الخميس 02 ذو القعدة 1445 . 9 مايو 2024

الحلقة (153) - سورة المائدة 61-67

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

أما بعد فإن خير الكلام؛ كلام الله -تعالى-، وخير الهدي؛ هدي محمد -صل الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.

وبعد, فيقول الله -تبارك وتعالى-: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ}[المائدة:61], {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[المائدة:62], {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}[المائدة:63], {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[المائدة:64], بعد أن نهى الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين أن يتخذوا اليهود والنصارى أولياء وحذرهم -سبحانه وتعالى- أن من يتخذهم أولياء من المؤمنين فهو يهودي أو نصراني قال -جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}: كلٍّ منهم يوالي الآخر ضد الدين وضد الإسلام هم صف واحد مع اختلافهم ضد الإسلام قال: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[المائدة:51], ثم أخبر -سبحانه وتعالى- بحال بعض المنافقين في مسارعته لإنقاذهم وحمايتهم مع خيانتهم وعداواتهم للمسلمين, ثم هدَّد الله -تبارك وتعالى- المؤمنين أن من يرتد منهم عن دينه وهذا معناه أن موالاة الكفار رِدَّة عن الدين إلى جانب قول الله -تبارك وتعالى-: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ, أخبر -سبحانه وتعالى- أن من ارتد من المؤمنين عن دينه فإنه الله سيبدل هذا الدين خيرًا منه قال: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ: أي لنصر دينه وإعزازه, {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[المائدة:54], ثم أخبر الله -تبارك وتعالى- أن ولاية المؤمنين ينبغي أن تكون لله ولرسوله وللمؤمنين الذين هم أهل الصلاة والمطيعون لله -تبارك وتعالى- الذين إذا رأيتهم تراهم في ركوع, فهم راكعون أبدا كما قال -تبارك وتعالى-: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا}: أي كأنك لا تراهم إلا هكذا من كثرة ما يركعون ويسجدون, فكأنك إذا وقع بصرك عليهم لا تراهم إلا في ركوع أو في سجود, {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}[المائدة:55], {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}[المائدة:56], ثم عاد الله -تبارك وتعالى- أمره ونهيه الشديد للمؤمنين أن يتخذوا أعداءهم الذين يسخرون بأشرف أعمالهم, وأحسن أعمالهم وهي الصلاة يسخرون منها قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ........}[المائدة:57]: هؤلاء الذين يستهزئون بدينكم إياكم أن تتخذوهم أولياء, {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}[المائدة:57], {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ}[المائدة:58], ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- سبب عداوة هؤلاء اليهود والنصارى للمؤمنين فقال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ}[المائدة:59]: فهذا سر العداوة أنهم رأوا أن هذه أمة قد اهتدت, وسارت في الطريق المستقيم, ونالت رضوان الله -تبارك وتعالى- ونالت النصر والتمكين, وهم فاسقون, هم قد كان لهم دين وإيمان ثم فسقوا عن طريق الرب -تبارك وتعالى- فحسدوا أهل المؤمنين لذلك, قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ: بشر مما أنتم عليه من أنكم أهل فسق وتعادون أهل الحق, من لعنه الله من آباءهم, {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ}: فالذين مسخهم الله -تبارك وتعالى- قردة وخنازير ولعنهم وطردهم من رحمته وجعلتهم عُبَّادًا للطواغيت بعد أن كانوا عُبَّادًا لله -تبارك وتعالى-, {أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}[المائدة:60]: فبيَّن الله -تبارك وتعالى- شرهم وشرور آباءهم الذين مضوا وكيف فعل الله -تبارك وتعالى- بهم, ثم قال الله -تبارك وتعالى- مبينًا حالهم وأنهم كذلك من الحقارة بحيث أنهم يظهرون الإيمان لأهل الإيمان عند دخولهم, والحال أنهم كفار في الدخول والخروج عليهم, قال -جل وعلا-: وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا: هؤلاء منافقوا أهل الكتاب إذا جاؤكم ودخلوا على النبي -صلى الله عليه وسلم- جلسوا مجلسه قالوا آمنا, قال -جل وعلا-: وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ: دخلوا كفار ومضمرينه, ثم لم يفيدهم جلسوهم مع النبي -صلوات الله والسلام عليه- ولا سماعهم الحق ولذلك لما خرجوا خرجوا بالكفر كذلك, وهذا تعبير عظيم جدًا بيان لحقارتهم وإصرارهم على الكفر وإأن ما يظهرونه من الإيمان والدين كذب, {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ}[المائدة:61]: الله أعلم بما كانوا يكتمون سابقًا وما يكتمونه دائما, فإن كان تفيد الاستمرار.

