فكيف تكذب على الله؟! ثم تريد من الله -تبارك وتعالى- أن يصلح عملك وأن يغفر ذنبك وأن يكون هذا براءة لك عند الله -تبارك وتعالى-, براءة لمن وقع عليه الحد, وبراءة لمن يطبق هذا الحد, ومن أمروا بتطبيق حد الله -تبارك وتعالى-, قال -جل وعلا-: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا: المخذول من خذله الله -تبارك وتعالى- فلا يستطيع أحد إنقاذه, وهؤلاء خذلهم الله -تبارك وتعالى-, وجعلهم يتصرفون على هذا النوع من التصرف الأحمق الأبله من تصرف الكفر وهو يظن أن هذا التصرف نافع له عند إلهه ومولاه -سبحانه وتعالى-, فلو كان يأتي الكفر على وجهه لكان له معنى, هو كافر وتارك لدين الله -تبارك وتعالى- ونشرع تشريعًا من عند أنفسنا وهذا التشريع هو الذي ترضاه ولن نرضى حكم الرب, فهذا الكفر وهذا رد له, أما أن ترد حكم الله وتأتي بحكم من عندك وتقول هذا الحكم نافع عند الله وهو ينفع وهو ينجينا من عند الله -تبارك وتعالى-, يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ: ويؤتوه من رسول الله -تبارك وتعالى- الذي أقامه الله -تبارك وتعالى- ليقيم دينه -سبحانه وتعالى- فكيف يتأتَّىْ من النبي أن يكذب على الله! أو أن يغير تشريع الله! -تبارك وتعالى- أو أن يحكم بغير حكم الله -تبارك وتعالى- وكيف يتأتَّى لهؤلاء أن يظنوا أن النبي سيحكم لهم بغير حكم الله! وأنه إذا حكم بغير حكم الله أخذوه وساروا به قال -جل وعلا-: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ}: أولئك البعداء بالإشارة للتحقير لهم الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لم يرد الله -تبارك وتعالى- بإرادته الكونية القدرية إن يظهر قلوبهم مما فيها من هذا التحريف والكذب على الشريعة والظن إن هذا نافع عند الله -تبارك وتعالى- لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ: كتب الله -تبارك وتعالى- لهم الخزي في الدنيا بالفضيحة والعار والوقوع تحت قهر من يسلطهم الله -تبارك وتعالى- عليهم ممن يقهرونهم ويذلونهم, لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ: وفي الآخرة أدخلهم الله -تبارك وتعالى- وأعد لهم العذاب العظيم عذاب النار -عياذا بالله-.

سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ: هذه صفة هؤلاء اليهود سماعون للكذب, يعلمون أن هذا كذب ولكن يسمعون له, والحال أن أي إنسان عاقل إذا علم أن هذا الحديث حديث كذب كيف يسمع له؟! كيف تسمع لحديث كذب وتقبله وتعمل به؟! سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ: أكالون: صفة مبالغة من الأكل أي يأكلون كثير الأكل, السُحت: وهو المال الحرام, كل مال حرام يأخذوه من الرشى, من الكذب على الله -تبارك وتعالى- من التدجيل على عامتهم هؤلاء رهبان اليهود وعلماءهم وأحبارهم أنهم يأكلون السحت هكذا لأخذهم المال الذي لا يحل لهم من العامة, وسُمِّي سحت هذا المال الحرام؛ لأنه يسحت صاحبه بمعنى أنه يهلكه قال -جل وعلا-: فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ: أي إن جاءك هؤلاء اليهود يُحَكِّمُونك في أمر من خصوماتهم أو من الجرائم إما جريمة تقع في حق الرب -تبارك وتعالى- أي الله -تبارك وتعالى- جعلها جريمة تتعلق بحقوق الرب أو جرائم تتعلق بحقوق الأفراد بعضهم مع بعض من التظالم, فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ: أي لا يتحكم لهم هم يحكمون بحكمهم الذي يشاءوا مبدلينه يحكمون بحكم التوراة الذي عندهم فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا: في الدنيا ولا في الآخرة أي وإن لم تحكم لهم فلن يضروك شيئا عند الله -تبارك وتعالى- شيئا؛ لأن الله -تبارك وتعالى- قد خيرك في هذا, وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ: الله خيَّر النبي بأن يحكم بينهم أو يعرض عنهم قال: وَإِنْ حَكَمْتَ: أي اخترت بينهم, فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ: بالعدل والقسط هو ما أنزله -تبارك وتعالى-, كل ما أنزله الله فهو عدل, كل حكم غير حكم الله فليس بقسط العدل ما أنزله الله -تبارك وتعالى-, فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ: اعدل بينهم ولا تجر في المظالم لا تمل مع أحد منهم دون أحد, بل أحكم لهم بالعدل الذي أنزله الله -تبارك وتعالى-, {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[المائدة:42]: يحب العادلين -سبحانه وتعالى- الذين يعملون بالعدل يحبهم الله -تبارك وتعالى-, فالله هو الحكم العدل المقسط وهو يحب من عباده أن يكونوا مقسطين عادلين -سبحانه وتعالى-.

