الخميس 02 ذو القعدة 1445 . 9 مايو 2024

الحلقة (157) - سورة المائدة 89-91

الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على عبد الله الرسول الأمين, وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد, فيقول الله -تبارك وتعالى-:  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}[المائدة:87], {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ}[المائدة:88], {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[المائدة:89]: يأمر الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين مخاطبًا إياهم بوصف الإيمان يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ: ينهاهم الله -تبارك وتعالى- أن يحرموا الطيبات التي أحلها الله -تبارك وتعالى- لهم, فما أحله الله فحلال, ولا يحل للمؤمن أن يحرم ما أحل الله -تبارك وتعالى-, وقول الله طيبات: وذلك أن الله -تبارك وتعالى- قد أباح لهذه الأمة كل الطيبات, والطيبة في الشيء ما زادت منافعه على مضاره, وإن كانت فيه بعض المضار لكن إن كانت منافعه أعظم فهذا هو الطيب, والخبيث بضد ذلك, وَلا تَعْتَدُوا: أي فتحلوا ما حرم الله, سواء كان عدوان في الاعتقاد أو عدوان بالعمل, أي لا تنتهكوا حرمات الله -تبارك وتعالى- فتفعلوا مع حرم الله -تبارك وتعالى- عليكم, ولا تعتدوا: أي على حرماته, إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ:  الله لا يحب المعتدين على حرماته, ولاشك أن هذا اعتداء وهذا اعتداء, تحريم ما أحل الله عدوان, وتحليل ما حرم الله -تبارك وتعالى- عدوان, وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا: أمر للإباحة أي أباح الله -تبارك وتعالى- أن تأكلوا مما رزقكم الله, فكل ما ينتفع به من رزق وكل شئ من رزقه -جل وعلا-, حلالًا طيبًا: حال كونه حلالاً طيبًا, حلالا في الكسب أي اكسبوه عن طريق الحلال, ثم لابد أن يكون هو طيب في نفسه قد جاءك من باب من أبواب الكسب الحلال كالبيع في الحلال غير الغش, والبيوع المحرمة, ونتاج زراعة الرعي, والمشاركة وكل الوسائل التي أباحها الله -تبارك وتعالى- جاءت بهذه الوسائل التي أباحها الله فهو حلال, وإذا جاءت بوسيلة أخرى مما حرمه الله كالغصب والسرقة وأكل مال الناس بالباطل بالميسر وبأشباهه هذا يكون حرام, وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ: حال كون هذا المأكول حلالاً طيبًا, وَاتَّقُوا اللَّهَ: خافوه اجعلوا وقاية بينكم وبني عذاب الله -تبارك وتعالى-, وذلك أن الله هو أهل للتقوى يعذب يؤاخذ بالذنب ويعذب به -سبحانه وتعالى- وعذابه أشد العذاب, لا يعذب أحد كما يعذب الله -تبارك وتعالى-, {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ}[الفجر: 25], {أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ }[الفجر:26], لا يعذب أحد كما يعذب الله, ولا يوثق أحد: أي أعدائه كما يوثق الله -تبارك وتعالى- أعدائه, اتقوا الله: خافوه --سبحانه وتعالى- أن تعتدوا على حرماته, الذي أنتم به مؤمنون: الذي آمنتم به, وقد علمكم أنه الرب الإله الرحمن الرحيم الغفور الودود ذي الطول الشديد العقاب, {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[الحجر:49], {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ}[الحجر:50], واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون.

