الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين, وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
.وبعد, فيقول الله -تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين}[المائدة:51], {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ}[المائدة:52], {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ}[المائدة:53]: هذا نداء من الله -تبارك وتعالى- وأمر لعباده المؤمنين واصفًا إياهم بمسمى الإيمان, وينهاهم الله أن يتخذوا اليهود والنصارى أولياء, ثم يحذرهم الله -تبارك وتعالى- بأن كلًّا منهم يوالي بعضهم بعضًا على المؤمنين, اليهود يوالوا النصارى, والنصارى يوالوا اليهود على المؤمنين مع ما بينهم من خلاف وشر وتكفير, ثم هدد الله -تبارك وتعالى- فقال: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ: يصبح يهودي شأنه شأنهم, ويقطع صلته بالإسلام هذا كقوله الله -تبارك وتعالى-: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ ........}[آل عمران:28]: أي من قطع صلته مع الله فليس من الله في شيء إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً: فهنا يقول -سبحانه وتعالى-: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ: هذا بيان بأن الذي يضع الولاية في غير محلها يوالي أعداء الله وأعداءه, وجعل الولاية في غير محلها وهذا هو عين الظلم لا يهديه الله -تبارك وتعالى- يطمس الله بصيرته فلا يوفقه, ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- سورة من فعل عبد الله ابن أبي وغيره من المنافقين قال: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: النفاق, يُسَارِعُونَ فِيهِم بمودتهم ونجدتهم كما فعل عبد الله بن أُبي ليستنقذ يهود بني قينقاع بعد أن أراد النبي أن يوقع العقوبة الشرعية بهم بإخلافهم للعهد, يَقُولُونَ: أي يقول هذا عبد الله وغيره, يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ: تدور الدائرة على أهل الإسلام وينتهي الإسلام قال -جل وعلا-: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ: فتح مكة النقطة الحاسمة, إذا فتحت مكة دخلت الجزيرة كلها في الإسلام, أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ: قبل الفتح فيصبح هؤلاء المنافقون على ما أسروا في أنفسهم نادمين, وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا: عندما تتكشف لهم حقائق هؤلاء المنافقين أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ: أي هؤلاء المنافقون الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم أي اجتهدوا في إيمانهم بكل اجتهاد, حلفوا أيمان مُغلَذظة أنهم لمنكم وأنهم مؤمنون, ومعكم هذه نظرتهم يظنون أن الدائرة ستكون على المؤمنين وأن الإسلام سينتهي, الرسول سيذهب وإن النصر للكفار وهم يتوقعون هذا ويريدون أن يمسكوا طرفا الحبل هذا حتى إذا انتصر الكفار كانوا معهم, أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ: أي مع أهل الإيمان قال -جل وعلا-: حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ: أعمالهم التي عملوها في الإسلام قد كانوا يصلون مع النبي, ويجاهدون معه ويصومون معه, {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ}: بإضمارهم الكفر وبظنهم أن الغلبة تكون لأعداء الله -تبارك وتعالى- على رسوله -صلوات الله والسلام عليه- فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ: تحول حالهم إلى الخسار بعد أن كانوا في صف أهل الإيمان, والخسار هنا خسار النفس وخسار الأهل وخسار المال وورود النار -عياذا بالله-.