 {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[المائدة:62]: هذا مسلكهم, فمع كفرهم إلا أنهم كذلك أشرار فُجَّار يفعلون المعاصي الكبار التي نهى الله -تبارك وتعالى- عنها في كل شريعة, ومعنى المسارعة في الإثم: ليس الإثم الذنب, لا يفعلونه فعلا بخطأ أو بنوع من الاضطرار أو بسقطة, بل هم يسارعون فيه, أي يركضون إليه ركضًا ويسابق كلٍّ منهم الآخر في أن يرتكب إثمًا عياذًا بالله, يسارعون في الإثم والعدوان: الاعتداء على الناس في أموالهم وفي أعراضهم وفي دماءهم, وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ: يتسابقون كذلك أحبارهم ورهبانهم في أكلهم السحت, الرشاوى الباطلة, وتبديل آيات الله -تبارك وتعالى-, وتغييرها بثمن من الدنيا, والإفتاء بغير الحق, وجعل إتاوات على الناس يأخذونها, فإن الأحبار من اليهود والنصارى فرضوا إتاوات لهم على أهل ملتهم يأخذونها سحتًا يأكلونهم, وسمي أكل هذا المال سحت؛ لأنه يسحت صاحبه, ومعنى يسحته: يهلكه ويسحقه, {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[المائدة:62]: بئس للذم, أي يذم الله -تبارك وتعالى- عملهم هذا, وذلك أنه هذا المسارعة في الإثم, المسارعة في العدوان, أكل أموال الناس بالباطل كأنه عمل دائم, {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}[المائدة:63], ثم أنهى ونعى الله -تبارك وتعالى- كذلك باللائمة على الربانيون والأحبار, الربانيون: المُرَبُّون أهل التربية منهم, أهل الزكاة والذين يقومون بتربية الناس, والأحبار: العلماء, يقول الله: هل قام هؤلاء بواجبهم فنهوا عن عامتهم وغيرهم عن قولهم الإثم وأكلهم السحت؟ عن أن يقولوا الإثم من الكفر والسب والشتم والتبديل وإظهار الإيمان وإبطان الكفر, هذه أقوال وحصائد ألسنتهم في الإثم, قال -جل وعلا-: لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ: أي لبئس عملاً هذا الذي يصنعونه, وعبر عنه هنا بالصنع؛ لأن الصنع أخص من العمل, فالأمر الأول: عبر عنه بالعمل؛ لأنه أفعال (أعمال يعملونها), وأما هذا الصنع فصنع غير عمل, فالعمل يطلق على أي نشاط خاصة النشاط بالجوارح, أما الصنع فإنه نشاط مخصوص وعمل مخصوص, عمل فيه دقة, فهذا لبئس ما كانوا يصنعون: هذا سكوتهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ثم جريمة أخرى من جرائمهم قال -جل وعلا-: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ: أي أنه بخيل, تعالى الله -تبارك وتعالى- عن ذلك علوًا كبيرًا, شبهوا الله -تبارك وتعالى- بالبخل وكأن البخيل تكون يده موثقة إلى عنقه فلا يستطيع أن يحركها ويبسطها لينفق, فشبهوا الله -تبارك وتعالى- بأنه بخيل لا ينفق, تعالى الله عنه علوًا كبيرًا قال -جل وعلا-: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ: بل غُلَّتْ أيديهم هم, وهذا دعاء عليهم وحكم من الله -تبارك وتعالى- الله إذا جاء أمر بصيغة الدعاء فهذا حكم منه -سبحانه وتعالى- وأمر كوني قدري, وهذا الحكم الذي حكم الله تعالى به لازم لليهود أبدا, أي أن الله -تبارك وتعالى- دمغهم وجعلهم أهل بخل وإمساك, وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا: أي لعنهم الله -تبارك وتعالى- بقولهم هذا عن الله -تبارك وتعالى-, واللعن: هو الطرد من رحمة الله -تبارك وتعالى-, وأصل اللعن في لغة العرب: هو أن الشخص ابن القبيلة الذي تكثر جرائره على قبيلته تلعنه القبيلة وتتبرأ منه, تقول فلان هذا بن فلان نحن نتبرأ منه فما كسب من شر فعلى نفسه ليس على قبيلته, وهذا المعنى في الشرع من لعنه الله -تبارك وتعالى- من طرده الله -تبارك وتعالى- من رحمته وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا: يعني بسبب ما قالوه هذا عن الله -تبارك وتعالى- لعنهم الله وأخرجهم من رحمته -جل وعلا-, ثم قال -جل وعلا-: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ: يدا الرب -سبحانه وتعالى- مبسوطة, البسط: هو السعة والإنفاق, مبسوطتان يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ: يده مبسوطة, أي نقول فلان يده مبسوطة في الخير, {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا}[الإسراء:29], فالرب -تبارك