الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين, وعلى آله وأصحابه أجمعين, ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد, فيقول الله -تبارك وتعالى-: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}[المائدة:78], {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}[المائدة:79], {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ}[المائدة:80], {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}[المائدة:81], بعد أن بيَّن لله تبارك وتعالى كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم, والذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة, ودعاهم الله -تبارك وتعالى- إلى أن ينتهوا عن مقالتهم هذه ويستغفروه -سبحانه وتعالى-, وأنه الإله الرب العظيم -سبحانه وتعالى- الغفور الرحيم قال: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[المائدة:74], ثم بيَّن حقيقة المسيح وأمه فقال: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}[المائدة:75], ثم دعاهم الله تبارك وتعالى إلى الإيمان به على لسان رسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه- قال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}[المائدة:77], ثم بيَّن -سبحانه وتعالى- أن الذين كفروا من بني إسرائيل, وقالوا هذه المقالة الشنيعة في عيسى بن مريم -عليه السلام- وفي أمه أنهم عبدوها من دون الله وجعلوها إلهه مع الله -تبارك وتعالى- أخبر -سبحانه وتعالى- بأن لعنهم قد جاء على لسان داوود -عليه السلام- وعيسى نفسه قال: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود, فداود النبي -عليه السلام- هو من بني إسرائيل لعن الذين كفروا من بني إسرائيل في وقته وقبل وقته, وكذلك عيسى بن مريم -عليه السلام- فإنه قام داعيًا إلى الله -تبارك وتعالى- لله الحق, ولعن بني إسرائيل لعنًا شديدًا, بل عامة ما في الإنجيل كله بيان فساد بني إسرائيل الذين انحرفوا عن الدين الحق, وكان يقول لهم يا أبناء الأفاعي لستم أبناء أبيكم إبراهيم كما تدَّعون بل أبناء الأفاعي. ويقول لهم لو كنتم أبناء إبراهيم حقًا لفعلتم فعل إبراهيم أي لو كنتم على دينه وملته ولكنكم خالفتم سنة وطريقة وملة أبيكم إبراهيم, فقد كان وعده وقيامه بياا لانحراف بني إسرائيل عن جانب الحق, فجعل لسان عيسى -عليه السلام- لعن هؤلاء قال -تبارك وتعالى-: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا}: أي أمر الله -تبارك وتعالى وَكَانُوا يَعْتَدُونَ: عدوان عظيم, عدوانهم واعتدائهم عظيم جدًا بأكلهم أموال الناس بالباطل, دماء الآخرين وأموالهم واغتيالهم وخياناتهم بتحويلهم بيوت الله -تبارك وتعالى- إلى أماكن للفساد بل كانوا يبيعون ويشترون في داخل الهيكل في داخل المسجد الأقصى نفسه جعلوه مباءة, وقال لهم عيسى: جعلتموه مغارة للصوص تبيعون فيه, فكان عدوانهم حتى على بيوت الله -تبارك وتعالى-, ثم عدوانهم من قبل على أنبياءهم وصالحيهم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون.