ثم خاطب الله -تبارك وتعالى- أهل الإيمان خطابًا بعد خطاب في هذا الأمر, آمر إياهم أن يسلكوا السبيل ولا يحيدوا يمينًا وشمالًا وأن من ارتد عن هذا الدين أبدل الله -تبارك وتعالى- به خيرًا منه قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[المائدة:54]: نداء من الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين بوصف الإيمان, مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ: هذه قضية حكم, أي اعلموا أنه من يرتد منكم عن دين الإسلام, فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ: هذا وعيد منه -سبحانه وتعالى- لهذا المؤمن الذي يشك ويرتاب ويرتد, فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ: هذا بيان من الله -تبارك وتعالى- ووعد بأنه من تخلى عن الإيمان منكم فإن الله سيبدله بخير وقوم آخرين, بِقَوْمٍ: هنا التنكير للتعظيم, بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ: وبدأ بحبه -سبحانه وتعالى- أولًّا بإعلان حبه لهم وهذا تكريم عظيم, هم كذلك يحبون الرب -تبارك وتعالى- , أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ: أي أنه لأجل الإيمان يذل عند المؤمن وذلك لله, فما دام مؤمن يذل له ويخضع له أي يسامحه ويعفو عن سيئاته هو ذليل عند إخوانه المؤمنين, أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ: في مقابل الكفر, الكفار وإن كانوا من كانوا يظهروا العِزَّة والغلبة والأنفة أن يلين له وأن يرق له وأن يواليه, يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ: أي شأنهم وعملهم واستمرارهم أنهم يجاهدون بالفعل, هنا جاءت يجاهدون بالفعل المضارع لأنها تفيد الحضور والاستمرار, يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: يبذلون كل جهدهم في سبيل الله سواء كان هذا الجهد جهد نفس, أو جهد مال, أو جهد كلمة في سبيل الله, وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ: لا يخافون من يلومهم في هذا الطريق أي لائم يلومهم لا يهتمون بلومه, من الأهل من الأقارب من الكفار من غيرهم أن يلومونهم على أنهم ضيعوا دنياهم, ضيعوا حياتهم, ساروا في هذا الطريق, لماذا تلتزمون سلوك هذا الرجل؟ لماذا تنصرونه النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- كما كان يقول أعداء الله للمؤمنين لا يخافون لومة لائم من يلومهم في هذا السبيل لا يهتمون به, هم قد جعلوا غايتهم وطلبتهم الرب -جل وعلا- وإعلاء دينه في الأرض, ولو تخلى من تخلى عنهم فهم من أهل نصرة دين الحق مهما كان, قال -جل وعلا-: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ: ذلك بالإشارة للبعيد هذا الأمر العظيم العالي, فَضْلُ اللَّهِ: منته كرمه عطاؤه -سبحانه وتعالى-, يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ: اختصوا به -سبحانه وتعالى- الذي يشاء هو لأن هذا التشريف عظيم جدًا أن يكون شخص قد وضع حياته لله ولا يهتم بعد ذلك بمن يلومه في هذا السبيل مهما كان, والله يحبه وهو يحب الله -تبارك وتعالى-, وهو يجاهد في سبيل الله وكل خطوة له في الجهاد في سبيل الله فيها ما فيها من الأجر والثواب هذا فضل عظيم ذلك فضل الله, إذا من الله -تبارك وتعالى- على عبد بهذا فهذا فضله ومنته وعطاؤه -سبحانه وتعالى- يؤتيه من يشاء, وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ: لا حد لعطائه -سبحانه وتعالى-, وهو عليم بمن يستحق -سبحانه وتعالى-, عقب الله على ذلك على عطائه ومنته هذا العطاء العظيم جدًا بأنه واسع العطاء, فالمجاهد المؤمن له في الجنة أمر عظيم, آخر أهل الجنة دخولًا الجنة مَن يقول الله له -تبارك وتعالى-: ألا ترضى أن أعطيك الدنيا مثل الدنيا في الجنة وعشرة أمثالها؟ هذا آخر من يدخل الجنة فكيف بالمجاهد في سبيل الله الذي يدخلها مع السابقين مع الأولين؟ كم له عند الله -تبارك وتعالى- من الجنة ومن العطاء ومن الحبور والسرور والخلود؟ أمرٌ عظيمٌ جدًا, فالله واسع العطاء -سبحانه وتعالى- لا حد لعطائه -جل وعلا-, ثم هو عليم بمن يستحق هذا فيؤتيه إياه -سبحانه وتعالى-.
