الخميس 02 ذو القعدة 1445 . 9 مايو 2024

الحلقة (151) - سورة المائدة 46-52

الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين, وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد, فيقول الله -تبارك وتعالى-: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}[المائدة:46], {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[المائدة:47], يخبر -سبحانه وتعالى- أنه أنزل التوراة فيها هدى ونور قال -جل وعلا-: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[المائدة:44], فقد أنزل كتابه -سبحانه وتعالى- التوراة على موسى فيه شريعة هادية إلى الحق والى الطريق المستقيم, وأن الأنبياء من بني إسرائيل قد كانوا يحكمون بهذه الشريعة, وكذلك الأحبار والرهبان أمرهم الله -تبارك وتعالى-  أن يحكموا بهذه الشريعة بما استحفظهم الله -تبارك وتعالى-  على هذا الكتاب وجعلهم شهداء على إخوانهم, وفي هذا رد على اليهود الذين عدلوا عن شريعة التوراة إلى شريعة اخترعوها وابتدعوها وأتوا إلى النبي -صلوات الله والسلام عليه-؛ ليحكم بينهم بغير حكم التوراة, وقالوا: إن حكم لنا بحكم يوافق أهواءنا أي يوافق أهواءهم قبلوه, وإن لم يحكم بحكم يوافق أهواءهم ردوه, فأمرهم النبي أن يأتوا بالتوراة, ثم أثبت عليهم حكم الرجم وأمر برجم الزانيين الذين أُتيا بهما إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ليحكم فيهما ثم بين -تبارك وتعالى-  ما شرعه لعباده في هذه التوراة من بعد شريعة الرجم شريعة القصاص قال: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}: فهذا مما كتبه الله -تبارك وتعالى-  القصاص في النفس والقتل العمد عدوانًا وما دون النفس من العين والأنف والأذن وحتى الجرح فإنه يقتص ممن اعتدى على غيره بالجرح قصاصاً طولاً وعرضاً وعمقا,ً وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ, فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ: أي المعتدَى عليه فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ, ثم قال -جل وعلا-: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[المائدة:45], وقد ذكرنا في شرح هذه الآية في الحلقة الماضية أن هذه الشرعة التي شرعها الله -تبارك وتعالى-  لبني إسرائيل, هي كذلك شرعة الله -تبارك وتعالى-  لأمة محمد -صلوات الله والسلام عليه- فشرع مَ@ن قبلنا شرعٌ لنا ما لم يأتي في شريعتنا ما ينسخه, ثم أخبر -سبحانه وتعالى- قال: وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ: على آثار هؤلاء الأنبياء الذين كانوا يحكمون بالتوراة والأحبار والرهبان, وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ: أي أتينا بنبي بعدما ذهب هؤلاء على آثار هؤلاء الأنبياء والأحبار والرهبان الذين كانوا يقومون بالحكم بشريعة الله -تبارك وتعالى-  المُنزَّلة في التوراة بعيسى بن مريم آخر نبي من أنبياء بني إسرائيل وليس بينه وبين نبينا نبي -صلوات الله والسلام عليه- قال -جل وعلا-: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ: فقد جاء عيسى كذلك يصدق ما بين يديه من التوراة, أي أنه يحكم يدعو إلى أن ما في التوراة هو الصدق, ولذلك كان حاكمًا بالتوراة فعيسى بن مريم -عليه السلام- كان قائمًا بالحكم بالتوراة مصدقًا لما بين يديه من التوراة اعتقادًا وعملاً -عليه السلام-, وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ, ثم أخبر -سبحانه وتعالى- أنه قد أنزل كتابه الإنجيل على عبده ورسوله عيسى -عليه السلام-, وأن هذا الإنجيل فيه هدى هداية ونور هداية إلى الحق ونور يوضح الطريق, ومصدقًا لما بين يديه من التوراة, فالإنجيل كذلك أتى مصدقا للتوراة وآمرًا بأن يحكم بها وأنها شرعة الله -تبارك وتعالى-  المنزلة وهدى وموعظة للمتقين هذا زيادة بيان في الإنجيل أنه كذلك هداية وموعظة للمتقين لأهل التقوى ثم قال -جل وعلا-: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ}: أمرٌ منه -سبحانه وتعالى- أن يقوم أهل الإنجيل وهم النصارى بأن يحكموا بما أنزل الله -تبارك وتعالى-  فيه أي من الشرعة.

 ثم قال -جل وعلا-: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[المائدة:47]: فاسقون خارجون عن طاعة الله -تبارك وتعالى-, هذه الآيات المتواليات في الحكم جاءت على هذا النحو وصف مَن لم يحكم بما أنزل الله وصفتهم بالكافرين والظالمين والفاسقين, وهذه كلها صفات الذم الكبرى لمن عدل عن شريعة الله -تبارك وتعالى- بشريعة غيره, وقد بيَّن أهل العلم أن كل من ساوى بين شريعة الله وشريعة غيره فهو كافر كفرًا ناقلًا عن الملة, ظالم ظلمًا مخلدًا في النار وفاسق فسقًا كذلك فسق الكفار, ومن قدَّم شريعة غير الله على شريعة الله فكذلك هو أشر, وأما من حكم بغير شريعة الله في أمر ما ليس رغبة عن شريعة الله -تبارك وتعالى- وإنما ضعفًا أو هوى فهذا الذي قال فيه أهل العلم أنه كافر لكن كفر لا ينقل عن الملة كفر دون كفر ثم قال -جل وعلا-: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا}: هذا إخبار من الله -سبحانه وتعالى- أنه بعد هذه الأمم بعد أمة موسى, وأمة عيسى أن الله -تبارك وتعالى- أنزل الكتاب وهو القرآن على رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- بالحق أي نزولًا حقًا, نزوله حق ثم متضمنًا للحق فالقرآن نزوله حق من الله -تبارك وتعالى- وذلك لهداية البشرية التي كانت قد عمت وضلت عن سبيل الله -عز وجل- كما قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا}[الكهف:1], {قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا}[الكهف:2], {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا}[الكهف:3] فلهذه الغايات العظيمة وكذلك قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان:1] فهذه نذارة للعاملين فنزول القرآن حق لهذه المنافع والمقاصد العظيمة من هداية الخلق إلى طريق الله -تبارك وتعالى-, ثم نزل كذلك متضمنًا للحق كل ما في القرآن حق, وتمت كلمة ربك صدقًا وعدلًا فهو حق في إخباره, ثم هو حق في أحكامه كل أحكامه حق {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ}: القرآن جاء يصدق ما بين يديه من الكتاب من الكتب من التوراة والإنجيل, فالدين واحد ما دام عليه التوراة من عبادة الله وحده لا شريك له, والإيمان به وملائكته ورسله, وهو ما جاء القرآن يدعو إلى هذا, وكذلك ما دعى إليه عيسى ما أنزله الله -تبارك وتعالى- في الإنجيل على عيسى هو ما أنزله الله -تبارك وتعالى- على محمد -صلوات الله والسلام عليه-, نحن الأنبياء أولاد علَّات ديننا واحد, فالدين واحد ثم هو يصدق الأخبار التي جاءت فيخبر بأنها صدق فالأخبار التي جاءت في التوراة والأخبار التي جاءت في الإنجيل جاء القرآن يصدق هذه الأخبار ويوافقها, وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ, وذلك أولا أنه ناسخ للشريعة السابقة, القرآن جاء ناسخًا شريعته نسخت شريعة التوراة ونسخت شريعة الإنجيل فأصبحت هنا الهيمنة لهذه الشريعة التي يجب أن يترك كل بعد ذلك شريعته إلى هذه الشريعة المنزلة من الله -تبارك وتعالى-, ثم كذلك ترك يعني إتباع أي شيء إلا النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- فهنا لا يجوز ليهودي أن يقول أنا أتبع شيئًا مما جاء به موسى, أو يقول النصارى أتبع شيئًا مما جاء به عيسى لا قد جاء محمد -صلوات الله والسلام عليه- فيما أنزله الله -تبارك وتعالى- عليه من هذا القرآن بالكلمة الأخيرة كلمة الفصل من الله -تبارك وتعالى-, لو أن موسى حيًا لما وسعه إلا أن يتبع نبينا محمد -صلوات الله والسلام عليه-, ولو أن عيسى حيا في وقت النبي ما وسعه إلا أن يسير خلف النبي -صلوات الله