الأحد 23 جمادى الأولى 1446 . 24 نوفمبر 2024

الحلقة (154) - سورة المائدة 67-72

الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على عبد الله الرسول الأمين, وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد, فيقول الله -تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[المائدة:67], {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[المائدة:68], {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}[المائدة:69]: يأمر الله -تبارك وتعالى- رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- بقوله: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ, وفي نص الله -تبارك وتعالى- أن الرسول هنا مناسب للأمر الذي يأمره به أن هذا الأمر من خصوص الرسالة, ومن واجبات هذه الرسالة, يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ؛ لأن هذا هو مهمة الرسول, أرسلك الله -تبارك وتعالى- من أجل هذا البلاغ, بَلِّغْ: أمر من الله -تبارك وتعالى- للرسول, والبلاغ: أن يوصل أمر الله -تبارك وتعالى- إلى الناس, مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ: الذي أنزله الله إليك, مِنْ رَبِّكَ: تأنيس للنبي -صلى الله عليه وسلم-, وأن هذا الذي نزل إلى النبي إنما هو من ربك يا محمد الرب السيد المالك الإله المولى -سبحانه وتعالى-, وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ: إذا لم تبلغ رسالة الله -تبارك وتعالى- كما أمرك فما بلغت رسالته, إذًا تكون لم تقم بمهمتك والتي أناطها الله بك وأنك رسوله إلى العالمين, ثم قال له: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ: لا تخف من أحد أنت معصوم أن ينالك أحد, لو تآمرت عليك الدنيا كلها فأنت معصوم من الناس الله هو الذي يعصمك, وهنا قال وَاللَّه يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ قدم هنا الله -سبحانه وتعالى- اسمه ما قال يعصمك الله من الناس أي قدم الفاعل؛ وذلك لأهمية الفاعل هنا, وهو العاصم, وأن الله -سبحانه وتعالى- يعصمك, العصمة: المنع أي يمنعك من الناس أن يقتطعوك, يقتلوك, يمنعوك, لا يستطيعوا ولو اجتمع الناس كلهم أن يمنعوك عن هذا الأمر ويقتطعوك دونه لن يستطيعوا, والله يعصمك من كل الناس, هنا كلمة الناس للعام أي كل الناس أيًّا كان من يتآمر عليك أو يتألب عليك, إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ: وهذا فيه بيان للنبي وفيه أيضا تأنيس له -صلوات الله والسلام عليه-, أن من كفر به فالله لا يهديه, أي أن هذا من الله -تبارك وتعالى- وذلك عقوبة له؛ لأن الكفر رد للحق, هو عرف الحق ورده فالله لا يهديه, لا يمكن أن يهدي الله -تبارك وتعالى- وهو يعلم الحق ويرده, الله لا يهدي ولا يوفق إلا من صدَّق بالحق, إذا صدَّق بالحق عند ذلك اهتدى, يهديه الله -تبارك وتعالى-, ويشرح صدره’ أما طالما هو يرى الحق ولكن لا يؤمن له وهو عالم أنه الحق فهذا لا يهديه الله -تبارك وتعالى-, فهذا تأنيس للنبي -صلى الله عليه وسلم- أن كفر هؤلاء الناس إنما هو ليس بتقصير من الرسول, لكن هذا من فعل الكافر.

 ثم عقوبة الرب -جل وعلا-: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}: نادي أهل الكتاب, أمر من الله للرسول أن يناديهم, وهنا يا أهل الكتاب كذلك تشهير لهم تذكير لهم, بأنهم أهل الكتاب, أهل التوراة والإنجيل ينسبون إليها, ويزعمون الإيمان بها إذًا طبقوا ما فيها, ولن تكونوا على شيء من الدين والحق, ولك شيء من هذه الدعوة التي تدَّعيها بأنكم أهل الجنة, أنكم أتباع الرسل, أنكم شعب الله المختار, أنكم أمته, أنكم لن تكونوا على شيء من الحق ولا تحققوا شيئا من الأماني التي تدَّعوها حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم, لابد لكل أحد منهم أنه يقيم التوراة والإنجيل, فاليهودي لا بد أن يقيم التوراة والإنجيل؛ لأن الإنجيل تتمة للتوراة, والذي جاء به مصدق بالتوراة, فعيسى عامل بالتوراة -عليه السلام-, وبالتالي لا يمكن أن يكون اليهودي مؤمنا حقا إلا إذا آمن كذلك بعيسى -عليه السلام- وآمن بالإنجيل الذي آنزله, وكذلك يمكن أن يكون النصراني نصارنيًّا حقا إلا إذا آمن بموسى وآمن بالتوراة, والجميع لا يمكن أن يكونوا مؤمنين وعاملون بالتوراة والإنجيل حقاً إلا إذا آمنوا بمحمد -صلوات الله والسلام عليه-, فإن النبي محمد جاء مصدقًا لما في التوراة والإنجيل, والتوراة والإنجيل جاءت مبشرة به وداعية إليه, فدين واحد هذه كتب نزلت من إله واحد -سبحانه وتعالى-, وتدعو إلى أمر واحد وهي الإسلام لله -تبارك وتعالى- والخضوع والانقياد له, حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ: كل ما أنزله الله -تبارك وتعالى- على الأنبياء من ربكم يجب أن تؤمنوا به, فهذا هو الدين الحق يا أهل الكتاب من اليهود والنصارى أقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم, ويدخل ما أنزل إليكم من ربكم: القرآن؛ لأن القرآن قد أنزل كذلك إليهم من ربهم -سبحانه وتعالى-, فإن الله أنزله على محمد الذي يدعو الجميع إلى الإيمان بالله, وأول ما يدعوا هم اليهود, وكذلك النصارى, لأنهم أهل دين ويعرفون الأنبياء وهذا النبي مأخوذ عليهم العهد أن يؤمنوا بهذا النبي -صلوات الله والسلام عليه-, قال -جل وعلا-: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا}: الله اكبر, لكن الذي أنزله الله -تبارك وتعالى- على الرسول من هذه الآيات البينات يزدادون بها كفرًا, هم كفار ويزدادون كفرًا بذلك, فبدل من أن تكون هذه الآيات النازلة على محمد -صلوات الله والسلام عليه- من ربه أي أن تكون داعية لهم للإيمان بالله, لا بل هي كأنها داعية لهم من الكفر يزدادون بها كفرا, {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ: الأسى: الحزن والابتئاس, لا تتأسف عليهم, لا تتأسى على القوم الكافرين؛ لأنهم كافرون فلا ينبغي أن تأسى عليهم, فهم اختاروا الكفر ومن أجله حرمهم الله -تبارك وتعالى- ولعنهم الله -تبارك وتعالى- حرمهم من الإيمان.

ثم بيَّن -سبحانه وتعالى- طريق النجاة عندهم, وأنه ليسو هو انتقاء ويأخذ أمة ينجيها ويدخلها الجنة فقط بالجملة لأنها أمة لا, وإنما كل الأمم عند الله -تبارك وتعالى- إنما النجاة لهم والصلاح لهم بالإيمان, وبطاعة الرب وبالإسلام له -سبحانه وتعالى-, قال -جل وعلا-: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} هذه كل الأمم, علم على أمة محمد -صلوات الله والسلام عليه- أنهم المؤمنون, وذكرهم الله -تبارك وتعالى- ابتداءًا تشريفًا لهم وإن كانوا هم الأمة الأخيرة في الزمان لكنها, أمة أخيرة في الزمان أُولى في الذكر, أولى عند الأمم, هي الأولى عند كل شيء, هي الأولى في دخول الجنة, إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ: والصابئة: قوم هم من يسكنوا في الشام وتحولت عبادتهم إلى النجوم, فيهم دعا إبراهيم -عليه السلام- والنصارى الذين اتبعوا عيسى بن مريم -عليه السلام-, والذين ينسبون إليه قال -جل وعلا-: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا: كل هذه الأمم الذي يؤمن منهم بالله واليوم الآخر ويعمل صالحًا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون, فإذًا لابد لكل أمة من كل الأمم, هذا علم, الذين آمنوا أصبح علم على مجموع أهل الإيمان, لكن ليس كلهم يدخلون هكذا بالجملة إلا بالإيمان الحق, فإن كان هذا مُسمَّىْ لهم كذلك اليهود أصبح مُسمَّىْ لشعب عظيم لأمة كبيرة, لكن مَن هم الجنة منهم؟ أهل الإيمان منهم, وليس كل اليهود, والنصارى كذلك, والصابئون كذلك, فكل أمة من هذه الأمم بهذا المُسمَّىْ الكبير الذي يجمعهم لا نجاة عند الله -تبارك وتعالى- لأحد منهم إلا بالإيمان والعمل والصالح, {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}: هذا شرط الله -تبارك وتعالى- لهم, فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ: فهذا الذي أعطاه الله -تبارك وتعالى- وثيقة أمان لا خوف عليه في المستقبل, ولا هم يحزنون فيما خلفوه وما مضى, وهذا الأمن في المستقبل, وكذلك الأمن في الماضي, فكل ما خلفوه من عمل وكل ما يستقبلونه من أمر فهم لا خوف عليهم  في هذا ولا حزن على السابق, فهذا تأمين لهم من الله -تبارك وتعالى- تأمين شامل, وذلك بإيمانهم بشرط الإيمان بالله, وبالطبع ذكر اليوم الآخر وذلك أن اليوم الآخر هو الذي يظهر في هذا الأمن ويظهر هذا في يوم القيامة, ثم هو اليوم الذي يجمع الله -تبارك وتعالى- كل هذه الأمم في صعيد واحد, ثم من كان منهم من أهل الإيمان بالله -تبارك وتعالى- آمن بما أنزل إليه, آمن برسوله الذي أرسل فيه, عمل صالحًا فيه ومات على ذلك كان من أهل الجنة, هذا لا خوف عليهم ولا هم يحزنون, فالحساب عند الله -عز وجل- سيكون على هذا الأساس الإيمان والعمل الصالح من كل أحد, بالطبع هذه آية ختامية لهذا الفاصل.

 ثم فاصل جديد لبيان كذلك حال أهل الكتاب مع الرسالة وأنهم ناقضوا عهود, مُبَدِّلو الدين, انظر معاملة الرب -تبارك وتعالى- لهم كيف يعاملهم الرب -تبارك وتعالى-؟ وكيف هم كانت معاملتهم مع الله -تبارك وتعالى- وموقفهم مع الرسالة المنزلة إليهم؟ قال -جل وعلا-: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ }[المائدة:70]: انظر عناية الرب -تبارك وتعالى- بهؤلاء, وانظر موقفهم من الله -تبارك وتعالى- لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ: الرب يتكلم عن نفسه -سبحانه وتعالى- هو الذي أخذ ويؤكد هذا, والميثاق: العهد المؤكد, بني إسرائيل: أولاد يعقوب, أخذ الله ميثاقهم على الإيمان به -سبحانه وتعالى- وعلى العمل بطاعته في مقابل التوفيق والجنة, لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا: من عنده -سبحانه وتعالى- اختار منهم رسل وأرسلهم إليهم قال -جل وعلا-: كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ: كلما: من الاستمرار, هذا حال مستمر, رسول يأتيهم من عند الله -تبارك وتعالى- اختاره الله منهم يرسله إليهم, بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ: يقيسون الحق على الهوى الذي عندهم, فالذي تهواه أنفسهم يأخذوه, ما لا تهوى أنفسهم يردوه, كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا: فريقًا من هؤلاء الرسل كذبوهم, وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ: ولم يقل وفريقا قتلوا؛ وذلك أن هذا عملهم الدائب حتى في نبينا محمد -صلوات الله والسلام عليه-, فإن هذا قد كان دأبهم, كَذَّبُوا: أي طائفة عظيمة من الرسل هؤلاء الذين أرسلهم الله -تبارك وتعالى- إليهم, وفريق منهم قتلوه, ويقتلوا وعملهم مستمر, عيسى سعوا في قتله بكل سبيل, يحيى قتلوه, زكريا قتلوه, محمد بن عبد الله -صلوات الله والسلام عليه- سعوا في قتله بكل سبيل وعصمه الله -تبارك وتعالى- من ذلك ومات كذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- مسموما من امرأة منهم كما قال النبي في مرض موته قال: «لا زال أثر السم بي حتى هذا أوان قطع أبهري», الذي أكله في الشاة في خيبر وسمته به اليهودية, الأبهر: أي شريان القلب, فهذا دأبهم هذا فعل بني إسرائيل, هذا كان شأنهم مع الرسل الذين أرسلهم الله -تبارك وتعالى- عليهم مع ما أخذ الله -تبارك وتعالى- عليهم من الميثاق العهد المؤكد.

 قال -جل وعلا-: {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}[المائدة:71]: بعد كل نقض للعهد الذي يعاهدونه وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ: محنة لهم وعقوبة لهم من الله -تبارك وتعالى-, واختبار لهم من الله -تبارك وتعالى-, أي يفعل الجريمة ويظنوا أنه لن يكون بعدها اختبار من الله -تبارك وتعالى- وعقوبة لهم من الله, فعموا وصموا عن سبيل الرب, عن عقوبات الله -تبارك وتعالى- لهم, عن أن الله لن يخلي لهم نقضهم للعهد والميثاق, فعموا عن الحق, وصموا عن سماعه, ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ: تاب الله -تبارك وتعالى- عليهم بعد كل عقوبة إذًا يعاقبهم ويتوب عليهم بعقوبة كما فعل مثلا الذين عبدوا العجل, الذين دخلوا على أستاهم في بيت المقدس الذين أرسل الله -تبارك وتعالى- عليهم رجزًا من السماء, ثم تاب عليهم, بعد كل عقوبة يعاقبهم الله, ما ابتلاهم الله -تبارك وتعالى- بالأمم التي أذلتهم وقهرتهم مرة بعد مرة, ثم تاب الله -تبارك وتعالى- عليهم بعد هذه الفتنة, بعد الرجوع إلى الله قال: ثم عموا وصموا مرة ثانية أي يعمون عن سبيل الرب وعن سنة الرب -تبارك وتعالى- فيهم, ويصمون أذانهم عن التحذير, أكثرهم فعلوا هذا, وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ: هذا تحذير لهم وبيان لهم, انظروا جاء محمد -صلوات الله وعليه وسلم- النبي الخاتم برسالة الرب -تبارك وتعالى-, وكفركم ونقضكم العهد والميثاق الذي أُخِذَ عليكم بالإيمان به ترى مسئولية وراءه مودة, وراءه فتنة, وبالفعل لما كفروا بهذا انظر كيف سلط الله -تبارك وتعالى- رسوله محمد عليهم فقتل من قتل منهم, سبع من سبع منهم, أذلهم قهرهم من اليهود والنصارى, والحال لو أنهم كانوا آمنوا بالله -تبارك وتعالى- لرفع عنهم هذا الأمر, ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ: مبصر لا يغيب عن نظره شيئا -سبحانه وتعالى-, الله ناظر إليهم -سبحانه وتعالى-, وبصير لكل الذي يعملونه, فلا يغيب عنه شئ, -سبحانه وتعالى-, معنى هذا تهديد ووعيد بأنه يعاقبهم -جل وعلا- على عملهم.

 ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- حكمه في النصارى خاصة بثلاث آيات متواليات في بيان حقيقة أمرهم قال -جل وعلا-: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}: تأكيد من الله -تبارك وتعالى- بأن هؤلاء الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم هؤلاء قد كفروا, فإن الله هو الملك الإله خالق السماوات والأرض وبارئها -سبحانه وتعالى-, وعيسى بن مريم فرد من أفراد خلقه, ليس إلا رسول خلقه الله -تبارك وتعالى- بالكلمة كما خلق الله -تبارك وتعالى- آدم, {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[آل عمران:59], فقد خُلِقَ آدم بكلمة الله كن فيكون, و خُلِقَ عيسى كذلك بكلمة الله وبأمر الله -تبارك وتعالى-, وليس هو الله كما يزعمون, {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}: والحال هذه مقالة المسيح في بني إسرائيل هؤلاء الذين اتخذوه إله وجعلوه هو الله, {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ}[المائدة:72]: أي والحال أن المسيح قد قال لهؤلاء الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم هذا المسيح نفسه الذي عبدوه وقالوا أنه هو الله هذه مقالته لبني إسرائيل المسيح من بين إسرائيل فهو أمه من نسل داوود وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ: نادي بني إسرائيل أي يا أولاد يعقوب اعبدوا الله ربي وربكم, دعاهم إلى عبادة الله -تبارك وتعالى- الذي وصفه بأنه ربي, الرب: هو السيد المالك المتصرف الخالق, فالله هو ربي أي خالقي ومولاي وسيدي وهو كذلك ربكم وسيدكم وخالقكم ومربيكم ومتولي أموركم -سبحانه وتعالى-, ثم قال لهم: إنه: أي الحال والشأن, إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ: إنه هنا ضمير الشأن, أي الحال والشأن عند الله -تبارك وتعالى-, أنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة, يُشْرِكْ بِاللَّهِ: يجعل الله -تبارك وتعالى- شريك في الذات, شريك في الصفات, شريك في الحقوق, أي شركة, الله لا يقبل شركة -سبحانه وتعالى- بالطبع الله لا شبيه له في ذاته -سبحانه وتعالى-, ولا ينفصل من ذاته من ذات تكون جزء يكون مثله, تعالى الله على ذلك علوًا كبيرًا, {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ}[الزخرف:15], فالله لا جزء له, ليست الملائكة منه, ولا عيسى منه -سبحانه وتعالى-, والله هو الواحد الأحد, {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}[الإخلاص:3], {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}[الإخلاص:4], فالله لا شبيه له في ذاته ولا كذلك في صفاته, ليس هناك من يسمع كسمع الله, يبصر كبصر الله, له قدرة كقدرة الله, له تصريف كتصريف الله -تبارك وتعالى-, المخلوق كل صفاته مناسبة لحاله, المخلوق له سمع, له بصر, له قدرة, له علم, لكن على قد حاله, والله -تبارك وتعالى- لا شك صفاته لائقة بجلاله وعظمته -سبحانه وتعالى-, فإذا قيل بأن الله -تبارك وتعالى- سميع والإنسان سميع, سمع الإنسان على قد حاله يسمع ما حوله من الأصوات التي تأتي إلى طبلة أذنه وإذا كانت ثلاث أو أربع أصوات مختلفة جاءت دفعة واحدة لا يستطيع أن يميز هذا مع هذا, تأتيه مشوشة فلا يتبينها ولا يفهمها, وما بعد عنه لا يسمعه, أما الرب الإله -سبحانه وتعالى- فإنه السميع يسمع دبيب النملة السوداء على الصفاة الملساء في الليلة الظلماء, وهو مستوى فوق سبع سموات فوق عرشه -سبحانه وتعالى-, لا يغيب عنه من كل أصوات خلقه, {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ}[الرعد:10], مهما تختلط هذه الأصوات في كل الأوقات لا يشغل الله -تبارك وتعالى- سمع عن سمع لا يشتغل بسمع هذا عن سمع هذا, فالله -تبارك وتعالى- صفاته لائقة بذاته, والمخلوق صفاته مناسبة لحاله, هذا مناسب لحاله, هذا لائقة بذات الرب -تبارك وتعالى-, إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ: شرك في الذات, شرك في الصفات, شرك في الحقوق, فالله له حق على عباده, وهذا الحق له وحده, فحقه على عباده أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا, أن يعبدوه وحده بالطاعة التامة, أفعل ولا تفعل بالأعمال التي فرضها الله -تبارك وتعالى- عليهم تعظيمًا لذاته -سبحانه وتعالى- كالصلاة, والصوم, والذبح, والحج, والنذر, دعاء الطلب منه -سبحانه وتعالى-, فهذا له وحده -سبحانه وتعالى-, لا يقبل الله -تبارك وتعالى- أن يكون له شريك في هذا الحق بأن يُسْجَد لأحد معه, بأن يُدْعَىْ أحد معه -سبحانه وتعالى-, أن يُطْلَبَ الخير إلَّا منه, أن يُطْلَبَ دفع الضر إلَّا منه, هذا هو الذي يملكه وحده -سبحانه وتعالى-, فلا يُدْعَىْ إلا الله -تبارك وتعالى-, {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}[الجن:18], قال لهم عيسى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ: أي نوع من الشرك, فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ: التحريم: المنع, أي منعه الله -تبارك وتعالى- من دخول الجنة منعًا هذا مطلقًا أبديًا بل هذا في النار أبدا, وَمَأْوَاهُ النَّارُ: المأوى: هي الكِّن والمستقر والمكان الذي يلجأ إليه الإنسان ليريحه, وَمَأْوَاهُ النَّارُ: مكانه ومستقره, قال -جل وعلا-: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ: أنه ظالم, هذا الذي أشرك بالله-تبارك وتعالى- وضع الأمر في غير محله, فهو ظالم ليس له من أنصار ينصرونه.

نقف عند هذا, وإن شاء الله أعود إلى هذه الآيات في حلقة آتية إن شاء الله, أقول قولي هذا, وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب, -وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد-.