ثم قال لأهل الإيمان حتى يبين لهم أين تقع الولاية قال: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}[المائدة:55]: إنما بالحصر أي الولاية كلها ولايتكم محصورة هنا وليكم الله, وليكم محبكم ناصركم مؤيدكم كل هذه من معاني الولاية, الله -سبحانه وتعالى- شئ عظيم جدًا أي هذا الذي يجب أن توالونه, توالوا من؟ توالوا الله -تبارك وتعالى-, فتحبوا الله -تبارك وتعالى- وتنصروه وتقوموا بنصر دينه وتبذلوا المجهود في هذا السبيل, إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ: هذا الذي توالوه رسول الله -تبارك وتعالى- لأنه منسوب إلى الرب -جل وعلا-, فمن أجل الله -تبارك وتعالى- تنصروه, وقد أمركم بهذا قال: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ........}[الفتح:9]: فهذا من الموالاة أن تعذروه, وأن توقروه, وأن تقوموا معه, وأن تحبوه وتقدموا محبته على كل أحد حتى على النفس, «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين», وَالَّذِينَ آمَنُوا: أي يجب عليكم أن توالوا الذين آمنوا بالله -تبارك وتعالى- أهل هذا الدين من هم الذين آمنوا؟ الذين يقيمون الصلاة, أهل إقامة الصلاة, فأهل إقامة الصلاة هذه علامة عظيمة جدًا على الإيمان, وهي علامة تظهر خمس مرات في اليوم والليلة, فصلاة الجماعة صلاة ظاهرة لها آذان ظاهر من شرائع الإسلام الظاهرة, ولها إقامة ظاهرة ولها لا تَجمُّع ظاهر, وهي أشرف أعمال أهل الإيمان بعد الإيمان بالله -تبارك وتعالى-, أشرف وأعظم ما وضع الله -تبارك وتعالى- لأهل الأرض من العمل هو الصلاة, وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ: وكذلك إعطاء الزكاة عمل ظاهر فيظهر أن هذا مؤمن يؤتي الزكاة؛ لأن الزكاة يأخذها الرسول ويأخذها الإمام قال -جل وعلا-: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ........}[التوبة:103], وَهُمْ رَاكِعُونَ: هذا هذا حالهم أي حالهم أنهم دائما في ركوع, فإذا نظرت إليهم تجد أنهم أبدًا راكعون كما وصف الله -تبارك وتعالى- نبيه محمد والمؤمنين معه فقال -جل وعلا-: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا}: أي راكعين ساجدين, ركعًا: هذا حال, {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ........}[الفتح:29], الآية: فهم راكعون أي هذا وصفهم على الدوام, كأنك إذا رأيتهم لا تراهم إلا راكعين من كثرة صلاتهم, فهذه الفئة هي التي أمركم الله -تبارك وتعالى- بأن توالوها, أهل الإيمان, أهل الصلاة والزكاة, وأهل الركوع الدائم, إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ: هذه ولايتكم, ولايتكم تنصروا الله -تبارك وتعالى-, تحبوا الله, تحبوا رسوله, تحبوا عباده المؤمنين.
ثم قال -جل وعلا- مُبَشِّرًا قال: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}[المائدة:56]: كل من يتولى الله يحب الله وينصر الله -تبارك وتعالى- ويكون مع الله, وينصر رسوله يحب رسوله, وينصره, وينصر دينه, وَالَّذِينَ آمَنُوا: يوالي أهل الإيمان بالمحبة والنصر والتأييد قال -جل وعلا-: فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ: جماعته, الحزب: هو الجماعة المؤتلفة المجتمعة على أمر واحد, ونسبهم الله -تبارك وتعالى- إليه فهذا حزب الله, فإن حزب الله هم الغالبون عن كل أحزاب الشياطين فليس إلا حزب الله وحزب الشيطان, حزب الشيطان: كل الكفار هؤلاء حزب الشيطان, وحزب الله -تبارك وتعالى- حزب أهل الإيمان هو الذي سيغلب.
ثم وجَّه الله -تبارك وتعالى- نداءا آخر إلى أهل الإيمان محذر من هؤلاء وأن هؤلاء أعداء دينهم, وأنهم يستهزئون بهم وبدينهم قال -جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}[المائدة:57]: خطاب من الله -تبارك وتعالى- نداء إلى عباده المؤمنين يأمرهم يقول لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا, أي المستهزئين بدينكم من الذين أوتوا الكتاب وهم اليهود والنصارى مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ, كيف تتخذ من اتخذ دينك هزوًا ولعبًا تتخذه ولي لك؟! واحد يستهزئ بدينك الذي أنت عليه ودينك هو أشرف ما عندك, وأجمل وأعلى وأثمن ما عندك هو دينك الدين الذي تدين به اعتقادك وشريعتك, فكيف يا أيها المؤمن تتخذ الذي يتخذ دينك هذا هزواً ولعبًا, ويستهزأ بدينك, يستهزأ بصلاتك, وصيامك, ويستهزأ بإلهك, وبرسولك, وبطريقك وهذا أشرف ما عندك هذا أكمل ما عندك, ما هو يستهزأ بطعامك وشرابك وسكنك, هذه أمور دنيوية, وإنما يستهزأ باعتقادك, بإيمانك, كيف تتخذ هذا ولي لك تنصره تحبه تكون معه؟! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}[المائدة:57]: خافوا الله -تبارك وتعالى-, كيف تتخذ عدو الله وعدوك الذي يستهزأ بدينك تتخذه ولي لك ألا تخاف الله يقول الله: وَاتَّقُوا اللَّهَ: خافوا الله -تبارك وتعالى-, إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ: إن كنت مؤمنين حقا فخافوا الله -تبارك وتعالى-, وإياك أن تتخذ هذا الذي اتخذ دينك هزوا ولعبًا أن تتخذه وليا لك.