وتعالى- يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء, طبعا هذا فيه إثبات, أي اليد لله -تبارك وتعالى- قال يداه, فالله -تبارك وتعالى- له يدان وكل صفات الله -تبارك وتعالى- نثبتها كما أثبتها لنفسه من غير تشبيه بمخلوقاته ولا تكييف بالمخلوقات؛ لأن الله -تبارك وتعالى- لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ, والنبي يقول: «يد الله ملئ سحَّاء الليل والنهار», ملئ: بالخير, سحَّاء, السح: كثرة العطاء, والليل والنهار, «ألم تروا ما أنفق الله تبارك منذ خلق السماوات والأرض» أي ما أنفقه الله -تبارك وتعالى- على عباده منذ خلق السماوات والأرض من الأرزاق الأطعمة والأشربة والأنعام والخيرات التي أنزلها الله -تبارك وتعالى- من السماء على عباده من المطر وغيره وأخرجها من هذه الأرض, فإنها لم تنقص ما في يمينه كل هذا لم تنقص ما في ما عند الرب -تبارك وتعالى- وما في يمين الرب -جل وعلا-, بل يداه مبسوطتان, أي أنه واسع كريم -سبحانه وتعالى- كثير العطاء, ينفق كيف يشاء, ينفق كيف يشاء -سبحانه وتعالى- بأن ينزل الرزق, قال -جل وعلا-: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ........}[الشورى:27], وبالنسبة لعباده يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر -سبحانه وتعالى- بحكم عظيمة يريدها الرب -جل وعلا-, ينفق كيف يشاء لا راد لرحمته -سبحانه وتعالى- ولا مُضَيِّق لما وسَّعه ولا موسع لما ضيقه بل الله -تبارك وتعالى- ينفق كيف يشاء ولا تغيب النفقة ما عنده -سبحانه وتعالى- وما في يده, ثم قال -جل وعلا-: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا}: أنظر كلما نزلت الآيات ازدادوا كفرًا, أي لا تفيدهم آيات الله -تبارك وتعالى- بل يزدادون كفرًا بها, كثيرًا منهم يزدادون كفر بآيات الله -تبارك وتعالى-, مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ: الذي أُنزل إليك من ربك, طغيانًا, الطغيان: مجاوزة الحد,  أي زيادة في الإجرام والعتو والكفر, مفهوم هذا قلة من يهتدي إلى الحق النازل من الله -تبارك وتعالى-, فهذه عقوبة أخرى من الله -تبارك وتعالى- أن آيات الهدى لا تزيدهم إلا ضلالًا, وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: فهذه عقوبة أخرى من الله -تبارك وتعالى- أن جعل قلوبهم متنافرة متباغضة تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى, وألقيت كأنها أمر يعيش بينهم, فكل منهم يبغض الآخر وتقوم بينهم الحروب والشحناء والبغضاء إلى يوم القيامة بسبب كفرهم وعنادهم, كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ: هذا كذلك من سعيهم بالفساد العظيم في الأرض أنهم يريدون أن تشتعل الحروب بين الناس؛ ليقتتلوا بعضهم بعضًا ويقتل بعضهم بعضًا لأنهم يستفيدون بذلك صرف صرف أنظار الشعوب والأمم عنهم, هؤلاء بني إسرائيل اليهود هذه صناعتهم أن يصرفوا أنظار الأمم والشعوب عنهم بأن يفتنوهم بعضهم بعض فيجعلونهم يتحاربون, ثم هم في النهاية تجار الحروب, فهم الذين يبيعون الأسلحة في هذه الحروب, يبيعون الميرة, فتجار يستفيدون بتأجيج العداوات بين الناس, الله -تبارك وتعالى- يطفئ نيرانهم هذه التي يشعلونها لأنهم أهل إفساد قال -جل وعلا-: وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا: بكل أنواع الفساد, فهذا من أعظم الفساد, هذا من باب عطف العام على الخاص, فإشعال الحروب بين الناس والفتن بينهم من الفساد, ثم عقَّب الله بأنهم يسعون في الفساد هذا وغيره من نشر الرزيلة هم تجار كل شر وكل فاحشة, ويسعون في الأرض فسادا بكل أنواع الفساد, القتل والظلم, وبيع المحرَّم قال -جل وعلا-: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ: هؤلاء الذين يفعلون هذه الأنواع من الفساد لا يحبهم الله -تبارك وتعالى- هذا كل رد عليهم, هذا رد عليهم وهم يزعمون مع هذا أنهم أمة الله وشعب الله وأنهم على دينه ويحاربون أهل الإيمان الحق أهل الرسالة المنزلة من الله -تبارك وتعالى-, يحاربون ولي الله الأعظم محمد بن عبد الله -صلوات الله والسلام عليه- ورسوله الأعظم والأكبر, ويحاربون أمته وأمة الإسلام مدَّعين أنهم أهل الهداية وهذا حالهم من الفساد والإفساد.

ثم قال -جل وعلا-: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ}[المائدة:65], {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ }[المائدة:66]: يخبر -سبحانه وتعالى- أن هؤلاء أصبحت طلبتهم الدنيا فقط, أي أصبح طلبهم كل هذا العمل من الكفر والعناد ومحاربة الإسلام وهذه طرق الفساد كلها ماذا يبتغون؟ لا يبتغون إلا الدنيا يخبر -سبحانه وتعالى- أنهم لو آمنوا واتقوا لحصل لهم أضعاف هذا قال -جل وعلا-: لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ: كل هذا الذي مضى من أعمالهم من السيئات, والسيئات: جمع سيئة, والسيئة: هي كل ما عصى به الرب -تبارك وتعالى- وتسمى سيئة؛ لأنها تسوء صاحبها وهي في نفسها سوء, وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ: أعظم مثوبة, فالله -تبارك وتعالى- يبيِّن أن هؤلاء الأغبياء ضعيفي العقول الذين آثروا هذه الدنيا وآثروا الحياة, وفعلوا كل هذا الإفساد ولا هم لهم إلا هذه الدنيا القليلة, وتركوا الأمر العظيم جدًا وهو مرضاة الرب -تبارك وتعالى- وحصول جنته, لو أنهم آمنوا واتقوا ما ماذا يطلب منهم؟ لا يطلب منهم إلا الإيمان والتقوى آمَنُوا, الإيمان: تصديق بحق, صدقوا وأقروا بالحق, الله حق, ورسله حق, محمد حق, النبيون حق, الجنة حق, النار حق, الحساب حق, فآمنوا بهذا, وصدَّقوا بهذا, فالإيمان في ذاته فضيلة؛ لأنه تصديق بالحق لاشك أن هذا حق, ثم اتقوا ربهم خافوه -سبحانه وتعالى-, بأن جعلوا وقاية بينهم وبين عذابه وذلك بطاعته سبحانه وتعالى والانتهاء عن نهيه, وهذا كله حق؛ لأنك تطيع الرب -تبارك وتعالى- وطاعة الرب حق, فهو ربك الذي خلقك الذي أنشأك, والذي مصيرك إليه, لا يُدعَون إلى أمر باطل وإنما يدعون إلى الحق, وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ: كل هذا السوء الذي مضى منهم والذي يفعلونه كفَّره الله -تبارك وتعالى- بمعنى أنه ستره وغطَّاه ومحاه -سبحانه وتعالى-, وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ: اللام المؤكدة, أي والله لأدخلناهم جنات النعيم, جنات: بساتين جمع جنة, والجنة هي البستان, النعيم: التي يُنَعَّمُ فيها وداخلها بكل أنواع النعيم من الراحة والسرور والحبور والملذات والأرزاق والبهجة والخلود الذي لا انقطاع له, {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ}: حصلت الآخرة بالإيمان والتقوى, وتحصل الدنيا كذلك حيث يتنعم فيها أعظم التنعم, لو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل, والإقامة هنا بمعنى: أنهم أقاموا حدودها وطبقوا ما أمرهم الله -تبارك وتعالى- فيها, التوراة: الكتاب المُنَزَّل على موسى -عليه السلام-, والإنجيل: الكتاب الذي أنزله الله عل عيسى -عليه السلام-, وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ: مما نزل على الأنبياء, لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ: غاية ما يتمناه العبد في هذه الدنيا أن تكون الأرزاق تأتيه من فوق رأسه ومن تحت قدمه, أكلوا من فوقهم من الأعناب ومن الثمار, فإن الأشجار تكون فوق الرأس, أي من الثمار التي يخلقها الله -تبارك وتعالى- في العلو, من تحت أرجلهم مما تخرجه الأرض من بطونها ومن الزروع, وهذا طبعا تمثيل لوفرة ما يمكن أن يبارك الله -تبارك وتعالى- الأرزاق, واحد يأكل من فوقه ومن تحت قدميه, مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ: من أهل الكتاب أمة مقتصدة, الاقتصاد: هو الاعتدال, والقصد: هو الأمر العدل الذي ليس فيه إفراط ولا تفريط, أي أنها أمة قائمة معتدلة قامت بما أوجبه الله -تبارك وتعالى- عليها انتهت بما حرمه الله -جل وعلا- عليها, فهم ليسوا سبَّاقين في الخير وإنما هم أهل وسط واعتدال, وقيام للدين على الأقل في حدوده الدنيا, وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ: كثير من أهل الكتاب حكمهم وعملهم على هذا النحو, ساء ما يعملون: ما يعلمونه, أظي الذي يعملونه في غاية السوء, بعد هذا الفاصل في بيان حقيقة هؤلاء اليهود موقفهم من هذه الرسالة عملهم بالإفساد, العقوبات التي عاقبهم بها الرب -تبارك وتعالى-, دعوة الله -تبارك وتعالى- لهم بأن الإيمان لهم خير, فإن الإيمان لهم خير في الآخرة, وكذلك خير لهم في هذه الدنيا, يحصل لهم بالإيمان خير الدنيا والآخرة.

 ثم وجَّه الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك نداء إلى رسوله -صلوات الله والسلام عليه- أن يُبَلِّغ هؤلاء الدين, وأن يجابههم بالحق ويقيم عليهم الحجة قال -جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[المائدة:67] يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ}: خطاب من الله -تبارك وتعالى- لعبده ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه- بعد هذا الفاصل في هذه السورة من بيان حال أهل الكتاب من اليهود والنصارى, وبيان موقفهم من أهل الإسلام قال -جل وعلا-: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ: أمر من الله -تبارك وتعالى- للرسول بأن يُبَلِّغ الذي أنزله الله -تبارك وتعالى- عليه من الله, وقوله من ربك هنا فيه تثبيت وتأنيس للرسول -صلى الله عليه وسلم- أن هذا الذي مُنْزَل إليك من ربك خالقك إلهك ومولاك -سبحانه وتعالى-, وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ: وإن لم تفعل هذا البلاغ فما بلغت رسالته, أي لم تقم بم أوجبه الله -تبارك وتعالى- عليك, وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ: يعصمك من الناس, لا ينالونك ما في أحد يستطيع أن يضرك بسوء؛ لن تُقْتَطَع وتُقْتَل قبل أن تُبَلِّغ هذه الرسالة, فالله -سبحانه وتعالى- عاصمك من الناس, إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ: هذه أيضًا حقيقة بأن الله -تبارك وتعالى- لا يهدي القوم  الكافرين, الكافر لا يهديه الله بمعنى أنه طالما على الكفر يعلم الكفر ويكفره ويغطيه كيف يهديه الله -تبارك وتعالى-؟ كيف يكون لمثل هذا الذي يرى الحق ويتركه عنادُا وتكبرُا هذا لا يهديه الله -تبارك وتعالى-, فلا يُهْدَىْ بأن يرجع عن الكفر ويؤمن عند ذلك يهتدي, فالله لا يهدى القوم الكافرين, فبلغ هذه الرسالة أصدع لأمر الله -تبارك وتعالى- قولها لا تخاف أحد فإن الله -تبارك وتعالى- عاصمك من الناس لا ينالونك, يهود يملئون الأرض وكانوا كثيرًا في أرض الجزيرة, النصارى يملئون الأرض وكانوا أكثر الأمم في هذا الوقت والشعوب عددًا وقوة ومكانة وبعد ذلك المشركون, وكان النبي ينبغي أن يبلِّغ هؤلاء كلهم رسالة الله وفيها إكفارهم, أي يكفرهم ويقول أنتم كفار أنتم على الضلال, يبيِّن فضائحهم يبين مخازيهم فيستعديهم جميعَا, والنبي مأمور أن يبلِّغ رسالة الله -تبارك وتعالى- على هذا النحو ولا يخاف فالله يقول له: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[المائدة:67].

نقف عند هذا, ونكمل إن شاء الله في الحلقة الآتية, أقول قولي هذا, وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب, -وصلى وسلم على عبده وروسله محمد-.