ثم قال -جل وعلا-: كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ: أي كانوا في مسيرتهم هذه لا ينهى بعضهم بعض عن منكر, وجاء منكر نكرة كذلك, أي منكر فعلوه لا يتناهون عنه, فقد كانوا يعملوا فجارهم هذه منكراتهم مع ذلك يعيشون معهم ويآكلونهم ويشاربونهم ولا ينكرون عليهم, قال -جل وعلا-: لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ: لبئس هذا الذي يفعلوه من عدوانهم وظلمهم واعتداءهم على حرمات الله -تبارك وتعالى-, وكذلك إقرار بعضهم بعض على هذه المنكرات وعدم الإنكار, ثم قال -جل وعلا-: تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا: ترى كثيرا من بني إسرائيل يتخذون الذين كفروا أولياء, يحبونهم يترضون عن دينهم الكافر, يخالطونهم مخالطة المؤمن للمؤمن فهم يخالطونهم وهم كفار على هذا النحو فيجعلون حبهم ونصرهم وقيامهم معهم, قال -جل وعلا-: لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ: لبئس هذا الشيء الذي يفعلونه ما قدمت لهم أنفسهم الخبيثة, طبعا كل هذا مكتوب محسوب وقدموه ليوم القيامة, فقدموا ماذا؟ قدموا هذا الكفر والعناد والاعتداء وسكوت على المنكرات وموالاة الذين كفروا, كل هذا قد قدموه ليوم القيامة ليحاسبوا عليه, فيكون النهاية أن سخط الله عليهم, وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ: لما قدموا هذه التقدمة السيئة لهم سخط الله عليهم, ومن يسخط الله -تبارك وتعالى- عليه يعاقبه العقوبة العظيمة, والله -تبارك وتعالى- يغضب ويسخط صفات لائقة لذاته -سبحانه وتعالى-, ويكون من أثر سخطه هو عقوبته وغضبه إنزال العقوبة -سبحانه تعالى- بهؤلاء للذين يسخط عليهم ويغضب عليهم -سبحانه وتعالى-, قال -جل وعلا-: وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ: ما قال يخلدون في العذاب, ولا قال في العذاب يخلدون, أو خلدوا, بل قدم أولا في العذاب ليبيِّن الله هذا ذكر الظرف قبل هذا, هم خالدون: بالجملة الاسمية التي لها استقرار وتمكن في الإخبار, فيخبر -سبحانه وتعالى- بأن عقوبتهم ليست عقوبة آنية, وأنها أيام يعاقب فيها ثم يكون مآلهم إلى النار, لا بل أخبر -سبحانه وتعالى- أن استقرارهم وخلودهم إنما هو في العذاب, وقدم في العذاب؛ ليبين هذا أولا لأن هذا هو محل الاهتمام, فقدم أنه في العذاب: أي لا في غير ذلك, وفي العذاب هم خالدون, والعذاب هذا: هو عذاب النار عياذًا بالله.
ثم قال -جل وعلا-: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ}: لو كانوا حقا مؤمنين بالله -تبارك وتعالى- كما يزعمون والنبي المرسل هنا النبي جنس الأنبياء الذين أرسلهم الله -تبارك وتعالى- عليهم, وكلهم دعوا إلى عدم موالاة الكفار, وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ: إلى النبي, مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ: وذلك أن في هذا تحذير عظيم كل الأنبياء قد حذروا تحذيرًا عظيمًا من موالاة أعداء الله -تبارك تعالى- أي ما اتخذوا هؤلاء الكفار أولياء, قال -جل وعلا-: وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ: خارجون عن طاعة الله, ولكن كثير أي من بني إسرائيل فاسقون قد خرجوا عن طاعة الله -تبارك وتعالى-, الفسق: هو الخروج عن الطاعة, هذه جولة عظيمة وطويلة مع أهل الكتاب بيَّن الله -تبارك وتعالى- فيها فساد اعتقادهم, وأسباب هذا الفساد, ودعاهم المرة تلو المرة في ثنايا هذا الخطاب -سبحانه وتعالى- إلى أن يكُفُّوا عن ما هم فيه من الضلال والغي, وبيَّن لهم الله -تبارك وتعالى- حقيقة ضلالهم بأمور وأمثال عظيمة ظاهرة بينة لا يستعصي فهمها على أي من له استطاعة, فقطع الله -تبارك وتعالى- عذرهم وأقام عليهم حجة أيَّما قيام.