ثم قال -جل وعلا-: مُبَيِّن هؤلاء أنهم لا يكتفون بالإستهزاء بالدين بل بأشرف ما في الدين قال: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا}: أي آذان المؤذن للصلاة اتخذوها هزوا ولعبا يضحك من المؤذن ويسخر به ويستهزئ به, وهذا أشرف أعمالكم أي أشرف عمل وضعه الله -تبارك وتعالى- لكم في الأرض صلاتكم إلى الله -تبارك وتعالى- هم يستهزئون بها, {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ}[المائدة:58]: أي استهزائهم هذا إنما صدر منهم لقلة عقولهم, إن هذه أشرف الأعمال أن يقوم العبد بالصلاة لإلهه ومولاه بشكره -سبحانه وتعالى- هل هناك أثمن من هذا وأعظم من هذا وأكمل من هذا؟ أن تقوم بين يدي من خلقك وسوَّاك وعدلك, وأنعم عليك ومَنّا عليك بصروف النعم, من يملك نفعك, ويملك ضرك, من يعطيك عطاء, من لا يخشى فقر العطاء, ومن إذا حجبك عنه وحرمك منه نلت الخسران كله, فهل هذا السعي أن تسعى وتصلي وتسجد للإله المولى الذي يملك كل هذا أمر يستهزئ منه, لو أن رجلًا سعى إلى ملك عظيم وركض إليه ودق بابه ووقف عنده ويعلم أن هذا الملك يعطى عطاء من لا يخشى الفقر, وأنه له قوة قاهرة يعاقب بها عدوه, ورؤي هذا الرجل أنه ذاهب إلى الملك يتوسل له ويسأله ويعطيه لوقع هذا عند الناس موقعًا عظيمًا, أن هذا ذو عقل وذو لب وذو فهم, انظر كيف سعى إلى هذا الملك ونال الحظوة عنده وبلغ المكانة عنده واتقى سخطه ونقمته, فهذا يقع عند الناس الموقع العظيم, ولله المثل الأعلى فكيف من يصلي لله -تبارك وتعالى-؟! من يقوم للملك الذي هو ملك الملوك الرب الإله الذي يملك كل شيء -سبحانه وتعالى-, وذل له كل شيء وخضع له كل شيء, هذا هو ذو العقل وذو اللب, هذا هو الذي فهم الحقيقة, فلذلك هنا الله يقوم ذلك بأنهم قوم لا يعقلون, هذا الذي يستهزئ من الذي يصلي لله لا شك أنه لا عقل له؛ لأنه لو عقل المعنى الحقيقي لكان هو أول المسارعين إلى مرضاة الرب وإلى السجود للرب -تبارك وتعالى- وإلى عبادة الرب الإله -سبحانه وتعالى-, ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ: وهذه الآية والآية التي قبلها هي بيان من الله -تبارك وتعالى- لحال هؤلاء الكفار من اليهود والنصارى والمشركين, وتحذير لعباد الله المؤمنين أن يتخذوا مثل هؤلاء أولياء وهم لا عقول لهم ولا فهم لهم, ثم إنهم أعداء مجرمون يستهزئون بالمؤمنين, ويستهزئون بأشرف أعمالهم.