 ثم بين -سبحانه وتعالى- حكم الأيمان فقال: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ: هذا من رحمته وإحسانه -سبحانه وتعالى-,واللغو: غير المقصود, كأن يقول إي والله, لا والله, بلى والله, ولا يقصد الحلف وإنما يجري على لسانه دون قصد, ومنه أيمان الطعام والشراب, بالله تأكل هذا, بالله تدخل أنت والله لتفعلن هذا, ليس قصدًا باليمين وإنما جريًا على اللسان, وهذا يمين غير مقصود هذا اللغو, أيمانكم: حلفكم, وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ: المؤاخذة هنا أي الحساب, وأنه عند عدم الكفارة يكون ذنب, ويؤاخذكم فيحاسبكم بما عقدتم الأيمان, عقدتموها: من العقد, عقد اليمين: كتوثيقها وتأكيدها, كأن يحلف قاصد الحلف, وهو يريد أن يحلف وأن يؤكد هذا الأمر, بما عقدتم الإيمان: هي الأقسام, فهذا اليمين الذي عقدها صاحبها وأكدها وقصدها عندما حلف بالله, فهذا قال -جل وعلا-: فَكَفَّارَتُهُ أي عند الحِنث به, {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}, ومعنى عند الحنث أي عند عدم تنفيذ هذا اليمين لأمر ما, كأن يكون قد حلف على شخص أن يفعل له كذا وكذا قال: والله لتفعلن لي كذا وكذا, ثم لم يبر قسمه فحنث في هذا اليمين, أو يقول والله لأفعلن كذا وكذا, ثم يجد أن هذا الأمر الذي أقسم عليه غيره خيرًا منه, كأن يقسم على شيء من الشر أن يقاطع ذي رحم, أن لا يفعل شيئًا من الخير, ووجد أن الأولى أن يعود إلى الخير, فهذا عليه أن يكفر هذا اليمين حنث في يمينه, فَكَفَّارَتُهُ: كفارة هذا اليمين, {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}: هذه ثلاث خصال خيَّر الله -تبارك وتعالى- فيها الحانث في يمينه, إما أن يطعم عشرة مساكين وهذه وجبة واحدة لكل مسكين صاع من الطعام, من أوسط ما تطعمون أهليكم, الوسط: إما أن يأتي بمعنى أنه ليس البخس ولا الممتاز, وإنما هو وسط بين هذا وهذا, أو الوسط الأحسن من أفضل ما تطعمون أهليكم في العادة, فيكون من الطعام الجيد الذي يأكله هو وأهله, أو كسوة العشرة مساكين, أو تحرير رقبة, وهنا رقبة جاءت تحرير رقبة: أي عتق رقبة تحريرها من الرق والعبودية تصبح حرة, والرقبة هنا مطلقة, فتصدق على أي رقبة كانت مؤمنة, أو كافرة صغيرة أو كبيرة, نفيسة أو غير نفيسة, فإن الله -تبارك وتعالى- هنا في كفارة اليمين أطلق الرقبة قال: أو تحرير رقبة, غير المقيد في كفارة قتل الخطأ, فإن الله -تبارك وتعالى- قال: وتحرير رقبة مؤمنة: فقيدها بوصف الإيمان, وهنا لم يقيدها الله -تبارك وتعالى-, ولما كان الحكم هنا مختلفا, الحكم هنا في كفارة اليمين, والحكم هناك في قتل الخطأ, فإنه لا يحمل المطلق على المقيد في هذه الحالة, أو تحرير رقبة: أي هو مختار أن يفعل شيئًا من ذلك, ولا يجوز في الفتوى أن يُحَتَّم على شخص ما أن يفعل واحدة بعينها, وذلك أن الله -تبارك وتعالى- قد خيَّر بينهما, قال -جل وعلا-: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ: أي خصلة من هذه الخصال الثلاث, فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ: فوجب عليه أن يأتي هنا هذا البديل وأن يصوم ثلاثة أيام قال -جل وعلا-: ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ: ذلك المشار إليه هنا خصال الكفارة الثلاثة المخيَّر فيها, ثم الصيام عند عدم القدرة على واحد من الثلاثة, ويخبر الله -تبارك وتعالى- بأنها كفارة إيمانكم إذا حلفتم وحنثتم, أما إذا حلف ولم يحنث في حلفه فهذا لا كفارة عليه, قال -جل وعلا-: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ: أي لا تقسم إلا وأنت تريد أن تقسم, ثم كذلك إذا أقسمت بالله -تبارك وتعالى- على أمر ما وحنثت فيجب عليك أن تُكَفِّر هذا اليمين, هذا كله من معاني الحِنث, كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ: كذلك هذا البيان الواضح البين يُبَيِّن الله -تبارك وتعالى- لكم آياته والله هو الإله الحق -سبحانه وتعالى- سيبين الآيات على هذا النحو, فمن رحمته سامح –سبحانه وتعالى- في لغو اليمين ولم يؤاخذ إلا في اليمين المعقدة, التي عقدها صاحبها وألزمها, وأنه جعل له الله -تبارك تعالى- مخرجًا, مَن أقسم بالله وقال: والله لأفعلن كذا أو لتفعلن فجعل الله -تبارك تعالى- مخرج من هذا اليمين وذلك بالكفارة, كذلك يبين الله لكم آياته المنزلة يبينها هذا البيان وهذا التفصيل وهذا الوضوح, ويرشدكم إلى أقوم السبل -سبحانه وتعالى- لعلكم تشكرون الله -تبارك وتعالى- على رحمته وإحسانه بألا يؤاخذكم باللغو في يمينكم على بيانه وتفصيله الأحكام لكم -سبحانه وتعالى- على أن أوجد لكم المخرج من الأيمان التي عقدتموها على أن يسر لكم هذا الأمر على أن قبل هذه الكفارة التي هي في متناول اليد, على أن خيَّر هذا الخيار ووضع هذه الخيارات في خصال الكفار حتى يستطيعوها كل أحد, والذي لم يستطع هذا فينتقل إلى غيره, هذا كله من فضل الله -تبارك وتعالى- وإحسانه لعلكم تشكرون الله -تبارك وتعالى- على نعمائه عليكم.

 ثم قال -جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[المائدة:90]: هذا حكم جديد, وحكم الخمر وهذه الآية الرابعة من الآيات التي نزلت في شأت الخمر وهي الآية الأخيرة, وفيها حرَّم الله -تبارك وتعالى- الخمر تحريمًا قطعيًا مؤبدًا, فنادى عباده المؤمنين بأن صدَّر هذا الأمر بنداء عباده المؤمنين, فجمع الله -تبارك وتعالى- والميسر والأنصاب والأزلام, أما الخمر: فإنها كل شراب يخامر العقل, ويغطيه ويسكره, كل ما فيه مادة الإسكار الذي يخمر العقل, يخمره: أي يغطي العقل, فهذا هو الخمر, والنبي قد شرح هذا بكلامه فقال: «كل مسكر خمر وكل خمر حرام»: كل ما فيه إسكار فهو خمر, وكل خمر حرام: من أي مادة تكون من العنب, أو التمر, أو من الحنطة, أو من الشعير, أو من العسل, أو من الذرة, أو من الخبز, أو من البصل, أو من أي مادة تكون, فكل مسكر خمر وكل خمر حرام, وأما الميسر: فهو القمار, وسُمِّي الميسر؛ لأنه أكل مال, الغير وأخذ مال الغير بسهولة ويسر, فأن العرب تسميه ميسر؛ لأنه بلعبة معينة يقامر صاحبه فيأخذ ماله بطريق مُيسَّر, الأنصاب: كل ما نُصِب للعبادة من دون الله -تبارك وتعالى-, كالأصنام والحجارة التي تُنصَب, وكل ما رفع نُصبًا ولو كان شجرة أو حجرًا أو وثنا, أو كومة من التراب كما كان يفعل العرب أحيانا, يكومون كومة من التراب ثم يحلبون