والسلام عليه- هذا من معاني مهيمنا عليه, وكذلك من معاني ذلك أنه كل خبر بُدِّل في التوراة والإنجيل جاء القرآن مهيمنا ما أتى في القرآن هو الصواب وما كان قبل ذلك مكتوبًا في التوراة والإنجيل فهذا مخالفًا لما في القرآن لاشك أن هذا مما غيروه وبدلوه, وقد غير اليهود والنصارى في كتبهم تغييرًا عظيمًا كقولهم مثلًا في الإصحاح الأول في العهد القديم هو التوراة: ثم استراح في اليوم السابع من عمله الذي عمل خالقًا تعالى الله -تبارك وتعالى- أن يكون قد تعب من الخلق, أن يخلق ست أيام فيتعب من ذلك ثم يأخذ يومًا للراحة تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا قال -جل وعلا-: في القرآن: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ}[ق:38]: أدنى تعب, فكل ما جاء في التوراة والإنجيل مما يخالف الحق جاء هذا القرآن ليبينه ويوضحه كما قال -تبارك وتعالى-: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ}[المائدة:15], {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[المائدة:16], فهذا الكتاب القرآن المنزَّل على محمد -صلوات الله والسلام عليه- مهيمنًا عليه مهيمنًا على الكتب السابقة قال -جل وعلا-: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ: خلاص لا حكم لشريعة التوراة بعد ذلك ولا حكم لشريعة الإنجيل, وإنما الحكم بينهم بين كل الأمم من أطاع النبي -صلوات الله والسلام عليه- فهذا حكمه حكم القرآن, ومن كذلك عصى النبي من الأمم التي تريد أن تتحاكم إلى النبي فإنه ليحكم بينهم إلا بما أنزل الله لا يحكم بين اليهود بشريعة اليهود, ولا يحكم بين النصارى بشريعة النصارى وإنما يحكم بين اليهود بشريعة القرآن, ويحكم بين النصارى بشريعة القرآن, فلا شرعة بعد ذلك لا يجوز للنبي ولا لمن بعد النبي أن يحكم في شأن المسلمين أو في شأن اليهود أو في شأن النصارى إلا بحكم الله المنزَّل على عبده الحكم الأخير, فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أي جميعا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ, وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ: هذا نهى من الله -تبارك وتعالى- أن يتبع أهواء اليهود والنصارى عما جاءه من الحق أن تترك الحق الذي جاءك لاتباع أهواءهم فإن كل ما يخالف ما جاء النبي هذا يصير من اتباع الهوى, كما فعل اليهود في قضية الرجم عدلوا عن حكم الله -تبارك وتعالى- إلى أحكام شرعوها بأهواءهم, لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا: أي من اليهود والنصارى ولكم جعلنا شرعة ومنهاجًا هذه في الأول هذه جعل الله -تبارك وتعالى- شرعة لليهود ثم لما جاء عيسى كان يحكم بشريعة التوراة, ثم أنزل الله -تبارك وتعالى- عليه نسخًا لبعض الأحكام الموجودة في التوراة, ثم جاء نبينا محمد -صلوات الله والسلام عليه- ناسخًا لكل هذه الشرائع, لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا فهذه الشرعة السابقة انتهى وقتها قال -جل وعلا-: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً: أي ذات شريعة واحدة, فيجعل شرعتك يا محمد هي الشرعة السابقة, ولكن لم يشأ الله -تبارك وتعالى- هذا, هذه رحمة من الله -تبارك وتعالى- وفضل, ولو علَّقنا الله -تبارك وتعالى- بالشرعة السابقة وهي شرعة اليهود وشرعة النصارى التي اختلفوا فيها أصبح أمامنا طريقٌ طويل ومشقات كثيرة وخلافات طويلة لا تنتهي, ولكن جعل الله -تبارك وتعالى- هذا الدين بشرعة مستقلة ابتدائية, ابتدأ الله -تبارك وتعالى- هذه الشرعة بالتشريع من أول الأمر بشرعة ما ليست متصلة بتلك