 ثم قال -جل وعلا-: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}[المائدة:43]: أي يعجبوا الله -تبارك وتعالى- رسوله من هؤلاء الذين عندهم الحكم في هذه القضية التي يريدون أن يحكموا فيها النبي وعندهم حكم الله موجود فيها أي حكم الله -تبارك وتعالى- في الرجم أي في الزنا من زنا, وأنه أنزل الرجم هذا حكمه وهو موجود في التوراة فلماذا يعدلون عن الحكم الموجود عندهم في التوراة ويعملونه ثم يعمدون إلى النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- ليحكم لهم بحكم في ظنهم غير حكم الله -تبارك وتعالى- أن يكون التشريع المنزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- تشريع أخف من هذا في حكم لهم بحكم آخر, {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}: التولي: يعطون ظهرهم ويسيرون بعيدًا عن حكم الله -عز وجل- من بعد أن علموا حكم إله الموجود عندهم قال -جل وعلا-: وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ: ليس هؤلاء بأهل الإيمان لأنهم لو كانوا مؤمنين حقًا لأمنوا بحكم التوراة ثم آمنوا كذلك بمحمد -صلوات الله والسلام عليه- الذي جاء ذكره في التوراة وتأمرهم التوراة بالأنبياء به -صلوات الله والسلام عليه-.

 ثم قال -جل وعلا- مبين هذا الحكم في التوراة قال: إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ: الرب الإله -سبحانه وتعالى- يؤكد الله أنه هو الرب الإله الذي لا اله إلا هو -سبحانه وتعالى-, أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ: توراة الكتاب المنزل على موسى -عليه السلام-, فيها هداية عامة, وكذلك هداية خاصة لمن آمن بها واتقى الله -تبارك وتعالى-, وَنُورٌ: يوضح الحق من الباطل, وينير الطريق, {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ}: أي أنزلها الله -تبارك وتعالى- التوراة على هذا النحو فيها هدى ونور, وأن الأنبياء الذين أرسلهم الله -تبارك وتعالى- في بني إسرائيل كانوا يحكمون بهذا الكتاب, النَّبِيُّونَ: الذين أسلموا لله -تبارك وتعالى-, وانقادوا لله أي آمنوا بحكم الله -تبارك وتعالى- وأذعنوا لذلك وأسلموا وكانوا يحكمون بهذا الحكم فهذه أنبياءهم كانوا يحكمون بحكم التوراة, لِلَّذِينَ هَادُوا: لعموم اليهود, وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ: أي العلماء المنسوبون إلى الرب الربانيون والأحبار: أهل العلم منهم كانوا يحكمون بحكم هذه التوراة, بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ: استحفظوا: طلب منهم الحفظ أي طلب الله -تبارك وتعالى- منهم حفظ هذا هو الرب الإله -سبحانه وتعالى-, بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ: على نزوله من الله -تبارك وتعالى- على موسى وعلى أنه كتاب الله حقًا وصدقًا الذي هو التوراة, قال -جل وعلا-: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[المائدة:44]: أي أن الله -تبارك وتعالى- أمرهم أن يحافظوا ويحفظوا كتابه وينفذوا حدوده, وأنه مما أمروا به ألا يخشوا الناس وأن يخشوا الله -تبارك وتعالى-, فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ: فتقولوا لا ننفذ هذا الحكم خشية الناس واخشوا الله -تبارك وتعالى-؛ لأن هذا حكمه -سبحانه وتعالى-, والخشية: أشد الخوف, أو الخوف مع التعظيم والإجلال أي عظِّموا الله -تبارك وتعالى- وخافوه ولا تعظموا الناس وتخافوهم فتعدلوا عن حكم الله -تبارك وتعالى-, فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ: اخشوا الله -تبارك وتعالى-, وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا: تستبدلوا بآيات الله -تبارك وتعالى- ثمن قليلاً أي تأخذ ثمن قليل وتترك آيات الله, ويأخذ ثمن قليل ويعرض عن حكم الله -تبارك وتعالى- ويغيره, ولا شك أن الذين غيروا حكم الرجم في التوراة إلى حكم التسويد والفضيحة هؤلاء ما فعلوا هذا إلا مقابل ثمن أخذوه من الناس وهو أن يرضى الناس عنهم, وأن يدفعوا لهم المال وأن يبدلوا لهم هذا الحكم فاشتروا بآيات الله -تبارك وتعالى- ثمنًا قليل آيات الله منزلة وفيها الإيمان بها والعمل بها وفيها كل الخير لكنهم باعوا هذه الآيات واستبدلوا هذا الثمن القليل الذي أخذوه, ولو أخذوا الدنيا فهو ثمن قليل, كل ثمن في مقابل آيات الله فهو قليل, وإن كان الدنيا بأسرها, وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا: ليس مفهوم هذه ثمنا قليلا إذا دفع لك شيء كثير فبيع آيات الله لا وإنما أخذوا بها ثمنًا ثمن قليلاً التي هي الدنيا, فالدنيا بأسرها كلها في مقابل تبديل حكم من أحكام الله -تبارك وتعالى- لكان هذا شيء قليل؛ لأن هذا في النهاية يحرم أجر الآخرة وهو الجنة, ثم يورث النار -عياذًا بالله-, ثم قال -جل وعلا-: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ: حكم منه -سبحانه وتعالي- أن من لم يحكم بما أنزل الله بالتشريع الذي أنزله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ: أي إشارة لهم  بأنهم  الكافرون, فكل من أعرض عن حكم الله -تبارك وتعالى- مريداً حكم غيره ظانًّا أن مساويًا حكم الله بحكم غيره أو مستحلا لحكم غير الله  -تبارك وتعالى- على حكم الله فهو الكافر حقًا وهذا من أعمال الكفار, إن من وقع منه هذا الأمر معتقدًا أن حكم الله -تبارك وتعالى- هو الحق الذي لا مراء فيه معتقدًا أنه مجرم وآثم بهذا الفعل فقد قال أهل العلم: بأنه يكون كفر دون كفر, فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ, ولا شك أن هذه الآية عامة في أهل الكتاب وفي كل أحد, فهذه الآيات في بيان حكم الله -تبارك وتعالى- منزل في التوراة وختمها الله -تبارك وتعالى- بهذا الحكم العام قال: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ.