عليها شاة ويطوفون بها, فكل ما وضع ونصب ليعبد وتعطى له العبادات, كالطواف, التمسح به, السجود له, كل هذه أنصاب, والأزلام: هي سهام, وهذه الأزلام كان العرب يستخدمونها استخدامين: الاستخدام الأول للميسر, والاستخدام الثاني للبخت والحظ والنصيب, فالميسر كانوا يأتون بعشرة أزلام والزلم: سهم ليس له نصل عبارة عن حديد السهم, وكل سهم له رقبة من واحد إلى عشرة, السهم السابع الذي يحمل الرقم سبعة وهو المُعَلَّى هذا هو السهم الرابح الذي يربح والثامن والتاسع يربح أقل منه, فكانوا العشرة يأتون فيشتركون في بعير لنفرض أنه مائة دينار كل منهم يدفع عشرة دنانير, ثم يضربون عليه السهام فمن خرج له السابع يأخذ نصف البعير, ومن خرج له الثامن والتاسع يأخذ ربع وربع, وبقية السهام خاسرة, فهذا استقسام بالأزلام, وهذا يدخل في الميسر, الصورة الثانية من الأزلام: هو ما كانوا يصنعونه عند آلهتهم, كاهن يكون عند الصنم أو عند الإله, يأتي الشخص الذي يقدم على عمل في المستقبل في الزواج أو تجارة أو سفر, ويريد أن يعرف بخته وحظه ونصيبه في هذا الأمر, فيأتي إلى الكاهن وعنده هذه السهام الأزلام الثلاثة سهم يكتب عليه إفعل, وسهم لا تفعل, وسهم آخر غُفِل ليس عليه شيء ,فبعد أن يقدم النذر أو القربان إلى الصنم هذا الذي عنده يأمر الكاهن بأن يضرب له السهام ليعرف حظه, فيضرب له السهام فإن خرج له إفعل يقول له الآلهة ترضى عنك وستجد خيرًا أو تنال خيرًا من الذي أقدمت عليه الزواج أو السفر, وإن خرج السهم لا تفعل يقول: تخبرك الآلهة والأصنام بأنك لن تلقى خيًرا في هذا الطريق فارجع عنه, وإن خرج السهم الذي هو غُفِل وليس عليه شيء يرجع مرة ثانية فيعيد ضرب السهام له يخلطها ثم يدخل يده ويخرج السهم مرة ثانية, فهذا الذي هو الاستقسام بالأزلام, الاستقسام بطلب الحظ والنصيب عن طريق هذه الأزلام, الله -تبارك وتعالى- جمع كل هذه المنكرات في حكم واحد فقال: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ: إنما الخمر والميسر قمار والأنصاب شرك, هذه ما نصب لعبادة غير الله, والأزلام رجس, الرجس: النجاسة, أي أنها نجاسة وقذارة, اعتقاد وعمل, وأما الأمر الحس قد تكون هي طاهرة في نفسها, فقد يكون النُصب من الخشب أو من طين أو من فضة أومن ذهب فهو طاهرًا في نفسه لكن النجاسة هنا نجاسة حكم, {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}: هذا من عمله وذلك أنه الداعي إليه, الحاث عليه هذه أحاليله, هذه أحاليل الشيطان وشباكه التي يصطاد بها بني آدم, بل هي الإثم الذي يحبه ويدفع أوليائه إليه, فَاجْتَنِبُوهُ, الاجتناب: البعد والترك أي اتركه جانبًا وابتعد عنه, وهذا أبلغ من قول فلا تفعلوه أو فهو حرام عليكم؛ لأنك إذا أمرت باجتناب شيء تجعله جانبًا منك  تبتعد عنه كل البعدِ, فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ, لعل: ترجي, بحسب الإنسان إذا فعل هذا الأمر لعله أن يكون من أهل الفلاح, الفلاح: هو الفوز بالمقصود وبالمطلوب الأكبر, والمطلوب الأكبر: هو النجاة من النار ودخول الجنة, هذه الآية ذكرنا أنها آخر ما نزل في الخمر وحرم الله -تبارك وتعالى- بها الخمر تحريما قاطعًا.

 وقال -جل وعلا- بعد هذا: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ}[المائدة:91], إنما يريد الشيطان: حصر لإرادة الشيطان أن هذا كل همه, وهذه أحاليله أن يوقع بينكم العدوان والبغضاء في المخمر والميسر, فهما وسيلة للتباغض والنفرة بين المؤمنين, وذلك أمر بديهي معروف مُشَاهد, فإن الشرب وأصحاب الخمر لابد وأن تقع بينهم العداوة وذلك بضياع العقل, فيكون السباب ويكون الشتائم ويكون القتل ويكون العدوان على الحرمات, فلابد أن تقع العداوة بينهم والبغضاء والكراهية, وكذلك الميسر, من أخذ مال غيره وإن كان يقامره لكن أخذ ماله بهذا الطريق المُيَسَّر وفيه خداع وفيه حظ ونصيب وليس فيه ما أدى خدمة, فالبائع أن تشتري منه وتحبه لأنه خدمك ونقل لك السلعة وأعطاك, وعندما تشتري منه قد تربحه لا تقع بينك وبينه إلا المودة, هذا يخدم هذا وهذا يخدم هذا, أما المتقامرين لا, الذي قمرك وأخذ مالك بطريق صدفة لابد وأن يقع هناك العداوة والتباغض, {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ}: ذِكر الله أن تذكر الله -تبارك وتعالى- بالقلب واللسان, فهذا مقصد الشيطان, وعن الصلاة, والصلاة أعظم ذكر الله -تبارك وتعالى-, فإن الإنشغال بالخمر حتما سيشتغل عن الصلاة الواجبة, ويشتغل عن ذِكر الله -تبارك وتعالى-, وكذلك الميسر وبعض ألعابه قد تمكث الساعات الطويلة,  يتلاعبون أهل الورق وأهل هذه الألعاب التي هي من ألعاب الميسر قد يمضون الليل نصفه أو ثلثه, وقد يمضون النهار, وأفضل أوقاته في هذا اللعب فيلتهون عن ذكر الله -تبارك وتعالى- وعن الصلاة, فهذا فعل الشيطان, {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ}: سؤال للتخويف وللتقريع, هل ستنتهي؟ هذا أمر الله -تبارك وتعالى- لك وهذا نهي الله -عز وجل- عن هذا هل انتهيتم أم لا؟, وهذا فيه تهديد ووعيد, وقد قال الصحابة: انتهينا يا رب, لما نزلت هذا قالوا جميعا: انتهينا يا رب, يقول أنس بن مالك -رضي الله تبارك عنه-: كنت في شرب من الأنصار عند أبي طلحة أنا ساقيهم الخمر, ثم جاء آت فقال: حرمت الخمر, فقال أبو طلحة: قم يا أنس إلى الدِّنام فاكسرها, يقول: فأخذتها فكسرتها, وإنها لتسيل في طرقات المدينة, أي أنه أخذها بجانب الطريق وكسر دمام الخمر, الصحابة جميعًا كل من كان عنده شيء من هذه الخمر بعد أن أنزل الله -تبارك وتعالى- فهل أنتم منتهون كسروا دمانهم وانتهوا عن هذا الأمر الذي كان هو دين العرب وحبهم وعشقهم, وأغنيتهم وشعرهم, وأمانيهم, وهو مادة سمرهم واجتماعهم, هذه الخمر التي كانت تجري في عروقهم على هذا النحو بمجرد أن نزل هذا النهي والتحذير الأخير طهَّر الله -تبارك وتعالى- ما اجتمع المسلمون عن هذا فقالوا: انتهيا يا رب.

 ثم قال -جل وعلا-: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}[المائدة:92]: أمر منه -سبحانه وتعالى- بطاعته وطاعة رسوله, قال وأطيعوا الله طاعة مطلقة هذا أمره, وأطيعوا الرسول فيما يأمركم به, واحذروا المخالفة, احذروا أن تخالفوا أمر الله -تبارك وتعالى-, وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن في المخالفة وعيد شديد, فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ: أي عن الطاعة, التولي: الإعراض, أن يعطي عرضه ويذهب بعيدصا ويترك الأمر,  {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}: أي اعملوا أن فقط الذي كُلِّفه الرسول أن يبلغكم, البلاغ المبين: الواضح الذي ليس فيه شبهة, فإذا بلغكم انتهى الأمر, أصبح انتهى ما كُلِّفَ به, وأصبحتم أنتم المسئولون والمُكَلَّفون, أي ليس على النبي أن يقيمكم على الطاعة بالقهر وبالجبر وإنما عليه فقط أن يبلغكم, أي ما كلَّفه الله -تبارك وتعالى- به هو أن يبلغكم الأمر, ثم بعد ذلك الله سيتولى الحساب والعقوبة لمن يستحق العقوبة, فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ: وهذا فيه بيان أن النبي لن يذهب فيفتش في البيوت, ويُنَقّب هنا ويسأل هنا, ويعرف من التزم ومن لم يلتزم, لا هو عليه فقط أن يبلغكم, وبعد ذلك تكونون أنتم أمام هذه المسئولية.

نقف هُنا, فإن الآيات التي بعدها ترتبط بهذه الآيات فنكملها الحلقة الآتية إن شاء الله, أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب, -وصلى الله وسلم على عبده وروسله محمد-.