ثم وجه الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك خطابه إلى أهل الإيمان, أي حقيقة هؤلاء أين هم؟ فقال -جل وعلا-: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ}[المائدة:82], {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}[المائدة:83]: لتجدن هذا في المستقبل وجحده بمعنى أنه هذا الشيء سيكون وستعرفه وتشاهده, لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ: هذا إخبار من الله -تبارك وتعالى-, والخطاب موجَّه إلى رسوله, وهو طبعا خطاب إلى الأمة كلها أنه على مدى الزمان ستجدون أنَّ أكثر الناس عداوة لكم هم اليهود, والذين آمنوا: هم إتباع محمد -صلوات الله والسلام عليه-, هذا اسم الإيمان هو العَلَم الذي علم عليه, ومسماهم للذين انوا اليهود, فاليهود هم اشد الأعداء فإن النبي -صلوات الله والسلام عليه- لم يجد عدوًا يسبقهم في عداواته منذ دعا إلى الله -تبارك وتعالى-, ثم إخوانهم المشركين, واستمرت العداوة منذ ذلك الوقت وإلى يوم القيامة إلى أن يأتي الدجال, وأن ينزل المسيح عيسى بن مريم يظل اليهود هم العدو رقم واحد لأهل الإسلام, ثم قال -جل وعلا-: وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا: وهذا عَلَم على المشركين من العرب وذلك أنهم كانت صفتهم العامة هي الشرك بالله -تبارك وتعالى-, والذين أشركوا قد قطع الله -تبارك وتعالى- عداوة هؤلاء المشركين بدخلوهم جميعًا في الإيمان, فأما اليهود فإنهم لم يدخل منهم في الإيمان في وقت الرسول إلا قلة قليلة ما وصلوا عشرة, واستمر مَن يدخلون منهم في الإيمان قليلون مِن اليهود, أما المشركين قد قطع الله -تبارك وتعالى- عداواتهم يدخلوهم في الإيمان, ثم قال -جل وعلا-: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى}: أقرب أصناف الكفار مودة وقرب من المؤمنين الذين قالوا إنا نصارى, فهؤلاء الذين قالوا هذا وشهدوا بهذا بأنهم نصارى, أنصار المسيح عيسى بن مريم -عليه السلام-, ثم بيَّن -سبحانه وتعالى- لماذا هم أقرب طوائف الكفار والمشركين إلى أهل الإسلام قال جل وعلا-: ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا: لأن منهم قسيسيين, هذا كأنه من ضرورات النصرانية أن يكون منهم قسيسيين, القسيس: معلم ومربي, والراهب: عابد ومنقطع, فالقساوسة المعلمين يُعَلِّمُون بالإنجيل, والإنجيل فيه مواعظ عظيمة, وتذكير بالله, ودعوة إلى المسامحة, وهذه لها أثر من دعوتهم إلى المسامحة كلام عيسى وهو المثبوت الآن في الإنجيل إلى اليوم قد قيل لكم عين بعين, وسن بسن, أما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر, أي مَن لطمك على خدك الأيمن فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا, ومن نازعك ثوبك فأعطه الرداء أيضًا, ومن سخَّرك ميلاً فاذهب معه اثنين, فيقول وأما أنا فأقول باركوا لاعنيكم, أي من يلعنك باركوا له وادعوا له بالبركة أن يُبَارك فيه, هذه هي التعاليم وغيرها مما جاء في الإنجيل ويُعَلِّمُها القساوسة, ولها أثر في أخلاق أهلها لذلك من تأثروا بهذه التعاليم كانوا أقرب الناس مودة إلى الذين آمنوا, ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا: والرهبان هؤلاء منقطعون في الصوامع و الأديرة لعبادة الله -تبارك وتعالى-, وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ: لا يحبون الكبر, وذلك أنه كذلك من تعاليم المسيح -عليه السلام- أنه جاء بعدم الكبر, بل إن الإنجيل موجود يذكر بأن المسيح دعا تلاميذه في الليلة الأخيرة له وأتى بماء وغسل أرجلهم جميعًا هو المعلم, وهو رسولهم, واستاذهم, وهو الذي غسل أرجلهم؛ ليعلمهم التواضع علمًا بأنهم كانوا كلهم فقراء من صيَّادي الأسماك, ومع ذلك هو كان يغسل أرجلهم -عليه السلام-, لعل هذا من أثر هذا التعليم, ثم إن هؤلاء الذين تعلَّموا هذ, وقالوا إنا نصارى على الحقيقة, وتأثروا بتعاليم المسيح -عليه السلام-.
قال -جل وعلا-: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ}: هؤلاء الذين بالفعل قالوا انا نصارى حقيقة وشهدوا هذا, وسمعوا ما أُنزل الى النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- عند عند ذلك مباشرة يستجيبون للاسلام, ترى اعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق, كشأن النجاشي يقول: -رضي الله تعالى- عنه وهو من اتباع محمد -صلوات الله والسلام عليه- فإنه بمجرد أن قرأ عليه جعفر بن أبي طالب -رضي الله تعالى- عنه الآيات من سورة مريم وفيها حقيقة المسيح -عليه السلام- قد استحاب لهذا الأمر وفاضت عيناه من الدمع وقاموا من حوله ونخروا فقال لهم: وإن نخرتم وإن نخرتم, وأخذ عود من عنده من تحت كرسيه وقال: ما زاد عيسى على ما في هذا أي على ما جاء به القرآن مقدار هذا, نفس الذي قاله الله -تبارك وتعالى- عنه في القرآن: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ}[مريم:34], {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[مريم:35], وأن عيسى قال للناس: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}[مريم:36]: فقال لهم عيسى ما زاد عما جاء في هذا ولا مقدار هذا العود, وكذلك الوفود التي أتت إلى النبي -صلوات الله والسلام عليه- من النصارى لما سمعوا كلام الله -تبارك وتعالى- بدأت أعينهم تنهمر من البكاء لما عرفوا من الحق ودخلوا في دين الله -تبارك وتعالى- {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ}: شأن هؤلاء وشأن عدي بن حاتم الطائي -رضي الله تعالى- عنه فإن هؤلاء هو راعي النصارى الذين بالفعل كانوا قد تشربوا أخلاق المسيح الحقة وما دعا إليه, ثم لما لامست آذانهم هذه آيات الله -تبارك وتعالى- كان هذا موقفهم, يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا: أي يا ربنا آمنا, فاكتبنا مع الشاهدين, يدعون الله -تبارك وتعالى- ويقولون يا ربنا وهذا نداء للرب -جل وعلا-, آمنا: يشهدون على أنفسهم بالإيمان ويستولون بإيمانهم إلى الرب -جل وعلا-, فاكتبنا مع الشاهدين, هذه الأمة أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنها الأمة التي تشهد على كل الأمم, فاكتبنا مع الشاهدين مع هذه الأمة مع من يشهدون لك بالوحدانية -سبحانه وتعالى-, ويشهدون بالحق على الناس, فيشهدون لأهل الإيمان بالإيمان, وعلى أهل الكفر بالكفر, ثم أنهم يقولون لما عوتبوا في هذا بعض هؤلاء الوفود الذين جاءوا للنبي وقرأ عليهم القرآن فآمنوا, لامهم قومهم قال لهم: ما أخيبكم, تذهبون إلى هذا الرجل, ثم بعد ذلك ترجعون على غير الدين الذي ذهبتم به وتغيرون دينكم, فيقولون: {وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ}[المائدة:84]: ما الذي يمنعنا من الإيمان بالله -تبارك وتعالى-؟ وما جاءنا من الحق في هذا القرىن, ومع هذا النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-, ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين, الطمع: هو الرغبة في حصول هذا الخير في المستقبل, الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ: القوم الصالحين من كل أمة من الأمم التي اختراها الله -تبارك وتعالى- أهل الصلاح, أي كيف نرضى بأنفسنا ان نذهب ونبقى على الكفر ونترك طريق الفلاح والنجاح؟!.
قال -جل وعلا-: فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ: الثواب هنا: العطاء على هذا الفعل وعلى هذه الطاعة, بِمَا قَالُوا: بهذا الذي قالوا, جَنَّاتٍ: بساتين, تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَار: من تحت أشجار ههذه البساتين, ومن تحت قصورها, خَالِدِينَ فِيهَا: الخلود هو المكث الذي لا ينقطع, أي باقين فيها بقاء لا انقطاع له, {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ}[المائدة:85]: ذلك بالاشارة الى هذا البعيد تنويها له ورفعًا له, جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ: أصحاب الإحسان, فإن هؤلاء كانوا على نصرانيتهم ولما عرفوا الحق وسمعوا القرآن آمنوا به واتبعوه, ولم يأبهوا لمن يلومهم في هذا السبيل قالوا وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا بالحق, ما الذي يمعنا من هذا؟ يمنعنا كلام النفس وأن يقول أنتم ولا ورؤساءكم, يمنعنا مانحن فيه من المناصب وما يأتينا الإلتهوات, {وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ}: هذا هو الفوز الحقيقي, قال -جل وعلا-: فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا: بهذه المقالة شهادة الحق التي قالوها, تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَار: فانظر الثواب العظيم الذي أخذوه بهذا الأمر, تركوا دنيا فانية وأثابهم الله -تبارك وتعالى- هذا الثواب, خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}[المائدة:86]: القسم الذي خشي على مناصبهم الدنيوية وخشي على ضياع السحت والرشاوى الباطلة وأكل أموال الناس بالباطل الذي يأكلها بسبب هذه الرياسة الدينية التي هو فيها, فبقي على كفره وعناده, أُوْلَئِكَ: كذلك إشارة إليهم بالبعيد تحقيرًا لهم وإبعادًا لهم, أَصْحَابُ الْجَحِيمِ: الجحيم اسم من أسماء النار عياذًا بالله, ومعنى أصحابها: الملازمون لها؛ لأن الصحبة ملازمة, وهؤلاء ملازمتهم للنار ملازمة لا تنفك ولا تنقطع فلذلك كأنهم أصحابها, أولئك اصحاب الجحيم الملازمون لها لزوما لا ينقطع عياذًا بالله. انتهى هذا الفاصل من هذه السورة في شأن أهل الكتاب من اليهود والنصارى بيان حقيقتهم ومعتقداتهم, بيان أمرهم وتفصيل هذا الأمر, نهاية أهل الإيمان منهم وأهل الكفر منهم, انتهى هنا ببيان عاقبة كل منهم, {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ}[المائدة:85], {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}[المائدة:86].
بعد أن انتهى هذا الفاصل يأتي فاصل آخر من السورة في بيان طائفة من الأحكام العملية لأهل الإسلام, بدأ الله --تبارك وتعالى- هذا الفاصل الجديد من السورة بنداءه لأهل الإيمان بقوله -جل وعلا-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: وهذا النداء دائمًا يتكرر في صدر آيات الأحكام؛ لأن النداء باسم الإيمان فيه تشبيه وتكريم لهؤلاء المنادين الذين يناديهم الله -تبارك وتعالى-, فكذلك فيه إلزام ,أي يا من آمنت هذا من مقتضى إيمانك فافعل, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}[المائدة:87]: آية جامعة تُبيِّن الموقف الذي يجب على المسلم في الحلال والحرام ما يأخذه وما يتركه, أولًّا: لا تحرموا طيبات ما احل الله لكم, ما أحله الله -تبارك وتعالى- من الطيبات, والله أحل لهذه الأمة كل الطيبات إياكم أن تُحَرِّموها بهواكم أو بأمر من عندكم, بل ما أحله الله فهو حلال, الأمر الآخر: لا تعتدوا, العدوان: مجاوزة الحد, أن تحلوا ما حرم الله -تبارك وتعالى-, فلا تحرموا ما أحل الله, ولا تحلوا ما حرم الله, بل ما شرعه الله -تبارك وتعالى- لكم من الحلال والحرام هو الدين فقفوا عند التشريع, قفوا عندما شرَّعه الله -تبارك وتعالى-, يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا: وهذا هو موقف المؤمنين, المباح ما أباحه الله -تبارك وتعالى-, وأما أن يحرم شيء ولو بهواه وشيء من عنده وقد أباحه الله -تبارك وتعالى- هذا عدوان وهذا تعدي على أمر الله -عز وجل-, وكذلك ما حرمه الله -تبارك وتعالى- فهو حرام, فلا تعتدي وتحل ما حرَّم الله -عز وجل- إن الله لا يحب المعتدين, كل هذا عدوان تحليل الحرام عدوان, وتحريم الحلال عدوان لا يحبه الله -تبارك وتعالى-, ومعنى أن الله لا يحبه معناه أنه يبغضه إذًا فيه عقوبة.
ثم قال -جل وعلا-: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ}[المائدة:88]: أمر هنا بالإباحة وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا: حال كونه حلالًا وطيبًا, لهذا الوصف, بوصف الحِلة تشريع, وبوصف الطيبة, الطيبة تتمثل في أن تأخذه من كسب طيب وأن يكون هو طيب في ذاته بمعنى زادت منافعه على مضاره, وَاتَّقُوا اللَّهَ: خافوا الله -تبارك وتعالى-, الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ: خافوا الله -تبارك وتعالى- الذي تؤمنون به, والله الذي تؤمنون به هو الذي وصف نفسه لكم -سبحانه وتعالى- وأعلمكم بأنه الرب الإله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم, كذلك الذي يؤاخذ بالذنب ويُعَاقِب به, فاتقوا هذا الإله القوي القاهر العظيم الجبار المتكبر الذي يؤاخذ بالذنب, اتقوه: أي اجعلوا وقايتكم بينكم وبين عقوبته -جل وعلا-.
نقف هنا, والحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله محمد.