 ثم بيَّن -سبحانه وتعالى- أنه كتب علي اليهود في التوراة أحكام القصاص: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[المائدة:45]: أي بيَّن -سبحانه وتعالى- أنه قد أنزل حكم الرجم في التوراة ولما جيء للنبي -صلوات الله والسلام عليه- باليهودي واليهودية الذين زنيا قال لليهود: ما حكم من زنا عندكم؟ فقالوا: نسود وجهه ونطوف به في الأسواق أي نفضحه فقال لهم النبي: فأتوا بالتوراة, وجاء أحد شيطانيهم وهو ابن صوريا يقرأ منها فقرأ الآيات التي قبل آيات الرجم, ثم وضع يده على آية الرجم وقرأ الآيات التي بعدها, وكان في المجلس عبد الله بن سلام -رضي الله تعالى عنه- الصحابي الجليل هو الذي أسلم من اليهود كان من أحبار اليهود وأسلم بالنبي -صلى الله عليه وسلم- أول نزول النبي في المدينة لما نزل النبي فقال له: ارفع يدك عن آية الرجم ثم تلا آية الرجم وقال: يا رسول الله هذه آية الرجم حكم من زنا في التوراة الرجم فأمر النبي بهما فرجما فأولا دل على أن حكم الرجم موجود في التوراة, ولا شك أن حكم الرجم قد جاء كذلك على لسان النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-, فإن النبي رجم ورجم الصحابة بعده رجم ماعز الأسلمي, ورجم الغامدية, ورجم امرأة الرجل الذي كان عنده عسيف فزنا بامرأته, وجاء يستفتي النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له: يا رسول الله إن ابني كان عسيفًا عند هذا فزنا بامرأته وإني سألت بعض أهل العلم فقالوا افتدي منه بمائة شاة ووليدة, وسالت آخرين فقالوا: إن على ابنك جلد مائة وتغريب عام, وعلى زوجة هذا الرجل الرجم فاقضِ بيننا يا رسول الله بكتاب الله فقال النبي: والله لأقض بينكما بكتاب الله الغنم والوليدة مدُّ عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام, واغدوا يا أنيس إلى زوجة هذا فإن اعترفت فارجمها, فاعترفت فرجمها, فالنبي رجم -صلوات الله والسلام عليه- ورجم كذلك الصحابة بعده فهذا الحكم موجود في التوراة, وحكم الله -تبارك وتعالى- ولم يتبدل في شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم-, يخبر -سبحانه وتعالى- كذلك أنه مما كتب على اليهود في التوراة حكم القصاص وهو من القاتل عمد وعدوان, وكذلك حكم القصاص في ما دون النفس العين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص أي في الجراحات وهكذا هذا الحكم الذي كُتِب على بني إسرائيل قد جاءت شريعتنا وشريعة مَن قبلنا هي شريعة لنا إذا لم يأت في شريعتنا ما يخالفها قال -جل وعلا-: وَكَتَبْنَا: الله -جل وعلا- كتب, عَلَيْهِمْ: أي فرض عليهم, فِيهَا: أي في التوراة, أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ: أي من قتل عمدًا عدوانًا قُتِل كذلك أي قصاصًا, وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ: أي من فقع واعتدى على عين غيره قاصدًا معتديًا كذلك فُقِعَت عينه وقُلِعَت عينه بالعين التي قلعت, وَالأَنفَ بِالأَنفِ: قطع أنف بأنف, كذلك القصاص, وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ, شرحه إذا من عمد لكسر سن غيره كُسِر سنه, وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ: الجرح كذلك يُقتَص منه بأن يُجْرَح جرح مساوي للجرح الذي جرحه طولًا وعرضًا وعمقًا نفس الجرح, فيُجرَح جرح مثله, فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ: أي بالعدوان الذي أُعْتُدى عليه فهو كفارة له, فإذا أولياء الدم عفوا عن القاتل فهذا صدقة منهم عليه, وإذا المُعتدَىْ عليه من قُلِعَت عينه عفي عن من اعتدى فهذه كذلك الله -تبارك وتعالى- أخبر بأنها كفارة له, كما سامح غيره يسامحه الله -تبارك وتعالى- فهو كفارة له, ثم قل -جل وعلا-: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[المائدة:45]: حكم عام يشمل هؤلاء من عدل عن حكم التوراة, وكذلك من عدل عن حكم الله -تبارك وتعالى- المنزل في الكتاب الخاتم القرآن, {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}: قال هنا الظالمون؛ لأن الظلم وضع للأمر في غير محله, فقد وضعوا أمر الحكم في غير محله, فالحكم حكم الله -تبارك وتعالى- ولا يجوز أن يُنفَّذ ويُشَرَّع إلَّا ما شرعه الله -تبارك وتعالى-.

نقف عند هذا, ونكمل إن شاء الله في الدرس الآتي, أقول قولي هذا, وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب, -وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد-.