الشريعة السابقة في كل شيء بدأ من القبلة شرعها الله -تبارك وتعالى-  للأمة شرعة مستقلة فجعل قبلتنا مستقلة وصلاتنا وصيامنا وعباداتنا وكل ما نحتاجه جعله الله -تبارك وتعالى- لهذه الأمة شريعة مستقلة, قال -جل وعلا-: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ: ولكن أراد الله -تبارك وتعالى- أن يبتلي الأمة وأن يختبر كل أمة بما أنزل إليهم من الشرعة, فابتلى اليهود واختبر اليهود بالشرعة التي نزلت على موسى, ثم الشرعة التي نزلت على عيسى, وهي كما ذكرنا أنها كانت شرعة التوراة إلا أن عيسى جاء بتحليل بعض ما حرم عليهم قال: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ, الله يقول ليختبر الله -تبارك وتعالى- كل أمة منكم بما أنزل الله -تبارك وتعالى- إليها, وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ, استبقوا الخيرات: أي تسابقوا إليها, وليعمل كلٌّ لينال الخير من ربه -تبارك وتعالى-, أي قبل غيره, إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا: رجوعكم إلى الله لا إلى غيره -سبحانه وتعالى-, قدم إلى الله قبل العام وهو هو مرجعكم ما قال مرجعكم إلى الله؛ لأن هذا في اللغة يفيد إلى الله وإلى غيره لا ينفى أن يكون إلى لغيره, أما إذا قال إلى الله مرجعكم أي إلى الله وحده ليس إلى غيره -سبحانه وتعالى-,  فمرجع الجميع إلى الله -تبارك وتعالى-, {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}[المائدة:48], الإنباء: هو الإخبار العظيم, فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون, وبالتالي يحاسب كلًا على عمله -سبحانه وتعالى-.

 ثم قال -جل وعلا- مؤكدًا قال: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ: مرة ثانية تأكيد لهذا الأمر أن النبي مأمورٌ أن يحكم بشريعة القرآن لا يعدل عنها إلى أي شريعة أخرى, وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ: أي إليك وهو القرآن, ولا تتبع أهواءهم: أي إياك أن تتبع أهواءهم؛ لأن كل ما يخالف الشرعة المنزَّلة من الله -تبارك وتعالى- فهي من اتباع الهوى, وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ: هذا تحذيرُ من الله -تبارك وتعالى- لرسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يطيع أحد من اليهود أو النصارى أو المنافقين أو غيرهم في أن يخالف شريعة الله ولو في أمر قليل واحذرهم أن يفتنوك عن بعض أفراد عن بعض ما أنزل الله إليك, فَإِنْ تَوَلَّوْا: أي عن هذه الشرعة وهذا المنهاج عن هذا الدين المنزَّل عليك, فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ: إعلم أن ثمة عقوبة تنتظرهم من الله -تبارك وتعالى-, وأن إعراضهم هذا هو سبب لنزول هذه العقوبة, وقال هنا ببعض ذنوبهم ما قال بكل ذنوبهم؛ لأنه لا يعاقب العقوبة الكاملة على الذنوب في الدنيا بل أمر مؤخر العقوبة الكبرى مؤخرة للآخرة, وإنما هذه بعض ذنوبهم في الدنيا فيصيبهم ببعض هذه الذنوب في هذه الدنيا, ثم قال -جل وعلا-: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ}[المائدة:49]: بيان لحقيقة كونية قائمة, يخبر -سبحانه وتعالى- أن كثيرًا من الناس لفاسقون, أي خارجون عن طاعة الله -تبارك وتعالى- وعن شرعة هذا القرآن الشرعة الخاتمة من الله -تبارك وتعالى-, أي أن من يبقى متمسكًا بهذه الشرعة وسائرًا عليها قليل من الناس, وهذا مشاهد في كل العصور, فإن اليهود والنصارى والأمم الكثيرة ثم كثيرًا من المسلمين الذين دخلوا في شريعة القرآن كذلك قد خالفوها وخرجوا منها فكثير من الناس فاسقون خارجون عن طاعة الله -جل وعلا-.