ثم قال -جل وعلا-: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ}[المائدة:59]: أي لماذا تنقمون منا وتكرهوننا هذه الكراهية وتحاربوننا وتقومون ضدنا؟ ما الذي يدعوكم إلى هذا يا أهل الكتاب؟ أنتم أيها اليهود والنصارى لماذا تحنقون على أهل الإسلام هذا الحنق؟ وتقومون ضدهم هذا القيام؟ ما الذي يدعوكم إلى هذا؟ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ: حسد, كرهتم إيماننا بالله -تبارك وتعالى-, هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله, ما جريمتنا إلا أننا آمنا بالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا: هذا أنزله الله -تبارك وتعالى- إلينا, وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ: نحن كذلك آمنا بما أنزل من قبل, والذي أُنزل من قبل على موسى وعيسى هم أنبياؤهم فنحن الذين على الصراط إيمانا بالله -تبارك وتعالى-, وكذلك إيمانا بما أنزله الله -تبارك وتعالى- من قبل وإيمانا بما أنزله الله -تبارك وتعالى- علينا, هذا حق, فليس لنا جريمة, بل جريمتنا هذه التي تعدونها جريمة هي فضيلة وهي شرف وهي تمكين وهي الموافقة للعقل والمنطق أننا نؤمن بالله ونؤمن بما أنزله علينا -سبحانه وتعالى- ونؤمن بما أنزل من قبل, ما قال بما أنزل عليكم وإنما قال بما أنزل من قبل حتى يبعدهم عن هذا؛ لأنهم خارجون عن هذا الذي يدَّعون أنهم مؤمنون به, وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ: هذا الحسد لأنكم خارجون وفاسقون عن طاعة الله -تبارك وتعالى- لذلك تكرهوننا وتنقمون منا هذا, وهم يقولون عن أنفسهم بالطبع هؤلاء اليهود والنصارى يعلمون أنهم فسقوا وخرجوا عن طاعة الله -تبارك وتعالى-, ثم يأتي أٌناس غيرهم يهتدوا ويسيروا في الطريق لا يحبون هذا, ولا يريدون أن يكونوا مثلهم, فاسقون وكفار وخارجون عن طاعة الله -تبارك وتعالى-, أما أن يكونوا من المهتدين المؤمنين بالله المتبعين لرسوله الخاتم المؤمنين بالرسل السابقين, وأنهم أهل الهداية وأهل النجح والفلاح, فهذه الجريمة, إذًا لا جريمة لنا عندكم إلا إيماننا بالله -تبارك وتعالى- وإيماننا بما أنزله لنا وإيمانه كذلك بما أنزله -سبحانه وتعالى- من قبل, ثم لأنكم فاسقين خارجين عن طاعة الله -تبارك وتعالى- فحسدتمونا أن نكون على الهدى وأنتم على الضلال.
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ: الله اكبر, بالطبع هم في أكبر شر, هؤلاء اليهود والنصارى الذين يعادون أهل الإسلام هذه عداوتهم لأهل الإسلام, شر: طرد من رحمة الله -تبارك وتعالى- ربنا يقول للرسول هل أنبئكم بشيء أكبر من هذا أي أكبر من الشر الذي أنتم فيه, بصدكم واستهزائكم بالمسلمين, {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}[المائدة:60]: قال لهم أنا أنبئكم بشر من ذلك شر من طريقتكم هذه في كراهيتنا والانتقام منا, آباؤكم الكفرة الذين لعنهم الله -تبارك وتعالى-, قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ: ليس ضلال فقط, لكن من لعنه الله فطرده من رحمته, وغضب عليه -سبحانه وتعالى- وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ: مسخهم قردة ومسخهم خنازير, وجعلهم عباد للطواغيت, بعد أن كانوا يعبدون الله -تبارك وتعالى-, فعاقبهم في الدنيا هذه العقوبات المتتالية, أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا: أي منكم كذلك, وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ: كان ينبغي أن تكون عداوتكم لهؤلاء, وليس عداوتكم لمن اهتدي عند الله -تبارك وتعالى-, ثم إنكم بعداوتكم لأهل الإيمان ملعونون, الله -تبارك وتعالى- لعنكم وطمس على بصائركم بفسقكم هذا, وانظروا في عقوبة أشر ما أوقعه الله -تبارك وتعالى- في آباءكم من قبل الذين فسقوا عن طاعة الله -تبارك وتعالى- قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ, مَثُوبَةً: عقوبة هنا؛ لأن الثواب يأتي للخير والشر, {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}[المطففين:36], فأخذوا مثوبة شر, مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ: من اليهود السابقين المعتدين, وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ: مسخهم الله -تبارك وتعالى- كالذين اعتدوا في السبت, وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ: أي جعلهم الله عباد للطواغيت, والطاغوت: كل ما جاوز العبد حده من متبوع ومعبود ومطاع, عاقبهم الله -تبارك وتعالى- بأن جعلهم عباد للطواغيت, أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ: سواء السبيل: وسط الطريق, فهم أكثر ضلالًا وبعدًا عن سوءا السبيل وهذا تذكير لهم بأنه قد كان في آباءهم من كفر هذا الكفر فعاقبه الله -تبارك وتعالى- هذه العقوبة, وهذا إذًا فيه تهديد لهؤلاء المستهزئين والمحاربين لله ولرسوله من اليهود والنصارى والمشركين بأن يعاقبهم الله -تبارك وتعالى- مثل هذه العقوبة.
ثم يسرد الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك جانب آخر من جرائمهم فقال -جل وعلا-: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ}[المائدة:61], وهذا إن شاء الله نأتي إليه في الدرس القادم, أقول قولي هذا, وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب.