الأحد 23 جمادى الأولى 1446 . 24 نوفمبر 2024

الحلقة (155) - سورة المائدة 72-77

إن الحمدلله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, من يهديه الله فل مضل له, ومن يضلله فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لاشريك له, وأشهد أن محمد عبده وروسله.

أما بعد: فإن حير الكلام كلام الله تعالى, وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.

وبعد, فيقول الله -تبارك وتعالى-: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ}[المائدة:72], {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[المائدة:73], {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[المائدة:74], بعد أن بيَّن الله -تبارك وتعالى- أنه قد أخذ ميثاق بني إسرائيل, وأرسل إليهم رسله وأنهم استمروا في العناد والمكابرة, قال -جل وعلا-: كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا: أي من هؤلاء الرسل, وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ, ما قال قتلوا وإنما قال يقتلون؛ لأن هذا دأبهم إلى نبينا محمد -صلوات الله والسلام عليه- خاتم الرسل, فقد سعوا في قتله بكل سبيل, فقد كان هذا ديدنُ بين إسرائيل الذين أرسل إليهم رسل منهم من بني إسرائيل, وكان هذا موقف عامتهم من هؤلاء الرسل, فريقا كذبوا منهم, وفريقًا يقتلون, وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ: أي ظنوا أنهم بقتلهم الرسل وتكذيبهم لا تكون فتنة, عقوبة لهم من الله -تبارك وتعالى-, فَعَمُوا وَصَمُّوا: كذلك تذكير الله -تبارك وتعالى- لهم بعد كل انحراف عن الحق بما يعاقبهم الله -تبارك وتعالى- به, {ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}[المائدة:71]: أي أن كثيرًا منهم استمر في الضلال, واستمر في الغواية, ولم يرتدع بما وعدهم الله -تبارك وتعالى- به من العقوبات التي جاءت عقوبة تلو عقوبة تذَكِّرهم بالله -تبارك تعالى- بعد كل انحراف, ولكن كثير منهم استمر على هذا.

 ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- شأن الذين اختلفوا في عيسى بن مريم -عليه السلام- وهم بني إسرائيل ومن ظنوا أنهم أتباعه وهو مقالتهم الفاجرة الكافرة في عيسى -عليه السلام-, وهي أنهم جعلوه هو الله -سبحانه وتعالى- قال -جل علا-: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}: كفر ناقل ينقلهم عن الإسلام بالكلية إلى الكفر المخل, كفر كامل وذلك أنهم قالوا إن الله المعبود خالق السماوات والأرض هو عيسى بن مريم -عليه السلام-, وهذا كفر ليس بعده كفر, ثم بين الله -تبارك وتعالى- بأنهم لا عذر لهم في هذه المقالة, وإنها مقالة مخترعة كاذبة لا يدل عليها أدنى دليل, ومن ذلك بل قامت الأدلة بضدها وذلك أن عيسى بن مريم نفسه قال مناديًا: لبني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم, وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ: أي يا أولاد يعقوب, والمسيح: هو من بني إسرائيل -عليه السلام-, اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ: فقد دعاهم إلى عبادة الله الذي لا إله إلَّا هو خالق السماوات والأرض الذي هو قال ربي, فقدم نفسه هنا وأنه عبد مربوب لهذا الرب الإله الكبير, ثم قال وربكم, وأنه حذرهم قائلًا: يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ: أي صورة من صور الشرك كأن جعل لله -تبارك وتعالى- ندًّا في الذات ذاته ذاته كما تقول النصارى, أو شركًا في الصفات, أعطى بعض الصفات الله -تبارك وتعالى- لهذا المخلوق المعبود, أو شركًا في الحقوق, فأعطى غير الله -تبارك وتعالى- ما لا يجوز أن يعطى إلا لله من العبادة والتعظيم والإجلال, وصنوف القرب التي جعلها الله -تبارك وتعالى- قربات له, فهذا حقه على عباده -سبحانه وتعالى-, فمن أشرك بالله -تبارك وتعالى- غيره في الحقوق فهو مشرك بالله, أنه من يشرك بالله أي شرك فقد حرم الله عليه الجنة, التحريم: المنع, أي يمنعه منعًا كاملًا من دخول الجنة, وهي دار المستقر والمأوى الذي جعله الله -تبارك وتعالى- مستقرًا ومأوى وحضورًا وسرورًا وسعادة لأوليائه في الآخرة, وَمَأْوَاهُ النَّارُ, المأوى: هو ما يلجأ إليه الإنسان ليستريح ويسكن ويأوي إليه, وهنا قيل مأواه النار؛ لأنها مستقره أيهو مكانه الذي يستقر فيه وينتهي إليه, ينتهي مطافه بعد هذه الرحلة الطويلة من الحياة إليه ولا خروج  له عنه, قال -جل وعلا-: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ: وهذا أعظم الظلم, الذي جعل العبادة في غير محلها والذي أشرك بالله -تبارك وتعالى-, فإن الظلم وضع الشيء في غير محله, ولا ظلم أكبر من الشرك بالله -تبارك وتعالى-, وليس له أنصار ينصرونه من دون الله -تبارك وتعالى- أي يخرجونه من النار ويدخلونه الجنة, يشفعون له عند الله -تبارك وتعالى- يسقطون عنه العذاب كل معني النصرة لا تتحقق لهؤلاء, وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ.

 هذه مقالة طائفة من بين إسرائيل في عيسى بن مريم -عليه السلام-, طائفة فالوا أخرى إن الله ثالث ثلاثة فحكم الله -تبارك وتعالى- هنا كذلك بكفرهم قال: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ: وهي مقالتهم الفاجرة فيما سَمُّوه بعد ذلك بالأمانة النصرانية, وهي قولهم: إن الله هو واحد في زعمهم بالذات لكنه ثلاثة وهو الأب والابن والروح القدس, الأب: الله الذي في السماء, والابن: عيسى والروح القدس: يقولون في كلامهم منبثق بعضهم يقول: عن الأب وحده, وبعضهم يقول لا عن الابن وحده, وبعضهم يقول عن الابن والأب انبثق منهم بعد ذلك, فعندهم هؤلاء الأب والابن والروح القدس إله واحد, وأن الله هو مجموع هذه الثلاثة فعندهم هو إله واحد, وهذه المقالة التي جمعهم من أجلها قسطنطين الروماني بعد أن افترقت النصارى فرق كثيرة وهو دخل في النصرانية بسبب أمه هيلانة كانت نصرانية, وأدخلته في النصرانية, ثم لما تولى المملكة جمع قساوسة النصارى في أول مؤتمر عالمي لهم في مدينة نيقيا وموجودة الآن في تركيا, ثم تباحثوا في هذا الأمر جلسوا نحو عام ونصف العام, واختلفوا فيه اختلافًا عظيمًا, ثم بعد ذلك اختار منهم القسم الذي قال هذه المقالة كان نحو ثلاثمائة وستين شخص وكتبوا بما يسمَّىْ بالأمانة النصرانية, أن الإله إنما مكون من هذه الثلاثة إله واحد, أخبر -سبحانه وتعالى- أن هؤلاء الكفار فإن الله إله واحد -سبحانه وتعالى- وقال: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ: فجعلوا الله جزء من هؤلاء الثلاثة, يتكون مع عيسى, وروح القدس كلهم إله قال -جل وعلا-: وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ: أي الحال والشأن أنه لا يمكن أن يكون إله إلا اله واحد, أي إله يُعْبَد لا يمكن أن يكون إلا إله واحد, أما أن يكون معه اثنان يُعبَدُون معه ويكون هم متساوون كما يقولون هم متساوون في الجوهر, جوهرهم واحد وذاتهم واحدة, وكل منهم يخلق ويرزق ويحيي ويميت وله إرادة ومشيئة مستقلة عن إرادة الرب -تبارك وتعالى- لا يمكن أن يكون إلا إله واحد؛ لأن الذي خلق هذا الخلق ودبره وأقامه إله واحد -سبحانه وتعالى-, فإن عيسى لم يخلق مع الله وروح القدس: هو جبريل على الحقيقة هو ليس هو ما ادَّعوه أنه جزء من الله -تبارك وتعالى- واقنوم مع الله -تبارك وتعالى- تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا, فلا يمكن ولا يصح أن يكون إلا إله واحد, فإن الخالق واحد, وكل هذه المخلوقات راجعة إلى هذا الإله يتصرف فيها هو الذي خلقها وهو المتسبب فيها, وقد شاهدوا أن عيسى -عليه السلام- إنما وُلِدَ بشر كسائر البشر, نعم لم يُولَد من أب وإنما وُلِدَ بقدرة الله -تبارك وتعالى- بالكلمة وإنما عاش كالبشر, يأكل ويشرب ويخاف ويهرب من عدوه ويتوسل إلى إلهه وخالقه أن يصرف عنه كيد اليهود الذين تآمروا بقتله, يعلم أشياء ويجهل غيرها, وقد كتبوا هذا في الإنجيل الذي بين أيديهم, فقد سأل في غير أوان التين عن شجرة فيها تين أم لا, ولم يكن يدري بأن التين ليس هو أوانه, فهو بشر يعتريه ما يعتري كل البشر من الضعف ومن الخوف, ومن الضرورة التي تُلْجِئَهُ إلى الحاجة, وهو لا يخلقو ولا يرزق, ولا يحي, ولا يميت, بل هو بشر كسائر البشر, قد رأوا هذا وعيسى نفسه -عليه السلام- قال لهم منذ كان طفلا في مهده والى أن أصبح رسولًا رجلاً كبيرًا داعيًا, كله دعى إلى عبادة الله وحده لا شريك له قال -جل وعلا-: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ}: هذه بديهة العاقل, وهذا كل أمر  ضروري تدفع إليهم الضرورة أنه لا يمكن أن يكون إله إلا إله واحد؛ لأنه وحدة الخلق تدل على وحدة الخالق, أي ناظر إلى هذا الخلق يجد واحد وأنه ليس فيه اختلاف, ولو كان هناك إله مع الله -تبارك وتعالى- لانفصل هذا الخلق, ولعلا استقل كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض, ولقامت حرب نجوم وحرب كواكب بين هؤلاء الآلهة, كل يريد أن يكون هو الإله وحده تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا, أما ما دام أن الجميع خاضعين لسلطان واحد وإله واحد, فالحال أنه ليس إلا إله واحد, قال -جل وعلا-: {وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}: هذا وعيد وتهديد من الله -تبارك وتعالى-؛ لأنهم إن لم ينتهوا عما يقولون من هذه المقالة الفاجرة الكافرة التي تكاد السماوات والأرض أن تتفَطَّر منها, {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا}[مريم:88], {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا}[مريم:89], {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا}[مريم:90], {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا}[مريم:91], وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا}[مريم:92], {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}[مريم:93], {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا}[مريم:94], {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}[مريم:95], {وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}: وإن لم ينتهوا عما يقولون في هذه الدنيا فيتوعدهم الله -تبارك وتعالى- ويتهددهم بالعذاب الأليم في الآخرة.

 ثم قال -جل وعلا-: داعيا هؤلاء الذين لا عقول لهم إلى عباده الرب الإله وحده -جل وعلا- فقال: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ}: أي ويرجعون عن هذه المقالة الكافرة, ويطلبون المغفرة من الله -تبارك وتعالى- عما سلف لهم من هذا الإجرام وهذا الكفر العظيم, {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[المائدة:74]: هذا من رحمته -سبحانه وتعالى- وإحسانه أن دعى هؤلاء, وهؤلاء من أفجر أعدائه وأعتاهم وأكذبهم عليه ومع ذلك إن الله -تبارك وتعالى- يدعوهم إلى أن يتوبوا عن مقالتهم وأن يستغفروه -سبحانه وتعالى- وأنهم إن فعلوا هذا قبلهم وغفر ذنبهم -سبحانه وتعالى-, وهذا من رحمته الواسعة, ومن اتصافه -سبحانه وتعالى- بأنه الغفور كثير المغفرة -سبحانه وتعالى- الرحيم, والمغفرة: هي ستر الذنوب وتغطيتها ومحوها عن أصحابها, والله غفور رحيم -سبحانه وتعالى- يتجاوز لهم عن هذا الإجرام العظيم الذي سلف منهم.

 ثم قال -جل وعلا-: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ}: أي ما منزلة المسيح وما حقيقته؟ قال -جل وعلا-: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ: بالحصر, إِلَّا رَسُولٌ, بأن ينحصر وزن المسيح عيسى بن مريم وبيان حقيقته أنه رسول, المسيح سُمِّيَ المسيح؛ لمسحه الأرض من الشرك, ودعوته إلى توحيد الله -تبارك وتعالى-, ونُسِبَ إلى أمه؛ لأن الله -تبارك وتعالى- خلقه -جل وعلا- من أنثى بلا ذكر, مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ: هذه أمه, إِلَّا رَسُولٌ: هذه هي حقيقة المسيح رسول من الله -تبارك وتعالى-, قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ: شأنه شأن إخوانه الرسل الذين سبقوه, سلفت الرسل من قبله, شأنه كشأن موسى, وشأن إبراهيم, وشأن هود, وشأن نوح, وشأن لوط, قد سبقت رسل على هذا النحو, وقد أجرى الله -تبارك وتعالى- عليهم آيات عظيمة, وبراهين عظيمة كذلك, كما أجرى على يد المسيح عيسى بن مريم -عليه السلام-, وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ: أم المسيح -عليه السلام- ليس هي كما يدعي النصارى أنها الرب تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا أن يكون الله -سبحانه وتعالى- يُولد من امرأة, أمه حقيقتها صديقة, الصديق: هو كثير التصديق أي أنها صدقت بكلمات الله -تبارك وتعالى- كما أخبر الله -تبارك وتعالى- قال: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}[التحريم:12]: فهي صديقة مصدقة بآيات الله -تبارك وتعالى-, ثم قال -جل وعلا-: كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ: المسيح وأمه -عليهما السلام- كانا يأكلان الطعام, والذي يأكل الطعام بشر محتاج لا يمكن أن يكون إلهًا خالقاًا رازقًا بارئًا متصرفاًا مستغنياًا عن الخلق وعن كل شيء, فهذا البشر الذي يأكل الطعام, وبالتالي يحتاج إلى الماء, وبالتالي قد تدفعه ضرورة الطعام إلى أن يبول, وأن يتغوط, كيف يكون هذا الذي وصفه إلها من دون الله -تبارك وتعالى-؟! وكيف توصف أمه بأنها أم الإله؟! والدة الرب,  تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرا, ثم قال -جل وعلا-: انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ: بهذا البيان الواضح الذي يلمسه كل ذي عقل من أن كيف تجعل المسيح بن مريم وأمه تجعلهم إله؟ وتُعْبَد أمه من دون الله -تبارك وتعالى-, ويذبح لها, وينذر لها, ويصام لها, ويقال إنها أم الرب فَتُتَّخذ إله كذلك مع الله, تُعْبَد مع الله -تبارك وتعالى- فَتُجْعَل إلهًا, وهذا حالهم, الإله لا يكون هكذا, الإله لا يكون بشر يأكل, ويشرب, ويطعم, وتجري عليه الضرورات التي تجري على البشر, تعالى الله -تبارك وتعالى- عن ذلك علوا كبيرا, {ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}[المائدة:75]: هذا البيان الذي لا يدع في هذا الحق لبس, والذي يجعل كل من له عقل يميز بين الخالق والمخلوق, بين الرب الإله الذي لا إله إلا هو, وبين العبد المربوط المحتاج, لكن كيف يؤفكون, كيف يقلبون على وجههم, ويستمرون على عنادهم وكبرهم, ويقولون المسيح إله, وأمه هي أم الرب, وهي إلهة تُعْبَد مع الله -تبارك وتعالى-, ثم انظر كيف يقلبون على رءوسهم فلا يفقهون كلام الرب -تبارك وتعالى- ولا يعقدونه, بل ولا يسمعونه سمع يدخل إلى قلوبهم فسيتبصرون به.

 قال -جل وعلا-: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[المائدة:76]: سؤال للتقريع والتوبيخ, قل لهم يا محمد أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرًا ولا نفعًا؟ ويعبده معناها: يعطيه ثمرة قلبه, يسجد له, يطلب منه, يخافه يرجوه, هذه حقيقة العبادة, تعبد هذا الذي لا يملك لك نفع ولا ضر, لا يستطيع أن يضرك ولا يستطيع أن ينفعك, المسيح لا يملك ضر أحد ولا يملك نفع أحد كذلك مريم -عليها السلام- لا تستطيع أن تضر أحد, ولا أن تنفع أحد, ولا تستطيع أن تضر نفسها, ولا أن تنفع نفسها إلا بمشيئة الرب الإله الذي خلقها -سبحانه وتعالى- وخلق عيسى, {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}: أي الذي يستحق العبادة على الحقيقة الله الذي هو السميع لكل خلقه -سبحانه وتعالى- العليم بكل شئونهم, أين عيسى وأين مريم أين هم؟ هل يسمعون هذا العالم؟ هل يحيطون علما به؟ هذا بشر, أما مريم -عليها السلام- فماتت كما يموت سائر البشر ولا علم لها بشيء, فكيف تُعبَد من دون الله, ويصلى لها, وينذر لها, ويذبح لها, ويصام لها؟, وكذلك عيسى -عليه السلام- رفعه الله -تبارك وتعالى- إلى السماء ولا يعرف أي شأن من شئون الخلق في هذه الدنيا, فحده حده, ويوم القيامة الله -تبارك وتعالى- يستشهده على هؤلاء الذين عبدوه, ويقول: {........ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}[المائدة:116], {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[المائدة:117], {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[المائدة:118], قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ........}[المائدة:119]: هذا الصدق الحقيقي عيسى لم يكن يعلم ما شأن الناس بعده, وقد دعاهم إلى عبادة لله الواحد الأحد الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-, فالله -تبارك وتعالى- يُبَكِّت هؤلاء الذين عبدوا المسيح وأمه من دون الله, ويقول: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}: أي قل لهم يا محمد, قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ: نادي أهل للكتاب, وقل لهم يا أهل الكتاب, نداء عظيم وكبير, وفيه تكريم, يا أهل الكتاب, يا من آمنتم بالتوراة والإنجيل, لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ, الغلو: مجاوزة الحد والزيادة, نقول غلا السعر بمعنى زاد عن حده المعهود, كان بدينار فصار بعشرة نقول غلا السعر, لا تغلوا في دينكم: تزيدوا فيه, وهؤلاء غلوا في دينهم, أولًّا: في أبواب الاعتقاد, فظنوا في عيسى يقولون سيد يمدحونه, أعطوه صفة الرب -سبحانه وتعالى-, وكذلك غلوا في دينهم في كل شيء, في بغض من أبغضوهم, في غلو في تشريع, فغلوا عن طريق اليهود في تمسك بحرفية النصوص إلى أن أباحوا كل المحرمات, كل شأنهم غلو في الدين, يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق, الحق هو ما أمرك الله -تبارك وتعالى- به, وما نهاك عنه هو الحق, هذا الدين الذي يُدان به, أما أن تزيد من عندك وتغلوا وتزيد تخرج من هذا الدين, ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل لا تقلدوا هؤلاء الذين سبقوكم في الدين أنهم اخترعوا أمور في الاعتقاد بأهوائهم وليست من عند الله -تبارك وتعالى-, وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ: لا تقلدوا هؤلاء الذين سبقوكم في الدين إنما اخترعوا أمور في الاعتقاد بأهوائهم, وليست من عند الله -تبارك وتعالى-, هؤلاء الذين سبقوكم واتخذتموهم أئمة لكم في الدين إنما ماوضعوه في الدين أهواء, الهوى: ما تحبه النفوس, وسُمِّي هوى؛ لأنه يهوى بصاحبه, كأنه يسقط صاحبه -عياذا بالله-, فهي المقالات التي قالوها في غلوهم في المسيح, وأنه هو الله, وابن الله, كل هذه أهواء ليست من الحقائق في شيء, وَأَضَلُّوا كَثِيرًا: أي هؤلاء رءوسهم هذه شياطين الذين اخترعوا هذه المقالات وخاصة هذه التي يسمونها الأمانة النصرانية, وهي الخيانة لله -تبارك وتعالى-, ولرسوله عيسى بن مريم, وللدين كله, أضلوا بها أمما كثير أمم عظيمة ضلوا بهذه, يقولون هذه هي المعتقد, وهذه هي الأمانة, وهذه التي وافق عليها كل أول مجمع ماسوني, وانتشرت في الناس وقال لهم قسطنطين: هذا سيفي وهذا خاتمي, ما تقررونه اختموا عليه بخاتمي وأنا موافق موافقكم على ما تقررونه, وهذا سيفي اقطعوا به رأس كل مخالف, وقاموا بعد ذلك بحرق كتب المخالفين من أهل التوحيد منهم ومن أهل الإيمان منهم, وبدأت محاكم للتفتيش عن المخالفين وحرق كتبهم وإفناءهم, وبهذا لما وضعوا هذا المذهب الشركي هذا موضع التنفيذ ووراءه القوة والسلطان فأضلوا كثيرًا, قد ضلوا من قبل, وأضلوا كثيرا من الأمم, {وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}[المائدة:77].

كرر الله -تبارك وتعالى- الضلال في هذه الآية؛ لأن هذا حقيقة الأمر, فهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا, وأنهم بهذا الفعل تقربوا إلى المسيح عيسى بن مريم الذي ظنوه واعتقدوه أنه ابن الله كما قالوا, وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ: عن الصراط المستقيم صِراط الله -تبارك وتعالى-, هذا نداء عظيم من الرب -تبارك وتعالى- يدعوهم على لسان خاتم الرسل محمد بن عبد الله -صلوات الله والسلام عليه- يقول لهم: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}[المائدة:77].

نقف عند هذا إن شاء الله, ونكمل في حلقة آتية, أقول فولي هذا, وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب, -وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد-.