 ثم قال -جل وعلا-: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ: سؤال للتوبيخ الشديد والتقريع والتأنيب, {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}[المائدة:50]: أي هل يريدون حكم الجاهلية ويعدلون بذلك عن حكم الله -تبارك وتعالى-؟ أفحكم الجاهلية: كل حكم مغاير لحكم الله -تبارك وتعالى- فهو حكم جاهلي, وذلك أنه مبنى على الجهل, حكم الله -تبارك وتعالى- هو وحده الذي مبني على العلم؛ لأن الله هو منزله -سبحانه وتعالى- العليم بكل شيء عليم بخلقه وما يصلح لهم, فكل من عدل حكم الله -عز وجل- إلى حكم غيره من الأهواء ومن السوالي المعتادة ومن تخاريف المخرفين وحكم العادلين القاسطين الظالمين حكم جاهلية كل حكم غير حكم الله -تبارك وتعالى- فحكم جاهل وحكم جاهلية قال -جل وعلا-: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}[المائدة:50]: سؤال كذلك بعد السؤال لبيان التقرير لا أحد أحسن حكمًا من الله, هل يمكن أن يقارن الله بغيره -سبحانه وتعالى-؟!, الله رب السموات والأرض العليم بكل شيء هل له ند  ومثل؟! يستطيع أن يحكم كحكمه وأن يعلم كعلمه -سبحانه وتعالى- فلا أحسن حكمًا من الله -تبارك وتعالى-, والجواب عند أهل الإيمان لا أحد أحسن حكمًا من حكم الله -تبارك وتعالى-, ولكن المجرمين الكافرين الجاهلين يرون أن حكمهم وأهواءهم هي أفضل وأحسن من حكم الله -تبارك وتعالى-, وهذا من خذلانهم ومن طردهم ولعنهم من رحمة الرب -تبارك وتعالى-.

ثم بعد ذلك وجه الله -تبارك وتعالى- نداءه إلى المؤمنين أن يحذروا اليهود والنصارى ولا يتخذونهم أولياء فقال -جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[المائدة:51]: نداء وأمر من الله -تبارك وتعالى- يناديهم الله -تبارك وتعالى- باسم الإيمان أشرف الأسماء وأحسنها تهييجا لهم على الفعل وإلزامًا لهم بالأمر, يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ, أولياء: أحباب وأنصار تحبونهم تنصرونهم تركنون إليهم تترضوا عن دينهم, لا تتخذوا اليهود والنصارى, اليهود: هم الذين ينسبون أنفسهم إلى موسى بن عمران -عليه السلام-, والنصارى الذين قالوا إنا نصارى ينبسون أنفسهم إلى عيسى بن مريم -عليه السلام-, إياكم أن تتخذوا هؤلاء واليهود والنصارى بعد نزول القرآن كفار كفرهم الله -تبارك وتعالى-, فبعد نزول القرآن من لم يؤمن بالقرآن فهو كافر, {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[آل عمران:85], قال -جل وعلا-: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ: يخبر -سبحانه وتعالى- عباده المؤمنين أن اليهود والنصارى وإن اختلفوا في الدين وكفر بعضهم بعضا وقال اليهود في عيسى بن مريم المقالات الشنيعة العظيمة, وكذلك اعتقاد النصارى في اليهود بالرغم من هذا من عداوتهم إلا أنهم يوالي بعضهم بعضًا عليكم بعضهم أولياء بعض, أي اليهود يوالون النصارى والنصارى يوالون اليهود على المسلمين مع اختلافهم, ثم قال -جل وعلا-: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ: هذا إخبار وحكم من الله -تبارك وتعالى- أن من تولى اليهود والنصارى بعد هذا فهو يهودي ونصراني فهو منهم, أي أنه قد قطع صلته بالإسلام والتحق بهذه الأمة الكافرة, ومن يتولهم منكم أيها المسلمون أيها المؤمنون المخاطبون بهذه الآية فإنه أي هذا المؤمن يصبح منهم يهودي أو نصراني, {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[المائدة:51]: هذا أيضًا تحذير وبيان منه -سبحانه وتعالى- أن الله لا يهدي القوم الظالمين, الظالم: الذي يضع الولاية في غير محلها يضع الولاية وهي المحبة والنصرة في عدوه, اليهود والنصارى أعداء للمسلمين, فإذا ذهب هذا المؤمن بالله -تبارك وتعالى- الذي ليوالي الله المفروض أن يوالي الله ويوالي أوليائه ذهب وأخذ هذه الولاية ودعها في غير محلها هذا هو الظلم, الظلم: هو وضع الشيء في غير محله فلما والى أعداء الله -تبارك وتعالى- وأعدائه فإن الله عاقبه بأنه لا يهديه يضله, ومن معاني إضلاله أن يرى أن ما يفعله حق وأن يسير في هذا الطريق وألا يرتدع عنه وألا يرعوى فيضله الله -تبارك وتعالى-: أي يصمه يعمي بصره ويعمي قلبه فيسير في هذا الطريق {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[المائدة:51].

 ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- صورة من صور هذه الموالاة قال: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ}[المائدة:52], نزلت هذه الآية في عبد الله بن أُبي فإنه بعد أن خانوا يهود بني قينقاع عهدهم مع النبي -صلوات الله والسلام عليه- وفعلوا فعلتهم المنكرة في المرأة المسلمة التي ذهبت إلى سوقهم تشتري فربطوا ذيل ثوبها بقفاها وهي ساهية فلما قامت ووقفت انكشفت سوأتها وجلسوا يضحكون عليها يضحكون منها, وقام المسلمون وأحاطهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ونزلوا على حكمه وكان النبي أراد أن يقتلهم -صلوات الله والسلام عليه- بخيانتهم للعهد وجاء عبد الله بن أُبي مترجياً النبي -صلوات الله والسلام عليه- وقال: يا رسول الله سبعمائة دارع حموني من الأحمر والأسود تريد أن تحصدهم في غداة اعفو عنهم يا رسول الله أعطني إياهم, وظل يلح والنبي يقول له: لا خير لك في ذلك لا تشفع فيهم لا خير لك في ذلك ويقول لا حتى أدخل يده في درع النبي -صلوات الله والسلام عليه- فلما ألح على النبي وهبهم النبي له -صلوات الله والسلام عليه-, فهذا الله يقول: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: هذا مرض النفاق مريض مرض النفاق, ومرض النفاق منه الشك فى نصر الإسلام يشك في أن الإسلام ينتصر وأن دين الله -تبارك وتعالى- سيُعَز, وأن رسوله سيُمَكن في الأرض وستكون الريح كلها له والنصر والتأييد له, لكن في مرض النفاق في قلبه هو يظن أن الإسلام موجة من الموجات وستنتهي وستزول, وإذا زالت موجة الإسلام وذهب ريحه يرجع مرة ثانية ليعتز باليهود الذين هم اولياؤه فينصروه ويخشى أنه إن ذهب هؤلاء تعرض وأصبح عرضة لأن يُغزَى ولا يجد أنصار له, قال -جل وعلا-: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: مرض النفاق, يُسَارِعُونَ فِيهِم: يسارعون فيهم بنجدتهم ونصرتهم والشفاعة لهم, يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ, الدائرة: أن تدور الأحداث مرة ثانية بعد أن الريح للمسلمين شيئًا ما, ثم تدور الريح ويذهب المسلمون وتكون الدائرة والدولة للكفار, فإذا دارت الدورة وقامت الدولة للكفار يقول: كنت أنا معي أوليائي فينصروني قال -جل وعلا-: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ: فتح مكة حتى بعد ذلك العرب كلها تذعن لأن العرب كانت تنتظر قتال النبي لقريش ومن ينتصر في النهاية يرون أنه إذا انتصرت قريش في النهاية انتهى الإسلام, وإذا انتصر النبي محمد في النهاية انتهى الكفر من الجزيرة, فالله يقول فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ: أي فتح مكة, {أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ}[المائدة:52]: يصبح هؤلاء المنافقون بعد الفتح على ما أسروه في أنفسهم من أن الريح ربما تكون للكفار نادمين على هذا الظن الخاطئ الذي كان في أيديهم.

نقف عند هذا, ونكمل إن شاء الله في الحلقة الآتية, أقول قولي هذا, وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب.